يأتي كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» (تكوين - دار الرفدين - 2023)، للدكتور عبد الجبار الرفاعي، ليضيء جانباً من سيرته الذاتية انطلاقاً من العلاقة التي ربطته بعالم القراءة. وهو الدافع الرئيس لتحديد «فصل من سيرة كاتب». لكن السيرة الذاتية للرفاعي لا تنحصر بالتحديد في هذا الجانب، وإنما تمتد لتشمل فصولاً أخرى يتداخل فيها الحياتي بالثقافي والفكري.
من ثم فـ«مسرات القراءة ومخاض الكتابة» جزء من حياة دون أن يعني كونه الحياة في كليتها. وهو ما يوحي على السواء بكون هذه السيرة سوف تتشكل من أجزاء أخرى وفق ما طالعنا، مثلاً، في تجربة عميد الأدب العربي طه حسين، وصولاً إلى الأدباء جلال أمين ومصطفى الفقي وغيرهما. ويحق الحديث على أن المفهوم الذي يرسخه الرفاعي للسيرة الذاتية، يتجسد - كما سلف - في الجمع بين عالمين: عالم القراءة وعالم الحياة. وبذلك، فإنه يغاير ويخالف السائد والمتداول في كتابة السيرة الذاتية. ويمكن التمثيل بما كتبه هنري ميللر في «الكتب في حياتي» وكولن ويلسون في «الكتب في حياتي» (والعنوان متداخلان)، وإيتالو كالفينو في «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟»، وألبرتو مانغويل منذ «تاريخ القراءة» إلى «حياة متخيلة». وإذا كان الصوغ في هذه المؤلفات مباشراً، فإنه في غيرها تحقق على نمط كتابة روائية، كمثال «عاشق الكتب» و«جنون كتاب» لهوفر بارتليت. وأما عربياً فيمكن التمثيل بكتابات عبد الفتاح كيليطو في أغلبها، إلى الروائي والقاص لؤي حمزة عباس في كتابة «النوم إلى جوار الكتب»، وبثينة العيسى في «الحقيقة والكتابة»، وطريف الخالدي في «أنا والكتب»، وصفاء ذياب في «أن نحكي»، وحسن مدن في «حبر أسود».
تشكل الوعي
تبدو صيغة الوعي بالقراءة في كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة» بسيطة، لتتحول لاحقاً إلى التعقيد. فالبسيطة ترتبط بالفضاء كما الزمن، وهي انتقالات في حياة الشخصية وتكوينها. ذلك أن مرحلة التعليم الابتدائي في حياة الرفاعي لم تعرف سوى الكتب المدرسية، بحكم الارتباط بالواقع القروي وسواد الأمية بين الفلاحين على مستوى القراءة والكتابة. وفي سياق هذه المحدودية، فإن أفق التوسع والاضطلاع لم يمتلك مؤهلات التطوير وروافد الإغناء. من ثم فإن الصورة التي جاءت عليها المكتبة الشخصية الأولى، اتسمت على السواء بالبساطة ما دامت قد ضمت ما يشبه كراسات تتم العودة إليها بين فترة وأخرى في نوع من التكرار وشح الإضافة:
«لم أر في المرحلة الابتدائية كتاباً غير الكتب المدرسية، ولا أتذكر أني رأيت كتاباً في بيت أحد في قريتنا، الفلاحون من جيل آبائنا لا يقرأون ولا يكتبون». (ص/13)
«قرأت قصص: المياسة والمقداد والسندباد البحري وغزوة بئر ذات العلم وعنترة بن شداد». (ص/13)
«نشأت مكتبتي بهذه الكراسات وأشباهها، أصبحت أكرر مطالعتها، وأضيف لها ببطء وعلى فترات متباعدة ما أظفر به». (ص/14)
بيد أن الانتقال إلى بغداد بداية السبعينات بهدف الدراسة سيجسد تحولاً مغايراً على مستوى التكوين، ذلك أن ما بدا في السابق بسيطاً، سيغدو معقداً أمام وفرة الكتب وتعدد سبل المعرفة وما يترتب من دهشة وحيرة في الاختيار وتوقاً إلى امتلاك مكتبة غنية تتضمن مراجع معتمدة، علماً بأن هذه المكتبة الشخصية ستخضع لظروف قاسية تتحدد في الإجهاز عليها بالاغتيال - إذا حق - ثم القيام مجدداً بالبناء والإنشاء، وكأن الأمر يتعلق بسيرتين متداخلتين: سيرة تكوين وتكون القارئ، وسيرة نهضة مكتبة - مكتبات لا تتوقف وظيفتها في تشكيل صورة القارئ، وإنما الكاتب على السواء، من منطلق كون كل قراءة عميقة دقيقة موضوعية تقود إلى بناء شخصية الكاتب التي تقولها وفق صيغة خاصة تتفرد على مستوى التفسير والتأويل وترسيخ الفهم المغاير:
«أتذكر أولى زياراتي لشارع المتنبي سنة 1973 عندما كنت طالباً ببغداد، لم تكن المكتبات في الشارع بهذه الكثافة وهذا الحضور الواسع المتنوع اليوم». (ص/23)
«بعد انتقالي للدراسة ببغداد سنة 1973، بدأ تراكم الكتب يتنامى ويضيق معه فضاء الصندوق بالكتب المضافة». (ص/ 44)
«تجمع مكتباتي نحو 30000 من الكتب ودوريات الدراسات والمجلات الثقافية». (ص/55)
وتأسيساً على السابق، فإن تشكل الوعي بالقراءة تجسده نوعية المقروء. بمعنى آخر، إنه أمام فيض وغزارة المكتوب تحتم الضرورة انتقاء ما ينبغي قراءته من منطلق كون الزمن والحياة لا يسمحان بالإحاطة الشاملة. ثم إن التخصص المتعلق، سواء بحقل التدريس أو الكتابة، يستدعي القراءة، وبالضبط ضمن حدود المحفل، حيث تتمثل كيفية تصريف المقروء في المكتوب، إلى توظيفه التوظيف الملائم.
يقول الرفاعي في فقرة دالة مكثفة وجامعة تضعنا أمام المفهوم الحق للقارئ:
«ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان، المهم نوعية ما يقرأ، وكيفية تلقيه لما يقرأه، وقدرة عقله على تمثله وتوظيفه، وتجلي أثره في نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه». (ص/29)
إن ما تقود له/ إليه صورة القارئ، ميلاد الكاتب ونشأته. والأصل أن الميلاد والنشأة يرتبطان بالقراءة. فلا يمكن ولا يتأتى خلق النص في غياب المرجعيات التي يتم الامتياح منها بغاية إنتاج المعنى الجديد الذي لا يقول الشيء نفسه، وإنما ما يغايره ويختلف عنه. وثم تتحقق الفرادة والخصوصية. على أنه ومثلما تحققت ولادة القارئ في زمن مبكر، تسنى أيضاً للكاتب فرض قوة حضوره في المراحل التي قطعها تكوينه التربوي والجامعي، وكأن تمرين الممارسة التعبيرية الإبداعية نصاً وموضوعاً يعلن عن ذات تمتلك مشاعر وأحاسيس قيض لها الاستمرار وليس التوقف كي تغدو بنفسها مرجعاً معتمداً لا يمكن تجاهله أو غض الطرف عنه:
«كتاباتي خلاصة مطالعات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي لم ولن تتوقف، وما زالت، كما كانت أول مرة، خلاصة عواصف ذهنية وتأملات فرضها علي عقلي الذي لا يكف عن التفكير، وأوقدتها مشاعري وانفعالاتي، وما ترسب بأعماقي من جراح محطات الحياة المتنوعة، مما لا أراه ولا أدرك تأثيره في فهمي». (ص/69)
ويبرز الاختلاف بين العالمين: عالم القراءة وعالم الكتابة، في كون الأخير كما ورد في التعريف المقتبس عن الروائية الفرنسية آني إرنو: «الكتابة كخنجر»، عالم عذابات ومعاناة ومتعة أيضاً. ذلك أن كتابة نص، أقول ولادته، لا يمكن على الإطلاق استسهالها. على أن أولى هذه العذابات والمعاناة يعكسها مكون اللغة بما هي أداة التواصل والاتصال بين الكاتب والقارئ. إذ الكاتب وهو يخوض مهمة الإنجاز يحلم بأن يكون منجزه دقيقاً من حيث الكتابة والتحرير، وهو ما يفرض عليه انتقاء العناصر المكونة للغته وبناء أفقه الإبداعي الخاص. فلا قيمة البتة لما يكتب بانتفاء القارئ الذي تصنعه الكتابة. وهذا ما يشير إليه الرفاعي بالاشتراك أو المشاركة، بحكم كون بناء النص تتداخل فيه كفاءتان: كفاءة الكاتب وكفاءة القارئ.
«اللغة كأداة هي ما يرهقني في الكتابة أكثر من الفكرة، أعيد تحرير النص عدة مرات. حين أكتب أمارس وظيفة تشبه وظيفة المهندس المعماري الذي لا يغفل عن وجه البناء الجمالي». (ص/ 69)
«الكتابة فن الحذف والاختزال». (ص/70)
«لم أجد نفسي خارج الكتابة منذ أكثر من 45 عاماً تقريباً». (ص/74)
«الكتابة اقتصاد الألفاظ وتدبير الدلالات. الكتابة تحرير النص من عبودية الكلمات الميتة، وأساليب البيان المنقرضة. كل كتابة إعادة كتابة كتابة على كتابة». (ص/ 166)
إن ما يمكن استخلاصه من السابق: كون تشكل شخصية القارئ يتداخل وصورة الكاتب كما سلف، اعتبار بدايات الوعي بالقراءة والكتابة، تحقق منذ سنوات التكوين الدراسي والجامعي، والغاية التأسيس لمنطلقات في التعبير وعلى التفكير تتفرد في خصوصياتها وتصوراتها، وهو ما يلمس في الآثار الفلسفية للرفاعي.
في سؤال السيرة
لعل السؤال الذي يفرض نفسه في نهاية هذه الكتابة النقدية: أترى يتعلق الأمر في كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» بسيرة محض، سيرة ذاتية، أم أنها سيرة ذهنية؟
إن التحديد الذي أقدم عليه المؤلف، والمتمثل في «فصل من سيرة كاتب»، يجسد ميثاق التعاقد الذي يربط بين المؤلف والقارئ. بمعنى آخر إننا أمام سيرة توازي بين القراءة والكتابة دون أن تشمل تفاصيل ترتبط بالحياة أو الذات برمتها كما مر مطلع هذه الكتابة، ومثلما المتداول والمعهود في السيرة الذاتية العربية التي نزع بعض مؤلفيها إلى ضبطها بالتحديد الدقيق، في حين غيب البعض التحديد، ومنهم من اختار تمرير وقائع ذاتية في كتابة روائية يتعامل معها في هذا السياق.
على أنه وإلى ميثاق التعاقد، فإن الإشارة «فصل من سيرة» تؤكد بأن أفق التلقي المنتظر مستقبلاً، سيكون أمام فصول أخرى تستكمل السيرة وتشمل الغائب مما لم يتم ذكره، وآنئذ تستوفي السيرة بعدها الذاتي في شموليته، ولئن كانت بعض الإشارات الذاتية الحياتية وردت في هذا الكتاب وفق تدقيق زمني صارم.
بيد أن اختيار الأستاذ عبد الجبار لهذه الصيغة، وليد قناعة واقتناع بأن المؤلف قارئ وكاتب بمثابة ذات، وجود وكينونة تنتج وعياً بالثقافي والفكري في ثوابته ومتغيراته. والواقع أن الاختيار يهدف في مستوى آخر من الفهم والتأويل إلى الاختلاف عن السائد في كتابة مادة السيرة، إلى التنويع والإضافة، وهو ما جنح إليه أكثر من كاتب ممن ذكرت سابقاً البعض منهم:
«كتابة السيرة بهذا الشكل من أمهر أنواع الكتابة وأكثفها وأثراها. كتابة السيرة تعني إعادة بنائها بوصفها طوراً راهناً لوجود الإنسان يبعث في حياته ولادة مستأنفة». (ص/75)
ويحق أن نضيف بأن الاختيار تمثيل عن إضاءة لجوانب من وفي حياة المؤلف. الفضول يتنازع القارئ الذي عرف الرفاعي من خلال دراساته وأبحاثه، والآن انطلاقاً من هذا الكتاب يخبر ما لم يكن يعرفه، وأقصد صورة القارئ والكاتب. ومن ثم، فإن «مسرات القراءة ومخاض الكتابة - فصل من سيرة كاتب» بمثابة المرآة العاكسة لشخصية المؤلف وتكوينه الثقافي والفكري، إلى أن غدا اسماً علماً يتفرد بموقع ومكانة وتعتمد آثاره مراجع في الأبحاث والدراسات: «كتاباتي مرآة سيرتي الفكرية والروحية والأخلاقية، أكتب تجربتي في الكتابة كما تذوقتها بوصفها تجربة وجود. تجربة الوجود فردية، كل ما هو فردي ليس ملزماً لأي إنسان». (ص/75)
عن الشرق الأوسط