"من ينصب لك رمحاً، فانصب له قوساً"،
عبارة التصقت بجدار المحفل الالكتروني وتواصله الاجتماعي، في دلالة على استفحال المناكفة والتربص بين ثنايا وحيثيات صفحات جمهورية الانترنت... فما هي المشاهد الضبابية التي تخفيها تلك الجمهورية؟
الانترنت والاغتيال الالكتروني
حينما تكتسي الأرض حلتها البيضاء شتاء، تبدأ الفرحة متراشقة ومتطايرة ككرات ثلجية صغيرة لا يتعدى حجمها مقبض الكف وحبة البرتقال.
الواضح أن فرحة لقاء الزائر الأبيض تمثل طبيعة حقيقية لا يختلف عليها اثنان، وإن جاء الاختلاف يكون متعلقاً بتوقيت الهطول.
اما في عالم الإنترنت وما تحويه مواقع التواصل الاجتماعي من صولات وجولات وتقسيمات وتشعبات وتراشق بالسب والذم والاتهام والتحريض والقذف والتهديد والوعيد الى غير ذلك من بطولات التقمص الالكتروني؛ تبيّن ان هذا العالم اصبح مرتعاً تعبيرياً يتجه مؤشره نحو انحرافات تؤثر مستقبلاً على أخلاقيات ونهج الشعوب.
الصورة وفقاً لذلك لم تعد طبيعية، وهي بعيدة كل البعد عن طبيعة “الثلج الأبيض” وسمات المشهد ونقاوته، فشتان بين وصف المجهول والحقيقة.
اللافت ان هذا الفضاء الالكتروني اصبح سمة لعصر النص المفتوح والانتقاء العشوائي، وما على المتصفح الا ملاعبة لوحة المفاتيح بأصابعه المفعمة بالنزوات الايجابية والسلبية، حتى الإيجابيات – في بعض الاحيان - تُستغل بطرق ملتوية، لتحقيق مآرب سلبية.
القارئ ربما يجزم ويفسر ما ذكر أعلاه بأنه هجوم ضد التطور والتحضر، ونحن نؤكد اننا مع الرقي الحضاري، وضد استغلال الانترنت لبث سموم تحرق الأخضر واليابس تحت مسميات ثقافة الفوضى والانحراف الأخلاقي.
إن ثقافة الاغتيال الالكتروني اصبحت متاحة للصغير قبل الكبير، وما عليك الا اتباع اسلوب الفبركة والإشاعة لتصبح قائداً لـ “امبراطورية النزوات” من وراء شاشة صغيرة تتحكم بعقول الناس.
صفحات التواصل الاجتماعي والإدمان التصاعدي
لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد صفحات إلكترونية يتداولها زوار الإنترنت بين الفينة والأخرى على مدى 24 ساعة، بل تحولت الى حالة إدمان وكسر موسع لكثير من المرجعيات السابقة.
الناظر الى أيقونة الإشارة الخضراء لكثير من زوار الفيسبوك، يدرك جلياً أن تلك المواقع اختطفت العلاقات الاجتماعية المباشرة ووضعتها بين أربعة جدران بعيداً عن ملامح وإيماءات تلك العلاقة.
فالعلاقة المباشرة بين الأسرة النووية الواحدة أصبحت تضمحل مقارنة بتطور مواقع التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، إن تعرض احد أفرادها لمشكلة اجتماعية من محيطه الخارجي، يسارع على الفور فتح “صفحة التواصل” ليكتب عليها “عبارات لوم وعتب ووعيد وربما تصل الى التهديد”، بدلاً من بوحها ضمن إطار الوحدة الأسرية، لإيجاد حل مناسب بعيداً عن ثقافة نشر الغسيل على الاحبال الالكترونية.
اما علاقات الحب والغرام، فقد استطاعت السيدة “الكترونيكا” التغلب على قصص عنترة وعبلة وروميو وجولييت واستبدلتها بعلاقات الكترونية، حتى اصبح العشاق يتنافسون بين دهاليز الأسماء المستعارة والوهمية.
وفيما يخص حالات المناجاة والدعاء والروحانيات، يعمد زوار مواقع التواصل الاجتماعي الى الاكتفاء بوضع أدعية إيمانية على حائط الموقع بدلاً من الاصل الطبيعي لمعنى الخشوع والتذلل للخالق.
الأدهى من ذلك، ان السرية الأسرية اصبحت “عالمكشوف”، جراء التهور واللامبالاة في استخدام تلك المواقع، ناهيك عن نشر الصور وأسماء وجبات الطعام التي نتناولها، ولم يتبق الا نشر صور استخدام بيت الراحة.
مروراً بما ذكر أعلاه، يتضح أن زوار الإنترنت أصبحوا اسرى تطور تلك المواقع، حيث استبدلت العائلة والعشيرة وكل العلاقات الاجتماعية المباشرة بشاشة الكترونية تعمق الانزواء الشخصاني.
رغم كل هذه السلبيات، ألا تساعد تلك المواقع “مستقبلاً” على انشاء قاعدة فردانية تبعد الفرد عن اطار الجمعانية المرتبطة بالعادات والتقاليد ورقابة المجتمع؟ لاسيما وانها اوجدت شخصية مستقلة بمقدورها التعبير عن أفكارها الذاتية، التي لم تجد مكاناً لطرحها بين اطر المجتمع.
الانترنت وتضخيم الاحداث
صحيح أن النملة صغيرة بحجمها، الا أنها ربما تصبح كبيرة بحجم الفيل وفقاً للتطورات الزمانية والمكانية وارتباطاتها بالمخيال والخيال والرؤية.
إن مجتمعاتنا اليوم تعاني من بروباغندا تجعل من النملة فيلاً لتضخيم الحدث والاهداف، فالثرثار سيد هذا المصطلح، فإن اعطاك الاخير سراً، فكن على قناعة بانك لست اول من يعلم، ذلك لأن الفكر المجيّر يساوي الوعي المفقود.
النملة مشابهة لحجم الفيل تبريراً، فالفشل السياسي يبرر بدواع اقليمية، والفشل الطبي يبرر بالخطأ، والنميمة والغيبة تبرر بالسمر وجلسات المودة، واستخدام الصفات الطيبة بوجه مغاير قد يفسرها البعض بصورة خاطئة.
ومن مفارقات البروباغندا الاجتماعية، انك حينما تكون قويا يصفق لك كل صاحب منفعة ويجعل لك الاسود كالأبيض، وحينما تنهار قوتك تصبح مرتعاً للطعنات والتأويلات ويصبح الأبيض كالأسود، فالناس مثل الاعمدة الفخارية، كلما نقشت عليها شيئاً ازدادت خبرتك وترنحت بين الألم والأمل.
اما سياسيا، من ينظر الى العالم، يعرف ان النتيجة اصبحت 4+9=77، وربما تتطور الى 2+8=1000، وكذلك سيل الحروف والارقام وصولاً الى كل الاحتمالات، حيث نسينا ان الفكر والجوهر كالحرف والكلمة، كلما ازدادت الفكرة اتساعاً كلما نضج الجوهر الفعلي وليس الوهمي.
القارئ ربما يطرح سؤالاً متأدلجاً، هل المشروع الاعلامي العالمي عبر وسائله الالكترونية يتجه نحو الاستفسار الحقيقي وتنمية التوعية؟
الجواب ربما يتقمص دور المسطرة التي تستطيع قياس الخشب والحديد وغير ذلك، وليس قياس العقول، فالتنمية لا تقاس بطول المسافة الزمنية، بل برجاحة الفكر التنموي الذي يرسم معالم تلك المسافة، والإنسان يخطئ حينما يقتبس المخيال لتأويل الخيال.
امام هذا، نتذكر ما قاله الكاتب والمفكر الصيني “سون أتزو”: ان مزج الالوان معاً يخرج لنا تدرجات لونية بأكثر مما يمكن رؤيته”.
فهل ينطبق ما قاله الكاتب “تزو” على الحالة الاعلامية الالكترونية؟ ام ان تقمص الدور السوريالي اصبح ظاهرة تخيّم على كل اروقة الخماسية الاستقصائية لمعنى الصحافة؟
إذن، نلخص نظرية النملة والفيل بما قاله الدكتور إبراهيم الفقي رائد التمنية البشرية: “إن 80 % من تفكير الإنسان سلبي، والخوف والقلق من سمات هذا الزمان”.
خلاصة المشهد
بما أن الديمقراطية نهج يحافظ على كرامة الإنسان وصون حريته من أي اعتداء وتطاول وغير ذلك، أفلا يتنافى هذا المصطلح مع التجاوزات “الاجتماعية والسياسية” لاستخدام الإنترنت في يومنا هذا؟.
كاتب صحافي ومحلل سياسي من فلسطين