من سطح قلعته العتيقة أطل الغاسق على حركة الحياة في مجراها المتدفق، فلم ير غير الغبار. الغاسق كائن خرافي على هيئة إنسان بقرن مكان الأنف ومخ صرصار .. لا يرى من الكون غير نقطة ظل، ولا يرى في نقطة الظل غير ذاته، وذاته لم تكن ترى من نقطة الظل سوى نفق أغبش لا يتميز فيه الليل من النهار.. زمنه حجري ومسافة رؤيته لا تتجاوز ظل أنفه. فهو مصاب بعاهة قصر النظر وتصلب الحركة وخرس الخيال.. يكره المرآة والضوء وصفاء الماء، ولم يسمع عن الحب ولا انفتحت نفسه للغناء..
شرب في ليلة ثخينة كَبَدَنِهِ، زِقَّ خمر وسأل جارية من جواريه المنهَكات:
ـ كيف ترينني؟
ـ أجمل من غاسق السماء!
ـ غاسق السماء؟.. هل هناك غاسق غيري؟!
ـ كرة وضيعة ضائعة في سديم السماء، يسمونها القمر.. يَتَنَرْحَسُ في الليل ويسمي نفسه الغاسق.
ـ اسمي مسروق إذن!
ـ حسدا وتشبها أخرق يا سيدي.
ـ بل تطاولا ونزقا منه.. وحربا ماحقة مني ستأتي عليه في العاجل.
وجر الجارية إليه وأثخن في جسدها نهشا حتى آخر قطرة دم.. غزوة أخرى من غزواته التي تخلف زق خمر امتُصَّتْ روحه، وجسد امرأة امْتُصَّتْ نضارتُه، وبدنا منتفخا كالعنكبوت، في جمجمته مخ صرصار قرر هذه المرة شن حرب على القمر السارق ولم يكن رآه من قبل، فذاته منقطعة عن بحر السماء وعن بحر الأرض، ومجال رؤيته ليس سوى غبار في غبار.. الأفق بالنسبة إليه عدم، ورحابة الأرض نفق على صورة قلعته، فلا عمق ولا امتداد ولا سفر في خرائط حركة الزمان..
ومن سطح قلعته العتيقة ترصد القمر.. هجع دهرا وصعد ليترصد القمر..
ـ من أين سيبرز؟
سأل الغاسقُ الخرافي سادنَ قلعته وهما على سطحها. فأشار السادن إلى السماء:
ـ من مكان هناك يا سيدي.
رفع الغاسق الخرافي رأسه أول مرة إلى الأعلى، فتلامح له الفضاء الرحب وتلامحت له النجوم المتلألئة، وانتابه دوار.. عاد منه إلى سطح قلعته، وسأل:
ـ ما كل هذا؟
ـ مدار السارق الفاسق يا سيدي.
ـ عجبا!.. كل هذه الشساعة؟
ـ هو مجرد متسكع تائه فيها.
ـ أريده حالا، عندي هنا تحت.
ـ ستجده بين يديك كلعبة طفل.
وجاء السادن بجفنة ماء وضعت على دكة أمام سيده الغاسق الخرافي .. تماوج الماء في صحن الجفنة لحظة وهدأ، فانعكست نجوم على مرآته حسبها الغاسق الخرافي دنانير متناثرة في الماء، لكن سادن قلعته قال إنها صغار القمر خرجت قبله، وسيخرج بعدها ويقع الكل في الأسر.. صفق الغاسق الخرافي فرحا بأسر الأبناء في انتظار أسر الأب.. تلك بداية النصر الباهر في حرب فرسانها كائنات غبار.. كان القمر قد تزود بالضوء الشفيف ليخرج إلى سمره في الفضاء الرحب بين أصفيائه المتألقين، وكان الغاسق الخرافي وسادن قلعته يترصدان ظهوره ليس في بحر السماء، ولكن في جفنة الماء.. وفي ذلك الوقت سمعا أصواتا من مجرى نهر الحياة على الأرض، فتطلع الغاسق الخرافي نحو الأصوات فلم يتبين غير الغبار. وسأل سادنَ قلعته عنها، فأجاب: إنها ضجيج كائنات أخرى في كهف يسمونه الحياة.. وفي علاه برز القمر رافلا في بهاه، علامة مضيئة تبحر في سديم متلألئ.. لمحه السادن منعكسا في جفنة الماء فخلع مسوحه الكئيبة كمسوح البطريق، وغطى الجفنة سريعا، وتقدم إلى الغاسق الخرافي بالبشرى:
ـ ابشر يا سيدي فقد وقع السارق الفاسق.
ـ أُلْحِقَ بأبنائه؟
ـ وسنتخلص منهم جميعا الآن..
وصب السادن ماء الجفنة من أعلى سطح القلعة، فوقع الماء على شجرة عطشى شهوةً ونطفةً ووعدا باخضرار وارف.. ونزل الغاسق الخرافي إلى نفقه للاحتفال.. فدعا بزق خمر وفتاة بكر.. وشرب حتى تعتعه السكر، وحينها أخذ في التخطيط لاستكمال حرب القمر، مع سادن قلعته. قال له:
ـ انتهينا من السارق الفاسق وأبنائه، وأريد جواره وأمواله.
ـ هي طوع متناولك يا سيدي.
ـ كيف؟
ـ تَلْبَسُ عباءة بجناحين وتطير إليها كما يطير الطائر.
ـ الطائر؟ ما هو الطائر؟
ـ كائن يشبه الخفاش.
ـ الخفاش مؤنسنا في القلعة؟
ـ نعم، هو ذاك.
ـ ها هي القلعة أمامك ممتلئة خفافيش، فاطلب منها ما تريد..
وأخبر سادنُ القلعة سيده الخرافي، أن النجوم المتلألئات في السماء هي ثروة هائلة صارت الآن في ملكه، بعد أن أطفأ نزق مالكها وغروره، وأنه بمجرد أن يطير إليها تقبل عليه وديعة صاغرة، ليسوقها قطيع غنيمة إلى قلعته، ويضيف الجديد إلى التليد.. وفي غمرة سكرته أمر الغاسق الخرافي سادن قلعته بإعداد الجبة المجنحة.. فدعا السادن خفافيش القلعة وأخبرها بمرغوب سيده، فقالت الخفافيش للسادن: أنت تخيط الجبة ونحن نكون لها أجنحة.. وذلك ما كان.. ففي ليلة الغد جاءت الجبة على ترس حرب، يحملها جيش الخفافيش.. كرع الغاسق الخرافي زق خمر على كثيب ردف في خيمة غبار، ولبس الجبة وخرج مزهوا ليصعد إلى السطح يتبعه جيش الخفافيش أجنحة للطيران.. وعلى سطح القلعة وقبل أن تعض الخفافيش بالنواجذ على أطراف الجبة، أطل الغاسق الخرافي من جديد على نهر الحياة المتدفق بعيدا عن منبذ القلعة، فلم ير أيضا غير الغبار. سأل سادن قلعته: هل ترى شيئا هناك؟ فقال السادن: إنه لا يرى سوى قتام في قتام، فقال له الغاسق الخرافي: كذلك أنا. فلنتركهم في قتامتهم تائهين.. وكانت السماء هناك في مرقاها البعيد قد أخذت تتلأللأ بالنجوم، وكانت عين الغاسق الخرافي كَلِيلَةً تكره الضوء كعيون خفافيشه، ومخه الصرصار ينكر جاذبية الأرض وتحول الزمان ومعنى الوجود في الوجود، أما الجمال عنده فيرادف كتلة رماد في مطرح العدم..
ـ حان وقت الغارة.
وعضت الخفافيش بالنواجذ في كل أنحاء الجبة والغاسق الخرافي واقف على حافة سطح قلعته..
ـ انتظر أنت هنا حتى أعود بالغنائم.
قال للسادن. وأمر الخفافيش بالطيران، فتحركت الأجنحة البلهاء، وهومت بالغاسق الخرافي في الهواء .. وبدل الصعود جرته جاذبية الأرض إلى الأسفل .. ولأن الخفافيش مسكونة بظلام الخرائب مشدودة إليه، فقد ساقته بما يسكنها إلى ظلام خرابة في خلاء قصي .. وهناك سقط ككيس رمل غائبا في غيابه، وجحفل خفافيشه يحملق في جثته ببلاهة .. حتى إذا شق ضوء القمر سجف الظلمة، فرت الخفافيش مذعورة من النور، وتركت جثة غاسقها الخرافي ملقاة هناك ذاكرة غبار تسفيها ريح تهب من جهة نهر الحياة.