بين مهن كثيرة زاولتها في حياتي، عملت، مرّةً، حامل مظلة، أقف في كشك زجاجي مكيّف، أصغر من أكشاك شرطة المرور وأكثر نظافة، إلى جانب بوابة واحد من الفنادق الكبيرة، ما أن تُقبل سيارة حتى أهرع فاتحاً مظلتي قبل أن يضع القادم، أياً كان، قدميه على الرصيف وأصحبه حتى مدخل الفندق. المسافة القصيرة بين الرصيف والبوابة، المفروشة في الغالب، هي مساحة عملي وتلك وظيفتي التي كانت أجواء المدينة السبب في وجودها، وهي المسؤولة عن استمراري فيها مدّة ليست بالقصيرة، فلم نكن نعيش أربعة فصول، اثنان منهما معتدلان، أحدهما مورق والآخر موحش وكئيب، كما هو الحال في كل مكان، إنما كان عامنا يُختصر في فصلين مجنونين، صيف قاهر، شمسه تُذيب الحديد، وشتاء أهوج أمطاره لا تكل، وأنا على امتدادهما أهرول حاملاً مظلتي.
هل رأيتم فلماً تاريخياً من قبل، واحداً من أفلام الرسالات السماوية، أو أفلام البطولة والفتوحات، حيث ترتبط الحريّة ارتباطاً غريباً بأدوات التعذيب؟ أنتم، بلا شك، شاهدتم واحداً منها في الأقل، على سبيل تزجية الوقت بمتابعة الطريقة التي يسير فيها الناس إلى حتوفهم، أما من جهتي فقد أحببت هذه الأفلام، ولطالما أثارني فيها أن أرى سيداً ثخيناً يعبر في الهاجرة يلحقه عبد يحمل مظلة ويحث الخطى بإيمان كامل بما يفعل وكراهية عميقة، فيما ترتسم آثار أقدامهما على الرمال. شغلني أمر الرجلين والمظلة منذ رأيت المشهد أول مرّة، وما أن أبلغتني إدارة الفندق بقبولي في الوظيفة، من بين وظائف عديدة مُعلنة، حتى أحسستني نسخة محدّثة من عبد الصحراء، لكنني لست كذلك، يكفيكم أن تروني مرتدياً القبعة ذات الحافة، والبدلة السوداء المكوية، يتدلى ذيل سترتها المشقوق، وتنتبهوا لحذائي الأسود اللامع حتى يتأكد لكم بأن حامل المظلة بجانب بوابة الفندق، المنتظر داخل كشك، لم يركض حافياً ذات يوم، ولم يتبع سيده على الرمال اللاهبة.
تتغيّر وتيرة العمل بحسب مزاج الطبيعة وتقلّب أجوائها، تهبط أحياناً فتنقطع السيارات وأنسى نفسي داخل الكشك، أفكّر بأشياء حدثت من قبل، وأشياء لم تحدث، وتعلو مع غزارة المطر واشتداد حرارة الشمس، حتى لا أكاد أجد لحظة راحة أعود فيها إلى الكشك، أستند إلى المظلة وألتقط أنفاسي. غالباً ما تعمد إدارة الفندق في مثل هذه الأوقات إلى تكليف واحد من العمّال، غاسل صحون أو منظف غرف، للعمل معي مؤقتاً فالمهمة لا يكفيها، عندئذ، حامل مظلة واحد. يرتدي العامل بدلتي الثانية المغسولة والمكويّة على الدوام، يلبس حذائي الآخر، ويحمل المظلة الاحتياط ويباشر بالعمل. يحدث كثيراً أن تقف سيارتان في وقت واحد فنهرع معاً بمظلتينا المفتوحتين، لا تغفل عيناي عنه مهما انشغلتُ مخافة أن يرتكب خطأ أو يتلكأ في عمله. إنها الأوقات التي أحرص فيها على أن أكون بكامل لياقتي، منتبهاً، خفيف الحركة، دائم الابتسام، لكن التعب يأخذني، رغم ذلك، فتبدو المسافة بين الرصيف والبوابة واسعة، لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، وأحسّني أهرول في صحراء فسيحة لا حدود لها. أعود للكشك فور انقطاع السيارات، دقائق قليلة فحسب لالتقاط الأنفاس، لم يحدث أن أغمضت عيني خلالها، لا في الليل ولا في النهار، لكنني رأيت المشهد كما لو كنت أحلم مفتوح العينين، كانوا جمعاً من رجال مسلحين ينزلون على سفح، يتطاير التراب تحت أقدامهم، يجرّون رجلين مقيدين التفّت حول عنقيهما انشوطتان، خوف مرير يرتسم على ملامحهما. انتظرت حتى أكمل المسلحون النزول وأصبحوا قريبين منّي فسألت أحدهم عن الرجلين.
- إنهما مذنبان.
قال وهو ينفض التراب عن حذائه، من دون أن ينظر إلي، فسألته على الفور:
- كيف عرفتم ذلك؟
ضرب حذاءه بقوة على الأرض، رفع رأسه مصوّباً نظره نحوي:
ـ كانا يحملان بندقيتي صيد، عندما اكتشفناهما حاولا الهرب.
حدّق نحو عيني وانفرجت شفتاه عن ابتسامة قاسية، لوّح بيده أمامي ثم مرّر أصابعه على رقبته في حركة قاطعة. غرق المسلحون الذين كانوا يراقبوننا في الضحك، بينما واصل الرجلان المقيدان النظر إلى الأرض، كأنهما مستغرقان في تفكير عميق.
لم أُغمض عيني عندما رأيت المشهد وحدّثت الرجل، أقسم على ذلك، حتى اللحظة التي فكّرت فيها بأن الرجلين سيعدمان أمام الفندق، على بعد خطوات من الكشك، بعد أن يجرانهما طويلاً، لكنني فززت على مُنبّه سيارة وقفت أمام البوابة، إنها المرّة الأولى التي أتخلّف فيها، ذلك ما قلته لنفسي وأنا أهرول فاتحاً مظلتي.