اعتدت في قراءاتي للأدب أن أركز منذ البدء على الإهداء، فالإهداء يحمل دوماً بعض من ملامح الكاتب أو الشاعر وبعض من بوح روحه، ودوماً كنت أؤمن أن الكتابة مثل المرآة، كل ينظر فيها ويرى نفسه بشكل أو بآخر، لكن الحروف حين تنهمر من الداخل، تكون الروح في حالة تحليق وغياب، ومن هنا حين قرأت في بدايات ديوان "الموت على أهداب الشمس" للشاعر د. عاطف القيسي والذي ارسله لي مسودة قبل فترة زمنية ولا أعرف إن طبع الديوان بعدها أم لا؛ إهداء: "إلى كل الذين سقطوا خلال صراع العين مع المخرز، وإلى كل الذين غابوا وهم يحلمون أن تكتحل عيونهم برؤية وطن ينهض من تحت الرمال، إلى والدي وكل الطيبين في جنبات المخيم"، شدّني الإهداء وجالت روحي في تلافيف الذاكرة تستعيد أسماء عشرات الأسماء ممن عرفتهم وسقطوا شهداء الصراع الذي أشار إليه الشاعر في التقديم، وتذكرت أن آلاف الشهداء ما زالت أرواحهم تبحث عن مأوى.
عبر مرحلة زمنية طويلة تمتد منذ بدايات سبعينات القرن الماضي رفّت قصائد الشاعر وحلّقت في الفضاءات، فعايشت المراحل المختلفة ووثّقت مشاعره عبر الشِّعر، ففي "لوحات الموت" كان يصور الواقع المرّ الذي تمرّ به الحالة العربية، الارتماء في حضن أمريكا وهنري كسينجر، ويرفض هذا الواقع المرير بلوحات دقيقة الوصف قوية التعابير، فهو يصرخ بقوة ويقول:
"لن أكتب صك الغفران
لن أغفر تحريف القرآن
وأنا الفارس والفارس لا يخشى
بطش الجرذان".
إن جمالية اللوحات التي يرسمها الشاعر عديدة المستويات، فهي تراوحت بين الحاضر واستلهام الماضي والتراث، فمازجت روحه العصور المختلفة في بوتقة واحدة هي الديوان، ليخرج لنا بلوحات تثير التساؤل، فلنتأمّل هذه الصورة معا:
"ومتى كانت زوجة الطّائي
تموت بجوع كافر؟
تنتظر اللقمة من يد أمريكيّ.. راعٍ"؟
وهكذا نجد الشاعر في بوح روحه لا يكف عن التساؤلات التي تحمل في ثناياها الاستنكار لكل ما هو مرفوض ولكنه أصبح وكأنه مسألة معاشة في ظل الخنوع، ولا يكف عن رسم الصور التي تصور الواقع، لكنه رغم كل العتمة التي تحيط الواقع المرير لا يتوقف عن الأمل وعن الحلم، فهو ما زال يرى في طفل المخيم منارة المستقبل فنجده يقول:
"أخيراً.. سيأتي النهار
ويخرج طفل المخيم
يقطع بحر الدم
يضيء بليل العروبة
ألف انتصار".
والملاحظ هنا أن الشاعر اعتبر طفل المخيم منارة ستضيء ليل العروبة بأكمله ولم يحصر المسألة بالجانب الفلسطيني فقط، فهل الفكرة هنا قائمة على رؤية مستقبلية لحجم التشرد في الإطار العربي بشكل عام؟ فالمواطن العربي سيصبح متشردا يعيش مخيمات اللجوء والألم من فلسطين حتى السودان إضافة للعراق، ناهيك عن مخيمات اللجوء في الغرب ممن سيجبروا على الهجرة لدول الغرب، بينما الشِّعر كتب عام 1975.
الشاعر لا يتوقف عن طرح التساؤلات ووصف الواقع، ففي نصّه الشعري "سؤالات موت غير كاملة"، نراه يتحدث عن واقع مرّ بصورة شعرية جميلة، حتى يصل إلى الخلاصة "نباع بأسواقنا بدون أي ثمن"، بينما في صورتين في جزئي القصيدة في البداية بعد التحدث عن الواقع صرخ قائلاً: "أفلا يكفينا"، وأكمل صرخته: "ألا تستحق عيوني وثيقة حب وصك اعتراف؟"، ولكنه وفي قصيدة "شيخ.. واستجواب" وبعد عام من "سؤالات موت غير كاملة"، لم يفقد الأمل عام 1977، حين يقول: "جسدي ملقى في كل بقاع الكون، أما قلبي.. حلم أبي.. مغروس دوماً في كل بقاع الأرض"، وهي صرخة يطلقها لتأكيد حقيقة لا يمكن أن تصبح وهماً من قلب مخيم سوف.
الحرية كلمة حلوة وثمنها ليس بالسهل، ويعرف الشاعر أنه إضافة للموت في سبيل الحرية كما تحدث عن ذلك في قصيدة "عرس دلال"، التي تحدث فيها عن الشهيدة دلال المغربي ورفقتها، توجد السجون والمعتقلات أيضاً، فهو وصف "عرس دلال" واستخدام كلمة عرس لوصف الاستشهاد هو بعض من ذاكرة الشعب الفلسطيني وارتباط ذلك بالقناعات الدينية، حيث حين يستشهد مقاتل في سبيل الوطن، تطلق الزغاريد في جنازته، ويتم تقبل التهاني لا العزاء، فوصف العرس "حيتان البحر، نجوم الليل، مياه النهر، تتغنى منذ الفجر بعرس "دلال"، بعرس النصر"، وهو أيضاً يصف الواقع الذي يعيشه الأسرى في قصيدته "ليل وقضبان"، بالقول: "لا شيء في عالمنا غير السياط، نأكل الشتائم الكبرى، ونمضغ السباب والنكات، تنيمنا السياط، توقظنا السياط"، ولكن حلم الوطن لا يغيب رغم الألم ووأد الحرية: "وفي المساء، تنمحي الأشياء.. يا حبيبتي، تعود فوق جبهتي؛ خارطة الوطن"، وهو لا يكتفي بذلك، فهو يستعير حكايات التراث ليسقطها على الواقع، فيستعير قصة الشاعر وضاح اليمن مع عبد الملك بن مروان، ليسقطها على الفلسطيني المعاصر فيصبح "وضاح الفلسطيني" فيصرخ: "سنموت الف ميتة.. لتحيا يا وطن".
شاعرنا د. عاطف القيسي في ديوانه يجول في قضايا كثيرة، فهو يتحدث عن الهوية ويربطها بالبندقية، وعن الأيام المرّة ويربطها بالدم والثورة، وعن الصراع في الأعماق ويربطه بالتراث العربي والإسلامي حين يتحدث عن أبا ذر الغفاري وأبي محجن الثقفي وقصة يونس عليه السلام وقصة يوسف عليه السلام والحسين الشهيد والطّائي وغيرهم ، والمكان أيضا لا يفارقه فهو لا ينسى قريته بيت جبرين، ولا يكتفي بحيفا ويافا والقدس وغزة ومدن الوطن المستلبة، فبيروت لها نصيب أيضاً "لن ترفع بيروت الرايات البيضاء"، ولا ينسى أصدقاء يهديهم شِعره العابق برائحة الوطن والأرض مثل الشعراء: جمعة عبد العال وسلطان الزيادنة وعبد الرحيم جداية وأنور الأسمر، والعاطفة الأبوية تجد طريقها في شِعره مرتبطة بالوطن أيضاً، فهو يصف حفيدته دَلع بالقول: "كزيتونة دارنا.. جذورها وطن".
أنا لا أبحث في شاعرية الشاعر، فهذه مسألة ليست خاضعة للمناقشة على الأقل من زاوية رؤياي، فمن يمتلك هذه الروح التي كتبت هذا الديوان عبر مرحلة قاربت الأربعين عاماً، ومن جالت روحه في كل ذرة تراب في الوطن، ومن لامس الواقع واسترجع الذاكرة والتراث، حريٌّ أن نبحث عن روحه في شعره، فهي لا تمثل روح فرد، بل روح شعب يصرّ على الحرية، فنرى الشاعر يصرخ باسم الوطن والأرض والشعب وفيء الزيتون:
"لا شك أن الفجر
لا محال آت
لا محال قادم".
وليسمح لي الشاعر بعد جولة قاصرة في رحاب شِعره أن أهمس له من قلب الوطن المحتل: الصباح الأجمل قادم وآت، و(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)؟.