هنا تقديم للمبدع الألماني أرنو شميدت: روائي وقاصّ ومصّور فوتوغرافي ومترجم لم يعرف خارج حدود الأدب الناطق بالألمانية. ربما لأن أعماله تمثل تحديًا أمام المترجمين لوعورة نصوصه وصعوبة ترجمتها، أما في ألمانيا فلم يحظ بالانتشار الأدبي الذي يستحقه مثل كُتّاب مجايلين له.

أرنو شميدت: نـاسك الأدب الألماني

أحمد الزناتي

 

يقال دائمًا إن جائزة نوبل في الأدب لم تكن لتُمنح إلى أديب ألماني أفضل من الروائي والقاصّ أرنو شميدت (18 يناير 1914–3 يونيو 1979). ومع إشادة كبار النقّاد والكُتّاب بأدب شميدت، لم يحظَ الرجل طَوال حياته بالاعتراف اللائق بإنتاجه الأدبي الضخم والمختلف، ولا بالتكريم الماديّ أو المعنوي.

أرنو شميدت هو روائي وقاصّ ومصّور فوتوغرافي ومترجم ألماني لا يعرفه الكثير خارج حدود الأدب الناطق بالألمانية، بل وربما داخل ألمانيا أيضًا. فخارج حدود ألمانيا تمثّل أعماله تحديًا هائلًا أمام المترجمين لوعورة نصوصه وصعوبة ترجمتها، أما داخل ألمانيا فلا يحظى الرجل بالانتشار الأدبي الواسع الذي حظي به كُتّاب من أمثال هاينريش بول (نوبل) أو جونتر جراس (نوبل 1999)ـ وغيرهما.

عاش شميدت حياة مُنعزلة مع زوجته، رافضًا مخالطة الناس، مع أنه كتب عنهم بحبٍ شديد، مُكرسًا نفسه للقراءة والكتابة والترجمة فقط، مقاسيًا شظف العيش، ومُتحملًا كل شيء في سبيل إنجاز عمل حياته الأهم، رواية “حُلم قصاصة الورق”، التي تـعدُّ المعادل الألماني لرواية جيمس جويس الأخيرة “يقظة فينيجين”، الرواية الأعقد في تاريخ الأدب المعاصر.

عاش شميدت في عزلة تامة حتى وفاته، لكن القدر قيّض له رجل أعمال غريب الأطوار مثله، اسمه جان فيليب ريمستما، ذو ميول اشتراكية، ورث مصنع سجائر، باعه وأوقف حصيلة البيع في تأسيس وقفٍ يضمن استمرارية نشر أعمال أرنو شميدت، هاجرًا عالم المال والأعمال، مكرسًا نفسه –هو الآخر- لقراءة ودراسة ونشر أعمال شميدت حتى اليوم.

* * *

في السطور القادمة نُترجم مقالًا نُشر حول حياة أرنو شميدت وأعماله بمناسبة ذكرى ميلاده التي حلّت قبل أسابيع:

في عيون مُعجبيه هو أحد أهم الأدباء الألمان لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ إلا أن قلة قليلة تعرف شيئًا عن أعمال أرنو شميدت، الذي حلّتْ ذكرى وفاته في الثامن عشر من يناير.

ربما تكون بلدة “بارجفيلد” مجرد بلدة صغيرة من بين آلاف البلدات القريبة من مدينة هانوفر بولاية نيدرساكسِن، تطوّقها المناظر الطبيعية الشاحبة من كل ناحية. مع ذلك لا يقف منزل أرنو شميدت وحده في الطلّ كئيبًا، وهو المنزل الذي عاش فيه الكاتب الناسك المنعزل، وأحد أهم كتاب جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي تُصنّف أعماله ضمن كلاسيكيات الأدب الألماني الحديث.

يقول أستاذ الأدب، والمليونير، ورئيس مؤسسة أرنو شميدت، جان فيليب ريمستما:

“مَـن كان يتجاهلهم أرنو شميدت رأوه رجلًا فظًا، لا يستحق الاهتمام، مترفعًا، مـبـالَـغًـا في تقديره”. مضيفًا أنه لم يقابل في حياته رجلًا أكثر إثارة للإعجاب منه. يقول ريمستما: “كان شميدت إنسانًا غاية في المودة والانفتاح على الآخرين ودماثة الخُلق”.

كان ريمستما يتردد إلى منزل شميدت الكائن في بلدة بارجفيلد بصفة دورية في سبعينيات القرن الماضي. وكان قد بدأ لتوه في قراءة رواية ”حُلم قصاصة الورق”.

تعتبر رواية “حلم قصاصة الورق” درّة أعمال شميدت، وهي مؤلفة من ثمانية أجزاء، وتقع في ما يزيدعن 1344 صفحة، مُقسَّمة على ثلاثة أعمدة، مطبوعة على الآلة الكاتبة ومكتوبة بخط اليد.

عن ذكرياته يقول د. ريمستما: “كثيرًا ما يحدث ألا يتوفّر المبدع على الوقت الكافي لكتابة الأعمال التي يرغب في كتابتها فعلًا، لارتباطه بكتابة أعمال أخرى كثيرة تندرج تحت بند “أكل العيش”.

عرض ريمستما على أرنو شميدت دعمًا ماليًا يُقدر بمبلغ ثلاثمة وخمسين ألف مارك ألماني من أجل أن يتحرّر من أعبائه. قبل شميدت العرض، مشترطًا الشروع في تأليف كتاب جديد.

يقول د. ريمستما الذي ما يزال يمّول مؤسسة أرنو شميدت ومقرها بارجفيلد حتى اليوم. “كان شميدت بيوريتانيًا حينما قال: قبول العرض يعني تقديم شيء في المقابل”.

* * *

وُلد أرنو شميدت في سنة 1914، وكان والده ضابط شرطة. انتقل بعدها مع والدته إلى مدينة جورليتس في ولاية ساكسن، حيث أتمّ دراسته الثانوية، ثمّ تابع دراسة التجارة، وبعد إنهاء التأهيل المهني التحق بمهنة محاسب في أحد مصانع الغزل والنسيج، حيث تعرف على زوجته فيما بعد أليس، التي تزوجها في سنة 1937 وظلت إلى جانبه تدعمه كسكرتيرة شخصية حتى وفاته سنة 1979.

في سنة 1940 استُدعي شميدت إلى الخدمة العسكرية، وقضى أغلب فترة الخدمة حتى سنة 1945 في مباشرة أعمال إدارية وإعداد إحصائيات حربية. في هذه الفترة كتب شميدت أولى قصائده وقصصه القصيرة، التي لم يُنشر أغلبها إلا بعد وفاته.

بعد انتهاء الحرب وقع أرنو شميدت في أسر القوات البريطانية لمدة شهور قليلة، بعدها انتقل آل شميدت إلى منطقة لونيجبرج هايدِه، ليعيش الزوجان في حالة فـقر مُدقع، شأنهم شأن أغلب الألمان في تلك الفترة. ومع تلك الظروف؛ عقد أرنو شميدت عزمه على أن يكسب عيشه من الآن فصاعدًا بوصفه كاتبا حـرّا، وروى طرفًا من ظروف الحياة القاتمة لفترة ما بعد الحرب في قصته “براندز هايدِه”. كما كتب في تلك الفترة أعماله الأولى التي لفتت إليه الأنظار مثل راوية “ليفاثان” و”جادير”، التي نشرتها دار روفولت الألمانية.

في سنة 1950 قررتْ أكاديمية ماينتس منح أرنو شميدت جائزة الأكاديمية الكبرى في الأدب، فأسهمت الجائزة وقيمتها ألفا مارك ألماني في التخفيف من وطأة العوز المادي لشميدت. في هذه الفترة انتقل الزوجان للعيش في المنطقة الألمانية الخاضعة للاحتلال الفرنسي، وهي التجربة التي تناولها أرنو شميدت في قصّة “المُـهَّـجرون”. في سنة 1950 كتب بعدها قصة بعنوان “مشهد على البحيرة مع بوكاهونتاس”، فضلًا عن كتابة روايتيّ “القلب الحجري” وجمهورية العُلماء”. دفعته الحاجةُ إلى المال شميدت إلى قبول تحرير أعمال من دور نشر مختلفة، علاوةً على ترجمة بعض الرويات المعاصرة من اللغة الإنجليزية.

لم تحقق روايات شميدت نجاحًا جماهيرًا ملحوظًا، إلا أنها بدأت تلفت أنظار النُقّاد إليه بشكل متزايد بسبب ما تتمتع به من روح سخرية ومهارةٍ في تناول مظاهر الحياة اليومية من كثب في الجمهورية الاتحادية الناشئة آنذاك [ألمانيا الغربية]. حيث استطاع شميدت وصف تفاصيل حياة الناس المحيطين به وصفًا دقيقًا دون الاقتراب منهم اقترابًا مباشرًا. فالاقتراب يُحمَّله مالا يطيقه على حد كلامه.

لم يقِم أرنو شميدت وزنًا إلى أصول الكتابة السليمة، فعَمَد إلى ابتكار أسلوبه الأدبي الخاص المتفرّد، وإلى التلاعب بالكلمات وابتكار الأحاجي اللفظية، مسترشدًا باللهجات المحلية. فنقل إلى عالم الأدب مذهب زيجموند فرويد في التحليل النفسي، وكتب قصص خيال علمي، وشرع في عقد الستينيات في العمل على التركة الأدبية التي سيخلّفها وراءه. إذ أنهى كتابة رواية “حُلم قصاصة الورق” بعد سنوات طويلة من العمل، أنفق فيها نحو مئة وعشرين ألف قصاصة ملاحظات.

انبرى النُقاد في تناول الرواية، وتراوحت الآراء ما بين وصفها “بالعبقرية” ووصمها “بالهراء”، وبحاجة القارئ إلى ثقافة أدبية واسعة لفهمها.

يقول بروفيسور ريمستما: “هذا كلام فارغ. لا يتحتم عليك قراءة كل شيء لتقتفي أصل كل جُملة وردتْ في الجزء الثاني من مسرحية “فاوست” مثلًا، أو للعثور على أصل دكتور فاوستوس في رواية توماس مان، بالطبع يُمكنك مواصلة قراءة الرواية دون الاضطرار إلى العودة باستمرار إلى المراجع أو النصوص الأصلية للعمل، وينسحب الأمر نفسه على من يقرأ “حُلم قصاصة الورق”.

عبر إنشاء مؤسسة أرنو شميدت في بارجفيلد سنة 1983 التي تمتلك كافة حقوق أعماله، يسعى د. ريمستما إلى الحفاظ على ذكرى أعمال أرنو شميدت، بما في ذلك على المستوى العالمي.

يقول د. ريمستما: “تُرجمَت أعمال أرنو شميدت إلى عدد كبير من اللغات الأخرى، وكذلك إلى أهم اللغات الأوروبية، إلا أن استقبال أعمال شميدت في الخارج مختلف عن استقبال أعماله داخل ألمانيا؛ حيث ينصبّ تركيز القُراء في ألمانيا على الجوانب المتفرّدة –ظاهريًا– في أسلوب شميدت. بينما يُطرح خارج ألمانيا السؤال الآتي: ”ما الذي جرى لنتعرف إلى أعمال هذا الكاتب بعد فوات الأوان، وتحديدًا بعد وفاته”؟

يختتم د. ريمستما كلامه: ”سيحتفظ اسم أرنو شميدت مستقبلًا بمكانة مهمة في الأدب الألماني”.

* * *

الهوامش:

- المقال منشور على موقع Deutsche Welle الإلكتروني بمناسبة ذكرى ميلاد أرنو شميدت التي تحلّ في الثامن عشر من يناير.

- حلم قصاصة الورق

بدأ أرنو شميدت في كتابة رواية “حُلم قصاصة الورق” سنة 1963 ونشرها في ألمانيا الغربية سنة 1970 على ورق مقاس A3، وهي كما أشير رواية ضخمة معقدة، تستلهم عوالم “يقظة فينيجين” لجيمس جويس، وقد نقلها إلى اللغة الإنجليزية المترجم جون إي. وودز سنة 2016 فيما يناهز 1,496 صفحة تحت عنوان Bottom`s Dream، وعنوان الترجمة الإنجليزية مستلهم من شطر شعري ورد في الفصل السادس مسرحية شكسبير حلم ليلة صيف يقول: It shall be called Bottoms` Dream, because it has no bottom.

تدور أحداث الرواية في يوم صيفي واحد من أيام سنة 1968 حول زيارة المترجم باول ياكوبي برفقة زوجته وابنته المراهقة إلى الكاتب دانييل باجنشتيشر الذي يعيش وحيدًا في بيته الواقع في الريف، فيبدأ حوار ممتد حول مشاكل ترجمة إدجار آلان بو إلى اللغة الألمانية، وتتشعّب الأحداث في مسارات غامضة