يكشف الكاتب عن أن أحد أهم الظواهر التي تحول دون مصر والتقدم الحضاري والاستمتاع بما أصبح من بديهيات الحياة في المجتمعات الأخرى، هو اندلاع عمليات الثأر الطائفية فيها بشكل دوري. والبحث عن مبررات لذلك كي تلغ أقدام المسلمين فيها في دماء أشقائهم المسيحيين. وكي يظل الجدل محصورا فيما قاله شخص ما، حتى لو لم يسمعه أحد، كي تندلع النيران ويراق الدم، بدلا من التركيز على قضايا التقدم والحرية.

قضايا دموية

عيد اسطفانوس

 

فى المجتمعات المتحضرة لم تعد قضية العيش المشترك محل نقاش او جدل أو خلاف بل لم يعد لها ذكر، فهي بديهية ومحسومة ومستقرة ومقبولة من الجميع عن اقتناع تام ــ وليس على مضض ــ هذا عن مجتمعات حسمت أمرها وانطلقت الى المستقبل أما في المجتمعات المتخلفة فلازال منطق البئر والكلأ هو السائد المسيطر على العقول والقلوب ايضا، فلا موضع أو فرصة أو فسحة لتعديل منطق اما نحن واما هم. منطق اما طردهم واما قتلهم ولا حلول وسطى تبدو في الافق. تُقترح كحد أدنى! حتى مبدأ التعايش أو بالأحرى العيش معا! متنمرين بعضا على بعض، والتعايش هو تعبير مراوغ كتعبير التسامح الذى معناه السماحة المؤقته المشروطة.

ونظره على المشهد الدامي في هذه البقعة من العالم لا يحتاج لكثير من الفطنة لمعرفة ما يجري في هذه المجتمعات. فقضايا الدم والقتل والموت هي المحاور الرئيسة المستدامة لأسلوب الحياه ــ اذا جاز أن نسميها حياه ــ أما ماعدا ذلك فتلك ثانويات فرعية فالموت الجاثم على الصدور في هذه المجتمعات الموتورة يجعل من أي نشاط أنساني قضايا مؤجلة .

وبالطبع هذا الملف ملف تجهيز القضايا الدموية يدار من خلف الكواليس، بالتنسيق مع حكومات ظل يتبادلون الادوار معا بخطة مرسومة بعناية، للسيطرة على مشاعر الرعاع وتجييشهم عندما يعلن النفير العام، ليهبوا على قلب رجل واحد! لإسالة أكبر قدر من الدماء، بعد ابتداع قضايا دموية مقدسة وعلى رأسها بالطبع الدفاع عن الدين وخالق الدين ورسول الدين وكتاب الدين. وبينما ننقر حروف هذا الطرح تطالعنا مشاهد مرعبة تنتشر على الميديا فقد قتلوا انسانا وأحرقوا جثته (ورواية أخرى تقول أنهم أحرقوه حيا) لمجرد انه نزع ملصق عليه اسم النبي محمد من على جدار مصنع في باكستان، حفاظا على نظافة جدار المصنع الذى يديره الضحية منذ عشر سنوات. أي أن الضحية يعايش من أحرقوه منذ عقد من الزمن. لكنه يعايشهم بمبدأ التعايش أي العيش على مضض في انتظار شبهة الخطأ الأول، الذى يترصدوه وقد رصدوه وقتلوه ومثلوا بجثته ثم أحرقوها.

وهذا مثال مبسط للقضايا الدموية التي يصنعها محترفون، وهى القضايا التي يتحتم أن يكون نتاجها النهائي دماء، وهم لوبي متمكن ومسيطر على مشاعر الملايين من الجهلة وأنصاف المتعلمين. وأي محاولة لتعديل مسار هذه المجتمعات نحو المدنية والحداثة والعيش والسماحة هي بدع وضلالات محكوم عليها بالفشل. لأنها تمثل خطورة بالغه على فرق المنتفعين من جهل هذه القطعان المسلوبة ارادتهم، والتي يسوقونهم بسوط الارادة الالهية الذى يلهب ظهورهم. فكلما عنّ لأحدهم أن يفكر، أو يتساءل، أو يُعمل عقله، وأن يبتعد ولو قليلا عن القطيع! جاءت فرقعة السوط تصم أذنه فيفيق ويعود الى مكانه خانعا ذليلا.

والقضية الدموية الجديدة المثارة على الساحة الان هي لقس مصري يعيش في أمريكا. وهو معزول من عقود من سلك الاكليروس بسبب خلاف عقائدي مع كنيسته. ومن ثم احترف العمل مع قنوات دينية مسيحية أنشأت ردا على القنوات الاسلامية التي انتشرت منذ الثمانينات. وسلك الرجل هذا المسلك المعيب وأنا شخصيا لا أشاهد مثل هذه الترهات، وأعتقد جازما أن معظم المسيحيين في مصر لا يشاهدونه اللهم الا فى حالة الازمات الطائفية. فربما تكون مشاهدته متنفسا لغضب أو شعور بالظلم. وخصوصا تلك الازمات التي يصنعها متطرفو التيارات الراديكالية مثل الاعتداء على الاقباط والكنائس وخطف القاصرات وغيرها كثير. وهذا القس منذ ربع قرن يقتطف أجزاء من كتب رواة الاحاديث، وخصوصا الرواة الكبار منهم، وبالطبع هي مقتطفات مثيرة للجدل. ويعلق عليها هو وآخرون. المهم أن أحدا لم يعره انتباها طيلة هذه المدة. الى أن اختاره صناع القضايا الدموية في مصر ليكون القضية المقدسة الآنية، والتى يجب أن تسيل فيها الدماء، وليس شرطا أن تكون دماء القس! المهم أي دماء وبكمية كافيه. فالمتعطشون للدماء كثر! فالملصقات (الا رسول الله)، والترندات التى تدعو الى القتل، تتركز في مصر بكثافة دونا عن بقية الاقطار الاسلامية. وبالطبع لن يستطيعوا الوصول للرجل في أمريكا! فلابأس من الانتقام لإهانة الرسول من مصريين. فتفجير كنيسة أو قتل رجل دين مسيحي ربما يشفى غليل الصدور.

وتعجبت كثيرا عندما راجعت آخر ما قاله القس المعزول في هذا الصدد فهو يدعى بأن ما يقوله مدون ومكتوب في كتب السيرة. ولا يكتفى بذلك بل يعرض عناوين الكتب وتاريخ ومكان طباعتها وصور أغلفتها وأرقام الصفحات التي ورد فيها ما يقوله. ورأيي أن الاجدى بديلا عن القتل والدم هو تنقيح وتنقية كل ما يرد في كتب السيرة والاحاديث من هذه الترهات الصادمة للعقل والمتصادمة مع الفطرة الانسانية .