اكتمال الشاعر
لم يمت تماما... كان ذلك مجازاً، أو مقاربةً لحدث الموت المكرور، الذي فَقَدَ دهشته، وأراد أن يستعيد مهابته، فضربَ أكثرنا مناعةً وحصانةً، ليثبت أن الغياب الناقص لا يكتمل إلا بهذا الحيّ العظيم. يا وحدنا! يا وردة الكونِ الكبرى، التي سقطت، دونما إنذار، كأنها أختُطفت على حين غرّة! سيفتقد العاشقون وسائدهم المعبأة بالسحاب، ولن يرى بعدك الثائرون الحمامَ يطير على أسلاك الحرير. بلغنا الجُلجلة، وانطفأت الجذوة على سرير القلب المخذول بأهله، الذين ألقوا أحلامه تحت سواطيرهم العمياء، ولم يحتمل هذا السقوط والاقتتال.. فسَقط، وراح قتيلاً آخر للخيبة، وعلى طريقته الأسطورية، احتجاجاً، غير مباشر، على حياة أَعدمَت ما اجترحه من عوالم، اعتقد أن فيها ما يستحق الحياة، وليس فيها كل هذه الرداءة والنكوص والانهيار. ومن حقّ الجليل أن يحتضن زيتونته وغزاله المكحّل المزيون، وأن يحنو الكرملُ على مُنْشده الأجمل، وأن يحمله على جناح النوارس إلى البحر، كما حمله إلى الدنيا، بسنديانه وثياب أمهاته، وجدائل بنات المدارس، وطرقاته الوعرة الصغيرة، وبيوت الذئاب التي رحلت خوفاً من الجيش. ومن حقنا أن نندب، لأوّل مرّة، كما ينبغي، تعبيراً عن هذا الغياب الغولي الهائل. إننا ناقصون إلى حدّ الفراغ! ولم يعد ثمة مَنْ يرمّم صورتنا، ويواجه بأناقة حضارية، تلك الصورة النمطية المكرورة والممجوجة. إن قصيدة منه خير من الف مدفع ومارش! محمود مغنّي فلسطين الأمهر، وخالق الأبجدية الجديدة لشعر الأرض والمقاومة والانسانية، وهو الغابة التي لا حدّ لها، والتي يمور على ترابها الساخن الوثير كل الاشجار الواقفة، المغسولة بالمطر العنيف، ورذاذ الزلازل، وينبع في باطنها صغار البراكين، والخرافات، والأصوات المتداخلة، والصدى الوديع والمخيف. ومهما بلغت نيران الموت في هذه الغابة، فإنها قادرة على هضم ألسنتها وتحويلها إلى ضوء فتيّ باهر، يهزم الموت، ويردّ العدم والخوف على أعقابه. لم يرتبط درويش بفلسطين القضية، إرتباطاً عشائرياً، بقدر ما أسس لانتماء إنساني أكثر عمقاً ونفاذاً، جعل غير الفلسطيني يجد نفسه ملتصقاً بهذه القضية. يقول أشياءنا كأنه تسلل إلى دواخلنا، والتقط تلك الماسة الزاهرة كالجمرة، وراح ينتظمها في عقد يقلّده صدر الوطن. أما البلاد التي كان يحلم فيها، فإنها ستستيقظ في مقبل الأيام دون ابنها المُعجز، الذي فاض، حتى طفقت الدنيا تلحق بكلام رسولٍ لم يهبط له الوحي، بل خلق هو رسالته وبُراقه وعصاه السحرية وطريق آلامه وتاجه الثمين. عندما يسقط الشاعر ميْتاً يصيح: لقد اكتملت! فيحيطونه من كل صَوْبٍ وجهة، ويرون ملء أعينهم أن الظلام، ومهما كان مُسلّحاً وشديداً، فإن القصائد تقف له بالمرصاد. مثلما تُذكّر الواقفين المحيطين به، بأن استدراكهم، للاحتفاء به، قد تأخّر كثيراً، وكان ينبغي أن يقفوا تحت شجرته الكونية، وينتبهوا إلى تلك التي نبتت، بعيداً عن مائهم، من بذرة روحه الحمراء. والآن، ها هم يشربون عصارتها ليعيشوا إلى الأبد. فالشاعر شجرة الحياة التي تُبقي الآخرين خالدين، وإنْ رحل جسده. محمود الرائي المتعدد الذي يحفر في الأرض الحرام، هو نفسه الناقد الذي وجّه رمحه المتوتر إلى قلب الدريئة، التي تخفي وراءها الفساد والخراب والحروب الأهلية والوجوه الوثنية. ودرويش هذا الحوت الجبلي، وابن الحورية التي أخرجته من ثياب البحر والسنديان، ظل كائناً غير عادي، قد أدركه مَسّ من السماء، فصارت له هذه القدرة غير المعهودة في خلق الكلام المباغت والماتع والمثير، وربما يكون كلاماً يفوق المتوقَع من بني الانسان.ولعل قصيدة درويش تمتلك أن تمنح المتلقي غير مفتاح ومدرج، يولج معه هؤلاء القراء، ليمنح كل منهم ما يريد من النص ذاته، فيشرب الفيلسوف تلك الحكمة المختبئة، وينهل البسيط من أقواس قزحها اللونَ والغيوم. والخسارة تكمن في أننا سنفتقد الجديد المُدهش، الذي يُطالعنا كسيف الملحمة المُعافى والجليل. فالشاعر لا يموت، فهو هنا بكامل سخريته وكهربائه وحدّته وعطْفه وغنائه، وأسراب خيوله البريّة، وذهب لغته النابضة الحيوية البِكْر، إنه هنا بمعجزته البسيطة المذهلة، وستنسينا، بقوتها وسطوعها، رغماً عنّا، رحيل جسده.. لا غير! جاء درويش من لغته، التي خلقها، وتبادل معها دور الخالق والمخلوق، أو الصياد والطريدة، وراح يعلّمها لنا، بكل ما فيها من أساور ومناديل وشِباك وشبابيك، تطفح بالجمال والمعرفة والغناء المتعدّد الدرجات والمتداخل. وكان يطلّ علينا كالعرّاف المتبصّر، الذي جمع أُمّة الضاد، بسِحر حساسية أداته الفنية، وبمياه الفكرة التي عملت على وضع كل مستمعيه في بحيرة واحدة، يغسلهم فيها، ويرويهم من مائها، فيخرجون، وقد توحّد فيهم نوره الوهّاج، ما خلق حالة جماعية تمتد من الماء إلى الماء. لقد شهد محمود درويش موته ورآه، وأقام جدارية عنيدة لتصدّ خفافيشه الغامضة، وانتصر درويش على الموت، بأن مكّنه من جسده، لكن الموت لن يبلغ ذرى كلامه البعيد. كانت القلّة، من المثقفين الحقيقيين يغبطونه على رفْعته واختلافه، وكانت الكثرة المخاتلة التي تدّعي الإبتكار، وتطحنها عُقد النقص والصَغَار تحسده، وكان ثمة متّسع، في ظلّه، لهؤلاء المساكين، الذين يحسدونه، حتى على موته، وعلى هذا الكرنفال والوفاء البديع من الناس، الذين لا يعرفون آليات التعويض والنمائم الصغيرة وحركات الطواويس. ربما نسهو ونسير إلى مكتبه، أو نطلب رقم هاتفه، فتجيبنا الآلة أن صاحب هذا الرقم قد مات! فيفور الحزن طازجاً من جديد. اليوم، أمسى الشِعر يتيماً! رغم أن ربّه أخرجه من التابوت، وسقاه من ريق قلبه، فتعالى! ولم يعرف ناقد أن ثمة نقصاً في بيت هذا الجنيّ الساحر، فهو كالرمّانة المكتملة، وصار ثاني اثنين، المتنبي ودرويش، عبر مفازات القرون والأزمان، فأصبح الزمن القادم يتيماً هو الآخر، وأرجو ألاّ يطول يُتْمه! وفلسطين، أيضاً، يتيمة جداً، فلم يعد لها أسماء ورموز، بعد أن عرفها العَالم من خلال اسمين كبيرين هما ياسر عرفات ومحمود درويش. ويظل شعر محمود درويش وثيقتنا الوطنية والسسيولوجية والنضالية والإنسانية أيضاً، ويستطيع أي باحث أن يجد في هذه الوثيقة تاريخنا الذي أصّله الشاعر بحروف تليق بالخلود.إن هذا العملاق المنذور للأزرق، هو نفسه الذي جعل قصيدته، غير العمودية، والتي لم تسقط في المباشرة والمجانية والخطابية الفجة، قادرة على أن تكون أغنية وشِعاراً ونشيداً يشحذ المواطن، الذي يدفعه ذلك الغناء العالي، إلى أن يهجم على عين البندقية، محمولاً على إيمان عميق، يرنّق مداركه ووجدانه، ويملأ عقله وقلبه، ويظل مصدّقاً ومعتقداً بأن ذلك النشيد الموقّع والمطهم بالأرض والثورة والحرية، هو وثيقة النصر والخلاص، التي يجب أن يمهرها بدمه. أعطى درويش للمقاومة معنى أكثر اتساعاً من القتال، ليصل المفهوم إلى الإنحياز إلى الجمال والحق والخير والعدل، في مواجهة البشاعة والاستغلال والاحتلال... ومحمود الذي شكّل الذائقة والسقف الجمالي، وصار صاحب أكبر مدرسة في آخر نصف قرن، حتى أكاد أقول: إن الشعر الفلسطيني، خاصة، والعربي بشكل عام، مع استثناءات ونتوءات مضيئة بادية ومختلفة، هو قصيدة واحدة متنوعة تنتمي إلى مدرسة هذا الشاعر، الذي كتب دراما الروح الجماعية، فيما كتب معظم الآخرين دراما الحدث! عندما كان بيننا كنا نقول: هذا هو الخارج من جلسة قلبه.. المتوحّد بعيداً وسط الحضور! يبدو آدمياً، ويتراءى للناس كأنه متعالياً! تراه خاشعاً على مشهدٍ من أناييسِ المعبدِ وعاموده! وتلحظه يحفرُ فقحةَ الزهرة الصغيرة، أو تلمحّه تمثالاً راكعاً متأملاً في أُمّهِ التراب. كأنّه امرأة تلفُّ أيديها حولَ عُشّاقها الفتيان، وتسحب شرايينهم بأيديها الكثيرة، ثم ملّت اللعبة فتجمّدت إلهةً صامته. وقيلَ هو الذي سرقَ النارَ، وَلاكَ الطيرُ كبدَه. وقيل هو الحلمُ الكبير الذي ندور في فلكه، غيرَ أن رأسَه المُتعبة ستلقينا مثل ندم الخيانة في النسيان. وقيل هو الكوبرا التي ظلّلت النبيَّ الأمير، ولمّا نجا أحبّت أن تُهدي قوامها للنساء. وقيل هو المتخّلع الأنيق الذي لن يتوب ما دامت الأمطار المسحورة تتكوّر كشحاً يعوي. وقيل هو الواقف تحت الشمس الناغرة شاخصاً في يوم القيامة. وقيل هو اليتيم الذي قدَّ أضلاعَه كَمَنجةً مذبوحةً تحت شبابيك الياسمين. وقيل هو ما وجدوه في قعر الكأس المقدسة في ذلك الكهف المغلق منذ الخليقة، فاختلفوا على ما فيه، فمنهم من رآه سُلافة، ومنه مَن تبيّنه ندى السماء الأول، ومنهم مَن قال: هذا عَرَق الروح، وآخرُهم قال: هذا دمع الشهوة أو الاختلاج أو الحنين إلى كل شيء. وما زالوا يجهلونه، أو يتجاهلون شخصه. غاب فلم يفطنوه! وعاد فلم يحتفوا به. واتهموه بكل الهنات والخروج. وحينما صاح قالوا: هذا صوتنا المنهوب. وعندما صمت فَرَدوا له النطع الواسع. ولمّا سافر جرّدوه من حبق أُمّه البعيد. وحَضَر، فلم يحضروا، كانوا يُعدّون له المشنقة. طلع من لَحده الضيّق ـ كان مغشيّاً عليه من ريح حامضهم النافث ـ فوجدهم يدُبّجون له مديحَ الغياب. وعندما أيقنوا أنه حيٌّ وله عُمرُ نوح، احتشدت صدورُهم وانفجرت، وماتوا غيظاً. وظلّت المشنقة تتأرجح دون جسدٍ يتدلّى، غيرَ أني أرى مجموعةً جديدةً تهتف لغريبٍ جديد، وكانوا فرحين، فقد تأكدوا أنَّ غايتَهم حاضرة. ومحمود درويش أسطورة الناس، التي اتفقوا على أن قوامه يحتمل أثقالهم وهواجسهم ورغباتهم، فوضع كل فلسطيني وعربي شيئاً من نفسه في محمود، وأصبح محمود مِلْكاً لكل الناس الطيبين، الذين استجاب لهم، وتماهى معهم، وأصبح وجدانهم وكلام روحهم، وأفتُتِنوا بمخلوقهم، وأصبح نجمهم الذي يسعون إليه، ويتلقفون قصائده، ويحفظونها عن ظهر قلب، ما يفسر تلك الجماهيرية والإقبال، منقطع النظير، على أمسياته وقراءاته وكتبه. ولهذا، فإن كل عربي وإنساني، يحس أنه خسر حصَّته في هذا العملاق الفذّ، وانهدم جزء من رمزه الذي كان يفتخر به ويباهي. في السجن، كنّا نصدقه، ونردد بحناجر الفولاذ أشعاره، وأغاني مارسيل التي نشرته أُفقاً نارياً، يهدم الجدران ويُصدّع الزنازين، ويُصيب حراس المعتقل بالذعر والهلع، حتى يقفون وراء مدافع الغاز المسيلة للعار، ورشاشاتهم العمياء، ليواجهوا ذلك الصوت الجماعي المزلزل.. وإن قصائده محفورةٌ بالأظافر والدماء، على تلك الجدران، التي لم تكن عائقاً أمام مشاوير الروح، السارحه بعيداً مع اليمام، والعائدة مع الشمس في الليل. ويبقى محمود وطننا الشعري، الذي جعل فلسطين جرساً في قلوبنا، ترنّ على الشفاه وفي الكفوف، وفي الأفاق، ويظل محمود الاسم الذي نفرح به فرحاً تاريخياً، ونزهو بأننا عرفناه! ومحمود المتفّرد يكون اليوم قد أكمل زينته ورحل، لكننا ما زلنا في بيوت العزاء، أو نقف أسراباً على حواجز الجنود، أو في السجون، أو في المعازل أو المخيمات.. ولم نمتلك أسباب الزينة لكننا نمتلك قصيدة جاءت من السماء. درويش مثل المعابد والعواصف والبحار لا يموت، ومثل الموسيقى والصلاة وأبناء الانبياء الذين يظلّون في فضاء الأيام وساعاتها.
لم يمت تماما... كان ذلك مجازاً، أو مقاربةً لحدث الموت المكرور، الذي فَقَدَ دهشته، وأراد أن يستعيد مهابته، فضربَ أكثرنا مناعةً وحصانةً، ليثبت أن الغياب الناقص لا يكتمل إلا بهذا الحيّ العظيم.
يا وحدنا! يا وردة الكونِ الكبرى، التي سقطت، دونما إنذار، كأنها أختُطفت على حين غرّة! سيفتقد العاشقون وسائدهم المعبأة بالسحاب، ولن يرى بعدك الثائرون الحمامَ يطير على أسلاك الحرير.
بلغنا الجُلجلة، وانطفأت الجذوة على سرير القلب المخذول بأهله، الذين ألقوا أحلامه تحت سواطيرهم العمياء، ولم يحتمل هذا السقوط والاقتتال.. فسَقط، وراح قتيلاً آخر للخيبة، وعلى طريقته الأسطورية، احتجاجاً، غير مباشر، على حياة أَعدمَت ما اجترحه من عوالم، اعتقد أن فيها ما يستحق الحياة، وليس فيها كل هذه الرداءة والنكوص والانهيار.
ومن حقّ الجليل أن يحتضن زيتونته وغزاله المكحّل المزيون، وأن يحنو الكرملُ على مُنْشده الأجمل، وأن يحمله على جناح النوارس إلى البحر، كما حمله إلى الدنيا، بسنديانه وثياب أمهاته، وجدائل بنات المدارس، وطرقاته الوعرة الصغيرة، وبيوت الذئاب التي رحلت خوفاً من الجيش. ومن حقنا أن نندب، لأوّل مرّة، كما ينبغي، تعبيراً عن هذا الغياب الغولي الهائل. إننا ناقصون إلى حدّ الفراغ! ولم يعد ثمة مَنْ يرمّم صورتنا، ويواجه بأناقة حضارية، تلك الصورة النمطية المكرورة والممجوجة. إن قصيدة منه خير من الف مدفع ومارش!
محمود مغنّي فلسطين الأمهر، وخالق الأبجدية الجديدة لشعر الأرض والمقاومة والانسانية، وهو الغابة التي لا حدّ لها، والتي يمور على ترابها الساخن الوثير كل الاشجار الواقفة، المغسولة بالمطر العنيف، ورذاذ الزلازل، وينبع في باطنها صغار البراكين، والخرافات، والأصوات المتداخلة، والصدى الوديع والمخيف. ومهما بلغت نيران الموت في هذه الغابة، فإنها قادرة على هضم ألسنتها وتحويلها إلى ضوء فتيّ باهر، يهزم الموت، ويردّ العدم والخوف على أعقابه.
لم يرتبط درويش بفلسطين القضية، إرتباطاً عشائرياً، بقدر ما أسس لانتماء إنساني أكثر عمقاً ونفاذاً، جعل غير الفلسطيني يجد نفسه ملتصقاً بهذه القضية.
يقول أشياءنا كأنه تسلل إلى دواخلنا، والتقط تلك الماسة الزاهرة كالجمرة، وراح ينتظمها في عقد يقلّده صدر الوطن. أما البلاد التي كان يحلم فيها، فإنها ستستيقظ في مقبل الأيام دون ابنها المُعجز، الذي فاض، حتى طفقت الدنيا تلحق بكلام رسولٍ لم يهبط له الوحي، بل خلق هو رسالته وبُراقه وعصاه السحرية وطريق آلامه وتاجه الثمين.
عندما يسقط الشاعر ميْتاً يصيح: لقد اكتملت! فيحيطونه من كل صَوْبٍ وجهة، ويرون ملء أعينهم أن الظلام، ومهما كان مُسلّحاً وشديداً، فإن القصائد تقف له بالمرصاد. مثلما تُذكّر الواقفين المحيطين به، بأن استدراكهم، للاحتفاء به، قد تأخّر كثيراً، وكان ينبغي أن يقفوا تحت شجرته الكونية، وينتبهوا إلى تلك التي نبتت، بعيداً عن مائهم، من بذرة روحه الحمراء. والآن، ها هم يشربون عصارتها ليعيشوا إلى الأبد. فالشاعر شجرة الحياة التي تُبقي الآخرين خالدين، وإنْ رحل جسده.
محمود الرائي المتعدد الذي يحفر في الأرض الحرام، هو نفسه الناقد الذي وجّه رمحه المتوتر إلى قلب الدريئة، التي تخفي وراءها الفساد والخراب والحروب الأهلية والوجوه الوثنية. ودرويش هذا الحوت الجبلي، وابن الحورية التي أخرجته من ثياب البحر والسنديان، ظل كائناً غير عادي، قد أدركه مَسّ من السماء، فصارت له هذه القدرة غير المعهودة في خلق الكلام المباغت والماتع والمثير، وربما يكون كلاماً يفوق المتوقَع من بني الانسان.ولعل قصيدة درويش تمتلك أن تمنح المتلقي غير مفتاح ومدرج، يولج معه هؤلاء القراء، ليمنح كل منهم ما يريد من النص ذاته، فيشرب الفيلسوف تلك الحكمة المختبئة، وينهل البسيط من أقواس قزحها اللونَ والغيوم.
والخسارة تكمن في أننا سنفتقد الجديد المُدهش، الذي يُطالعنا كسيف الملحمة المُعافى والجليل. فالشاعر لا يموت، فهو هنا بكامل سخريته وكهربائه وحدّته وعطْفه وغنائه، وأسراب خيوله البريّة، وذهب لغته النابضة الحيوية البِكْر، إنه هنا بمعجزته البسيطة المذهلة، وستنسينا، بقوتها وسطوعها، رغماً عنّا، رحيل جسده.. لا غير!
جاء درويش من لغته، التي خلقها، وتبادل معها دور الخالق والمخلوق، أو الصياد والطريدة، وراح يعلّمها لنا، بكل ما فيها من أساور ومناديل وشِباك وشبابيك، تطفح بالجمال والمعرفة والغناء المتعدّد الدرجات والمتداخل. وكان يطلّ علينا كالعرّاف المتبصّر، الذي جمع أُمّة الضاد، بسِحر حساسية أداته الفنية، وبمياه الفكرة التي عملت على وضع كل مستمعيه في بحيرة واحدة، يغسلهم فيها، ويرويهم من مائها، فيخرجون، وقد توحّد فيهم نوره الوهّاج، ما خلق حالة جماعية تمتد من الماء إلى الماء.
لقد شهد محمود درويش موته ورآه، وأقام جدارية عنيدة لتصدّ خفافيشه الغامضة، وانتصر درويش على الموت، بأن مكّنه من جسده، لكن الموت لن يبلغ ذرى كلامه البعيد.
كانت القلّة، من المثقفين الحقيقيين يغبطونه على رفْعته واختلافه، وكانت الكثرة المخاتلة التي تدّعي الإبتكار، وتطحنها عُقد النقص والصَغَار تحسده، وكان ثمة متّسع، في ظلّه، لهؤلاء المساكين، الذين يحسدونه، حتى على موته، وعلى هذا الكرنفال والوفاء البديع من الناس، الذين لا يعرفون آليات التعويض والنمائم الصغيرة وحركات الطواويس.
ربما نسهو ونسير إلى مكتبه، أو نطلب رقم هاتفه، فتجيبنا الآلة أن صاحب هذا الرقم قد مات! فيفور الحزن طازجاً من جديد.
اليوم، أمسى الشِعر يتيماً! رغم أن ربّه أخرجه من التابوت، وسقاه من ريق قلبه، فتعالى! ولم يعرف ناقد أن ثمة نقصاً في بيت هذا الجنيّ الساحر، فهو كالرمّانة المكتملة، وصار ثاني اثنين، المتنبي ودرويش، عبر مفازات القرون والأزمان، فأصبح الزمن القادم يتيماً هو الآخر، وأرجو ألاّ يطول يُتْمه! وفلسطين، أيضاً، يتيمة جداً، فلم يعد لها أسماء ورموز، بعد أن عرفها العَالم من خلال اسمين كبيرين هما ياسر عرفات ومحمود درويش.
ويظل شعر محمود درويش وثيقتنا الوطنية والسسيولوجية والنضالية والإنسانية أيضاً، ويستطيع أي باحث أن يجد في هذه الوثيقة تاريخنا الذي أصّله الشاعر بحروف تليق بالخلود.إن هذا العملاق المنذور للأزرق، هو نفسه الذي جعل قصيدته، غير العمودية، والتي لم تسقط في المباشرة والمجانية والخطابية الفجة، قادرة على أن تكون أغنية وشِعاراً ونشيداً يشحذ المواطن، الذي يدفعه ذلك الغناء العالي، إلى أن يهجم على عين البندقية، محمولاً على إيمان عميق، يرنّق مداركه ووجدانه، ويملأ عقله وقلبه، ويظل مصدّقاً ومعتقداً بأن ذلك النشيد الموقّع والمطهم بالأرض والثورة والحرية، هو وثيقة النصر والخلاص، التي يجب أن يمهرها بدمه.
أعطى درويش للمقاومة معنى أكثر اتساعاً من القتال، ليصل المفهوم إلى الإنحياز إلى الجمال والحق والخير والعدل، في مواجهة البشاعة والاستغلال والاحتلال... ومحمود الذي شكّل الذائقة والسقف الجمالي، وصار صاحب أكبر مدرسة في آخر نصف قرن، حتى أكاد أقول: إن الشعر الفلسطيني، خاصة، والعربي بشكل عام، مع استثناءات ونتوءات مضيئة بادية ومختلفة، هو قصيدة واحدة متنوعة تنتمي إلى مدرسة هذا الشاعر، الذي كتب دراما الروح الجماعية، فيما كتب معظم الآخرين دراما الحدث!
عندما كان بيننا كنا نقول: هذا هو الخارج من جلسة قلبه.. المتوحّد بعيداً وسط الحضور! يبدو آدمياً، ويتراءى للناس كأنه متعالياً! تراه خاشعاً على مشهدٍ من أناييسِ المعبدِ وعاموده! وتلحظه يحفرُ فقحةَ الزهرة الصغيرة، أو تلمحّه تمثالاً راكعاً متأملاً في أُمّهِ التراب. كأنّه امرأة تلفُّ أيديها حولَ عُشّاقها الفتيان، وتسحب شرايينهم بأيديها الكثيرة، ثم ملّت اللعبة فتجمّدت إلهةً صامته. وقيلَ هو الذي سرقَ النارَ، وَلاكَ الطيرُ كبدَه. وقيل هو الحلمُ الكبير الذي ندور في فلكه، غيرَ أن رأسَه المُتعبة ستلقينا مثل ندم الخيانة في النسيان. وقيل هو الكوبرا التي ظلّلت النبيَّ الأمير، ولمّا نجا أحبّت أن تُهدي قوامها للنساء.
وقيل هو المتخّلع الأنيق الذي لن يتوب ما دامت الأمطار المسحورة تتكوّر كشحاً يعوي. وقيل هو الواقف تحت الشمس الناغرة شاخصاً في يوم القيامة. وقيل هو اليتيم الذي قدَّ أضلاعَه كَمَنجةً مذبوحةً تحت شبابيك الياسمين. وقيل هو ما وجدوه في قعر الكأس المقدسة في ذلك الكهف المغلق منذ الخليقة، فاختلفوا على ما فيه، فمنهم من رآه سُلافة، ومنه مَن تبيّنه ندى السماء الأول، ومنهم مَن قال: هذا عَرَق الروح، وآخرُهم قال: هذا دمع الشهوة أو الاختلاج أو الحنين إلى كل شيء. وما زالوا يجهلونه، أو يتجاهلون شخصه.
غاب فلم يفطنوه! وعاد فلم يحتفوا به. واتهموه بكل الهنات والخروج. وحينما صاح قالوا: هذا صوتنا المنهوب. وعندما صمت فَرَدوا له النطع الواسع. ولمّا سافر جرّدوه من حبق أُمّه البعيد. وحَضَر، فلم يحضروا، كانوا يُعدّون له المشنقة. طلع من لَحده الضيّق ـ كان مغشيّاً عليه من ريح حامضهم النافث ـ فوجدهم يدُبّجون له مديحَ الغياب. وعندما أيقنوا أنه حيٌّ وله عُمرُ نوح، احتشدت صدورُهم وانفجرت، وماتوا غيظاً. وظلّت المشنقة تتأرجح دون جسدٍ يتدلّى، غيرَ أني أرى مجموعةً جديدةً تهتف لغريبٍ جديد، وكانوا فرحين، فقد تأكدوا أنَّ غايتَهم حاضرة.
ومحمود درويش أسطورة الناس، التي اتفقوا على أن قوامه يحتمل أثقالهم وهواجسهم ورغباتهم، فوضع كل فلسطيني وعربي شيئاً من نفسه في محمود، وأصبح محمود مِلْكاً لكل الناس الطيبين، الذين استجاب لهم، وتماهى معهم، وأصبح وجدانهم وكلام روحهم، وأفتُتِنوا بمخلوقهم، وأصبح نجمهم الذي يسعون إليه، ويتلقفون قصائده، ويحفظونها عن ظهر قلب، ما يفسر تلك الجماهيرية والإقبال، منقطع النظير، على أمسياته وقراءاته وكتبه. ولهذا، فإن كل عربي وإنساني، يحس أنه خسر حصَّته في هذا العملاق الفذّ، وانهدم جزء من رمزه الذي كان يفتخر به ويباهي.
في السجن، كنّا نصدقه، ونردد بحناجر الفولاذ أشعاره، وأغاني مارسيل التي نشرته أُفقاً نارياً، يهدم الجدران ويُصدّع الزنازين، ويُصيب حراس المعتقل بالذعر والهلع، حتى يقفون وراء مدافع الغاز المسيلة للعار، ورشاشاتهم العمياء، ليواجهوا ذلك الصوت الجماعي المزلزل.. وإن قصائده محفورةٌ بالأظافر والدماء، على تلك الجدران، التي لم تكن عائقاً أمام مشاوير الروح، السارحه بعيداً مع اليمام، والعائدة مع الشمس في الليل.
ويبقى محمود وطننا الشعري، الذي جعل فلسطين جرساً في قلوبنا، ترنّ على الشفاه وفي الكفوف، وفي الأفاق، ويظل محمود الاسم الذي نفرح به فرحاً تاريخياً، ونزهو بأننا عرفناه! ومحمود المتفّرد يكون اليوم قد أكمل زينته ورحل، لكننا ما زلنا في بيوت العزاء، أو نقف أسراباً على حواجز الجنود، أو في السجون، أو في المعازل أو المخيمات.. ولم نمتلك أسباب الزينة لكننا نمتلك قصيدة جاءت من السماء. درويش مثل المعابد والعواصف والبحار لا يموت، ومثل الموسيقى والصلاة وأبناء الانبياء الذين يظلّون في فضاء الأيام وساعاتها.