احتضنت مدينة الرباط، حفل تسليم جائزة "أركانة" العالمية للشعر والتي يمنحها كل سنة "بيت الشعر" في المغرب ومؤسسة صندوق الإيداع والتدبير بدعم من وزارة الثقافة المغربية. وفاز بجائزة هذه السنة الروائي والشاعر المغربي الطاهر بن جلون. وقد ألقى الكاتب والشاعر المغربي الطاهر بنجلون هذه الكلمة في حفل تسلمه جائزة الأركانة التي نظمها بيت الشعر في المغرب، يوم 13 دجنبر 2010 بمسرح محمد الخامس بالرباط.

الشعر، الحياة

الطاهر بن جلون

ترجمة عبد الرحمان طنكول

 

"لا قلبَ لطائرٍ كيْ يتغنّى في دغَلٍ من الأسئلة".

هكذا ينعتُ روني شار الشاعرَ المثقل بالانشغالات اليومية، المُنحدرَ من بلدٍ حيث الأسئلةُ مشاكل، حيث الشعر ليس موسيقى تصاحِبَ غروب الشمس، حيث الكاتب شاهدٌ يقظٌ ومسؤول.

كنّا نتمنّى أن نكتبَ تزجية ً للوقت، من أجل التغنّي بجماليات العالم، للاحتفاء بالزمن السعيد. لكنّ السعادة ليست في حاجة إلى الأدب. إنّ الحياة المُكتملة والمُنسجمة والمتوازنة ليست في حاجة إلى الشعر. إنّ مثلَ هذه الحياة هي مجرّد خيال. الحياة صِراع يقتضي كلّ يوم اِنقاذ روحنا وأحيانا جسدنا. الشاعرُ يعاندُ قصْـدَ تغيير العالم بكلماته وتغيير الناس بإرادته وأمنيته في الخير. غير أنّ الشعر لا يغيّر الإنسان والعالم فقط، بل يندِّد بهفوات الذات، يعمِّقها ويبرزها. صحيحٌ أنّ هناك أملا مهما وإلا لن يكتب أحد ٌ: الشاعر هو الذي يتكلم في حِضن الزمن. إنه في الزمن، مُختبئ كالقـنّاص في غابة غامضة. إنّه، كما يؤكّد ذلك ويليام فولكنر في روايته «أنا أحتضر» هو الذي يتحقّق من « وجع ويأس العظام التي تنفتح، الحبة الصلبة التي تُشدّ على الأحشاء المنتهكة للأحداث». إنّ الشعر هنا، في هذا الاقتضاء المطلق، لا يترك مكانا لأي شيء إلا لوجَع العالم الذي ينتشر كل يوم أكثر بين الناس الأكثر حاجة و الأكثر إهمالا. الرجال والنساء الذين ينامون كي يحتمون من الريح، من الغبار ومن احتقار أناس آخرين.

ينبعثُ الشعر من هذا الرماد الذي تنبت عليه، من غير توقع، الوردةُ التي تكذّب مخاوفـنا وانقباضاتنا.
لا يشكّل الشعر حِصارا ضِدَّ الفقر، لكنّه ذرّة الصمت التي تثبت الكرامة في جوهرها. إنّه يعكسُ في أعيننا جمال السماء، براءةَ نظرة الطفل الذي لا يطلب أيَّ شيء من العالم الذي يتجاهله. الشاعر يندّد، يصرخ، يهزّ الضمائر من غير أن يتمكّن من الانتصار.

أتذكّر حديثا مع الفقيد محمود درويش حول لاجدوى الشعر. فبفضلِ حياةٍ كلُّها شعر، كان بالإمكان أنْ نعتقدَ أن فلسطين ستحرر. لقد رحلَ مُتعبًا، منكسرا بسبب انعكاسات هذا التوهم. لكن في المقاومة وبالمقاومة يُشيّد الإنسانُ كرامته كإنسان، أي كشاعر.

في «المسكونون» يضع ألبير كامو على لسان ليبوتين ما يلي:" ينبغي أنْ نذهبَ إلى ماهو أكثر استعجالا، هو أولا أن يأكل الجميع. أما الكتب، الصالونات، المسارح فإلى ما بعد. إنّ فردتيْ حذاء أفضل من شكسبير". إنها طريقة فظة لطرح مشكل حقيقي. ماذا تساوي قصيدة، وماذا يساوي كتاب أمام رجل يموت جوعا؟ أمام شعب سُلبت أرضه؟ نسيته الهيئاتُ الدولية؟ ألقيَ به في المخيمات في انتظار عودة إلى البيت تبدو أكثر فأكثر وهمية؟ من البديهي أنّ الشعرَ لا يمنحُ الأكل ولا العدالة لشعب مُمزّق من قبل مستعمر طاغ . لكنْ عِند الاستعجال، يتوقّف الشعرُ ويتركُ المكانَ للفعلِ كيْ لا يأكل الإنسان فحسب، وإنما أيضا كيْ تُصانَ كرامتُه. إنَّ صيانة الكرامة هي نوعٌ من القصيدة.
الصراع من أجل الكرامة هو بامتياز فعلٌ شعري. إنه ليس أمرا تجريديا أو تخييليا. إنه واقعٌ لا يمكنُ دحضُه.
أنْ نجعلَ الحياة ترقص! أنْ نجعلها تغنّي في أنفسنا، في آمالنا والمطالبة بأن تكون عادلة، جميلة وكريمة. في هذا الموقف تَكمنُ القصيدة. إنّ الحياة هي الخلود الذي يلتحق بنا ويرغمنا على الدفاع عنها وإلى تجنيبها أوساخ الرداءة. لهذا فالشعر نادر. لا يقبلُ أيَّ ضعف ولا مُساومة. إنه مستقيمٌ وعنيد ولا يقبلُ التواطؤَ ولا اللـّغو. الشعرُ قاسٍ مثله مثل الرياضيات. الشعر من نفس الطبيعة: لا يساوم مع الحقيقة. صحيح، كما يلاحظ هرمان ملفيل « إن للحقيقة المعبّر عنها من غير تواطؤ حدوداً ممزقة». الأمر هو نفسه بالنسبة للشعر الذي يَسخر كثيرا من حدوده التي مزقها الشقاء الذي يعلو على النجوم التي تُغرينا.

الزمن هو الحراق الأكثر اندماجا بالنسبة للشعر. إنّ قوة القصيدة تكمُن في مقاومتها للزمن والتاريخ، لا شيءَ يتحرّك ولا شيءَ يضعف أو يشحُب.

فرجينيا وولف (1882-1941) التي لم تكنْ شاعرةً كتبت في «بيت جاكوب» : « أحب الجمل التي لا تتحرك حتى ولو مرت فوقها عدة جيوش. أحب أن تكون الكلمات من فولاذ. لهذا الشعر وحده سيبقى حينما ستنسى الإنسانية كل شيء».هذا ما نلاحظه اليوم: نستشهد بالشعراء وليس بالروائيين أو المؤرخين، نجعلُ منهم شهودا ونقول من بعدهم: « كما قال المتنبي، أحمد شوقي، شكسبير .. إلخ». وفي هذا المساء، وكما محمود، أنا أيضا أحـِنّ إلى خبز أمي. واسمحوا لي أن أذكّركم بهذه القصيدة التي كتبها الراحل محمود إلى أمه سنة 1996:  

إلـى أمّــي

محمود درويش

أحنُّ إلى خبزِ أمّي
وقهوةِ أمّي
ولمسةِ أمّي
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدرِ يومِ
وأعشقُ عمري لأنّي
إذا متُّ
أخجلُ من دمعِ أمّي

خذيني، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهُدبكْ
وغطّي عظامي بعشبِ
تعمّد من طُهرِ كعبكْ
وشدّي وثاقي..
بخصلةِ شَعر..
بخيطٍ يلوّحُ في ذيلِ ثوبكْ
عساني أصيرُ إلهاً
إلهاً أصير..
إذا ما لمستُ قرارةَ قلبكْ!

ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنّورِ ناركْ
وحبلِ الغسيلِ على سطحِ دارِكْ
لأني فقدتُ الوقوفَ
بدونِ صلاةِ نهارِكْ
هرِمتُ، فرُدّي نجومَ الطفولة
حتّى أُشارِكْ
صغارَ العصافيرِ
دربَ الرجوع..
لعشِّ انتظاركْ..