اعتبر الكاتب محمد برادة أنه بات من الضروري أن يكون الحوار حول قضايا تهمنا جميعا انطلاقا من واقع التحولات التي نعيشها اليوم، في عالم أصبحت الرقميات والثورة التكنولوجيا حاضرة بقوة. فهل ثمة ضرورة للأدب اليوم، وما هي جدواه؟ يتساءل الكاتب محمد برادة، الذي كان ضيفا على سلسلة لقاءات الشهر، والتي تنظمها مؤسسة الكلمة للثقافة والفنون بأسفي، في لقاء مفتوح حول الرواية والأدب ونقاش مع جمهور مدينة أسفي حول روايته الجديدة "بعيدا عن الضوضاء قريبا من السكات" وهي الرواية المتوجة بجائزة المغرب للكتاب في دورتها الحالية 2015 صنف السرديات والمحكيات.
اللقاء، الذي أطره الشاعر والناقد عبدالحق ميفراني، بقاعة أطلنتيد يوم الثلاثاء 17 فبراير 2015، يندرج ضمن سلسلة لقاءات الشهر والتي أطلقتها مؤسسة الكلمة بأسفي منذ تأسيسها مطلع 2013، في إنصات بليغ لأسئلة التحولات في المشهد الثقافي وانفتاح على الفضاء السوسيوثقافي والإصدارات الحديثة في مختلف الأجناس التعبيرية. واعتبر محمد برادة الأدب اللاجدوى الضرورية لقدرته على تقديم إضاءات جديدة للأشياء وإيقاظ القلق في نفوسنا، وضرورته تكتسي طابعا خاصا بحكم اختلافها على باقي الخطابات، إذ يعتبر المجال الوحيد القادر على تقديم الصراع الأبدي بين الذات، وهي تطمح الى التحرر للوصول الى نوع من التوازن لتقيم علاقة غيرية مع المجتمع. ولأنه يركب أجنحة التخييل فهو يوهمنا بأن الحياة يمكن أن تكون بشكل آخر, هذا رغم إشارته الى أننا نعيش حداثة هشة بفعل تسارع مسارات التحول التي أفضت لظهور قوى أصولية متطرفة وقوى مدنية تعيش الدين في سماحة وشباب يتطلعون الى التغيير والعيش في عالم جديد.
ونبه محمد برادة الى أننا بعد استقلال المغرب استطاع الأدب أن يعبر عن حالة الشك واللايقين وحالة الانفصام التي بدأت تنجلي بين الفكر السياسي والإبداعي، واستطاع الكتاب أن ينفصلوا عن تلك الأنظمة التسلطية والتي راكمت فشلها طيلة الخمسين سنة الماضية، ويعبروا عن عذابات الفرد. واليوم استطاع الأدب العربي الحديث أن ينقلنا الى مرحلة جديدة في رفضه الكثير مما ورثناه عن الماضي. ويشدد الكاتب محمد برادة، الى أن ما فشلنا في تحقيقه سياسيا استطاع الأدب والفن أن ينجح فيه من خلال إبداعات الكتاب والفنانين، والتي أمست تمثل نقط الضوء رغم شروط ميلادها الصعبة. وبارتباط بمآلات الربيع العربي، اعتبر الكاتب المغربي الى أن الربيع استطاع أن يكشف طبيعة هذه الأنظمة التسلطية ومواقفها الخفية.
من جهته، اعتبر الشاعر عبدالحق ميفراني، رئيس مؤسسة الكلمة للثقافة والفنون بأسفي عن سعادة المؤسسة باستضافة ضيف انتصر للكلمة المضيئة النيرة التي تسعى إلى إعلاء صوت العقل والنقد والمساءلة والتمحيص؛ وإلى طرح الأسئلة الملحة والمقلقة .. من ديدن هذا المسار المتواصل اليوم، تم اختيار أحد المغاربة الأكثر حرقة بالكلمة وبنبراسها..من قال أن "حياتنا معلقة على حافة الكلمات.."، من عاشوا الزمن المغربي الحديث بامتياز..ـ، من أضاؤوا في هزيع السنوات "العجاف" كوة للخطاب النقدي وأفقا آخر للأدب المغربي، ومن فتحوا آفاق متعددة أمام كتابة تتخلص شيئا فشيئا من طقوس الطاعة، وتتلمس خصوصيتها بانفتاح بليغ عن الكونية والمثاقفة والحوار..من طرز ذاكرة للنسيان، لامرأة من نسيان.. وتلاها حيوات متجاورة وأوقفنا هذه السنة عند بعض من "ضجيجه"، لكن بعيدا .. قريبا من "السكات".. وفي الصمت بياضات يدرك خفاياها ناقد خبير متمرس أجج مسارات الخطاب النقدي العربي، وقعد لمفاهيم ونظريات وحرر وجدان النقد العربي على أهواء حرة دون تعصب ولا انتصار "زائف" لأي مدرسة..
الكاتب محمد برادة، الذي ينبهنا اليوم الى ضرورة الانتباه الى أننا نعيش تحولا حقيقيا، وأننا في ذروة هذا المسار الدقيق نحو الديمقراطية، علينا أن نمارس النقد باستمرار، وأن نطور الوعي، أما التغيير فهو قانون الحياة.. تلك الحياة التي يخط حيواتها في رواياته، على اعتبار أنها منبع كل شيء.. تلامس الموضوعات والتيمات جميعها بدون استثناء.. وتفكر في الزمن وتؤوله، وتصحح بعضا من "الأحكام النهائية" التي أطلقها البعض، وتغير بوصلة التشاؤل التي أمست تصدرها خطابات بعينها..إذ لابد للكاتب، يقول برادة أن ينظر الى الأشياء من مسافة وداخل سياق أشمل.. الرواية تشمل كل مكونات الفرد والمجتمع، لذلك ينبهنا محمد برادة الى تلك التفاصيل التي يهملها التاريخ والى المحافظة على رؤيتنا الثاقبة والعميقة للأشياء لأنها هي التي تجعل الكتابة تنفتح على أفق رحب وأوسع..
محمد برادة الذي نبهنا مبكرا الى أن "هزيمة 67 قد أيقظت حاجتنا الى "خطاب مختلف، ينبع من الذات المجروحة، ويحفر لها سنن البوح لاستعادة وجودها المتوازي تحت ثقل الحكم الفردي"، ولعل اهتمام الأستاذ برادة بالخطاب الروائي وتحليل أشكاله وتأويل دلالاته يعود بالأساس الى "فسحة من القول تضيء لي معالم من المشهد المشحون بالإيديولوجيات الثوروية، وطبقات الكلام المتخشب، المبشِّر بآمال ستتكشف عن هزيمة 1967 التي أيقظت الحاجة إلى خطاب مختلف".
ظلت روايات محمد برادة مختبرا مفتوحا لأسئلة الكتابة والمتخيل، دون أن يكون هذا الأمر بالضرورة يرتبط في الأساس بمشروع برادة السردي.. يقول محمد برادة أن روايته "بعيدا عن الضوضاء: قريبا من السكات" هي محاولة للإجابة عما عاشه خلال الخمسين سنة التي مرت في تاريخ المغرب، عاش في موقع يلاحظ ليجد أن العلاقة بالزمن لا يمكن أن تكون خارجية، فالروائي يحرض على التفكير في أكثر الأسئلة التباسا. وهذا لا يعني أن كتابة الذاكرة لا تحمل إشارات عن تاريخ آخر هو تاريخ ذاتي ينطوي على بصمات وتفاعلات مع التاريخ العام.
إجمالا يعتبر المشروع النقدي عند الكاتب محمد برادة مؤطرا ضمن خلفية ثقافية ترتهن بالحداثة (الثقافية)، والتعددية وتغير مفهوم الأدب الى الذاتي انتهاء بإشاعة قيم جديدة، وينبه الناقد الدكتور محمد الداهي الى أن محمد برادة بوأ الرواية العربية المكانة التي تستحقها بعد جهود متواصلة، أو كما يسمه الناقد صلاح فضل بأحد كبار النقاد العرب الطليعيين. لقد مكنت الممارسة المتواصلة في ظل شروط سياسية وثقافية خاصة، أن يتحول صوت الكاتب محمد برادة الى نموذج فعلي وحقيقي لكتاب يصبون الى الحرية والتغيير والتمرد على الماضوية، لذلك ظلت كتابات برادة متمسكة بهذا الشرط، شرط توطيد العلاقة مع الفكر الكوني الإنساني الجديد. ولطالما كان تعلقه بالفكر النقدي وبترجمة النصوص حاجة ملحة تحمل، بتعبيره، هواء منعشا للفكر والمشاعر وتوطد العلاقة بالفكر الكوني الإنساني الجديد الذي كان يتشكل في الخمسينيات من القرن الماضي ضد الاستعمار والامبريالية والاستغلال. ويدعونا برادة اليوم، الى إعادة قراءة الرواية على ضوء منهجية تحليلية تأويلية تكشف عن أسئلة حقيقية وعن قضايا تهم الذات والهوية واللغات والتخييل والكينونة.. ولا ننسى أن تجربة محمد برادة عربيا، حين تم تنظيم ندوة عربية (1981) ونشر كتاب "الرواية العربية واقع وآفاق" ثمرة أعمال ندوة اتحاد كتاب المغرب للبحث في قضايا وإشكالية الرواية العربية الجديدة وقد أسهم حينها رواد مغاربة ومشارقة (محمد برادة، محمود أمين العالم، فريد النقاش، عبدالكبير الخطيبي، برهان غليون، الطاهر بن جلون، صنع الله ابراهيم، إدوارد الخراط، جمال الغيطاني...)
يعتبر محمد برادة أنه ينتمي الى جيل كان "يستمد معنى حياته من الانخراط في قضايا الكفاح ضد المستعمر، ومن التطلع الى تشييد مجتمع وثقافة وطنيين"، لذلك يعتبر أن مسألة الإصلاح السياسي والثقافي اليوم تفرض نفسها بإلحاح على المجتمعات العربية، ولا يمكن أن تكون تجزيئية، بل هي ثورة لا تعتمد العنف بل تتوخى تحرير الإنسان العربي. لذلك يدعو برادة الى ما يسمه ب"الإصلاح المحرر" والمطلوب من المثقفين هو تكثيف اتجاه وموقف نظري يعلن إفلاس التعاقد السياسي بين الدولة والأنظمة من جهة، وبين أغلبية المواطنين من جهة ثانية. هي بعض من مواقف الكاتب والناقد محمد برادة، والذي يمثل تتويجه اليوم بجائزة المغرب للكتاب، تتويجا لمساره النقدي والإبداعي والتأسيسي الفاعل للكثير من المحطات الثقافية في تاريخ المغرب والعالم العربي المعاصر.