اختلط الأمر في رأسي، وتداخل بصورة لم تكن متوقعة أو متخيلة.
للوهلة الأولى، ظننت أنني أحلم، كما يحدث في ليال عديدة، وفي منتصف الحلم أو قبل نهاية أحداثه بقليل، تنحرف الأمور عن مسارها لتصبح كابوسا لا ينتهي ليؤرقني في كل ليلة! .
ولا اعرف هل أن الأمر بجوهره يعود لحمى شديدة استوطنت جسدي فأستيقظ فزعا مرتجفا وانا أهذي؟ أم أنني بت ذلك الرجل الذي يتوهم حدوث الاشياء منذ غيابها ويضدقها؟
لا اعرف.؟
ثمة ما يدعو للالتباس وللريبة يشبه خيط لا مرئي يمتد بين العتمة والضوء، بين الصحو والغفو، بين سهوه عن الحياة، والدخول خلسة بالغياب، بين انتظار صوتك في كل ليلة وغيابه، بين ال "هنا" بكوابيسها الليلية الطويلة وبين ال "هناك" البعيدة والمجهولة حيث تقيمين؟.
لا اعرف.
الوقت. ما الوقت؟: أهو ما بعد منتصف الليل، أم هو قبل الغسق بقليل؟
فجأة وجدتني في متاهة ليلية مع سماع صوتك الذي لم يتوقف عن المجيء كل ليلة. وكل ليلة يتكرر الأمر وبالتوقيت ذاته: يجيء صوتك، صوتك الذي اعرفه وأميزه من بين الأصوات جميعها. يجيء في موعده تماما: لم يخطئ سمعي لمرة واحدة. أكون على وشك أن اغرق في النوم بعد أن عز وصوله وصار أمنية مشتهاة.
يجيء. في البداية يصل سمعي مشوشا ومتداخلا مع لغط أصوات لا أميزها، فأشعر وكأنه قادم من بئر جف ماؤه. يصل متعبا قلقا، أهو صوتك؟ بصعوبة أتبينه بعد إن أصيخ السمع: هو صوتك. فاسمعه بلا غموض في رأسي وكأنك بجانبي . فأتفقد ما حولي أتفقدني. انا الرجل الذي لم يعثر على حياته منذ غيابك .
في ليال عديدة يصبح هواء الغرفة ثقيلا وخانقا، أكاد لا أميز صوتك من بين لجة أصوات لا اتبينها، فاحس بالعجز.
أخرج من الغرفة نحو مصدر الصوت. أحس بأنني سأختنق.
أصيخ السمع ثانية، فالتقطه والعتمة شديدة بوضوح . هو صوتك فيتبعني من غرفة الى اخرى ومن زاوية لزاوية ويملأ البيت.
احيانا يطبق السكون على البيت. البيت الذي صار موحشا وباردا، كئيبا وحزينا فتهب نسمات تعبق برائحة الليل وكائناته التي لا تنام، فيجيئني صوتك واسمعه بوضوح أتساءل بحيرة : من أين تسلل،وكيف طلع من بين الانقاض والغبار، قاطعا كل هذه المسافة التي تفصل بيننا، أعني بين وجهي ووجهك،ووصل سمعي، ليجلس بقربي على السرير ويبقى حتى قبل الفجر بقليل!
كل ليلة يحدث الأمر ذاته.
ليس في وسع رجلٍ وحيد مثلي سوى الانتظار والترقب والإصغاء بهدوء.
انتظر حلول الليل، انتظر صوتك. بالبداية يتسلل لسمعي مختلطا مع أصوات لا أتبينها، استوقفه بعد أن أميزة من بين لجة اصوات، أنقيه مما علق به من تعب وغبار واتربة وأصغي بهدوء واتساءل:
كيف يجيء صوتك من بعيد، من الضفة الاخرى، ولا يصعد السلالم أو يدق الباب، بل يتسلل عبر النافذة المغلقة بإحكام كلص في العتمة. ولا اعرف كيف يصل وكيف يطلع من بين الانقاض والعتمة حالكة.؟ أتسمعينني؟
تهتفين فجأة وتدعين لي صوتك في كل ليلة، صوتك الذي لا يتوقف عن الركض داخل رأسي!
في ليال كثيرة يصل صوتك بكلمات جافة باردة، يجيء من مكان غميق بارد ورطب كأنني اسمعه لأول مرة. لا بد وانها الريح العاتية. اقول . لا بد وانه الغياب. تهمسين بصوتك الجاف .
الريح ، الريح الجافة التي استوقفت صوتك وكادت ان تطيره بالجهات كلها، فوصلني باردا جافا متقطعا ومغبرا .
أصيخ السمع إلى أن يختفي صوتك ويذوب كشمعة باردة. فأشعر ببرد كبير، برد وكأنه الشتاء.
أتسمعينني الآن؟.
انتظر بالعتمة، احدق بالجدار، فارى طلاءه المتقشر لاول مرة منذ غيابك، أستعيد كلماتك كلمة كلمة مثل مزحة عابرة،مثل طرفة ، طرفة أجل هذه هي الكلمة التي ابحث عنها، طرفة مرة تشبه أحدا يحاول أن يرش سكرا على الموت، ليصير مذاقه حلوا :" أريدك أن تدع طرف القبر مفتوحا قليلا كي أتمكن من التنفس، إذا أغلفته بإحكام سأحس بالاختناق وأموت!. أنت تعلم انني لا استطيع احتمال فكرة الاماكن المغلقة حتى لو كانت قبرا واسعا تظلله أشجار الحور والسنديان"! .
تضحكين . أنت البعيدة هناك ، وانا البعيد هنا، ترمين الكلمة مثل "صباح الخير" وتضحكين،فاضحك بدوري وتمضين خلسة هكذا كمزحة ثقيلة، اذ لم يكن موتك أكثر من مزحة ثقيلة! .
وهكذا صرت في كل ليلة الرجل الذي ينتظر حلول الليل،وحيدا بالغرفة .
اقف على حافة العتمة، وانتظر قدوم صوتك . اتوسل حضورك ، واسهر معك حتى اولى خيوط الفجر، دون ان اتمكن من رؤيتك، انت هل تستطيعين رؤيتي ؟
هل تحلمين ؟، انا الرجل الذي اعتاد ان يحرس حلمك في كل ليلة منذ غيابك واحرس صوتك واحرس غيابك هل تدركين هذا ؟ حتى انني صرت ادخن تبغك، واردد كلماتك نفسها .
اتذكر كل شيء كما لو انه حدث في الليلة السابقة : ذلك الصباح ، ليته تريث قليلا الصباح الذي لم تشرق شمسه قط ! الصباح الذي انقلب فجأة فصار عتمة دائمة، صباح غيابك، أتذكر كل شيء: مذاق شفتيك لحظة القبلة الاخيرة ! وكيف خطوت خطوتك الاولى فوق قلبي الذي لم يحتمل، وانت تغادرين دون أن تلوحي لي بيدك للمرة الأولى والأخير،ودون أن تبتسمي،ودون أن تنظري وراءك. حينها شعرت بأنني رجل وقد قصم ظهره .
لم افعل شيئا، هل كنت املك وقف القطار أو حرفه عن مصيره ؟
اتذكر أنني سرت معهم .،مشيت بين الجمع،هل مشيت حقا؟ اعني هل جرؤت على المشي؟ حمل الرجال نعشك وسريعا تم مواراته التراب، خلت انني سمعت حفيف ثيابك وهي تسقط قبلك في الحفرة الرطبة، ثم مضينا كغريبين دون إن يبتسما، إلى أن وجدتني في البيت وحيدا فهبطت نحو البئر القريبة أبحث عنك وعن ظلي الذي نسيته هناك.
أود لو تخبريني :
يقولون آخر ما يلتقطه سمع الذاهب في الغياب هو صوت خطوات المشيعين وهم عائدون بعد مواراته التراب، فيود النهوض واللحاق بهم فتخذله قواه ، هل أردت العودة وضللت الطريق للبيت، أم الى قلبي ؟
يزعمون أن الغائب يعلم ويرى بكل ما يحدث هنا، معنا نحن الذين ما نزال على قيد الحياة. فهل تدركين ما حل بي منذ غيابك؟ هل تسمعينني الآن في هذه اللحظات والعتمة حالكة؟
ويزعمون أن الموتى يتعارفون فيما بينهم كما يتعارف الطير فوق أغصان الأشجار. هل ما زعموه صحيح ؟ هل هذا ما يحدث حقا؟
أعرف بأن لا شيء يبقى طويلا، وبأن الموت يفيض من الفم والأذن والأصابع والقلب والعين.
لكن لماذا لا يجيء صوتك إلا بالليل؟
هل تدركين حالتي منذ غيابك؟ هل كنت أملك أن أقول للرجل الذي أهال التراب فوق جثمانك بأن يدع طرفه مفتوحا كما أوصيتني من بين ضحكاتك؟ وتبررين طلبك بالقول: كي أقوى على التنفس؟
سألتك ونحن نحتسي قهوتنا الصباحية: ما تقولينه لا يطاق ، يشبه دعابة مرة ،أليس كذلك؟ اكتفيت بالضحك. فصرت بدوري مثلك أضحك .
هل تعلمين أنني وفي كل ليلة أرتب خزانة ثيابك، كي أراك وأشم رائحتك بثيابك المطوية بعناية والمنشاه برائحة اللوز؟ .
تعالي. تعالي عبر الماء أو الريح ، تعالي عبر الغيم أو في وضح النهار، تعالي ولا تخشي شيئا أو أحد، وابقي بجانبي، فلا شيء أشد حزنا وأكثر ثقلا من مرور هذا الوقت الشاحب دونك ، دون وجهك ، دون يدك ، دون أصابعك تتسلل للساعة المعلقة فوق رأسي ولا تدور عقاربها، وتوقفين جريان الوقت الثقيل والبطيء في رأسي وحدي، أنا الرجل الذي لم يعثر على حياته منذ غيابك .
أنا الرجل الوحيد والعاجز الذي يهذي منذ غيابك ويتوهم حدوث الأشياء ويصدقها بت أقيم في غرفة باردة وموحشة تسكنها أرواح الغائبين ، يسهر معهم كل ليلة ، يعد أن يعد طعامهم دون أن ينسى القهوة. يستمع لحكاياتهم بلا ملل، ويضحك لنكاتهم حتى لو كانت مرة .! ويبكي وحيدا بعد ان يمضون في طريقهم دون أن يملك القدرة على إبقائهم لمدة أطول ، فيلمع حزنه بالعتمة .
الآن صار بوسعي أن أكون مثلك تماما وأفكر بك وانتظر مجيء صوتك في ليلي الطويل البارد ، دون أن أشعل النور كي أتمكن من سماعه واضحاً بلا لبس أو غموض في رأسي ، لأجدني في الصباح متكوما على نفسي فوق السرير، كصرة قديمة مهملة من الثياب .
أنا الرجل الذي مالت الارض بي وبمن أحب، لا دور لأحد في حزني ولا شأن به وقد صارت روحي كسيف صدئ خارج غمده، أخبرك الآن: انتظري مجيئي، سأحمل جثتي وامضي بخيبة أفعى ، فما يحدث حدث منذ زمن بعيد، وسيحدث مستقبلاً: النبع الذي جف إثر انحباس الماء هذا العام سيتم ردمه ويصير طريقا لعبور المارة ، صوتك سيصير ريشة تطيرها الريح شجرة أو غيمة أو أمنية وتغادر سمعي، إلى أن يلتقطها طائرٌ يود أن يبني عشه فوق شجرة أو غيمة .
أنا هذا الطائر.
قاصة وكاتبة أردنية.