ينشغل النص بتعقد المصائر ما بين العزلة والحب والسفر، فالأعزب الشاب يعيش وحيدا في شقة تطل على الأطلسي، يراقب الميناء الكئيب ويتناهى إليه صوت قهقهات وشتائم، يُوصف بأنه دخل سوق النساء ولم يخرج منه، الجارات تتهكمن عليه، تدفعه الوحدة إلى تذكر أخيه المهاجر والحنين إلى طفولة بعيدة.

الطابق الثاني

بن اموينة عبد اللطيف

 

هذا الليل دافئ وطويل، القمر مكتمل وساطع، وعلبة السجائر نفدت بالكامل.
قبل يومين طلبت رخصة تغيب عن العمل لمدة قصيرة، لم أكن اشعر بالتعب كي انشد الراحة أو شيء من هدا القبيل، ولم تكن في دهني أية مأرب محددة اقضيها خلال هده العطلة الوجيزة، ربما مجرد مبررات عابرة للخلود في البيت، والاستمتاع بلذة الفراغ، إنها نزوة طارئة.
الهام الممرضة الخجولة تركت قطعة من حياتها هنا فوق هدا السرير، قالت بأنني رجل دون مشاعر واني لن أتغير أبدا، لدلك أشفقت لحالي كما العادة وعادت لتجهش بالبكاء. حملت حقيبتها اليدوية الجميلة وغابت كي تتركني انتظر امرأة أخرى كما تدعي دائما.
دخلت سوق النساء ولم اخرج أبدا، عاتبتني سارة زميلتي بالعمل مرارا على دلك، لكنها تجهل أني اشعر بالعذاب و بالندم يقطع أوصال روحي لكن ما فائدة الندم الآن.
في الصباح قلت لا بد أن أتعلم بنفسي ترتيب فضاء شقتي الصغيرة، الأثاث المبعثر هنا وهناك، وأواني المطبخ والكتب والجرائد المتراكمة هنا مند أسابيع.
من الشرفة كان الأطلسي ممتدا ولانهائيا، أمام ناظري نوارس شاردة وبعض المراكب الصغيرة بدأت تزحف نحو رصيف الميناء الكئيب، ثرثرة البحارة المعتادة شتائم وقهقهات وإيماءات.
أغلقت النافدة وألقيت بجسدي فوق السرير ولم اعرف كيف وجدت نفسي شاردا افكر بكريمة الثرثارة التي راحت تبحث عن حلم تبدد هنا ولاحقته إلى اسبانيا، و مريم الشقراء البدينة التي تزوجت أخيرا من تاجر ثقيل الظل و بخيل يكبرها بعشرين سنة، و ثريا بائعة الحلوى الأنيقة التي ذبلت قبل الأوان اذكر ابتسامتها الوديعة كل صباح من خلف الزجاج، و الهام ويديها المرتعشتين والمرآة الصغيرة التي لا تفارقها.
تحت عجلة الزمن ينسحق الجميع يا الهي انه لأمر يحزنني كثيرا
آه كم يوجعني التفكير المضني في المرأة التي غابت ولم تعد أبدا، ترى في أي بقعة من العالم تكون الآن آه كم يعذبني الحنين والحسرة على فقدان شخص لن يعود.
تذكرت دلك المساء الحزين ونحن نعبر الممر المعتم بجانب المقهى المحاطة بالأشجار المتعانقة حينها أفصحت الهام عن ابتسامة غير مكتملة و قالت لي بعفوية متعبة كم آنت مخادع وغامض لكني أحببتك وراحت تنظر باتجاه الأوراق الشاحبة التي أسقطتها قسوة الخريف الماكرة
ابتسمت بدوري وأمعنت طويلا في حديثها إلي، لكن بداخلي كنت ممزقا في الحقيقة بين اختيارين لا ثالث لهما أو بين مدينتين، الأولى اعشقها حد الجنون والثانية ليست سوى سلسلة متقطعة وصدئة من الأشباح يتوهمون جميعا أنهم مازالوا على قيد الحياة، هدا هو السر الوحيد الذي أخفيته عنها لكن ربما أحست بحيرتي في يوم من الأيام لكنها لم تسألني أبدا.  
اليوم بلغت الثانية والأربعين من عمري، أعيش وحيدا في هده الشقة مند أكثر من ثلاث سنوات في الطابق الثاني من العمارة، حياة متقشفة بطيئة وخالية من فكرة السعادة.

لماذا لم أصغ إلى نداء الحب بداخلي لماذا؟""

ستجد نفسك كهلا ووحيدا""
قالت لي أمي ذات شتاء بعيد ورحلت فبكيت غيابها ووحدتي.
كل يوم اقطع نفس الطريق الرتيب بين الوكالة والعمارة التي بدأت تكتظ بالأطفال والأزواج الجدد
 ها هو عائد يحمل الأوراق البيضاء كما العادة ” قالت سيدة لجارتها العانس وأقفلت الباب بقسوة وتهكم واضحين،
لا جديد سوى الرسائل اليتيمة التي اعثر عليها في الصندوق البريدي والتي يبعث بها أخي الموغلة حياته في الغربة، يحكي عن تردده في العودة وعن اشتياقه لرائحة البلاد وعن سعادته الغامرة بابنته الكبرى ياسمين التي نالت هدا العام شهادة الماجستير في الاقتصاد بدرجة مميزة.
اعترف أنني وفي فترات الفراغ الطويلة أدمنت على انتظار رسائله وشعرت مرارا وأنا أقرأها بالزهو والألم كانت تقودني عباراته البسيطة المرتجلة إلى حنين غريب والى دفء العائلة الذي لم ينطفئ أبدا بداخلي وحدائق طفولتنا العصية على النسيان.

 

كاتب من المغرب