يتأمل المبدع المغربي الكيفية التي دخل فيها عالم الكتابة، وتجربة كتابته النص الأول أو قصيدته الأولى والقراءات التي مهدت الطريق لظهوره، مستعيدا المشاعر التي انتابته وهو ينصت لنصه الأول يقرأ في برنامج إذاعي.

تجربتي مع النص الأول

عبده حقي

كيف نأتي إلى فخاخ الكتابة أو كيف تأتي غواية الكتابة إلينا..؟ يحيرني هذا السؤال الوجودي المبهم والغامض.. من يشد رحاله إلى عوالم الآخر، أهي الذات إلى الكتابة أم الكتابة إلى الذات..؟ هل الكتابة تشبه تلك السيدة الساحرة التي تقتنص عشاقها المصطفين على أرصفة الصدفة، مثلما كان شهريار يختار من جواريه كل ليلة واحدة لتحكي له على حافة السرير حكاية تحمله إلى ضفة الغفوة اللذيذة..؟

الكتابة ليست مطرا عاصفا يبلل كل العابرين في شارع الحياة العامة.. هي ليست شمسا تشع على كل من تعلق بأهداب أشعتها العذبة.. هي ليست كذلك بحرا نمضي إليه عراة عن طواعيتنا لكي نغطس عميقا مع كائناته الصموتة في الخلجان والأغوار الملغزة.. الكتابة ليست طوفانا لامرئيا قد يأتي إلينا في يوم ما فجأة ليطوح بنا بعيدا في غياهبها وتبعاتها.. أفراحها وأحزانها.. أصفادها وحريتها... الكتابة أخيرا ليست كل هذا في رأيي، لكنها قد تكون كل هذا في رأي كاتبات وكتاب آخرين.. هكذا أتخيل الكتابة الآن على بعد 30 سنة خلت من تورطي في تجربة النص الأول...

كل فخاخ هذا السيناريو وأحابيله الماكرة كان القدر قد جهزها في الخفاء وفي العلن أيضا.. في الغيب كما في الوجود.. هي حزمة مواثيق مع القدر وجدتها جاهزة على طاولة مفاوضاتي العسيرة مع النص الأول.. منها ما بصمت عليها بأصابعي العشر، وبعينين جاحظتين ووعي وقاد، ومنها ما كانت علي قدر جبري لا مفر منه...

كيف حدث ذلك في أحد أيام صيف سنة 1976؟ أذكر تلك التفاصيل العامة جيدا كما لو أنها تحدث أمامي الآن... فبعد أن لقنني أحد أقران الثانوية النجباء الذي قلب فيما بعد 'المعطف' أعني بالفرنسية (الفيستا) من شاعر شاب واعد كان ينشر قصائده في المجلات العراقية ( الأقلام ـ الطليعة الأدبية..الثورة.. الفنون.. إلخ) التي كان سعرها زمنئذ لا يتعدى 2 درهم مغربي في عهد الثورة النفطية السبعينية، فجأة تحول هذا الشاعر الواعد إلى شاب سلفي ملتح أواسط الثمانينات منقلبا ب 180 درجة من قبلة الإبداع الشعري الدافق إلى قبلة الكعبة المشرفة شرقا.. إنه بكل تأكيد من يرجع له الفضل في تلقيني لعبة تقطيع الأبيات الشعرية العمودية إلى حركات وسكنات وقوافي وأقفال.. إلخ، حتى بات هذا التقطيع في أوقات فراغ يومياتي لعبة مسلية تشبه إلى حد ما لعبة من لعب الذكاء عند الأطفال التي تعتمد على تفكيك ثم تجميع جهاز اللعبة.. بعد ذلك شرعت أنشئ أبياتا قليلة على أوزان البحور السهلة مثل الرجز والبسيط والرمل... وفي لحظة ما وجدتني منقطعا لفترة غير يسيرة عن العالم الخارجي.. منعزلا في خلوة "صوفية" ومنكبا بنهم على كتاب ''ميزان الذهب" لخليل ابن أحمد الفراهيدي الذي أعارني إياه أستاذ مادة اللغة العربية في الفصل الأول من التعليم الثانوي بمؤسسة عمر بن الخطاب، ثم فيما بعد قادتني طريقي الشعرية الاستكشافية هاته إلى قراءة العديد من الدواوين الشعرية لمحمد الفيتوري ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وأدونيس ومحمود درويش وأحمد دحبور وغيرهم من رواد الحداثة الشعرية العربية ولعل أهم تلك الدواوين تأثيرا في حياتي الإبداعية الأدبية في تلك المرحلة، كان مجلد الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر السوري نزار قباني الذي استعرته لعدة شهور من المكتبة العامة بالجامع الكبير بحومة قبة السوق.

لقد كان هذا المجلد يضم مجموعة من الدواوين المتوسطة حجما مثل (أنت لي، سامبا، الشعر قنديل أخضر، قصائد متوحشة..إلخ) ومن كثرة ما سحرتني شعريته وقاموس لغته الحداثية وموضوعاته الحميمية.. الجريئة والمنسجمة وقتئذ مع أحاسيس مرحلتي الشبابية، صرت مدمنا على قراءته حتى ألفيتني أقطع كل يوم مسافة نصف ساعة مشيا على الأقدام من بيتنا إلى حومة قبة السوق بالمدينة العتيقة لألتحق بمكتبة الجامع الكبير إلى درجة أصبح الأستاذ الجليل عبد السلام البراق متعهد المكتبة وقتئذ كلما لمحني مشرئبا برأسي من أعلى الأدراج حتى ينصرف إلى مستودع المخطوطات والمجلدات والكتب المتواري عن قاعة المطالعة ويأتيني بخفة ظله المعهودة بمجلد نزار قباني من دون أن أكون في حاجة إلى تعبئة مطبوع الزيارة مثل باقي الرواد والزوار من الأساتذة وطلبة الجامعة والعشاق الباحثين عن رسائل تلين قلوب حبيباتهم... وقبل هذا وذاك كنت أيضا في أواسط الستينات حفاظا بارعا ومتذوقا ممسوسا بأشهر الأغاني المغربية والعربية المطولة والقصيرة من أشعار محمد الطنجاوي والخمار الكنوني والمهدي زريوح ولعلني أذكرالآن بالخصوص أغنيتي الأطلال للسيدة أم كلثوم والقمر الأحمرللموسيقار عبد السلام عامرهاتان الأغنيتان اللتان كانت آلة ''المانييتوفون'' في بيتنا والتي تشبه حقيبة يدوية رمادية ثقيلة لا تتوقف عن الشدو بهما طوال النهار وخصوصا في أيام الآحاد حيث تكون الدار الكبيرة صاخبة ورافلة في رغد "الويكاند" وحيث يلتئم بين حيطانها الأنيسة والدافئة كل أفراد العائلة بعد أسبوع من العمل عند الكبار والدراسة عند الصغار...

وفي غفلة مني كانت تربة الكتابة تختمر سرا شيئا فشيئا في أعماق نفسي وتهيئ وحيها القادم إلى يوم الخلق الموعود.. وحدث ما كان لابد أن يحدث في سيرتي كما لو أن هذا المسار كان يستلهم صيرورته وتحولاته من قانون النشوء والارتقاء والتطور الطبيعي لجميع الأحياء على أديم الأرض مادام الأمر هنا يتعلق أيضا بكائن حي له روح وجسد وأنفاس إنه "النص الأدبي"...

وفي ليلة من ليالي صيفنا المكناسي القائظ من سنة 1976 بعد أن تمكنت من لعبة التقطيع العروضي فكرت فجأة أن أجرب حظي في زرع أول بذرة في حدائق الشعر.. لا يتعلق الأمر بقرار لحظي يحتمل ضمن ما يحتمل شروط اليقظة والوعي.. وإنما كما قلت هو ارتقاء من الطقس الجواني الجاف المحتقن إلى فصل الأمطار والعواصف والرياح المخصبة.

أذكر أنه أصابني أرق حاد في تلك الليلة القائظة.. أطفأت نور المصباح الكهربائي وفي عتمة الغرفة ولتجزية وقت السهاد واجتذاب غفوة النوم عدت إلى لعبة التقطيع ذهنيا هذه المرة وطفقت أنظم أبياتا عمودية على وزن البحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن... فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ) حتى بت كلما نظمت بيتا أحفظه عن ظهر قلب ثم أعيد اللعبة من جديد لنظم البيت الموالي... بت مثل عنكبوت أو مثل دودة القز أروح وأغدو على رقعة القماش في عملية نسج جيئة وذهابا طيلة الليلة، كانت عملية ممتعة ومرهقة ذهنيا وتقنيا أيضا نظرا لاقتعاد نظم القصيدة العمودية بالأساس على احترام قواعد الوزن من حركات وسكنات وقافية وتناسق الصور والأخيلة في الصدر كما في العجز بشكل دقيق.

لم تسعفني هذه اللعبة في أن أنعم بوسنة لذيذة وإنما أذكت نار أرقي أكثر فأكثر، ووجدتني مستغرقا في مغامرتي النظمية اللذيذة حتى مطلع الفجر من دون أن أعلم بأي مصير أو أي شاطئ ينتظر زورق قصيدتي الهائمة في انسيابها التلقائي وحتى من دون أن أحدد أفق انتظار يرسم ملامحها الأولى والتي أعتقد الآن أنها أتت إلي مداهمة كنوبة صرع مفاجئ.. وأتخيل اليوم بكل تأكيد أنني لم أمض إليها مستكشفا.. جسورا ومتطفلا إطلاقا.. كانت القصيدة الأولى ضربا من الإلهام ووحيا في الهزيع الأخير هابطا من عتمة السهاد... كل ما أستطيع أن أجزم بوعي وجوده في تلك اللحظة هو أن كل شروط الخلق النفسية والثقافية والاجتماعية كانت جاهزة ومساعدة بسخاء أكثر على تفجير اعتمالات ذاتي في بنية إبداعية هلامية انصهرت ثم انفجرت في ليلة ما من ليالي العمر على هيأة قصيدة عمودية من ثمانية عشر بيتا ـ ليس إلا ـ وهذا كل ما استطعت واكتفيت به كهدية في صندوق الأرق وهو إنجاز بدا لي وقتئذ خارقا في بدايات سيرتي الأدبية لن أنساه مدى العمر..

ماتزال تلك الصور الشعرية التلقائية.. المفعمة براءة تعبر قافلتها أمامي الآن.. هلامية أحيانا مثل خيوط دخان قزحية وأحيانا أخرى مثل لوحات رسام شاب حالم لم تسعفها جدارة اليقظة والوعي على التحقق في الزمان والمكان...

وأذكر في صباح ذلك اليوم التاريخي الموعود.. قمت وحررت قصيدتي التي عنونتها ب''همسات اللقاء'' على ورق دفتر وحلقت بها كعصفور مرح، نشوان بشدوه إلى رفيقي الشاعر وأطلعته على باكورتي الشعرية الأولى.. وما أسعدني في تلك اللحظة أنني لمحت في قسماته انبهارا وإعجابا وهو يقرأ ويعيد قراءة قصيدتي البكر في صمت وتأمل..

وباقتراح منه قمت في نفس اليوم وبعثت بقصيدتي هاته إلى البرنامج الإذاعي ''ناشئة الأدب '' الذي كان يشرف على إعداده الشاعر الأصيل المرحوم إدريس الجاي''.. لا أذكر ماذا كتبت في التقديم ولا أية عبارات شكر انتقيتها ونثرتها في خاتمة الرسالة، كل ما أذكره الآن هو أنني صرت أستعجل يوم بث البرنامج في يوم الأربعاء القادم..

مر الأسبوع الأول خاطفا وبطيئا في نفس الوقت.. لست أدري كيف مرت غيمته الحبلى، وفي يوم الأربعاء من الأسبوع الثاني تسمرت مساءا قرب المذياع الوحيد في بيتنا وتحلق من حولي أفراد أسرتي وصديقي الشاعر أيضا وكم كانت المفاجأة مثل الرجة العذبة أو مثل أجمل الزلازل الجوانية التي تهدم عوالم الدواخل لتبدأ فتنة خلقها من جديد وأنا أستمع إلى صوت المذيعة وهي تنبس باسمي وعنوان قصيدتي ''همسات اللقاء'' ثم شرعت تتدفق نغمات السمفونية المرافقة مشفوعة بصوتها الرخيم الصادح بتلك الأبيات الغريبة التي تفتقت في عمق الظلام.. كنت مخدرا.. مبنجا ومرفوعا على صهوة الموج الجموح.. قشعريرة تسري في كل أوصالي.. وتيار كهربائي يلسعني في كل زوايا جسمي.. صدري ممتلئ ببالون من أنفاس غريبة ومصطخبة.. لم أصدق أن اسمي المغمور.. النكرة سيدخل مبنى دار الإذاعة المركزية من أوسع باب.. لم أصدق أن شاعرا في هذا البيت بل في هذه الحارة السفلى قد ولد تلك الليلة من رحم العتمة ومخاض الأرق.. كانت إذن تلك هي بداية غوايتي الشعرية وورطتي الأدبية  وهوسي الثقافي بشكل عام، وإلى الآن ما أزال أطرح السؤال: لو لم تنشر قصيدتي الأولى ''همسات اللقاء'' على أمواج الإذاعة المركزية في تلك الأمسية من سنة 1976 ولو لم يكن هناك أب عطوف على زمرة الشعراء الشباب من جيلي مثل محمد الطوبي ورشيد اليحياوي وغيرهما هو الفقيد إدريس الجاي، هل كنت سأكون ما أنا على صورته اليوم ككاتب فاشل أو كاتب ناجح أو كاتب دخيل أ وكاتب لقيط ثقافيا... لاتهمني اليوم كل الأوصاف والنعوت الجميلة منها أو العدوانية.. ولا النياشين على الصدر أو الصفعات على قفاي بعد أكثر من ثلاثين سنة.. أفخر كثيرا أنني كاتب مقل جدا جدا.. في رصيدي اليوم رواية ومجموعتين قصصيتين وبعض قصائد وعشرات المقالات في الترجمة والنقد الأدبي والإعلام والأدب الرقمي وبرفقتي قلة من الأصدقاء المبدعين الجميلين والجواب هو: لست أدري ! ياليتني كنت نسيا منسيا.. جاهلا أنعم في شقاوتي لربما أفضل من كوني كاتبا أشقى في نعيم الكتابة في أمة "اقرأ" لكنها لا تقرأ.

 

قاص وروائي مدير موقع إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة