"طفلٌ بلا بيت رجلٌ بلا ذاكرة " عبارة أصبح أبي يردّدها كثيرا هذه الأيام و لكني لم أستطع فهمها ...كانت تدور و تدور و تدور... في ذهني الصغير كحُلم نائمٍ في ليلة شتاء ، و تغمرني كما أمواج شاطئ قريتي حين كنت أركض على طول الساحل النديّ الصامت .....ظلّت تلك العبارة تطاردني بل تُغرقني ، حين كنتُ أجلس وحيدة في أقصى حافلة المدرسة ، لا أحد إلى جانبي ، غارقة في التردد، أمسك حقيبتي المدرسية الصغيرة و كأنني أبحث عن رفيقة ، منذ أسبوع انتقلنا للعيش في مدينة العين ، هي مدينة بلا شاطئ و لذلك بدتْ لي عجيبة مختلفة عن تلك التي كنت أعيش فيها ....
حتى أصل مدرستي الجديدة كان لابد أن أركب كل صباح هذه الحافلة الصغيرة التي تبدو لي أحيانا و كأنها زورق صغير يشق الطرقات و حدائق الخضرة و أمواجا جميلة لبحر كبير مرسوم في ذهني كالميلاد ... ، كنت أشعر أني غريبة ووحيدة و أنا أستمع إلى التلميذات الصغيرات يتكلمن بلهجة لا أعرفها و أحيانا يغنين أناشيد صباحية أو يضحكن في سعادة ..كانت الحافلة تسير ببطء مملّ .... عندما صعدتْ في إحدى المحطات طفلةٌ في مثل سني ، شعرها ذهبيّ لمّاع قد أفردته جديلتيْن على كتفيْها في تناسق جميل ، عيناها لمّاعتان فيهما خضرة صامتة حزينة و تعبٌ جميل ، كانت تشقّ الممرّ بين المقاعد في وجل وتعثُّر و تنظر يمينا وشمالا وكأنها تبحث عن شيء ما ، في الأخير وصلت عند المقعد الذي أجلس فيه ، أفسحتُ لها المجال فجلستْ إلى جانبي، لم تقل كلمة ، وضعتْ حقيبتها المدرسية على ركبتيها ، كان يبدو عليها التعب فعيناها منتفختان قد قرّحهما الأرق ، ...الحافلة تسير ببطء حين لمحتها تغفو قليلا ، ولكنْ ما إن توقفت الحافلة مرة ثانية في محطة من المحطات حتى انتفضت في هلع وقد جحظت عيناها من الخوف ، ثم بادرتْ إلى يدي الصغيرة تمسكها دون وعي ، تعلّق نظرها بباب الحافلة الأمامي و حين لمحتْ تلميذة تمشي بين الكراسي عاد إليها هدوؤها و أرسلت إليّ نظرة يملأها الخجل ....أسندت رأسها إلى الكرسي و عادت إلى النوم ، لم تمر سوى فترة وجيزة من الوقت حتى أخذها الخوف مرة أخرى فانتفضت و أمسكت يدي ...تحاشت النظر إليّ ...كنت سعيدة بلقائها رغم خوفها المزمن الغريب عند كل محطة ...و كم كانت سعادتي كبيرة حين وقفت تلك التلميذة في ساحة المدرسة إلى جانبي في طابور الصباح !...لقد كانت جديدة مثلي و لكنها تبدو تائهة أكثر مني ...في الصف جلسنا قريبتيْن ...كنت أشعر بها تبحث عن الأمان مثلي تماما ...لا أدري لماذا تذكرت قطط حينا السائبة التي تمشي على وهن طول الطريق باحثة عن الفيء... ! ، أحسست نظراتها تفتش عني حتى دخلنا الصف ...كان فرحي بها يتعاظم و لكن ما نغّص عليّ سعادتي في ذلك اليوم هو ما حصل لي مع تلميذ في الصف كان قد افتك قلمي مني عنوة عند نهاية الحصة قبل الفسحة ، حاولت استرداده منه ولكنه دفعني و أهانني و سخر من لهجتي و ظل يردد ضاحكا : " القلم مْتاعِي ...مْتاعي أنا ..." و ظل يُخرج لسانه ممعنا في إهانتي ....غاصت عيناي في الدموع وقتلني شعور الغربة ..خرجت من القاعة و أنا أنتفض من البكاء لأن المعلمة كانت قد غادرتْ ...انزويت في الساحة حاضنة دموعي و قد لبستني الوحدة ......انتبهت إلى تلك الطفلة تقترب مني في تردد ...ثم تجلس إلى جانبي و تمد إليّ بيد مرتعشة قطعة من الطعام كانت في كيس صغير بيدها و هي تقول لي :
- خذي ...كُلي ...كتير طيّب ...
سألتها و أنا أمسح دمعي :
- ما هذا ؟؟
أجابت و هي ترسم ابتسامة على فمها الصغير :
- ورأ العنب ..
فرددت مستغربة :
- ورق العنب !!
ازدادت ابتسامتها المتعبة إشعاعا و قالت و هي تدير رأسها :
- لا...لا إنه “ورأ العنب “ ...بالهمزة لا تنطقيه بالقاف ...قولي : ورأ العنب .
ظللت لحظة أفكر : قلت في نفسي : كيف يمكنني أن أنسى لهجتي بهذه السرعة ...؟؟!
فقلت لها بإصرار:
_ ورق العنب ..!( بالقاف )
لم تهتم بما قلت ولكني رغم ذلك تناولت القطعة منها و قضمت منها جزءا صغيرا ...كانت لذيذة حقا ...عند ذلك قالت لي :
- أمي تقول دائما ورأ العنب هو دواء البكاء ...إنه يكفكف الدموع و يمنع الإنسان من البكاء..! ...
ابتسمتُ لها ...فواصلتْ بحماس حزين :
- أنا ديما من سورية و قد جئت حديثا إلى البلد و المدرسة ...
أجبتها بنفس الحماس :
- و أنا عائشة من تونس ...
تأملت وجهي قليلا ثم قالت بسعادة :
- أرأيت كيف توقفتِ عن البكاء ....؟!
ثم أخذت تفتش في حقيبتها و كأنها تبحث عن شيء ، رفعت رأسها إليّ وقالت في أسى :
- لقد نفذ ورأ العنب ...مشكلة ...نحن بحاجة إليه إنه رائع حين يكون محشوا بالأرز ...انتظري عندي درهمان ...
تركتني ثم اندفعت تركض ناحية كافتيريا المدرسة بخطوات متعثرة في البداية سرعان ما خفت و تلاحقت و بعد فترة جاءت وفي يدها الكثير منه و قالت جذلة و قد غمرتها السعادة:
- لدينا الكثير منه اليوم ...تعاليْ نأكله حتى لا نبكي هذا اليوم بكامله ..
صمتت لحظة ثم سألتني باهتمام :
-ماذا تتمنين يا عائشة ؟
أجبتها واثقة :
- أتمنى العودة إلى بلدي تونس !!
نكست رأسها تتأمل الخواء ولكنها رفعته قائلة في في سعادة :
- أنا أتمنى أن أكون ملاكا شفافا ...لا يراني أحد .......خاصة حين أصعد الحافلة ...
سكتت لحظة ثم واصلت في حزن و كأنها نسيت شيئا :
- أتمنى أيضا أن أنسى ....!!!
استغربت أمنيتها و لكنني لم أشأ أن أسألها عن السبب ....فما همني من ذلك كله أنه منذ تلك الحادثة أصبحنا صديقتين ، نجلس إلى جانب بعضنا البعض في الحافلة وكذلك في الصف لنبدد شعورنا الصغير بالغربة ...ولكنها ظلت تنتفض كلما توقفت الحافلة ..وحين رأت نظرات الانزعاج تتملّكني ...سألتني من الغد و هي تخفّض صوتها و تقترب مني هامسة وكنا في الحافلة :
- أنتم في تونس ...هل الحافلات تتوقف في المحطات فقط ..يعني كما هو الحال هنا ؟؟؟
فأجبتها باستغراب :
-لم أفهم !!
عند ذلك واصلت بصوت خفيض خائف :
- لقد تغير الحال عندنا بسورية فالحافلات لا تتوقف في المحطات فقط و لكن تتوقف أيضا عندما يسد الطريق رجال مسلحون بلا وجوه ...فيصعدون و يختارون بعض الراكبين ..يُنزلونهم إلى الأسفل ويطلقون عليهم النارأو يأخذونهم إلى أماكن بعيدة ومخيفة ...أنا لم أرَ ذلك لكنني كنتُ أسمع أمي تروي حكايات غريبة ....آخر مرة قالت لي بحزم و عيناها تلتمعان بشيء لم أفهمه و صوت لم آلفه منها : إذا توقفت الحافلة في مكان غير المحطة اجلسي على أرضية الحافلة ....اختبئي تحت الكرسي...لا تنسيْ حتى لا يصيبك ما أصاب أختك ......
استغربتُ حكاية أختها التي لم تعد إلى البيت إذ لم أفهم قصتها و لكن الأمر الذي تأكدت منه يومها هو أنني كنت سعيدة بها و أننا أصبحنا أصدقاء نمسك يدي بعضنا البعض في طريق العودة والذهاب إلى المدرسة ...كما تعودتُ على يدها تتشبث بي و بجديلتيها تنامان على كتفيها كالملائكة ...
و ذات يوم أتت ديما تملأها السعادة على غير عادتها بل إنها في ذلك الصباح لم تنم في الحافلة فما إن جلست حتى قالت لي بفرح :
- أبي سافر اليوم إلى الشام ...ليأتي بأختي ...أمي قالت إنها مختبئة عند أحد أقاربنا ...
واصلت بصوت خفيض :
- قبل أن نهرب في تلك الشاحنة... ظللنا أياما ننتظر عودة أختي التي تدرس في الإعدادية عبثا ...أنا لم أفهم ماذا حصل لها بالضبط و لكن سمعت أبي يقول بصوت متهدج متقطع في إحدى الليالي أنهم أنزلوها عند أحد الحواجز ...إلى الآن لا أدري ماذا كانوا يريدون منها ...!
سكتت و شردت بنظراتها إلى بلور النافذة .....باحثة عن النسيان ….و أخذت تمسح بيديها الصغيرة بلّور النافذة ...
لكن ديما تغيبت عن المدرسة فعدتُ إلى ما كنت عليه ، أتجرّع الوحدة في صمت ...يدي تجول فوق ركبتي يتيمة بلا رفيق ، أتابع مركب الحافلة يمخر عباب الصور و الذكريات ...لقد اشتقت إلى ورق العنب و أصبحت كل صباح أشرئبّ بعنقي باحثة عن ديما كلما توقفت الحافلة عند المحطة التي تصعد منها ، فكرت كثيرا تلك الأيام ...قلت في نفسي ربما هي سعيدة بقدوم أختها أو هي عادت إلى بلدها ...ربما الحافلات في بلدها عادت كما كانت سابقا لا تتوقف إلا في المحطات.....
مرّ يوم .....اثنان ....مضى أكثر من أسبوع ...
و في أحد الصباحات رأيتها تصعد الحافلة ، سررت كثيرا بقدومها و لكنني تفاجأتُ بمظهرها الغريب فقد بدا شعرها أشعث و قد احمرت عيناها و هزل جسمها ، بدت لي منكسرة كقطة بلّلها المطر ْ...جلست إلى جانبي و قد ازداد شرودها إذ لم تجب حتى على تحيتي ...كانت في عالم آخر إذ لم تنتفض حتى عند توقف الحافلة و كأن الخواء قد لبسها وحل فيها ...في الصف كانت جسما بلا وعي ...وعندما سألتها عن أختها سالت دموعها صامتة حزينة ، في الفسحة عندما جلسنا إلى الجدار ..ناولتها شيئا من شطيرتي ...أشاحت بوجها عني بل أخذت تبكي بحرقة حين سألتها عن أبيها ...
عند ذلك تملكني التردد لبرهة و لكن شيئا مّا في داخلي استيقظ كبركان نائم فاندفعتُ إلى الكافتريا و أخذت أزاحم الطالبات و أدسّ جسمي النحيل بإصرار ...حتى وصلت ، اشتريت حبات ورق العنب و عدت إليها أركض ..قدمت لها واحدة :
- هيا ديما ..خذي ورأ العنب ...طيب كتير ...سيوقف دمعك ..
و لكنها رفضت أن تلتفت إليّ و ظلت دافنة رأسها بين كفيها ...و أمام إلحاحي و هي تسمعني أنطقها كما تحب هي ( ورأ العنب )، رفعت وجهها و عيناها تطلان عليّ من وراء أصابعها الصغيرة و قالت بصوت متقطع :
- لقد قدمت ...واحدة لأمي ...حين كانت تبكي البارحة ....فقالت لي :...آسفة يا ابنتي ....آسفة فدمعي على أختك لن تُوقفه أحلى أكلات الشام !!!!!!
من ذلك اليوم لم تعد ديما إلى المدرسة ...غاب صوتها في زحام الأيام المنهكة ، لكن يدي بقيت تتلمس ظلها في الحافلة ...و أرفع رأسي عند كل محطة ...عساها تأتي ...أو تطير ...تطير كالملائكة !!
من ذلك اليوم غابت ديما في زحام الذكريات و لم يبق من ورأ العنب سوى طعم الدموع و الألم!!
عندها فهمت عبارة أبي : طفل بلا بيت إنسان بلا ذاكرة ...