تقوم وسائل الإعلام العربية "بزفة " تقليدية لكل مسئول إسرائيلي يزور هذه المنطقة أو تلك في افريقيا، وكأن المنطقة العربية تقف على قدم وساق "لمحاصرة اسرائيل في الوطن العربي والشرق الأوسط "!، أو يزعجنا بحق أن تخرج اسرائيل من هذا الحصار، الذى كنا نفرضه عليها فعلا، هي والنظام العنصري في جنوب افريقيا، لعدة عقود.!
ويظل ملفتا أن جهاز المواجهة القومي الذى قاده بعض مشاهير "الدبلوماسية العربية" ، لم يسمعنا يوما أنه يقود حملة لعزل الكيان الصهيوني عالميا، بينما تقوم جامعات اكاديمية تقليدية فى بريطانيا والولايات المتحدة مثلا بأدوار خطيرة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية القادمة من مناطق «فلسطينية». وسوف يدهش القارئ عندما يعرف أن الحجة المتداولة لعزل اسرائيل في أي مجال دولي هي أنها "دولة محتلة" لإقليم ينادى بحق تقرير مصير شعبه على أرضه. وكانت هذه الصفة وحدها كفيلة بإثارة حملات شباب ومثقفين ونقابيين فى أنحاء العالم، كما فعلوا ضد جنوب أفريقيا، وضد إسرائيل نفسها من قبل. لكن أشاوس الدبلوماسية العربية هم المحاصرون في الواقع بمواقف عربية من أقصى المشرق لأقصى المغرب، تحول دون قيام أمين عام أو وزير خارجية ممن بقوا في مناصبهم لعشرات السنين بأي دور لافت، أو قيادى فى هذا الموقف أو ذاك، وحتى خطط الأمناء العامين للجامعة، لم تفاجئني في أية دورة بأنها تعطي مساحة كافية لهذا الموضوع.
فمن أين إذن مصادر هذا "التهييج" الإعلامي الدائم وكأنها تسلية مملة تتكرر الآن حول زيارة "نيتنياهو" لأول مرة في منطقة هامة بالفعل من حوض النيل؟ يستطيع أي قارئ أن يلتفت لقول الإعلام الإسرائيلي أنها زيارة "استعادة" لقوة علاقات اسرائيل بأفريقيا. أي أنهم كانوا يشكون قدرا من العزلة لاعتبارات أخرى منها اقتصادياتها والعالم الذي تتبعه، وأن هذه الزيارة لمناقشة مسائل تقليدية ومتوقعة بطبعها مثل الأمن ومواجهة الإرهاب، والمياه والزراعة ... الخ. هنا تبدو اسرائيل محشورة في موقف، جراء نفوذ متعدد الوجوه من قوى دولية في نفس المنطقة، بالإضافة لما استجد من جانب تركيا التي تدخل في أحلاف متصلة مع قوى عربية وإسرائيل نفسها، فضلا عن دول خليجية ذات باع في أكثر من منطقة، وتركيا هي الحليف المنافس في حلف الأطلنطي والاتحاد الأوربي بما يضعها بقوة في حسابات إسرائيل، سعيا وراء المصالح الجارية في هذه المنطقة وجوارها العربي.
إذن إسرائيل لم يعد لها إلا قوة دور "السمسار" المعهود في هذا العصر في مجال تجارة السلاح، وتوريد شركات العون الفني واللوبي لدي مصادر راس المال العالمية، ولا يندفع أحد فى الدهشة، لان اسرائيل ليست موردة للرأسمال الكبير أو الصناعات الكثيفة أو التجارة الواسعة (صادراتها لأفريقيا لا تزيد عن 1 إلى 3,1 مليار دولار في العامين الأخيرين) وتجارة المغرب وحدها تصل لحوالي خمسة مليارات مع أفريقيا في نفس الفترة.! وبالمناسبة فان المعايير السابقة هي التي تنطبق علي حجم دورها في سد النهضة الذي يرتبط أساسا بدور ايطاليا والصين والهند وبعض دول الخليج.
دعونا نواصل تقييمنا لزيارة ذاك الزعيم الإسرائيلي في ذاتها أو وضعها في الموضع الصحيح كضابط ايقاع للسيطرة في الشرق الاوسط الآن: فالدول العربية هي التي ترفع من قيمة تجارة السلاح العالمية بانشغالها الأساسي في تحالفات "مواجهة الإرهاب" التي تنظمها لها دول تجارة السلاح ومنها إسرائيل، سواء في العالم العربي أو حالة كينيا – الصومال - ) نيجيريا - مالى. الكونغو... ونحن لا نستطيع عزلها عن ذلك طبعا إزاء تحديث آليات بيع السلاح، واهمية دور السمسار في هذا العمل.
وهناك مسالة أخرى تثار كثيرا عن مسعي اسرائيل للحضور كمراقب في الاتحاد الافريقي، وقد كانت اسرائيل تحضر "مراقبا" في منظمة الوحدة الإفريقية حتى 2002، وفشلت في الاستمرار مع قيام الاتحاد الإفريقى واعترافه بفلسطين وحدها مراقبا، حتى أخرج دبلوماسي مصري ممثلي اسرائيل من قاعة الاجتماع في "مالابو" العام الماضي بالقوة، ولابد أن تعود اسرائيل للمحاولة، خاصة وان تركيا مقبولة عضوا في الاتحاد .. ويمكن توقع ذلك إذا استمرت مواقف الدول العربية على ضعفها، او في ظل سياسة توسيع نطاق كامب ديفيد!، بينما لم يتغير وضعها كدولة محتلة، مثلما استمرت معاملة جنوب افريقيا لفترة بسبب ممارسة التمييز العنصري. ومفروض أن يصمم العرب علي استمرار التعامل بنفس المبدأ. وإسرائيل تحمل إلى جانب صفة الدولة الاستعمارية، صفة أنها دولة "أبارتهيد" منذ أهداها مشكورا الرئيس السابق "كارتر" هذه الصفة على أكبر نطاق دولي. وإسرائيل دولة تمييز عنصري بامتياز، ضد الأفارقة المهاجرين إليها؛ يهودا أو غير يهود، والحملة عالمية قائمة حول معاملة كافة اللاجئين.
إن ما يتوجب فهمه بعمق هو أن إسرائيل تخسر دائما المعارك الجماعية في الأمم المتحدة إذا نسق العمل العربي مع بقية دول العالم الثالث على الأقل، مثلما حدث في الجمعية العامة أكثر من مرة مؤخرا.. لكن في أكثر من موقف مخزى أيضا تكسب إسرائيل المواقف الفردية لدول عربية متنوعة عندما يكون التصويت فرديا لعضوية لجنة أو مجلس أو هيئة في الأمم المتحدة، كما حدث أخيرا لصالح اسرائيل أكثر من مرة أيضا!
إذن اسرائيل ليست ذلك الكائن المفزع، لا اقتصاديا ولا سياسيا، في ظروف العولمة التي لا تجدي معها تحركات الصغار إلا إذا كانوا عملاء أو من بناة القوة الذاتية الحقيقية! وإسرائيل كانت وما زالت عميلا نشيطا بدرجات مختلفة في سوق العولمة، حتى لم يعد يجدى معها الانتقال المألوف السابق بين قوى الاستعمار التقليدية (البريطاني ثم الفرنسي ثم الأمريكي) لأن كل هؤلاء أصبحوا في سوق المنافسة والصراع المتعدد على صعيد عالم متعدد المراكز والامبرياليات ... وإسرائيل ضمن الإمبرياليات الصغرى ولا تقاومها الا قوة اقليمية استقلالية تواصل عزلها في افريقيا وخارجها ... وليس بناء القوة الاقليمية مستحيلة وامامنا النماذج الافريقية والاسيوية دون ان يتوفر ذلك للعالم العربي. ولننتبه إلى اننا في الواقع لا نبني تلك القوة الاستقلالية وانما يتهددنا بناء تحالف اسرائيلي تركي مع بعض الاطراف العربية وهذا هو ما يحقق الخطر الاسرائيلي في العالم العربي وليس في افريقيا.