من دواعي الفخر والاعتزاز أن نجتمع اليوم في "دار الآداب" ببرلين لتكريم الكاتب العربي المصري الأستاذ محمود أمين العالم لمنحه جائزة ابن رشد للفكر الحر لهذا العام . وقع الاختيار على الأستاذ العالم بقرار من لجنة تحكيم مستقلة ضمت شخصيات ورموزاً فكرية وإبداعية من أقطار عربية مختلفة.
بالرغم من شهرة الأستاذ إلا أننا نود أن نفرد سطوراً قليلة لجزء يسير من سيرته الذاتية ومراحل حياته الصاخبة والمثيرة وهو لا يزال يواصل مسيرته المضيئة الأمينة وفعله التنويري في ثقافتنا العربية. ولد محمود أمين العالم في اليوم الثامن عشر من شهر فبراير عام 1922 في حي الدرب الأحمر في القاهرة وعاش في هذا الحي الشعبي حتى أن بلغ الثلاثين من عمره . يقول العالم عنه:-«فأنا لا يكاد يسعدني شيء مثل العودة دائماً إلى هذه الأزقة القديمة الضيقة، أحس فيها وأتشمم فيها عطر الأصالة والعراقة». التحق بعد شهادة الثانوية بقسم الفلسفة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة اليوم) وحصل على شهادة الليسانس، وقد ظل طوال دراسته يقوم بعمل إضافي لتغطية تكاليف الدراسة. حصل على درجة الماجستير من الكلية نفسها وتم تعيينه في قسم الفلسفة مدرساً مساعداً. لأسباب سياسية تم فصله في نفس العام 1954 مع عدد آخر من الأساتذة والمدرسين من مختلف كليات جامعة القاهرة.
هناك شخصيات نادرة في التاريخ استطاعت أن تجمع بين الاهتمام والعطاء الفكري والإبداعي وبين الانخراط في النضال السياسي، منهم العالم، الذي استطاع بصورة خلاقة المزاوجة بينهم ليصبح مفكراً بارزاً ومناضلاً سياسياً في الوقت عينه. صدر للعالم حتى الآن أكثر من عشرين كتاباً والعديد من الدراسات والمقالات والمحاضرات في مجلات مصرية وعربية وأجنبية، وهو يشرف الآن على إصدار كتاب شبه دوري بعنوان " قضايا فكرية ". صدر منها حتى الآن عشرون عدداً. يكتب العالم في الفلسفة والنقد الأدبي والتراث العربي الإسلامي والفكر القومي السياسي.
بدأ اهتمام العالم بالفلسفة في سن مبكرة بالمرحلة الثانوية حينما بدأ يهتم بالشعر والفلسفة والشطرنج والتأمل الذاتي – كان موضوع رسالة الماجستير، في البداية، بعنوان «نظرية المصادفة في الفيزياء الحديثة» ثم قام بتغييره إلى «نظرية المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة» بعد اطلاعه على الفكر الماركسي وتحوله عن الرؤية الفلسفية المثالية إلى الرؤية المادية وإلى الاشتراكية العلمية التي طبعت مسار حياته . حتى الآن . يقول بنفسه مشيراً إلى بحثه:«إنه صورة من همومي الفكرية في مرحلةٍ مبكرةٍ من مراحل العمر. ولعل هذه الصورة أن تكون تأصيلاً لكثير من المواقف التي اتخذتها بعد ذلك».
لقد بدأت مسيرة العالم في النقد الأدبي بمجموعة مقالات ودراسات في النقد الأدبي كتبها محمود العالم وعبد العظيم أنيس خلال العام 1954، ضُمت في كتاب "في الثقافة المصرية (1955)"، وقد أثارت المقالات وقتها معركة عرفت بأنها معركة الجديد والقديم في النقد الأدبي. بدأت المعركة بمقال لطه حسين حول صورة الأدب ومادته وعارضه الكاتبان بمقال عنوانه "الأدب بين الصياغة والمضمون" ومنذ ذلك الحين وإلى الآن لم تنته هذه المعركة النقدية حول الكتاب، فمن مؤيد ومعارض ومن ناقد موضوعي وآخر متهافت يخرج من السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي التي جاءت بها مقالات الكتاب .
تابع العالم منذ الخمسينيات الإنتاج الروائي لكاتبنا الكبير "نجيب محفوظ" بالنقد والتحليل وبنهاية الثلاثية الخالدة توقف "محفوظ" لفترةٍ طويلةٍ ولكن عندما تفاقمت الأزمات في ظل العهد الجديد- أزمة الحرية – أزمة الديمقراطية – أزمة القيم وتفشي الانتهازية – عاد محفوظ لقلمه بمرحلة جديدة من الفكر والبناء الفني انعكست في أعماله اللاحقة والتي بدأت بروايته الرمزية الملحمية "أولاد حارتنا" والتي لا تزال محظورةً في مصر . يقول العالم عن هذه الرواية:- إن "أولاد حارتنا" ليست كما يقال تاريخاً للبشرية وليست كذلك تاريخاً خاصاً بمصر، إنما ببساطة – فيما أعتقد – توكيد للمعنى الإنساني الصرف للأديان، توكيد أن جوهر الدين هو العدالة، هو الأمن هو الكرامة، هو الحرية، هو المحبة، هو الخير، هو التقدم للإنسان، إن الأرض ميراث للناس جميعاً وإن المحبة والعدل والأمن والرخاء والسعادة حق للناس جميعاً، هكذا يقول الأنبياء جميعاً، من آدم حتى محمد، من أدهم حتى قاسم وهذا هو جوهر جهادهم جميعاً "
ثم أصدر العالم كتابه "أربعون عاماً من النقد التطبيقي – البنية والدلالة في القصة والرواية العربية المعاصرة" لم يكن نقده التطبيقي موجهاً لكبار المبدعين المصريين مثل نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، طه حسين ويوسف إدريس فحسب، بل إلى عدد كبير من المبدعين في العالم العربي . كما اهتم بالأدباء والناشئين، كان يستمع إلى قراءاتهم ويناقش ويحلل نصوصهم، ورغم ذلك يقول العالم:-" وما أكثر ما أحس بالتقصير إزاء هؤلاء الأدباء والفنانين وخاصة الناشئين منهم، عندما يجرفنا تيار الحياة إلى موضوعات بعيدة عن أعمالهم ".
رغم أعباء التدريس في جامعة باريس الثامنة، تابع العالم التطورات الفكرية والنظريات الأدبية الحديثة وناقش وحاور كثيراً من الفلاسفة والأدباء والماركسيين الجدد. في كتابه الهام " ثلاثية الرفض والهزيمة"، يقدم العالم نقداً للمنهجية البنيوية في الأدب أو المنهجية الهيكلية كما يفضل أن يسميها. كما يتعرض إلى النظرية ومصطلحاتها الإجرائية وأصولها وركائزها الفلسفية. ويقول في كثير من تطبيقات المنهج البنيوي ذكاء ولمعان ما يمكن الإستفادة من نتائجه في إضاءة العمل الأدبي . يستخدم العالم المنهج البنيوي تطبيقاً على ثلاث روايات للروائي المصري "صنع الله إبراهيم", تلك الرائحة، نجمة أغسطس واللجنة. وقد ترجمت بعض روايات صنع الله إبراهيم إلى الألمانية.
ناقش أفكار الشيخ علي عبد الرازق، محمد عبده، محمد حسين هيكل، طه حسين، العقاد، زكي نجيب محمود رائد الفلسفة الوضعية في مصر، عبد الرحمن بدوي الفيلسوف الوجودي المصري، وصولاً إلى المفكرين القوميين واليساريين المعاصرين حسن حنفي، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، محمد جابر الأنصاري، محمد أركون، أدونيس، سمير أمين طيب تيزيني ,أنور عبد الملك، محمد عمارة وغيرهم .
وفي كتابه "الإبداع والدلالة" يناقش ثلاثة مفاهيم هي العقلانية في الفكر، والدلالة في الإبداع الأدبي والفني، والخصوصية في الثقافة. والعالم ليس ناقداً أدبياً فحسب، بل مبدعاً شعرياً، فقد صدر له ديوانان من الشعر, وقال مرة في حوار له:-" إنني ممزق بين أشياء ثلاثة، الشعر والفلسفة والعمل السياسي، بدأت شاعراً وما زال الشعر في حياتي وكثيراً ما رغبت أن أكون شاعراً فحسب وفي بعض الأحيان أجد في الفكر كل شيء لذا مات الشعر عندي". اهتم العالم بالتراث وصدر له عام 1997 كتاب "مواقف نقدية من التراث". كتب وحاور ابن خلدون، ابن رشد، أبو حيان التوحيدي، الإمام الشافعي والغزالي . كتب العالم عن الفكر العربي المعاصر والفكر القومي العربي. أصدر في عام 1986 كتابه " الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر" كما خصص عدداً كاملاً من مجلة قضايا فكرية بعنوان "الفكر العربي على مشارف القرن الحادي والعشرين" واستكتب فيه العالم أبرز المفكرين العرب المعاصرين في بلدان عربية مختلفة.
يقول في بحث له " الهشاشة النظرية في الفكر العربي المعاصر:-"هناك أزمة في الفكر العربي المعاصر ولا سبيل إلى فصلها عن أزمة الواقع العربي نفسه، موضوعياً وتاريخياً. وتؤرخ هذه الأزمة بعصر النهضة وبما يسمى بصدمة الحضارة، أي هذا اللقاء الدرامي بين الواقع المتخلف والواقع الأوروبي المتحضر الوافد بفكره وأطماعه وعلمائه وأساطيله وجيوشه منذ مفتتح القرن التاسع عشر ". ويقول في مكان آخر:-"إننا ما نزال أحوج إلى فكر نظري نقدي تأسيسي، وخاصة في هذه المرحلة من حياتنا العربية التي يتفاقم فيها التشتت والتفكك والتسطح والاغتراب والتخلف في الفكر والواقع على السواء، على حين يتفجر عصرنا بمنجزات معرفية وتكنولوجية باهرة تكاد تشكل نقله جديدة في حضارة الإنسان ". ويواصل:-" لن نتجاوز تخلفنا وتبعيتنا إلا بالامتلاك المعرفي بحقائق الثورة العلمية الجديدة، ثورة المعلوماتية وبمشروع تنموي قومي شامل ذي أبعاد اقتصادية واجتماعية وتعليمية وثقافية وإعلامية وقيمية. مشروع يستوعب تراثنا العربي الإسلامي إستيعاباً عقلانياً نقدياً ويضيف إليه ويستوعب حقائق عصرنا الراهن ويضيف إليه".
ومن منطلق مسؤولية المثقف الملتزم بقضايا وطنه، كان ولا بد من إيجاد صيغة للتعاون ولتأييد الزعيم جمال عبد الناصر القائد لمعركة العداء للاستعمار والصهيونية والرجعية وتمسكه بموقفه المبدئي، وقد نجح العالم في إيجاد هذه الصيغة، فارتبط بتنظيمات ثورة 23 يوليو1952 وعمل في إطارها مع تصور إمكانية التحول الاجتماعي الثوري وتحقيق أهدافه وتصوراته مستفيداً من أجهزة الدولة – ثم اختلف معها فكان لا بد من الاختلاف بين رجلٍ لا يتنازل عن مبادئه ودوره التنويري وبين قائد ثورةٍ لا يسمح بالاختلاف والتعدد، فكان لا بد أن يحدث الصدام – وعواقبه من فصل تعسفي وتشريد ثم السجون والتعذيب الرهيب . ومع تهميش وملاحقة المثقفين المصريين الوطنيين والتقدميين، وجد العالم نفسه مضطراً أن يغادر مصر. أولاً إلى بريطانيا لفترة قصيرة وبعدها إلى فرنسا لتمتد إقامته بها إلى إحدى عشر عاماً.
ظل العالم ثابتاً على موافقه وقناعاته الفكرية بالرغم من كل العواصف والهزات وكان في نفس الوقت لا يخشى النقد ولا يتوانى عن النقد الذاتي . ونشير هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى قوله في إحدى افتتاحيات "قضايا فكرية "(1990 ):-"إن الدفاع المتصل عن المثال الاشتراكي المتحقق في الاتحاد السوفيتي فكراً وممارسة كان أقوى من نقد سلبياته ونواقصه". وعلى الرغم من العذابات التي عاناها العالم في سبيل معتقداته ومبادئه فإنه كان من أوائل المدافعين عن عبد الناصر ومشروعه أو حلمه في الدفاع عن وطن متحرر من أشكال الاستغلال، ويقول بموضوعية:-"والحقيقة البسيطة التي لا تنكر لثورة عبد الناصر، منذ بدايتها عام 1952 حتى وفاته 1970 كانت ثورة من أجل الاستقلال الوطني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. كانت ثورة وطنية معادية للاستعمار والإمبريالية، معادية للتخلف الإقطاعي والاحتكار الرأسمالي".
ناقش العالم في كتاباته فكر وفلسفة الحداثة وتعرض لتاريخها وواقعها في العالم الغربي وصورتها في العالم العربي يقول:-" برغم الاختلافات المتنوعة والمتناقضة لمفهوم الحداثة، فهناك ما يمكن استخلاصه منها جميعاً في ضوء تعاملنا المعاصر مع هذا المفهوم، أي أن هناك ما يمكن اعتباره قاسماً مشتركاً عاماً ، رغم هذه الاختلافات. القاسم المشترك هو مبدأ التغيير التجديدي التطويري التجاوزي للواقع الإنساني والاجتماعي". ويفرق بين الحداثة والتحديث فيقول:-"رغم التداخل والتفاعل بالضرورة بين المفهومين، إن مفهوم الحداثة يغلب على دلالته التغيير الفكري والعلمي والجمالي والقيمي عامة على حين أن مفهوم التحديث يغلب على دلالته التغيير السياسي والاجتماعي الاقتصادي ".
كما قام بنقد وإدانة فكر ما بعد الحداثة مستعيناً بإسهامات مفكرين وفلاسفة أوروبيين معاصرين، تعرض إلى أفكار المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي ومدرسة فرانكفورت- النظرية النقدية في أبحاث هوركهايمر، أدورنو ، هربرت ماركوزا وصولاً إلى يورجن هابرماس , الفيلسوف الألماني المعاصر، الذي يعتبر من أبرز الفلاسفة المعاصرين تصدياً لإتجاه ما بعد الحداثة وخاصة في نقده لفوكو، دريدا، ودولوز وامتدادهم في الفكر الألماني المعاصر . يعتبر العالم يورجن هابرماس من أبرز المعبرين عن الاتجاه العقلاني ونقد الطابع التقني الوصفي القمعي للعقل في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية ومحاولة تنمية البعد الموضوعي الإنساني للعقل من خلال نظرية «العقل التواصلي» التي تجعل من الفلسفة نشاطاً عقلياً حياً فاعلاً مع الواقع الإنساني في مختلف تجلياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والفكرية والثقافية عامة . وفي الوقت عينه يعترض العالم على نقد هابرماس لفكر ماركس ويعتبر فيه اجتزاء كبير وابتسار للفكر الماركسي .
لقد أوفيت أنت وزميلك الراحل لويس عوض بالعهد وسلمتما الأمانة إلى الشعب بقولك وأنت تفترق عنه بعد فصلكما من كلية الآداب سنة1954، وأنتما تجتازان الطريق من ساحة الجامعة إلى ميدان الجزيرة الزاخر بالناس والحركة:-"سوف نغيب عن ساحة الجامعة، ولكن لا ينبغي أن نغيب أبداً عن هذه الساحة التي نمضي نحوها، ساحة شعبنا، بلادنا، ساحة مصر كلها، سنواصل فيها الرسالة التي يؤمن بها كل منا ".
في ختام مقالك بعنوان" التكوين " 1993 تقول:-" أما أنا فما زلت في الطريق العاصف الذي بدأته منذ تلك السنوات البعيدة، أتحرك في مساراتها السياسية والفكرية والأدبية قدر طاقتي، وما زلت أتعلم وأحاول أن أتكون وأتجدد كل يوم وأن أكون نافعاً للناس والثقافة". وفي كتابك الجميل "الرحلة للآخرين" تقول:-"ما أقسى نهاية الأشياء نهاية الأيام والأعمال والأعمار، عندما لا تكون هذه النهاية كمالاً لجهد أو حتى مجرد اكتمال له بل تكون مجرد تعلق في الفضاء الأجوف، مجرد تأمل مجرد". تواصل:-" ليس الموت نهاية الحياة عندما لا يكون اكتمالا صحيحاً لعمر زاخر بالجهد المثمر أو تحقيقاً لعمل مشرق، بل يكون كمالاً حياً وبداية لحياة أعمق". ثم تواصل قائلاُ:-" اللهم هبني أن أعرف – أن أعبَر – أن أعمل – أن أبدع. هبني القدرة على أن أحسن النهاية التي تضع البداية للآخرين وأن أحسن البداية التي لا تنتهي بنهايتي".
سوف. نعود نحن والأجيال القادمة إلى كتاباتك لتبعث فينا روح التفاؤل والأمل والتساؤل وتعلمنا أن للحياة معنى ,وللنضال معنى. في كلماتك المضيئة نجد معاني الخير والحب والتسامح والجمال.
متعك الله بموفور الصحةِ والعافيةِ وأنت لا تزال على الساحة تواصل عطاءك لأبناء وطنك في مصر والبلاد العربية .
تحية لك يا ضيفنا الكبير وأنت القابضُ علي مُثلك, ومبادئك, مثل القابض على الجمر.
تحية لك يا ضيفنا المكرم فأنت محمود وأمين وعالم.
برلين 10 يناير 2019