دأب محمد الفخرانى على تصوير العالم فى أعماله، الروائية منها، والقصة القصيرة رغم إختلاف طبيعة كل منهما، غير أنه يستطيع أن يبنى فى الرواية البيوت ويُنشئ الشوارع، ويشيد السلالم التى تصل به إلى السماء ليلعب مع النجوم. وفى القصة القصيرة، يُجمع جوهر كل تلك الأشياء، ليصنع منها كبسولة الحياة، فهو فى هذه القصة، يحول الكرة الأرضية إلى كرة للعب.. يكى يلعب بها أطفال العالم.

اللَّعِب

محـمد الفـخـرانى

 

اللَّعِب، هو السبب في أنهم لم يتدَبِّروا إيجار البيت حتى الآن، غير أن هذا لا يقلقهم، فلم يَحْدُث ولو مَرَّة أن سَدَّدوه في وقت لائق، كما لا يُقلقهم كيف يحصلون على مال، فحينما يضطرون إلى ذلك، يَخرجون للعمل عدَّة ساعات، لكنهم لن يفعلوا الليلة، فكُلٌ منهم يُجهِّز نفسه الآن لليلة طويلة من اللعب.

"نور" في حجرته المشتركة مع "ظلام"، وكلٌ منهما يُغَيِّر تسريحة شعره أكثر من مَرَّة، ويُجرِّب قطعة ملابس ثم يخلعها ليُجَرِّب أخرى، ولا يقلقهما أنهما يستعملان الأشياء نفسها، وكثيرًا ما يرغبان في فِعْل الشيء نفسه بوقتٍ واحد، ولا أنهما في كل مَرَّة يُحِبَّان معًا الشابة نفسها، أو المرأة، ويعترفان بحبهما لها في يوم واحد، يعجبهما هذا لأنه يمنحهما مساحة خاصة من اللعب، فقط يُحيِّرهما أن أيَّة حبيبة، حتى الآن، لم تُصرِّح بمَن أَحبَّته منهما.

بمواجهة "ظلام" و"نور"، يسكن "حب" في حجرة أصَرَّ أن تكون له وحده، فهو لا يحب أن يشاركه أحد أيّ شيء، في الوقت الذي كان "موت" ساكن الحجرة المُلاصِقة له، يَسرق منه شيئًا واحدًا كل يوم، ثم يُعيده إلى مكانه في اليوم التالي، فلا يمُرُّ يوم إلا وشيء ضائع من "حب"، وحيرة صغيرة تُرْبكه، لم يكن "موت" يستعمل الأشياء التي يسرقها، فقط يريد أن يلاعب "حب" بتلك الحيرة.

كان "كَذِب" في صالة البيت يتحرَّك بخفَّة وهو يُجهِّز طاولة اللعب، ويُرَتِّب الأشياء بطريقته الخاصة، ويُعيد توزيع قِطَع الأثاث القليلة، حتى يمنح المكانَ شكلًا جديدًا مثلما يفعل كل ليلة، وبين لحظة وأخرى ينادي أصدقاءه "الوجهاء المساكين" كما يُطْلِق عليهم، ويسخر منهم لأنهم في النهاية سيخسرون لصالحه، يضحك "كَذِب" ثم يلتفت إلى صورة حبيبته "مُتْعة" على الجدار، ويقفز إليها من فوق طاولة اللعب، ليضْبط وضْعها، رغم أنها بالفعل في وضْع مضبوط.

"كذب"، هو الوحيد الذي وضَعَ صورة لحبيبته بالبيت، رغم أن كل واحدٍ من أصدقائه لديه حبيبة بالفعل، أو كان، ربما لأنه الوحيد الذي ظَلَّ على حُبِّه لحبيبته طوال الوقت، لم يحب غيرها، ولم تنتهِ علاقته بها.

يَخرج "حب" من حجرته، وتظهر عليه حيرة صغيرة، لأنه لم يجد تميمة حَظِّه التي يَلفُّها حول معصمه، ولا يتوقَّع أن يكسب بدونها، في الوقت الذي كان "موت" عند باب حجرته يَرْقبه بنظرة جانبية، أَحسَّ بها "حب" وتجاهلها، فلم يكن متأكدًا أن "موت" هو مَنْ يُخبِّئ أشياءه، لكنه متأكد أيضًا أن لا أحد غيره يفعلها.

كان "ظلام" قد جلس إلى طاولة اللعب المستديرة، يلعب بالأوراق مع نفسه، ويسحب بعضها ليُكَوِّن أرقامًا لا يمكن أن تخسر، ويتمنَّى أن يحْصُل عليها وقتما يبدأ اللعب، بينما وقف "نور" بجوار "كذب" ينظر معه إلى صورة "متعة" في تسريحة شعرها البسيطة، وعينيها المُلوَّنتين بما لا يفهمه ولا يعرف اسمه غير "كذب"، ويجعله لا يبدأ اللعب قبل أن يتأملهما لنصف دقيقة، يجلس بعدها إلى طاولة اللعب، بحيث يكون بمواجهتهما، مثلما يفعل الآن بعد أن أمسك بيد "نور" وأجلسه عن يساره، ثم كان "ظلام"، و"حب"، و"موت".

يلعبون للتسلية، لا ليحصلوا على مال بعضهم بعضًا، لا توجد رهانات على طاولة اللعب، يفكرون أن لو كان هناك رهان، فسيفعل هذا بهم أيّ شيء إلا أن يجعلهم أصدقاء، وفي نهاية اللعب لن يكون الأمر مُسليًا للكثيرين منهم، في كل ألعابهم هناك فائز واحد، يُحَدِّد لكل خاسر شيئًا عجيبًا يفعله، وعلى الخاسر أن يفعل هذا الشيء مهما كان، وفي أحيان كثيرة يتمنى كلٌ منهم الخسارة حتى تُطلَب منه الأفعال العجيبة.

"كذب" يجمع أوراق اللعب من سطح الطاولة، ويكون حريصًا أن تقع عيناه على ورقة البنت قبل أن ينتهي من ذلك، لو حدَثَت تلك التفصيلة الصغيرة سيكسب طوال الليل، أو يخسر إذا أَحبّ، ولا يكون مضطرًا لأن ينظر إلى صورة "متعة" بين لحظة وأخرى، لتخبره عيناها بأوراق أصدقائه، وتقترح عليه ما يفعل، لكنه في كل الأحوال سينظر لعينيها بين لحظة وأخرى، إنْ لم يكن لتلعب معه، فلأن حبه لها يجعله يفعل.

"استعدوا للعجائب".

قالها "كذب"، وأَطلقَ ضحكته الشهيرة، وقبل أن يرُدّ عليه أحد أصدقائه، رَدَّ صاحب البيت: "استعدوا للمبيت في الشارع".

كان قد فتح الباب بنسخة من المفتاح يُصِرّ أن تبقى معه، ودخل دون أن يشعروا به، مثلما يفعل مرتين أو ثلاثًا كل يوم ليُرتِّب أو ينظف، أو ليفعل لا شيء، فقط لا بد أن يدخل مرتين على الأقل كل يوم، لكنهم يضطرونه أن يدخل مَرَّات إضافية من أجل الإيجار المتأخر دومًا، وفي كل المَرَّات الإضافية، يصمتون جميعًا، ويتركون "كذب" يتفاهم معه.

وفي كل مَرَّة سيُوجِّه صاحب البيت كلامه وغضبه إلى "كذب"، ليس لأنه ضيف دائم وسيضطر أن يتحمَّله، ولكن ليفتح معه أيّ حوار، كان الجميع يعرفون أن صاحب البيت يحب "كذب" بشكل خاص ويستمتع بالكلام معه، الأكثر من ذلك أنه الوحيد الذي يثق به منهم، لأنه يقول الحقيقة لو سأله عن أيّ شيء، فعندما يُنكِر أصدقاءه مؤجِّروا البيت أن معهم أيّ نقود يدفعونه، ويسحبون جيوبهم ويقلبونها فارغة ليؤكدوا لصاحب البيت أنهم مفلسون، ليس عليه إلا أن يسأل "كذب" ليخبره فورًا عن الأماكن التي يُخبِّئون فيها نقودهم الفقيرة، والتي لا تكفي في كل الأحوال لسداد الإيجار.

لا يتعامل "كذب" مع صاحب البيت بهذه الطريقة لأنه ضيف على أصدقائه، لكن لأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي تضمن استمرار الجميع، وتجعل من أحدهم مَوْضِع ثقة، يبدو أيضًا أن تلك طبيعة "كذب"، فلن يستطيع أن يتصرَّف بهذه التلقائية في كل مَرَّة إلا لو كانت هذه طبيعته.

أكثر من ساعة قضاها صاحب البيت واقفًا يتحدث مع "كذب"، الذي لم يتحرك من مقعده، في حين نهض "ظلام" و"نور" للمطبخ، وفي الشُّرْفة كان "موت" يبتسم للقمر، و"حب" يقف قريبًا منه يَرْقبه بحيرة، ويفكر كيف لم يستطع ولو لمَرَّة أن يمسك به وهو يسرق أحد أشيائه، أو وهو يُعيد الشيء نفسه في اليوم التالي؟! رغم ذلك كانت الفكرة تجعل "حب" يبتسم.

"استعدوا للعجائب".

قالها "كذب" بحماس أكبر هذه المَرَّة، فجاءه أصدقاؤه ولم يسأله أحدهم كيف تَصَرَّف مع صاحب البيت، إلا أن كل واحد منهم شعر فجأة بعَدَم الرغبة في اللعب، فقد تَغَيَّر مزاج "نور" بلا سبب، وتذكَّرَ "حب" حبيبته التي خسرها منذ أيام قليلة، وتملَّكَتْه رغبة عارمة في الجري بلا هدف، وازداد إحساس "ظلام" بالقلق على أعزّ صديقاته "رحمة"، التي تُواصِل الرسم على الجدران في الشوارع منذ شهر متواصل دون نوم أو طعام، وفكَّرَ أن يخرج ليطمئن عليها، بينما كان "موت" يتلفَّتُ حوله بلا تركيز، وهي الحالة التي يكون عليها عندما يريد عدَّة أشياء في وقت واحد ولا يتذكَّر منها شيئًا، ولن يهدأ إلا لو خرج للشارع.

نظر "كذب" في وجوههم، وعرف أنهم لن يتحمَّلوا أن يبقوا لحظة أخرى في البيت، ابتسمَ بطريقة ذكَّرَتْهم بأنهم "الوجهاء المساكين"، واقترحَ عليهم: "الملعب؟".

اتجهوا إلى الباب، تأخَّرَ "كذب" عنهم قليلًا، بعد أن بَعْثَر أوراق اللعب على الطاولة، ووقف للحظات يُخمِّن أيَّة ورقة من الأوراق المقلوبة ستكون البنت، كان عليه أن يكتشف ذلك مع أول ورقة يسحبها، وعندما فَعَلَ ذلك، رفع يده بها لعينَيْ "متعة" وهو ينظر لها بجديَّة، ليذُكِّرها بأنه لم يُخطئ أبدًا في الورقة الصحيحة، كما لم يتوقف أبدًا عن حبها.

هل كان يعرف أنه سيُخطئ عندما يتوقف عن الحب؟

في الشارع وعلى بُعْد أمتار قليلة من البيت صادفوا "حزن" و"حنان"، وصحبوهما معهم، ثم ظهرت "رحمة" منهمكة في الرسم على جدار بلا بداية، وكما هو مُتوقَّع ظهر "خوف" على بُعْد خطوتين منها، يحمل علب ألوانها، وينظر لها بنفس الوَلَه الذي تنظر به لرسومها، وكان على "ظلام" بعد أن ناداها أكثر من ثلاث مَرَّات ولم تسمعه أن يذهب إليها، ويُحوِّل وجهها إليه رغمًا عنها، ليرى في عينيها نظرة فنانة مفتونة، فيضرب خَدَّها بأصابعه مرتين: "تقتلين نفسك"، يمنعها من العودة للرسم، ويحاول أن يتجه بها حيث "كذب" والأصدقاء، لكنها تقاومه، فيتدَخَّل "خوف" ويجذب فرشاتها من يدها، وقبل أن تثور عليه يقول ضائعًا فيها: "ارتاحي قليلًا"، ويداعبها وهو يعبث بفرشاتها في وجهه ليصنع رتوشًا عشوائية، فتبتسم بشجن، وعندما يربت خَدَّها وتشعر بحبه العجيب على وجهها، تتنهَّد وتتراجع خطوة لتُلقي نظرة على رسمها، فيضع الفرشاة مع علب الألوان في حقيبة صغيرة يغلقها عليهم، وينتظر حتى تُنهي نَظْرتها، ثم يمسك أحد ذراعيها، ويمسك "ظلام" ذراعها الأخرى وينضمان بها للأصدقاء.

يطلب "كذب" أن يمرُّوا في الطريق على أعزّ أصدقائه "صِدْق"، يَجدونه وابنته الصغرى مشغولَين على شاطئهما الصغير بصُنْع القوارب والبيوت الخشبيَّة، ويراقبه "كذب" للحظات قبل أن يناديه. أول شيء يفعله "صدق" بعد أن ينضم وابنته للأصدقاء أن ينفرد مع "كذب"، ويقول له شيئًا سريًّا، فيبتسم "كذب" تلك الابتسامة التي تَخُصُّ "متعة"، ولا تظهر إلا عندما يراها أو يسمع اسمها، بينما يستعمل ابتسامة أخرى لبقية العالم.

"الملعب"، الكُرات في كل مكان، "قسوة" و"سعادة" تقفان على حافة بِرْكة ماء صغيرة تريدان الوصول لكرة تطفو بمنتصفها، وفي الوقت نفسه لا تريد أيّ منهما أن تُبلِّل نفسها، ضَحِكَ "كذب" منهما وبلَّلَهما بتعليقات مُضحكة، وقبل أن تجف عنهما التعليقات كان "نور" قد دخل بركة الماء وعاد بالكرة يُجفِّفها بملابسهما، فتضحكان ولا تقاومانه.

ارتبكَتْ شوارع وكائنات كثيرة داخل الكرة عندما رَكَلَها "نور" تجاه "حزن"، الذي لعبها بكتفه مباشرة، فاشتعلت داخلها شمعة تمسكها شابة وحيدة، وانطلقت غزالات من بين أشجار غابة كثيفة، وعندما ضربها "موت" برأسه، انسكب أحد أنهارها في بيت صغير، وأوشك على الغرق فيه، لكنه تمَسَّكَ بإطار نافذة كبيرة، واستجمع قوته وقفز للشارع، وعندما وصلَتْ الكرة إلى "كذب" تبادلها عدَّة مرات مع "صدق" قبل أن يُدحرجها الأخير لابنته، فتؤدي معها عَرْضًا صغيرًا للمهارات، يتسبَّب في مفاجآت كثيرة داخلها، وقبل أن تُقرِّر لمَن تُرسلها، التقطَتْها "قسوة" من فوق رأسها ورَكَلَتْها تجاه "سعادة"، التي تستقبلها بهدوء على صدرها وتُريحها قليلًا، ثم تَرْكلها بحركة بهلوانية تجاه "حنان"، إلّا أنَّ "خوف" يلتقطها في منتصف المسافة، ويدفعها برفق تجاه "رحمة"، التي تَرْكلها عاليًا بكل قوتها، وتجري لأقرب جدار تُكمِل رسمها، فيتبعها "خوف" بالفرشاة والألوان.

ترتفع الكرة وتغيب عن عيونهم لحظات، تتغيَّر فيها عوالمها عِدَّة مَرَّات قبل أن تعود إليهم، فيلعبون معها حتى يشعروا بالتعب، ويجلسون حولها يراقبون مزيجها العجيب، وعندما يرى "حزن" المرأةَ التي يحمل لها مشاعر قوية وهي تمشي في ركن بعيد داخل الكرة، وتتجه إلى النهر لتستحمّ، يقفز هناك، ويتبعها كعادته دون أن تشعر به، في حين يدخل "حب" ويقف عاريًا تحت مطر غزير، ويُلقي "موت" بنفسه في شلال يُعجبه، وتُسْرِع ابنة "صدق" وتنضم لمجموعة من الصيَّادين يدفعون قاربًا جديدًا لأحد البحار هناك، فيَلْحَق بها "صدق" ليُحمِّسهم بصيحاته، ويضحك "كذب" وهو يدفع "قسوة" و"سعادة" داخل الكرة ويقفز خلفهما، وعندما تنظر "رحمة" من مكانها عند الجدار، وتلمح داخل الكرة لونًا كانت تبحث عنه، تقفز إليه، وخلفها يقفز "خوف" حريصًا ألا يُسقِطَ شيئًا من ألوانها.

كانوا جميعًا داخل الكرة عندما تأرجحَتْ بمكانها بعد أن سقطَتْ لعبة صغيرة من يد طفل يجري في أحد شوارعها، وعندما سقطَتْ لعبة أخرى تحرَّكَت، وبدأ كل ما فيها يَميل إلى بعضه البعض، وبلعبة ثالثة تَحَرَّكَت الكرة بشكْلٍ أسرع، وبدأتْ كل الألوان والمياه والكائنات تتماسّ وتسكُب من بعضها لبعض، كأنما يتذوَّق كلٌ منها الآخر ويتبرَّع له بجزء من حياته.

 تسقط لعبة بعد أخرى من أيديْ الأطفال كما لو أنهم يتعمَّدون، فتجري الكرة، تجري، تمتزج العوالم، والكائنات، والأفكار، والمشاعر ببعضها بعضًا، ولا يتوقف اللعب.