ثمان نساء في بيت واحد ، يتحركن فيه مثل المكوك ، يجلسن مع بعضهن، يتبادلن الأحاديث، يأكلن ، يعملن أي شيء ولكن لا رابط بينهن .
يعلو صوت الجرن الحديدي من زاوية المطبخ العتيق الذي اختفى لون حيطانه من آثار روائح الطبخ وذرات الزيت ، تفوح رائحة توابل تعبق في أرجاء البيت كله ، تطال الأصوات الضاجة وتهدئها . تشدني الرائحة فأقف عند باب المطبخ أراقبها وهي تدق بتواصل ،" ماما لولا الصوت العالي لكنت ساعدتك أو على الأقل جلست معك تعرفينني لا أحتمل الصوت العالي " ترفع رأسها وترمقني بنظرة تعبة وكأنها لم تسمعني وتعود لجرنها وتدق .
تعالى صوته من الحجرة البعيدة في الطرف الآخر " كفى لقد دخت، كفى دق " . ويستمر الجرن على الرغم من ألم رقبتها إلا إنها كانت تريد أن تنجز مهماتها بلا توقف وكأن ثمة من يحاسبها إن تركت شيئا للغد .
ثمان نساء ورجل ، ستة بنات وعمتي الأرملة وابنتها وبابا، كانت مسئولة عن الاهتمام بطعامهم وغسيل ملابسهم وعن كل تفصيلة تخصهم .
أكملت ما بدأت به ونهضت بصمت بظهر محني من فوق تختها الخشبي الصغير ، رمقتني بنظرة وكأنها تنتبه لوجودي . لم تعرف يوما أن تعبر عن ما في داخلها ، لم تشتك ، لم تغضب ، لم تتذمر إلا بصوت مكتوم وتكرر جملة واحدة " يا صبر أيوب صبرني على بلائي " .
أخذت الجرن منها ، أفرغت التوابل في صحن، نفذت رائحتها الى حواسي كلها " ماما ، كيف تعلمت هذه الخلطة " فتجيب " لا أعرف وكأني ولدت وأنا اعرفها " .
بين الحجرتين ، كن يتراكضن والضحكات تتناثر مثل عصافير جذلى بالحياة ، تنظر إليهن بعين محبة منهكة ، منهكة من كل شيء ، من عدم الشكوى ، من الاستهلاك ، من العمل المضني المتواصل ، من قول نعم طوال الوقت ، من الطلبات المتواصلة ، منه ، من الإهمال ، ومن كونها أصبحت لا مرئية ، لا أحد يحس بوجودها ، كائن ينفذ بلا اعتراض . ربما أنا من كانت تتوقف لبرهة لأرصد حالتها وألقي بكلمة طيبة وأساعد قليلا ومن ثم أذهب لمشاغلي .
كمنت فرحتها ، رضاها في الحياة التي تدور حولها، إحساسها أنها مسئولة عن هذا الدوران وانه لولا استمرارها في العمل منذ الفجر وحتى منتصف الليل لتوقفت الحياة في المنزل . كان هذا إحساسها وحدها ولم يكن لأحد أن يتوقف عنده . خلقت لها عالما تهرب منه لوهلة خارج المنزل ، أحبت الاعتناء بالحديقة وسقيها وإزالة الأعشاب منها ، وكان لها قفصا كبيرا ربت فيه عصافير الحب الملونة ، وكانت تعتني فيها كل يوم وتجلس على دكة عند عتبة باب المطبخ المؤدي إلى الحديقة لتستمع إلى زقزقتهم وتراقب حركاتهم .
كانت أمي متوسطة الجمال، بيضاء بلون الحليب ، جسمها أملس لا شعرة فيه ، والشعر اسود كثيف، أنفها كان عريضا يغلب على سكان منطقة باب الشيخ التي تنحدر منها ، البغداديين الأصليين ، تملك عيني طفلة لم تكتشف العالم ، كل شيء حولها كان يبهرها ، والحياة التي تجري خارجا هي قصص تحكى لها .
امتلئ جسدها وأخذ شكل الأمكنة التي كانت تجلس طويلا فيها ، أثداء كبيرة ومؤخرة مكتنزة مثل الأمهات جميعا ، ولكن ما كان يتفرد فيه جسد أمي بطنها المدور . فبعد ستة ولادات وإجهاض واحد لم تتهدل بطنها بقيت قوية وصلبة وكأن طفلا علق داخلها . هذه البطن التي تشبه الكرة كانت هي ما يخجل أمي ، فأول ما تدخل عتبة بيت أقاربنا وقبل أن تسلم عليهم كانت تضحك واضعة كفها على فمها وتشير إلى بطنها المهتز لتلفت انتباه الجميع وكأنها تستغفرهم لحملها هذه البطن .
لم يكن يحلو لي إلا أن أداعب بطنها وأقبلها واضعة راسي عليها وأقول " لم تخجلين من حاضنة حيواتنا ، الأحرى بك أن تعتزي بها " .
لم تعترف يوما إنها أحبت أبي ولم تعرف أي منا تفصيلة عن علاقتهما وعن مشاعرها بالكلمات ، حولتها إلى طاعة وعمل يومي صامت امتد عمرها كله ، له ، لأمه ، لبناته . وهو لم يكن يردد إلا جملة واحدة يعبر فيها عن علاقته بها " إنها أمك التي ورطتني وجلبت لي البنات " ، كنت أتساءل من كان ينام معها ، لم يحملها المسئولية وحدها . أمضت حياتها مثقلة بالذنب لتعاسته .
جرت ساقيها المكتنزتين وصعدت السلم إلى الطابق العلوي الكبير ، تسحب جسدها المتعب درجة بعد أخرى . رتبت أسرة بناتها وفوضاهن ودخلت إلى غرفته، والتفت وراءها لتتأكد أنها لوحدها في المكان ، تمددت على الجانب الذي ينام فيه ، شمت رائحة المخدة ومرغت وجهها فيها، رائحة لم تألفها كثيراً ولكن هي ما عرفته عمرها كله ، رائحة رجل حسدنها النساء عليه ، لمركزه العلمي وللبيت الكبير الذي تسكن فيه ولكل المظاهر المترفة التي لم تعنيها البتة . استعادت ذكرى حملها الأخير الذي لم تكن تخطط له ، فسقطت دمعة من عينيها وانتفضت مبتعدة خارج الغرفة .
حملت أمي لسادس مرة لتجلب له الصبي الذي حلم به ، صمتَ بانتظار المولود وارتعب قلبها خوفا . وحين جاءت ساعة الوضع لم يذهب معها إلى المستشفى لم يقو قلبه على ما سيأتي به بطنها ، ففضل البقاء في البيت وقال لنفسه لو جلبت الولد سأذهب لآتي بها من المستشفى ولو.
ولم يذهب لجلبها وعندما عادت بسيارة أجرة تصطحبها بنتها الكبيرة ، صرخ أمام من في البيت ، منذ اللحظة لن تنامي معي في فراش واحد ، لم تنظر إلى وجهه ولم تكلم أحدا ، هرعت إلى الحديقة ، إلى قفص عصافير الحب التي كانت تربيها ، وجدتها ميتة نسي من في البيت أن يضع الطعام والماء لها ليومين ، جلست على دكة الباب وانفجرت في نحيب مرير .