دخلت انتفاضة الحرية والكرامة في سورية أسبوعها الخامس. ولم يقدم الخطاب الثاني للرئيس، الذي كرر فيه وعود الخطاب الأول، أي إشارة إلى احتمال الخروج قريباً من الأزمة.
أما القرارات التي اتخذتها الحكومة في 19 الجاري بإلغاء حالة الطوارئ ومحاكم أمن الدولة فلم تلق صدى كبيراً عند شباب الاحتجاج، لأنها تمثل تسجيلاً لأمر وقع وانقضى.
فمظاهرات الشباب والشعب خلال شهر كامل كانت قد أسقطت بالتأكيد قانون الطوارئ وجعلته من دون مضمون، والضغط الاحتجاجي يمنع أكثر فأكثر السلطات من الاحتفاظ بالمعتقلين إلى الأبد أو تقديمهم لمحاكم أمن الدولة، كما أن قانون الإعلام الموعود سقط قبل أن يخرج إلى النور، لأن التقدم التقني في وسائط الإعلام أثبت أن احتكاره من قبل السلطات لم يعد ذا معنى.
العالم يتناقل جميعه أخبار وصور الثورة السورية بالرغم من إغلاق دمشق أمام المراسلين الأجانب جميعاً، وتحويل وسائل الإعلام السورية إلى أداة في الحرب المعلنة ضد الحركة الاجتماعية والشعبية. فالقرارات الجديدة تشبه عملة فقدت صلاحيتها أصلاً ولم يعد لها قيمة تذكر.
وثانياً لأن إعلان هذه القرارات ترافق بتهديدات من وزير الداخلية ووزير الخارجية وغيرهما للمحتجين بأن الحكومة لبّت مطالب الشعب، وأنها لن تسمح بعد الآن بالمظاهرات، وسوف تقضي عليها بالقوة، ما يعني بوضوح أن نية الحكومة ليست صافية بتاتاً، وأنها تستخدم قرارات فارغة من المضمون من أجل التسلح السياسي لضرب الحركة الشعبية لا غير.
وهذا ما حصل الأسبوع الماضي في حمص وغيرها من المدن، التي أرادت الحكومة أن تلقن من خلالها درساً لا ينساه الشعب عن العسف والعنف، مع التهديد باتهام المحتجين باستخدام السلاح وقتل ضباط من الجيش، والتهويل بوجود حركة سلفية مسلحة تريد أن تقيم في حمص إمارة طالبانية. وكان حرياً بالحكومة والأمر كذلك أن لا تلغي حالة الطوارئ بل أن تعلنها من جديد إذا كانت الحالة بهذه الخطورة.
كل هذه السياسات عمقت شك الشعب في نيّة الإصلاح عند الحكومة، ودفعته إلى التصعيد ضدها باعتبارها لا تزال تتهمه بالتآمر، وترفض الاعتراف بشرعية المظاهرات، وكف يد الأمن ووقف استخدام الرصاص الحيّ ضد المتظاهرين.
فكيف تستقيم النية الإصلاحية مع استمرار المجازر الجماعية والاعتقال والاختطاف للناشطين واستخدام الشبّيحة وغيرهم من التشكيلات الأمنية لترويع الناشطين وإخماد ثورتهم، في الوقت الذي لا تزال فيه السلطة محتكرة كلياً من قبل الحزب الحاكم، ولم تصدر أي بادرة تشير إلى احتمال قبول السلطة بمبدأ العودة إلى الشرعية الدستورية والديمقراطية وبدء خطوات عملية للتعبير عن اعترافها بحق الشعب في المشاركة وتداول السلطة.
هكذا لا يزال خط الثورة في تصاعد مستمر، سواء على مستوى الشعارات التي تحولت من المناداة بالإصلاح إلى المناداة بالحرية إلى المناداة العلنية اليوم بإسقاط النظام، أو على مستوى اتساع دائرة القطاعات الشعبية المساهمة فيها والمؤيدة لها.
فبعد أن اقتصرت دائرتها في 15 آذار على عشرات المشاركين، تحولت بعد حادثة أطفال درعا الخمسة عشر إلى انتفاضة كبرى، وتوسعت دائرتها اليوم لتشمل الأراضي السورية بأكملها، كما زاد عدد المشاركين فيها ليصل مئات الآلاف في الجمعة التي أطلق عليها جمعة الصمود التي وضعت الانتفاضة على سكة الانتفاضات العربية الكبرى، في حجم المشاركين فيها وقوة تصميمهم، وصار من الصعب اليوم توقع همود بركانها قبل أن تحقق أهدافها التي لا تختلف من حيث الجوهر عن الأهداف التي رفعتها وترفعها جميع انتفاضات الحرية والكرامة العربية.
ما حدث حتى الآن في سوريا شيء كبير وخطير، يتجاوز بكثير ما حدث في الأقطار العربية الأخرى. ذلك أن النظام القائم في سوريا يتميز عن النظم العربية الأخرى، في تونس ومصر واليمن والبحرين وغيرها، بغياب أي حياة سياسية في البلاد، مهما كان ضيق هامشها.
فالبلاد لا تقاد سياسياً، بل تديرها مجموعة من الأجهزة الأمنية، ولا يمثل حزب البعث الحاكم سوى غلالة رقيقة هدفها التغطية على غياب السياسية والحقل السياسي تماماً، وتبرير حكم الأجهزة وسيطرتها الشاملة، بما في ذلك داخل الحزب الحاكم وداخل الجيش وداخل الإدارة وداخل الحكومة نفسها.
فلا يمكن القيام بأي أمر، قولاً أو عملاً، مهما كان محدود الأهمية، دون أن يمرّ بالأجهزة الأمنية وينال رضاها وموافقتها.
ويخضع الشعب السوري منذ عام 1963 لحالة الطوارئ التي تكرس الاستباحة الكاملة لحقوق الشعب من قبل الأجهزة، وتشرّع لمعاقبة أي قول أو سلوك أو نشاط لا ترضى عنه الأجهزة الأمنية، ولا يصب في هدف تعزيز سلطتها وتأكيد سيادتها على الشعب والبلاد.
وكان الضرب والأذى الجسدي من الأمور اليومية أما الشتائم المذلة فقد أصبحت عملة التداول اليومية داخل الدوائر الرسمية حتى من قبل أعضاء الإدارة من غير جهاز الأمن.
وتحولت الإهانة المعممة في الواقع إلى تقنية سلطوية هدفها بناء العلاقة بين أصحاب السلطة وأبناء الشعب كعلاقة سيد بعبد، وقادر بعاجز، ونبيل بصعلوك، مهما كان وضع الفرد ومكانته الاجتماعية والعلمية.
لكن الحادثة الأهم للإهانة، التي أطلقت شرارة الانتفاضة السورية، والثورة العارمة في منطقة حوران بجنوب سوريا التي تعد اليوم منطقة محررة كلياً من سلطة البعث ورموزه، تتلخص في اعتقال الأمن لخمسة عشر طفلاً سورياً بين سن العاشرة والرابعة عشرة، بسبب كتابة بعضهم شعارات تبشر بسقوط النظام.
وقد تعرض الأطفال للتعذيب وقلعت أظافر أحدهم ومنعت أسرهم من زيارتهم، وعندما ذهبوا بوفد لمقابلة محافظ درعا، شتمهم جميعاً وأخبرهم أن عليهم أن ينسوا أولادهم، وأن يرجعوا ليناموا مع نسائهم لإنجاب بديل لهم لأنهم لن يروهم أبداً.
كان خروج السوريين إلى الشوارع لتحدي سلطة من هذا النوع معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس بسبب الخوف، بل الرعب الذي عشش في الصدور، ولا بسبب الحضور الأمني والعسكري الكثيف والدائم والشامل في كل شبر، خاصة في المدن الرئيسية. ولكن، أكثر من ذلك، بسبب الشعور العميق الذي ترسخ في قلب كل سوري بالعجز والغلبة على الأمر وعدم القدرة على فعل شيء تجاه نظام جبار، ورجال أمن وحكم عتاة لا يتورّعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل نزع ثقة الشعب بنفسه، وتشكيكه حتى بقدراته العقلية، ودفعه إلى الشك في ذاته وأهليته وإنسانيته.
علينا أن نعرف ونسجل للتاريخ أيضاً أن هؤلاء الذين خرجوا في الأيام الأولى من الانتفاضة، وكانوا بالمئات فقط، خرجوا كشهداء، ولم يخرجوا كمتظاهرين. وبقي هذا الشعور قوياً عند الشباب الذين أتيح لي التواصل معهم، حتى جمعة الصمود العظيمة التي تحولت فيها المظاهرات إلى مسيرات بعشرات الألوف، وصار من غير الممكن القضاء عليها من دون المغامرة بمجزرة كارثية لا يمكن نظاماً تحمل نتائجها.
وفي الساعات الأولى لجمعة الصمود هذه (22/4) كتب لي شاب من الدير على الفايسبوك يقول سنخرج اليوم في مسيرة حاشدة وستكون أكبر من كل سابقاتها. وكانت السلطات قد أغلقت في الأيام الثلاثة السابقة مدينة بانياس الساحلية، وقطعت عنها الاتصالات والكهرباء والماء، وارتكبت فيها مجازر، وشنت حملة تطهير سياسي بالمعنى الحرفي للكلمة.. فأردت طمأنة الشاب الذي بدا لي مصمماً على الخروج، فكتبت: لا تخف انتهى درس الترويع. فرد علي في الحال: أستاذي أنا أنقل لك الخبر فحسب، أنا لست خائفاً أبداً، أنا لا أخرج من أجل أن أعود، أنا خارج شهيداً.
لذلك لا أعتقد أن من الممكن لثورة الكرامة والحرية أن تتوقف في سوريا قبل أن تقطع الذراع التي تسببت في هذا الكم الأسطوري من الإهانة والإذلال الذي تعرض له أبناء الشعب السوري النبيل والمسالم، أعني أجهزة الرقابة والعقاب والتنكيل الثلاثة عشر، والمليشيات والسجون المرتبطة بها، التي تسمى فروع الأمن، ولا وظيفة لها سوى حرمان الأفراد من أي أمان، وتقديمهم عراة، خارج أي حماية قانونية أو سياسية، لوحوش مافيات السلطة والمال الضارية.