يرسم القاص المغربي صورة شخصية لأنثى أسمها زهرة تجلس في مكان تتأمل ما حولها، ويتأمل السارد ما يحيطها من مفردات المكان، قبل أن يكشف لنا في جملة واحدة حالتها الإنسانية ووضعها البشري في الحياة وتجربة النص.

انعكاس

حسـن يـارتــي

أمامها، شيء عصيٌ على الإدراك: في تلكَ المرأة لا تُدركهُ، فرشاة مخنوقة ولوحة غامضة.

مرآة تظهر كل شيء وتخفي الأهم: عقائدها المنهارة...

آمنت طويلا بأن كوب عصير البرتقال الذي تضعه على الطاولة أمامها وتتأمله قد يمنحها لحظات من الهدوء، وينسيها جزءا من همومها، لذلك صارت تزيد عدد الأكواب يوما بعد يوم وتنقص عدد ملاعق السكر كأنها تقايض مذاق البرتقال المر بلحظات سكينة.

آمنت بقوة بأن الأقدار لا تظهر إلا في نهاية المطاف لتعصف بكل ما بنيناه ذات يوم وتمتص كل أمل تمسكنا به حتى آخر رمق.

آمنت أيضا بأن أكبر خطيئة قد يرتكبها المرء هو أن ينحت طريق النجاح دون أن ينتظر الفشل أو ينحت له منعرجا في وسط الطريق...كانت تدرك ذلك جيدا، وإن أبدت العكس.

لوحة الغلام التعيس على الجدار خلفها وعلى الجدار المقابل لملامحها البائسة مرآة طويلة معلقة في غير مكانها.

 على الطاولة انتشرت بعض الصور حول كوب العصير وبعيدا عنه قليلا ديوان بال من كثرة ما قلبت صفحاته بأصابعها ومسحت أبياته بعينيها. ديوان تحرص على وضع زهرة بين الصفحتين اللتين وصلت إليهما في القراءة...

هي تتأمل الزهرة بحنين يشي بحزن يطل من عينيها كلما نظرت إلى انعكاسها في المرآة المعلقة أمامها. أكبر خطأ أكبر خطأ قد يرتكبه المرء هو وضع المرايا في البيت، ذلك أن انعكاسها يكشف أخطاءنا ويفضح ضعفنا، فلا تمر الزلات مرور الكرام.

 على طريقة العرافات لتنشر صور رجال مرتبة في صفوف على طاولتها محاولِة فهم الترتيب الأنسب ليكتمل شريط الذاكرة.

أقبح ما في الذكريات أنها لا تغتالنا إلا في دقائق ضعفنا لتزيدنا ألما ويأسا.

أتحاول التخلص ممّا بقي عالقا بذاكرتها؟ أم تحاول استرجاع تلك اللحظات التي شكلت ذكرياتها؟ أحيانا، يعتاد المرء الألم حتى يُدمنه.

 بعثرت الصور من جديد وراحت تحرك يديها في كل الاتجاهات كأنما تبحث عن شيء ضائعٍ. ربما يكون صورة سقطت منها سهوا. فلامست يدها كوب العصير، فانسكب محتواه على الطاولة ولطّخ كل الصور.

رفعت رأسها لتقابل المرآة المعلّقة أمامها. تأملت انعكاسها عليها ثم ارتسمت على محياها ابتسامةٌ ساخرة...

 الآن فقط، انهار جدار صمتها وظهرت على حقيقتها ورُفع فجأة القناع الذي كان يخفي وجهها.

 جل ما كانت تفكر فيه هو الخداع وراء الخداع. الكذب وراء الكذب لتصطاد الفرائس تلو الفرائس.

لا تحتفظ ذاكرتها سوى بجراح من غدرت بهم وبملامح حزنهم وبعض أوجاعهم...

 زهرة هو اسم الجالسة أمام المرآة...

وزهرة بين دفتي الكتاب الذي ينتظر القراءة...

وزهرة عُمرٍ يضيع دقيقة بعد دقيقة في انتظار ضحايا ضائعين...