هذه صورة قلمية/ شهادة عن حالة الوئام القديم بين أقباط مصر ومسلميها، وكيف تبددت منذ صعود الإسلامجية في مصر مع زمن السادات الرديء، حتى تفاقمت وتحولت إلى مناخ طارد مخيف. يتحول فيها العرض السردي إلى طرح غير مباشر لواحدة من أهم قضايا الواقع المصري بعد الهجمة الوهابية المدمرة عليه.

أعمال سفلية

عيد اسطفانوس

 

منحه مظهره المهندم وحذاؤه اللامع ووجهه الابيض المشرب بالحمرة وشعره الأصفر وعيناه الخضراوتان لقب خواجة، لكن لقب عم نجيب كان هو الشائع. عم نجيب كان رجلا خمسينيا قصير القامة ذا بنية قوية. وفى دكانه أسفل بيته كنا نذهب لدرس اضافي في العربي والحساب عصر كل يوم في الإجازة الصيفية عدا الأحد فهو يوم الراحة الاسبوعية للخواجة نجيب. كانوا قلائل في قريتنا الصغيرة الذين يعرفون مبادئ القراءة والكتابة لكن اجادة خطها ونطقها وقواعدها كانت مقصورة على عم نجيب الذي كان يجيد أيضا الحساب واللغة القبطية وتقويمها، وكثيرا ما كان المزارعون العائدون ببهائمهم ودوابهم من الحقول قبيل الغروب يسألونه ... النهاردة كام قبطي يا عم نجيب؟ ويجيب عم نجيب بدقة وسرعة، وأحيانا كان يضيف متبرعا التاريخ الهجري والميلادي الموافق .

بالنسبة لي على الأقل كانت ساعة الدرس في دكان عم نجيب ممتعة، فعلاوة على أن الرجل كان يبهرنا نحن الصغار بعلمه ومعرفته وطريقته المحببة في الدرس فقد كان لديه مذياع وكتب كثيرة قديمة بعضها كان بحروف غير عربية وكنت اسحب بعضها من فوق الرفوف وأقلب صفحاتها خلسة في عدم وجوده، مع نوادر وقفشات باسمة مع الجميع، سبب آخر مستتر كان يضاعف سعادتي بساعة الدرس في دكان عم نجيب فقد كانت ابنته الصغرى في نفس صفى الدراسي في مدرسة القرية وكان الصف الخامس الابتدائي فقد كنت في الحادية عشرة ولم أكن أعرف سببا لشعور الفرح الذى كان يغمرني عندما اراها وهى تحضر لأبيها أحيانا كوب من الشاي وتخصني بنظرة مع شبه ابتسامة دون باقي الرفاق.

ولا أتذكر كيف كان عم نجيب يتقاضى أجره عن درسي الا أننا كنا نرسل اليه في مواسم الحصاد مقادير من القمح أو الذرة أو الفول أو غيره. كما كان بعض جيراننا أيضا يفعلون رغم أنه لم يكن لديهم أطفال يتعاطون دروسا عند عم نجيب، فخدمات عم نجيب كانت تطال الجميع. فهو ينهى الاجراءات والتعاملات مع الجهات الادارية في البندر، اجراءات الحيازة الزراعية وصرف الأسمدة والتعامل مع المحامين في القضايا وكتابة الشكاوى لأى جهة لمن يريد وارسال التلغرافات العاجلة للمسئولين في القضايا الملحة، لذلك وغيرة كان لعم نجيب مكانة مميزة عند معظم أهل القرية فقراء وأغنياء. كان دكان عم نجيب في الأصل محل مرخص لبيع الخمور منذ زمن بعيد، لكن عم نجيب تنازل عن الترخيص لأحد أقاربه في قرية مجاورة وأصبح الدكان الخالي من أي بضائع أقرب الى مكتبة أو بؤرة معرفة يتجمع أمامها محبو ومريدو عم نجيب، وفى حديثه مع الجالسين أمام دكانه ساعة العصر حيث كنت أتلكأ في العودة بعد الدرس كان يبدو عالما ببواطن كل الأمور، سياسة وزراعة وصحة وتعليم وري. وكان الجميع ينصتون مشدوهين، كدت انسى ان عم نجيب كان يجبر كسور العظام البسيطة، ولديه دائما بعض الادوية لنزلات البرد والاسهال والحمى وما شابه. وكنت اراه يخرجها من أحد أدراج دكانه ويعطيها دون مقابل بعد الاستفسار الجيد والتدقيق في الشكوى واعراضها .

كان عم نجيب يغادر القرية صباحا كل يوم تقريبا راكبا حماره مرتديا جاكت على جلبابه وطربوش احمر تتدلى من تحته أطراف منديل واقٍ من العرق، قابضا تحت ابطه الأيسر على حقيبة أوراقه، وبذات اليد يمسك شمسية بيضاء، وباليد اليمنى يمسك لجام حماره، ويعود ظهرا فيجد أصحاب المصالح في الانتظار، يفتح دكانه ويفتح حقيبته ويبدأ في توزيع الاوراق على كل من له مصلحة ثم يلقى على الباقين ما استجد من أمور على مصالحهم من تأجيل أو استكمال اوراق أو غيره .

ليومين متتاليين نذهب الى دكان عم نجيب الذى كان أسفل بيته ونجده مغلقا وننتظر، ثم تخرج احدى بناته من شرفة فوق الدكان مباشرة وتلقى الينا بالخبر الحزين (مفيش درس النهاردة)، تكرر المشهد ليومين أو ثلاث وفى البداية أشيع أن عم نجيب مريض، ولسبب ما لم أقتنع بمرض عم نجيب ولم أفقد الأمل في استئناف الدرس، ورغم التنبيه المتكرر بعدم الذهاب الا انني كنت أذهب في الموعد لأتطلع من بعيد آملا أن أجد دكان عم نجيب مفتوحا لكن ذلك بدا وكأنه أمل مفقود.

مر شهر تقريبا والحال على ماهو عليه، دكان (الخواجة) مغلق والملاحظ في هذه الأحداث أن لقب عم نجيب قد تقلص من على ألسنة كثيرة وأصبح لقب (الخواجة) هو السائد، والرجل لم يعد يظهر بنشاطه المعتاد والاشاعات بدأت في التطاير هنا وهناك، وانتشرت الروايات المختلفة والمختلقة. فمن قال أن عم نجيب كان على خلاف مع شيخ البلد بسبب قطعة أرض مما دفعه لاتهامه بالقيام بأعمال سحر أو ما يطلقون عليه (أعمال سفلية)، وقد استشهد البعض بكم الكتب الغريبة على أرفف دكان عم نجيب. ومن ثم قام العمدة بوقف نشاط عم نجيب وخصوصا دروس العصر وأمره بإغلاق دكانه. لكن الأمر لم يقف عند هذا، فقد بدأت عملية تحريض على الرجل قام بها بعض الشباب متهمين اياه بتهم كثيرة، بعضها فهمته ساعتها، وبعضها استغرق تفسيره نصف قرن، والباقي لم افهمه حتى اليوم. لكن تهمة الأعمال السفلية ظلت دائما على رأس قائمة التهم المزعومة. وكنا في أواسط السبعينيات وتطورت الأحداث بسرعة؛ لكن يبدو أن الرجل بفطنته استوعب ما يحدث حوله، كما أبلغه بعض محبيه بخطورة الموقف وأن عليه المغادرة مع أسرته في أسرع وقت ممكن حفاظا على حياتهم. ولم يكذب الرجل خبرا وغادر مع اسرته تحت جنح الظلام، وفى الجمعة التالية هجموا على بيت (الخواجة) وبدأوا بالدكان أحرقوه مرددين الهتافات ولم يتركوه الا بعد أن أصبح ركاما حتى يتأكدوا من محو كل (الأعمال السفلية) التى كان يصنعها عم نجيب فى دكانه. لكن أعمال أخرى كان يصنعها عم نجيب لم يستطيعوا محوها ولا زالت صامدة حتى اليوم، وظل ركام بيت (الخواجة) على حاله سنين طويلة فلم يستطع أحد الاقتراب منه خشية (أعمال سفلية) قد تكون لازالت مدفونة في ركام دكان عم نجيب .