نحو دستور ثقافي مصري

من: أحمد اسماعيل، حمدي الجزار، رفعت سلام وعز الدين نجيب

مبادرة ثقافية:

أحمد إسماعيل (مخرج مسرحي)، حمدي الجزار (قاص وروائي)، رفعت سلام (شاعر)، عز الدين نجيب (فنان وناقد تشكيلي).

إزاء المتغيرات المتلاطمة في أعقاب ثورة يناير، وصعود جميع التيارات السياسية والفكرية إلى سطح الحياة المصرية، قومية وماركسية، إخوانية وسلفية، جهادية وليبرالية، وكل منها يرفع شعاراته "المطلقة" المتضاربة، دون التقاء على حدٍّ أدنى مشترك، كان لابد للمثقفين أن يقدموا إسهامهم في التأسيس المضيء لمستقبل الوطن، دون انحياز مسبق إلى أيٍّ من هذه التيارات.

وقد رأينا أن هذا الإسهام يتمثل في ضرورة صياغة "دستور ثقافي"، يؤصل الأصول، ويضع حجر الأساس لرؤية مشتركة تتعلق بالثوابت الثقافية، المؤسِّسة لحرية الوعي والثقافة والإبداع، بلا قمع أو أسلاك شائكة؛ بلا وصاية أو تحجُّر أو استلاب؛ وخاصةً في ضوء حقيقتين موضوعيتين:

1. ما شهدته الحياة الثقافية المصرية طوال السنوات الثلاثين الأخيرة، فيما قبل الثورة، من ممارسات ترقى- في بعض الحالات- إلى مستوى "الجرائم"، من قِبل مسئولين بأجهزة الدولة الثقافية، والتواطؤ عليها- أو تبريرها والدفاع عنها- من قِبل "مثقفين" منتفعين من استمرارية وجود المسئولين "المجرمين" على كراسي السلطة.

2. ما تشهده الحياة المصرية منذ قيام الثورة من صعود تيارات سياسية وفكرية تتبنى أطروحات "ظلامية" قمعية، مضادة لحرية الثقافة والعقل والإبداع، بل لحرية الإنسان ككل، وما عرفته الحياة الثقافية المصرية- فيما قبل الثورة- من أوضاع وقواعد منافية لأبسط الحريات الثقافية والإبداعية.

وذلك ما يلقي على كاهل المثقفين المستنيرين- من كافة التيارات والفصائل الفكرية والثقافية- مسئولية التنادي لاتخاذ موقف، وتأسيس "دستور" ثقافي يحافظ- في الحد الأدنى- على أهداف الثورة، في بعدها الثقافي، ويواجه ما تراكم- في السنوات السابقة- من "تقاليد" فاسدة قمعية، ويفتح آفاقًا كانت موصدة بفعل قمع النظام السابق، ويعيد صياغة حركة الثقافة والمثقفين، بعد أن اختلط الحابل بالنابل في المفاهيم والأفكار والممارسات الثقافية.

إنه "دستور ثقافي"- بعد التوافق عليه في صيغته النهائية- لا يمثل أحدًا بعينه، شخصًا كان أم تيارًا ثقافيًّا، لكنه يمثل المشترك العام بين المثقفين المهمومين بمستقبل هذا الوطن وهذا الشعب، كإطار للحراك الثقافي للأطراف الفاعلة: السلطة، المثقفين، المؤسسات المختلفة؛ وكميثاق شرف فكري، نطمح إلى أن تتبناه الجماعه الثقافية المصرية، وأن يسعى المثقفون إلى إدراج مبادئه الأساسية ضمن مواد دستور البلاد القادم.

الباب الأول: في الهويَّـة

1. الهوية هي الجامع المشترك- على صعيد الوعي والشعور- بين المنتمين إلى الوطن.

2. الهوية المصرية مركبةٌ، متعددة الأبعاد والوجوه والطبقات المتداخلة؛ وليست أحادية، أو مسطحة، أو ذات بُعد واحد.

3. الحضارات المصرية القديمة، والقبطية، والعربية، والإسلامية، ومكتسبات الثقافات العالمية التي ترسخت في صميم الثقافة الوطنية، هي المكونات الأساسية للهوية المصرية؛ فيما تمتلك "العربية/الإسلامية" مكانةً خاصةً في قلب الهوية المصرية.

4. يبدأ تشكيل الهوية ببداية الحضور المصري في التاريخ، وتتواصل عملية التشكل وتفاعل المكونات الداخلية والعناصر الخارجية، على امتداد القرون حتى الآن.

5. وهي هوية منفتحة على التفاعل الذاتي بين مكوناتها العميقة، والتفاعل مع الآخر، بلا انغلاق عنصري، ولا تبعية متخاذلة.

6. هذه التعددية في التكوين، وفي الأعماق الحضارية، تمثل ثراءً أقصى للهوية والشخصية المصرية، يؤسس لمكانة "المصري" في التاريخ.

7. لا يمكن تاريخيا أو موضوعيا أو إنسانيا- لأغراض سياسية أو عقائدية- اختصار "الهوية" المصرية في أحد أبعادها أو مكوناتها، وإلغاء- أو تهميش- بقية الأبعاد والمكونات. لا يمكن إفقارها أو تقليصها- بالإرادة الذاتية لهذا الطرف أو ذاك- لتصبح على "المقاس" المطلوب.

8. تمثل عملية "الاختصار" أو "الإلغاء" أو "التهميش"- إن تحققت، في الوعي أو الواقع- ابتسارًا وتخريبًا للهوية والوحدة الوطنية المصرية، وتناقضًا- في نفس الوقت- مع الواقع التاريخي الموضوعي. هي تفتيتٌ يؤدي إلى تناحر مفتعل بين المكونات الحضارية، وتجزيئ للوحدة العامة المنسجمة للشعب المصري.

9. إن محاولة فرض هوية ذات بُعد واحد، أو فرض نقطة بدء لهذه الهوية تتناقض مع التاريخ الموضوعي للوجود المصري، وإلغاء بقية الأبعاد والحلقات الحضارية الأخرى، السابقة واللاحقة، هي نوعٌ من تأميم الهوية والتاريخ المصريين لصالح رؤية متعصبة؛ وهو افتئاتٌ على الواقع التاريخي الموضوعي.

10. إن الاعتراف بوحدة مكونات وعناصر الهوية المصرية، وتفاعلها الداخلي بلا تمايز، هو مقدمة جوهرية، لازمة للتعايش الآمن، المتكافئ، على الأقل، بلا إقصاء أو نزعات تعصبية. هو مقدمة جوهرية للتصالح مع الذات متعددة الأبعاد والعناصر والمكونات. وهو مقدمة جوهرية لإبداع الحياة المصرية المشتركة للجميع، على قدم المساواة، بالفعل لا بالقول.

الباب الثاني: في الحريـة

1. الحرية هي الأصل.

2. ضرورة الحرية هي ضرورة الوجود ذاته؛ فلا وجود بلا حرية.

3. إن نهوض وتقدم المجتمع، بقطاعاته المختلفة، مرهون- أولاً- بتحرير العقل والتفكير، وبالممارسة الثقافية المتحررة من أية ضغوط أو تهديدات، من أي نوع.

4. لابد من ضمان الحرية الكاملة، المسئولة، للفكر والاعتقاد، وحرية ممارستهما بكافة الأشكال، في كافة المواثيق الدستورية والقانونية، وإلغاء ما يتناقض معها أو ينتقص منها، أو يرهنها بالتزامات مقيدة.

5. لابد من ضمان حرية التفكير والإبداع والتعبير والنشر، بكافة أشكاله، بلا ضغوط، أو إكراهات، أو مصادرة، أو وصاية، من أي طرف، سواء كان حكوميًّا أو أهليًّا، تحت أية دعوى.

6. الحارس للحرية هو المسئولية النابعة من ضمير المثقف، واختيار المتلقي.

7. أي اعتداء، مادي أو معنوي، على تلك الحريات، أو التحريض عليها بأي شكل، من أية جهة أو طرف، اعتباري أو طبيعي، هو جريمة لابد من معاقبة مرتكبها.

8. إن الرقابة على الإنتاج الثقافي- تحت أية ذريعة أو دعوى- أداةٌ من أدوات القمع وتكبيل الحرية، وفرضٌ للوصاية على المبدعين الثقافيين. ولابد من تطهير القوانين والحياة الثقافية من كل النصوص والأعراف المقيدة للحرية الثقافية، وإلغاء ما تبقى من أشكال وهيئات رقابية في المجال الثقافي.

9. إن الخوف من تبعات الحرية يؤدي بالضرورة إلى الرضاء بالقمع، بل إلى المطالبة به. والخوف من تحمل مسئوليات الحرية يفضي- بالوعي أو اللاوعي- إلى الرضوخ الطوعي للقيود والموانع المفروضة من السلطات المختلفة.

10. إن ارتكاب أخطاء متفاوتة، هنا أو هناك، خلال الممارسة، لا ينبغي أن يؤدي إلى "هجاء" الحرية، أو النكوص عنها، بل إلى تصحيح الممارسات، بصورة ثقافية.

11. كما أن المتضرر من ممارسة ثقافيةٍ ما- من أية جهة أو طرف- له الحق الكامل في المعارضة والتفنيد الثقافيين، دون اللجوء إلى الممارسات التي كانت سائدة في ظل النظام السابق (التخوين، التكفير، التحريض على استخدام العنف، إلخ).

الباب الثالث: دور المثقف 

1. المثقف هو الضمير الحقيقي والحي للشعب.

2. الأصل في المثقف: فاعليته، ودوره في النهوض بالمجتمع وتقدمه.

3. مسئولية المثقف تكمن في النهوض بالوعي العام، من خلال موقفه النقدي من جميع التيارات المختلفة بالمجتمع، ومناهضته الثقافية لجميع أطروحات وممارسات التعصب والتخلف والظلامية والفساد والقمع.

4. مسئولية المثقف تكمن في فضحه لكافة أشكال الزيف والخديعة، وأشكال استلاب العقل الجمعي والتلاعب به، والأشكال التبريرية لفرض العمَى العام.

5. مسئولية المثقف تكمن في فتحه لآفاق في الرؤية تتجاوز الراهن، إلى مستقبل مضيء، وتقصي تلك الآفاق واكتشاف مجاهيلها.

6. إن استقلالية المثقف- في الرؤية والتوجه والممارسة الثقافية- هي حجز الزاوية في أدائه لدوره النقدي.

7. هو دورٌ ينطوي- في بعض وجوهه- على مراقبة توجهات وممارسات المؤسسات الثقافية المختلفة، وترشيدها وتصويبها، من خلال كشف وإعلان ما يشوبها من انحراف.

8. هذه الاستقلالية هي العاصم من اندراج المثقف في تبرير- أو الصمت والتواطؤ- على توجهات مضادة للتحقق الإنساني؛ توجهات موصومة بالفساد، أو الظلامية، أو القمع؛ أو بهم جميعًا.

9. إن الموقف النقدي للمثقف، ورفض استخدامه- من قِبل أية مؤسسة أو هيئة- أداة تبريرية لتوجهات "مشبوهة" أو مفضوحة، أو متواطئًا عليها، هو ما يجعله- بالفعل- الضمير الحقيقي والحي لشعبه.

10. إن تفعيل دور المثقف مع الجماهير مهمةٌ جوهرية، من خلال تأسيس كيانات ثقافية مستقلة، في المجالات المختلفة، لتغيير الواقع- على الأرض- إلى الأفضل والأرقى.

11. والمؤكد أن التنظيمات النقابية المستقلة للمثقفين، بكافة تخصصاتهم، تمثل أداةً وسندًا ودعمًا قويًّا للمثقف وحركته الفاعلة. وإن لم تنجح عملية تطهير قوانين النقابات الحالية من المواد السالبة للفاعلية، فلابد من تأسيس نقابات جديدة، مستقلة، تؤطر حركة أعضائها الإيجابية، وخاصةً مع إلغاء الاحتكار النقابي السابق من قِبل النظام، وفتح الباب قانونيًّا لتأسيس نقابات جديدة.

الباب الرابع: المؤسسة الثقافية للدولة

1. الثقافة حقٌّ أصيل للمواطنين، كالخبز والتعليم، كالماء والهواء.

2. الثقافة طائرٌ ذو جناحين: التعليم والإعلام. ولابد من تأسيس دور المثقف في هذين المجالين، حتى لا يصبح حرثًا في البحر.

3. لابد للدولة من تحمل مسئوليتها في دعم الكيانات الثقافية المستقلة والفاعلين الثقافيين (الأدباء والفنانين)، بلا مقايضة. فالرعاية والكفالة وتكافؤ الفرص حق للمثقفين لدى الدولة.

4. المؤسسات الثقافية للدولة ليست ملكًا للحكومة، أو لوزارة الثقافة، بل هي أحد ممتلكات الشعب المصري. وجميع مسئوليها هم موظفون تكمن مهمتهم في حُسن إدارة هذه المؤسسات، بما فيه صالح الشعب المصري.

5. وهي ليست سلطةً، بأي معنًى. هي أداة "خدمية" تعمل في المجال الثقافي، لصالح ازدهار الثقافة المصرية.

6. بذلك، فليس لها الحق في الوصاية على الحركة الثقافية أو المثقفين، أو توجيههم، أو ممارسة أية ضغوط- من أي نوع- عليهم. ليس لها الحق في أن تكون أداةً سياسية بيروقراطية في مواجهة الحركة الثقافية والمثقفين.

7. ليس لها الحق في استخدام إمكانياتها المادية- المستمدة من المال العام- بصورة تسلطية، سلطوية، ضد مصلحة الثقافة والمثقفين المصريين.

8. ليس لها الحق في استخدام سياسية "العصا والجزرة"، "المنح والمنع"، لترويض المثقفين واستمالتهم، ومحاولة استخدامهم لصالح هذا الاتجاه أو ذاك.

9. مسئوليتها ومهمتها تكمن في أن تكون ساحة مفتوحة لتحقق الإبداعات الثقافية المختلفة، بلا رقابة أو توجيه أو قسر، أو بيروقراطية.

10. وللمثقفين- من خارج العاملين بالمؤسسة الثقافية الحكومية- كل الحق في المشاركة الفاعلة في وضع السياسات الثقافية لها؛ باعتبارها مؤسسات تعمل لصالح المثقفين جميعًا والثقافة جمعاء.

 

القاهـرة - 25 يونيو 2011