كان لا يشبهه أحد في المعمورة قدرا ورهبة ولا شجاعة على السخرية من هذا الوجود الدنيء بما فيه .. أبصرته في مقبرة القرية هذا الصباح وعاينته حقيقة تسير على الأرض .. رغم ثيابه المرقعة وشعره الأشعث الغاطس في الغبار كانت لديه كاريزما الفراعنة والملوك الفاتحين .. كانت تخصه دون غيره تلك الهيبة المربكة التي يتسم بها القادة والوجهاء الذين تفسح لهم العوام صدور المجالس إجلالا وتوقيرا .. يجلس الناس في سلطته صفا كأنهم أعواد مرصوص .. لا فرق عنده بين عربي ولا إفرنجي لا بتقوى ولا ليلى .. لا بمعاوية أو علي .. هو لا يهتم إطلاقا بمن تنازل عن حقه الشرعي في متابعة العيش تحت أي دعوى أو فتوى .. كما أنه لا يكترث بالذي حزم خصره بالTNT غاضبا كي ينسف من يسب عائشة ولا بالآخر الذي ترك آل بيته كي يثأر ممن فطر قلب فاطمة واستحوذ على تركة والدها الأمين ووالد العالمين.
لقد التقيت حفار القبور وكان يشبه الشمس .. الشمس التي كانت تصهر كل شيء وتعمل بكل طاقتها لإذابة أهل الأرض بلا فرز أو تمييز .. التي لا تعرف التحيز والمحاباة أو الكيل بمكيالين ولا تكذب -لأنها عين الحقيقية العملاقة- ولا تجامل أو تداهن .. التي تبزغ كل صباح لتقول لنا إننا جميعا تحت ضيائها سواء .. وبأن كل من تغطيه بكسائها الذهبي أو تقرصه أشعتها الحارقة سواسية مثل أسنان المشط .. لا فروقات بينهم في المرتبة والمقدار .. لا فرق بين الصبي الصغير والشاب و الشيخ الكسيح..
الشمس والحفار منذ الأزل كانا لا يعترفان بعقائد الأعراق ومقامات الأحساب والأنساب ولا يكترثان للأشجار على أشكالها وأحمالها.. هما على دراية إنها كافة انفجرت من باطن التراب وإنها عن قريب ذاهبة فيه ..وأنا أيضا كنت على دراية بأن كل أوراق الأشجار مهما بدت شابة وخضراء ستتساقط سريعا حين تلسعها الشمس من لهيبها والحياة بخذلانها والشياطين بأدخنتها ..كل ورقة ستأخذ حصتها التي تكفيها من فناء القريب والغريب وتهالك الأبدان وتناقص الأهل والخلان ..
اليوم استقبلني الحفار تحت حرارة الشمس بتلك الهيئة البرزخية وتلك الثياب .. بوجه يغشاه الإنهاك ويغمره التراب .. حياني بطريقته دون مد ذراعه مصافحتي ودون أن يصوب بصره جهة الشجرة التي آويت إلى ظلها وكأنه لا يتذكرني آخر مرة يوم دفن والدي أو ربما يتصرف كأنه لا ينتبه لوجودي رغم أني كنت في حيز نظره .. كان مستغرقا في أداء مهنته الشاقة .. يقوم بها بتفان وينجزها بحب وإخلاص .. كان يجهز وجبة لحم طرية أعرفها جيدا وأحفظها عن ظهر قلب ليقدمها للحشرات والدود في أحشاء الأرض ..
كان يهيل التراب على جسد صديقي وعندما كان قد أسكنه في اللحد وجه نحوي كلمات ملتهبات كالجمر دون أن يصدر صوتا أو ينبس ببنت شفة.. ألقى على مسامعي جملة من التهديد والوعيد وصرخ في وجهي رغم أنه كان يكلم شخصا آخر ويغمره بالوحل .. سأل عن حالي وصحتي وتكدر مزاجه وبدا عليه الغيظ والحنق حين شاهدني قد استنفدت من الشباب رحيقه ومن الحياة سكرها وأني مازلت أسير على الأرض سيرة القرود والبهائم.
علاقتنا لم تكن على خير ما يرام تحديدا في السنوات العشرة المنصرمة .. أنا أتصرف باستهتار وكأني لا أعرفه وهو بين الفينة والأخرى يحضر لاختطاف أحد أهلي وأصدقائي في وتيرة تصاعدية حتى يلفت انتباهي إلى نطاق صلاحياته اللا محدود وهو يقول لي ساخرا إني على غرارهم تماما مجرد رقم عادي يقف في زحمة الطابور..
هذا اليوم في مقبرة القرية تعمدت ولأول مرة إلقاء القبض عليه .. قلت علي أوثقه بالنظرات.. كنت ألاحقه في الأرجاء وهو ينط على الأضرحة بإهمال وكأني غير موجود .. المريب في الأمر أني في هذه المناسبة كلما أبتعد بناظري برهة عنه أشعر أنه يتربص بي مثل ضبع جائع .. أحاول جاهدا إمساك عينيه متلبسة وأرجع ببصيرة فارغة لسرعة نظراته المحترفة وعينيه النافذتين ..
سيرته لهذا السبب ظلت لأعوام موضع قلقي وعدم ارتياحي بل وهلعي الشديد باعثة نفوري من تجربة التواصل والتطبيع معه..
اليوم تحديدا حاولت الاقتراب منه أكثر لمداواة مخاوفي من غدره .. ارتأيت أن استدعيه كي نجلس بمفردنا على طاولة الحوار لما في ذلك من مصلحة تخدم الطرفين وتسهل عقبات نهايتي المفترضة .. بعد عمر طويل أقصد .. وعلى ذات السياق تحديد تاريخ معلوم لائق باللقاء المصيري المرتقب وذلك لتفادي أي تعارض قد يطرأ لا سمح الله على انشغالات أحدنا وارتباطاته المعقدة .. وحتى نتشاور معا على مضمون النص الختامي الذي سألقيه في حفل استقالتي من الحياة .. بالإضافة إلى مناقشة بعض الحيثيات والتفاصيل منها على سبيل المثال لوني المفضل الذي أحب أن يغلف به جثماني .. قلت في قرار نفسي ربما يكون الحفار متفهما لشعوري بالقلق تجاه مستقبلي بكل هذا القدر فيدعم طموحي وعشقي للحياة ونرتقي بعلاقتنا درجات مرتفعات صوب الطمأنينة والسلام والعمر المديد..
قلت أشياء عدة ورسمت الكثير من الأمنيات لكن للأسف خاب مسعاي .. لقاءاتنا كالعادة لا تتم على الهيئة التي أشتهي.. فكلما سنحت لي الفرصة للقائه وأسعى للانفراد به أجد من حوله الجلبة والغوغاء فلا أجرؤ على مقاطعته وهو يخطب في الحشود .. ولا مباغتته بالسؤال عن خطته بخصوصي ..أقصد بأي حال وكيف تحديدا ينوي أن يجيء لكي يقطف روحي؟.. والأهم متى وأين؟
يحاور القاص اليمني في نصه فكرة قديمة قدم الوجود –الموت- من خلال شخصية حفار القبور وهو يكدّ في لقم باطن الأرض بالمزيد من الأجساد التي أتمت رحلتها. الشخصية في القصة تتأمل الحفار وعمله والموت والحياة متخيلة لحظة إيداعها صرة الأرض.
الشمس والحفار