يتناول هذا الفيلم الشيق جانبا مهما من حياة الشاعر الألماني الكبير شيلر، وينفث معه الحياة في مرحلة مهمة من تاريخ الأدب والثقافة الألمانية في أحد أزهى عصورها، ولكن بطريقة سينمائية تهتم بالملوس وتعبر عنه بلغة الصورة.

«الشقيقتان المعشوقتان» أو عودة الحب إلى برلين

محـمد نبــيل

الجمع بين الشعر والعشق والحب هو في حد ذاته مغامرة فنية في مجال الفن السابع، وسندها الأساسي هو لغة الصورة. رهان المخرج الألماني "دومينيك غرافس" في فيلمه «الشقيقتان المعشوقتان» يثير الكثير من القضايا في علاقة الشعر بالحياة، وسلط الضوء على الكثير من النقاط في حياة الشاعر الالماني الكبير "فريديريش شيلر" .

قصة شاعر بين الواقع والخيال:
يحكي الشريط عن جزء من حقبة تاريخية بطلها الشاعر "فريديريش شيلر" الذي أحب حبين، وحبه كان لشقيقتين، وهما شارلوته وكارولين . الحكاية يمتزج فيها الخيال والواقع، ما جعلها أكثر جمالية وفنية. تنتمي الشقيقتان إلى أسرة من الأرستقراطية الألمانية، عاشت في أواخر القرن الثامن عشر، لكن بعد وفاة والدهما وتغير الاوضاع المادية للعائلة سيتم التضحية بكارولين، وتزويجها كزيجة لرجل ثري وليس في إطار علاقة عاطفية ضمانا لبقاء الأسرة وعدم اضطرارها لـ"التسول" كما عبرت عن ذلك أم الشقيقتين.

الجمع بين الحبين والأختين سيجلب للشاعر متاعب نفسية ذات بعد درامي ما أضفى على الفيلم جمالية ومسحة فريدة. 170 دقيقة هي مدة الشريط الذي يروي حكايات شيلر في حقبة تاريخية كان فيها الحرف والشعر والابداع يحتل مكانة مهمة داخل المجتمع . إنه عصر الأنوار والفكر والخلق والجدل بخصوص قضايا الحرية والمرأة. وفي هذا الزمن الجميل وتحت تأثير أفكار عصر التنوير، كتب شيلر مسرحيته الأولي "اللصوص" . نص مسرحي يتجسد فيه الرفض المطلق للاستبداد، والنزوع نحو الحرية الإنسانية، والتحرر من الاضطهاد والظلم الاجتماعي.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\sisters6003.jpg

 

لهيب الغرام والعشق الممنوع
الشريط يروي الحكاية بالصورة وبسرد يأسر المشاهد دون أن يسقطه في روح الملل والاطناب . تنظر شارلوته إلى كارولين على أنها صاحبة التضحية الأكبر في حياة الأسرة، وتشعر بأنها وأمها مدينتان لها، وعندما يقترب شيلر، - هذا الشاب الفقير كما وصفته أم الشقيقتين - من شارلوته، تقع كارولين (المرأة المتزوجة) في حبال الغرام وسيبادلها الشاعر نفس شعلة مشاعرها الملتهبة، لكن شارلوته تحب الشاعر وترى بأنها الأجدر به، وتسعى للاقتران به بالرغم من معارضة والدتها لهذا الزواج الفاشل مع شاب فقير لا مستقبل أمامه. لكن دهاء كارولين سيمكنها من إقناع أمها بتزويج شارلوته إلى شيلر، الشخص الذي سيكون قريبا منهما معا .

مع توالي الوقائع ستصير العلاقة بين شيلر والشقيقتين أكثر تعقيدا ، وستتداخل أحداثها بشكل درامي ومثير، فشيلر المتزوج يظل عاشقا لشقيقة زوجته كارولين، في وقت تهجر شارلوته الشاعر قبل أن تغادر كارولين البيت لسنوات عدة خلالها ستنجب شارلوته من شيلر أربعة أبناء، لكن لهيب الغرام والعشق الممنوع سرعان ما يعود لتستأنف كارولين علاقتها بشيلر الشيء الذي أدى الى طلاقها من زوجها .

لعنة الغيرة وشغف الرغبة ونار العشق ستفجر الصراع بين الشقيقتين بعد أن تخفي كارولين عن شارلوته ما تفعله مع شيلر. صراع فيه من العقد النفسية ما يكفي كي يصير مواجهة عنيفة بينهما وكل واحدة منهما تقول هي الأجدر بشيلر .

كارولين شخصية فريدة من نوعها . بدأت فعل الكتابة بفضل احتكاكها بشيلر فأصبحت تنشر ابداعات نصوص رواية رومانسية أثارت شهية القراء الألمان آنذاك وهم يتابعون مسلسلا يمتزج فيه الخيال وحياة الكاتبة. كارولين ستنتقل من رجل لآخر تبيع ما لديها من أجل الحصول على مال يضمن لها مواصلة الحياة والإنفاق على والدتها.

"الشقيقتان المعشوقتان" شريط يحمل حكاية صراع نفسي عاشه الشاعر شيلر، ويعبر كذلك عن واقع النساء في تلك المرحلة من التاريخ. صراع انتقلت عدواه الى الشقيقتين فعصف بحبهما الغريب الخارج عن إطار المسموح به اجتماعيا .

السينما وزمن الأنوار
ركوب المغامرة العاطفية لا تحدث فقط في التاريخ الفعلي للإنسان بل تكون كذلك مادة خيالية تشتغل عليها السينما وتعالجها بطريقة فنية وجمالية . السينما تقول وتضمر أشياء عدة . سؤال يطرحه كل من يشاهد شريطا من طينة "الشقيقتان المعشوقتان".

هذا العمل السينمائي الذي يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين يدفعنا الى مساءلة طبيعة الخلق السينمائي وخصائصه وواقع السينما حاليا، ورهاناتها في إعادة رسم التاريخ واستحضاره فنيا وسينمائيا للمحافظة عليه . شيلر شاعر من نوع خاص، وهذا الفيلم يخص فصولا من حياته الغنية ويكشف لا محالة عن زوايا مهمة تسلط عليها الأضواء سينمائيا بعد مرور أكثر من قرنين.

السينما تحكي عن قصص الشعر والشعراء . هذا الفيلم دليل على هم سينمائي لا يبتعد عن هوس الابداع وشغفه ونظم القوافي . مشاهدة فيلم من طينة أفلام التاريخ الألماني الفكري والشعري هو بالفعل استحضار للذاكرة ومحيطها السوسيولوجي ، وكما قالت صحيفة "تاغسشبيغل" اليومية الالمانية الصادرة من برلين : " الشقيقتان المعشوقتان، شريط يعبر عن زمن الأنوار".

شيلر وغوته .. لقاء العظماء
يحكي هذا الفيلم عن العلاقة بين الشاعرين شيلر وغوته في لقاء فريد يتابعه سكان المنطقة بشغف كبير، وإن كان غوته لم يظهر في الفيلم إلا من خلال لقطة لا تكشف عن وجهه. وفي فايمار حيث التقي شيلر بغوته، ربطت بين الشاعرين علاقة صداقة عميقة، كانت من أشهر الصداقات في التاريخ الأدبي. شيلر تأثر بأفكار غوته كما تأثر جوته بأفكار شيلر. وفي فايمار وجد شيلر المكان الذي كان يتمناه، فهناك الصداقات الأدبية والأحاديث مع نبلاء الأسرة الملكية. كما في هذه الفترة كتب شيلر واحدة من أروع قصائده التي لحنها بيتهوفن فيما بعد في سيمفونيته المعروفة باسم "إلى السعادة". وفي هذه القصيدة يمجد شيلر الرغبة الإنسانية الجارفة نحو السعادة، رغم الآلام التي تكبل روح الإنسان.

تتحدث الكثير من المصادر عن مغادرة شيلر لفايمار لأول مرة ليعمل أستاذا للتاريخ في جامعة يينا، وأصبح بذلك يتوفر على دخل قار يمكنه من إتمام الزواج بحبيبته شارلوته. وفي عام 1799 عاد الشاعر مع زوجته وأطفاله إلى فايمار ليعيش فترة إبداعه الزاهية. ورغم المشاكل والآلام التي كانت تقض مضجعه باستمرار، كتب شيلر مسرحياته الشهيرة" ماريا ستيوارت" و"عذراء أورليانز" و"عروس ميسينا" و"فيلهيلم تل".

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\SIMOU2.jpg

 

محنة الشاعر سينمائيا

إمكانيات الفيلم والميزانية المخصصة لإنتاجه تبدو معالمها الكبرى في طبيعة الصورة ونوعيتها وتناسق الألوان والطاقم الكبير العامل في الشريط، وقدرات المصور في نقل الرموز والمشاهد برؤية فيها الكثير من العمق، فالصور تنطق بما يقال وما لا يقال عن العلامات الممكنة. هذا الفيلم هو محاولة جادة وجميلة لاسترجاع الماضي الزاهي لألمانيا شعريا وفكريا بلغة سينمائية لا تخلو من عناصر الخيال. كما عكس الفيلم الكثير من المعطيات التاريخية كتطور الطباعة وكيف وظف الشاعر شيلر هذه التقنية الجديدة في طبع كتبه .

استطاع فعلا المخرج "دومينيك غرافس" أن يظهر المحنة ، وأقصد محنة شيلر وعشيقتيه في قالب سينمائي مشوق وجميل فيه الكثير من العناصر الفنية . والكلام عن محن الشاعر التاريخية لا يخرج عن سيرته الذاتية التي تسجل أنه مات مريضا بالسل الرئوي وهو لم يتجاوز السادسة والأربعين. نجح المخرج في تجميل القبيح وتحويل الصورة التراجيدية في حياة شيلر العاطفية إلى صورة إبداعية بديعة تنطق بالممكن واللاممكن بالرغم من بعض النقص، مثلا في إمكانيات الممثل البطل في تقمص وترجمة شخصية صعبة جدا (شيلر الشاعر والإنسان). "الشقيقتان المعشوقتان" عمل استطاع الجمع بين الشعر والحب والسينما في محاورة فريدة

 

 صحافي وسينمائي مقيم في برلين .