رهيباً كان المشهد.. فالجميع تحركوا إلى موقع التنفيذ فقد صدر القرار وفشلت جميع محاولات إجهاضه حتى إن أحد أعضاء مجلس الشعب قدم استجواباً للوزير المختص قوبل بالرفض التام بأغلبية ساحقة لأصوات أعضاء مجلس الشعب، كما أن أحد ساكني هذه المنطقة كان قد توفي منذ زمن ليس بالقليل عندما سمع في قبره بالقرار تخلى عن كفنه وهجر مقبرته وطار في فضاء قبة المجلس الموقر عله يقنع الأعضاء بالعدول عن هذا القرار، ولكن الأعضاء اكتفوا بالنظر إلى الجسد الغريب الذي اقتحم عليهم خلوتهم داخل البرلمان وتبادلوا نظرات التعجب والاندهاش.
رئيس الحي ومعه رؤساء الأقسام ومهندسي التنظيم يصطحبون معهم جميع المعدات اللازمة من بلدوزرات وسيارات لوري كبيرة {قلابات}، ومعهم السائقون الذين لا يفيقون أبداً من البانجو والحشيش حتى إن أحدهم زود مزاجه بجرعة زائدة كادت أن تودي بحياته لولا خبرة رئيس قوة الشرطة المرافقة للحفاظ على الأمن حيث لاحظ عليه الإعياء فطلب له الإسعاف فوراً، وعلى الرغم من تواجد جميع قيادات الحي وقيادات الشرطة إلا أن أحد سائقي هذه واللوريات كان يحتفظ بقطعة كبيرة من الحشيش الخام في جيب سترته العلوي، وكانت بارزة بشكل لافت للنظر ولكنه لم يعبأ بأي شيء سوى "تظبيط" دماغه أثناء قيامه بالعمل، هكذا تعود أن يفعل طيلة سنوات عمله على اللوري العملاق. أقارب الموتى يصطفون حول المشهد في دائرة نصف مكتملة والكل منتظر رفع رفات أقاربهم ونقلها إلى أي مكان يرونه لائقاً بقريبهم المتوفى.
بدأ عمل البلدوزرات واللوريات وسط صرخات مكتومة من الجميع سواء من له أقارب متوفون أو من ليس له، حتى إن أحد الذين استشيخوا في غفلة من الزمن بمجرد أن نبتت ذقنه بشعرها الناعم الذي يغيظ قال في دهشة منتظراً إجابة من فقيه:
وكيف سيحاسبون هؤلاء في يوم الدين.
لم يجد سوى نظرات التعجب والاستغراب ممن حوله؛ فانسحب في هدوء عل أمره ينكشف أمام هذا الرهط المدجج من قوات الأمن المركزي والشرطة ويساق إلى حيث لا يعلم.
قارب العمل على الانتهاء فلم يبق سوى مقبرة واحدة وينتهي كل شيء حتى يبدأ العمل في المشروع الكبير - بناء وحدات سكنية للشباب - فالحكومة عملت بالمبدأ القائل "الحي أبقى من الميت"، ولم يبق في جميع الناطق مكان خال وصالح لتنفيذ هذا القرار سوى هذا المكان الذي يشمل مقابر أهالي المنطقة والمناطق المجاورة.
حاول أحد قائدي البلدوزرات أن يستأنف عمله بعد أن شرب شايا غامقاًً وقضى على سيجارة محشوة بنهم غريب لكن المقبرة استعصت عليه وعلى سلاح الجرافة الحاد. حاول مرة أخرى حتى كاد أن ينقلب البلدوزر على رأسه فلم يستطع أن يهدم هذه المقبرة. تعالت صيحات الأوامر من كبار المسؤولين بضرورة اجتثاث هذه المقبرة من جذورها حتى يبدأ العمل في البناء والعمل، لكن كل محاولات البلدوزر والبلدوزرات المرافقة باءت بالفشل. تعجب الحاضرون من الموقف ولم يجدوا تفسيراً لما حدث. تعالت صيحات التكبير والتهليل من المحيطين الذين كانوا يعايشون الحدث بقلوب مرتجفة وصاح أحدهم :
بركاتك يا سيدنا الولي ورّيهم كراماتك...
صاح رئيس الحي في غضب واضح ووجنتين منتفختين:
بطلوا تخريف... ولي إيه وكرامات إيه؟!!
قالها وجمع مرؤوسيه وعاد إلى رئاسة الحي حتى يجد حلاً لهذه الورطة فلن يستطيع البناء وهذه المقبرة ما تزال قائمة في مكانها.. طارت الشائعات والأقاويل في كل مكان. وتناثرت الحكايات الأسطورية عن الولي صاحب المقبرة، ووصلت إلى حد أن زعم أحدهم أنه ولد في نفس المنطقة التي دفن فيها، وأن نوراً هائلاً كان ينفجر من المقبرة كل ليلة قبل صلاة الفجر، وحمل آخر على عاتقه مهمة إحياء الطريقة، وأطلق على نفسه شيخ الطريقة، وأقام مولداً كبيراً لصاحب المقام، وكان الناس يجيئون من كل مكان للتبرك من المقبرة وصاحبها وتحقيق أحلامهم التي عجز الطب والحياة عن تحقيقها، فمن يريد أن يتزوج فتاة صعبة المنال عليه ما كان عليه إلا أن يزور المقبرة/ المقام حتى يحقق مراده أو على الأقل يقوى عنده الأمل بالإيمان ببركات سيدنا الولي بأن حلمه حتماً سوف يتحقق، وأن المسألة مجرد مسألة وقت فقط، ومن تريد أن "تحبل" وتلد ذكراً كانت تتبرك من سيدنا الولي وغيره وغيرها حتى زاد الأمر عن حده مما تطلب معه ضرورة التحرك فوراً لإيجاد حل لهذه الورطة والبدء في تنفيذ المشروع، فأخذ السيد رئيس قسم شرطة الحي على عاتقه مهمة البحث في الموضوع ومعرفة أسبابه، فأرسل طلباً للجهات الأعلى لمساعدته في كشف هذا اللغز المحير لهذه المقبرة العجيبة، تم تشكيل لجنة كبيرة من علماء الدين وخبراء الأنساب لتحديد شخصية صاحب المقبرة ولكن بعد عمل دام طويلاً لم تصل اللجنة إلى شيء يمكن أن يساعد على الكشف عن هوية صاحب المقبرة. وعلى الرغم من اعتماد اللجنة على مرويات الذين عاصروا صاحب المقبرة والحكايات المتناثرة هنا وهناك وتفحصهم لسجلات الأنساب إلا أنهم استقروا في النهاية على توصيه بضرورة مواصلة البحث للوصول إلى شخصية صاحب المقبرة... برقت فكرة في ذهن رئيس قسم شرطة الحي فأسرع في تنفيذها، حيث قدم طلباً للنيابة لاستخراج الرفات والكشف عنها بواسطة الطبيب الشرعي المختص. ورغم أن هذا القرار قوبل في البداية بالكثير من الاعتراضات والرفض سواء على المستوى الشعبي من الأهالي وأولي الأمر بالمنطقة أو على المستوى الرسمي من قبل بعض المسؤولين الذين بيدهم الأمر إلا أنه لم يكن هناك طريقاً سواه للوصول إلى حل لهذا اللغز المحير فعلاً.
تم أخذ القرار سريعاً واتجه الفريق المخصص للفحص برئاسة الطبيب الشرعي إلى المقبرة مباشرة وبدأ عمله وسط الكلمات المتطايرة من أفواه البسطاء الذي كانوا يحيطون بالمكان والتي ترمى بالكفر وعدم مراعاة حرمة الأموات ومخافة غضب الله عليهم ومخافة غضب الولي أيضا/ صاحب المقام، فيا ويلهم منه ومن غضبه الذي بالتأكيد سوف يطولهم وأن الانتقام سوف يأتي لهم سريعاً... تم فتح المقبرة وعندما هم الطبيب بفحص عظام المتوفى وجد عبارة "في انتظار حبيبي أن يرقد بجواري" تتصدر جميع العظام التي وجدت داخل المقبرة والمفاجأة التي ألجمت الألسن ودلت الجميع أن العظام كانت لفتاة في العشرين من عمرها وليست لرجل.
ساد صمت رهيب في المكان ولم يعد يسمع أي صوت حتى صوت الهواء وحفيف الأشجار اختفيا... على البعد كان يقف شاب في الخامسة والعشرين من عمره تتساقط دموعه في هدوء مميت.