كل ما حصل في سوريا مختلف عما عرفته بلدان "الربيع العربي".. كل شيء: عنف النظام، سهولة القتل، تمترس الإعلام الرسمي العنيد والاستفزازي وراء رواية واحدة للأحداث مملّة، مضجرة، ولكنها ترشح دماً، انقسام المعارضة إلى معارضات وتشرذمها بلا إحساس عميق بخطورة اللحظة التاريخية وضرورة الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الوطنية، كثرة (ووقاحة) الأبواق الدعائية السورية والعربية وترويجها لروايات أكثر ابتذالاً من رواية النظام نفسه، صمت معظم الفنانين والمثقفين السوريين (في الداخل) حيال جرائم النظام واستباحته الكاملة لكلّ خط أحمر..
لم نر شيئاً كهذا حتى مع "نظام" القذافي الذي يسهل عليه -بسبب تركيبته الشاذة وما شاع عنه من جنون- الإيغال في الدم الليبي بلا تحفظ. الغريب أننا رأينا بعض "ضبط" النفس عند "نظام" القذافي مقارنة بالنظام السوري، رأينا وسائل إعلاميّة تتحرك حتى في ظل سيطرة العقيد على طرابلس، رأينا محاولات "للتصالح" مع الواقع واعترافاً -متأخراً ومراوغاً بالتأكيد- بفداحة ما يجري في ليبيا، ولكننا لم نر شيئاً كهذا من قبل نظام الأسد.
لا شيء من ذلك على الإطلاق. وما مقارنتي نظام بشار بنظام معمّر إلا من قبيل المقارنة بما يُعتبر النموذج الأسوأ على الصعيد العربي. أما من كان ينتظر خطاب بشار الأسد الأخير علّه يرى بصيص تغير في موقف النظام السوري، بعد حقل القتل المفتوح، فقد خاب أمله تماماً.
وعلى منتظر كهذا أن لا ينتظر شيئاً، مهما قلّ شأنه، من رئيس يبدأ خطابه لشعبه، بعد عشرة أشهر من شلال الدم السوري، بحديث المؤامرة، ولا شيء غير المؤامرة.
لكن مع ذلك تستمر الثورة السورية. هذا الصعود العنيد لشباب الثورة وشيبها غير القابل للتراجع -أيضاً- قيد أنملة عن كنس نظام الأسد لم تفتر له همَّة. رغم يُتم الثورة السورية ورغم تخلي العرب والعالم عن أشجع ثورة عربية، وعن أكثر شعب عربي حقا في الثورة.
رغم كلّ ذلك تستمر الثورة، وتستمر المدن والأرياف والبوادي في الخروج القياميّ إلى الرصاص الغزير. تستمر مواكب الشهداء وتتواصل صيحات الحرية عالية مدوية تهزّ عرش الطغيان الممعن في السلاح والإنكار.
هذا أمر يبدو اليوم أشد وضوحاً من أي وقت مضى. ومعه يتضح لكل سوري أن استئصال الورم السرطاني من جسد بلادهم هو مهمة سورية بامتياز. لن تفعل جامعة الدول العربية التي استعاد فيها الاستبداد العربي المترنح توازنه وراح يدافع عن وجوده في دفاعه المستميت عن النظام السوري، أكثر مما فعلت.
لن يفعل مجلس الأمن شيئاً ما دام سيف الفيتو الروسي (الاستبداد الشرقي في أكلح صوره) مسلطاً عليه، وما دامت الإرادة الدولية التي تردع نظام الأسد عن الفتك في شعبه غائبة، وما دامت البلاغة التركية أشدّ وقعا من الأفعال.
ليس للسوريين -الذين لا بواكي لهم- سوى أنفسهم، إلا إرادتهم، وهم لم يقصّروا في ذلك. أتحدث هنا عن الشعب السوري وليس عن المعارضة السورية التي تتجاذبها الأهواء والانحيازات الضيقة وقصر النظر المريع، والرغبات المثيرة للشفقة في الظهور الإعلامي، والتدافع بالمناكب على قصعة من دم وأنين.
وها نحن نرى الآن ثلة من كتاب سوريا وشعرائها ونقادها ومفكريها يبدؤون في رصّ الصفوف وتوحيد الكلمة في إطار جديد يدعى "رابطة الكتاب السوريين" يليق بسوريا، والأهم من ذلك، يستجيب لرغبة الثوار السوريين في رؤية دور فاعل لمثقفي بلادهم في مجهود الثورة على الاستبداد.
أكثر من مائة كاتب وشاعر وناقد ومفكر وباحث سوري، من الداخل والخارج، تنادوا إلى الخروج من دائرة الصمت المخزي الذي يلف "اتحاد الكتاب العرب" حيال شلال الدم السوري، والشروع في بناء موقف ثقافي سوري متضافر مع ثورة شعبهم.
نعرف أن الثورات العربية لم يشعل فتيلها المباشر والفوري، مثقفون عرب. لكن المثقفين العرب الذين يريد البعض وضعهم في سلة واحدة، لم يقفوا موقف المتخاذل من قضايا بلادهم. ليس جميعهم على الأقل.
هناك مثقفون عرب خصوصاً في إطار "رابطة الكتاب السوريين"، دفعوا قسطاً -قد يكون الأهم- من أعمارهم في سبيل حرية بلادهم. لا توجد رابطة للكتاب في أيّ بلد عربي آخر تضم هذا العدد من سجناء الرأي والكلمة والضمير ومن المنفيين والفارين من عسف نظامهم كما يتبدى ذلك في "رابطة الكتاب السوريين". بل لا يوجد بلد عربي، في ظل أسوأ فترات الاستبداد، لديه هذا العدد الهائل من المثقفين المنفيين كما هو الحال في سوريا.
لذلك كان هناك انتظار لخطوة كهذه: أن يتنادى مثقفو سوريا إلى كلمة الحرية.. أن يستجيبوا للشجاعة الاستثنائية التي أبداها المنتفضون على الاستبداد.. أن يجعلوا للثورة إطاراً ثقافياً وفكرياً يحافظ على وحدة الشعب السوري، ويمنع أيّ انزلاق ممكن إلى اقتتال أهلي أو تنابذ طائفي أو عرقي، وأن يستعيدوا كلمة سوريا التي غيَّبها "اتحاد الكتاب العرب" الذراع "الثقافي" للنظام وراء دعاوي "العروبة" الفاقدة لأيِّ محتوى حقيقي.
مهمٌ كلام الرابطة عن التعدّد الثقافي واللغوي والإثني في سوريا، ومهمٌ كذلك كلامها عن الانفتاح على المثقفين العرب المساندين للثورة، فهذا ردّ لا بدَّ منه على كلام النظام السادر عن عروبة سوريا. فالعروبة التي تقترحها "رابطة الكتاب السوريين" تعني شيئاً آخر غير ما يعنيه نظام البعث في هزيعه الأخير.
فإذا كان "اتحاد الكتاب العرب" (اتحاد النظام) يلغي كلمة سوريا فإن "الرابطة" تثبتها، وإذا كان ذلك الاتحاد يتقنَّع "بالعروبة" فإن "الرابطة" تعطي لتلك "العروبة" معنى آخر.. إنها العروبة الإنسانية، المنفتحة، التي تعانق "الآخر" الشقيق وتناديه يا أخي.. أو بتعبير آخر (من رامبو بتصرّف): يا أنا.
تحدَّث بشار الأسد في خطابه الأخير واستفاض عن عروبة سوريا، ولكنّ هذه ليست فضيلة من النظام.. ليست هبة آل الأسد للسوريين والعرب. فالعربي الذي يشعر في سوريا -أكثر من أيّ بلد عربي آخر- أنه في بلاده، فذلك لأن السوريين هم الذين يمنحونه هذا الشعور وليست أيدولوجية النظام وتدابيره.
لهذا أرى أن فتح عضوية "رابطة الكتاب السوريين" أمام المثقفين العرب -المؤمنين بمبادئها- تعبير عن حقيقة الشعب السوري وإرثه الكبير في هذا الصدد.
ومن هنا، وبهذه الكلمة، أتقدّم بطلب عضوية "رابطة الكتاب السوريين" التي آمل أن يتسع صدرها لكل من يناهض الاستبداد سوريا وعربيا، وأن تكون جديرة بالثمن الذي يدفعه السوريون في سبيل الحرية: دم الشهداء.