ذبلت خيوط الشمس ، وسقطت غصون الضوء ، وبرد السعير ؛ فمات النهار ، وخلدت الآلام , والأحزان , والشقاء آيبة إلى جلباب الليل الأسود الذي يطوق تلك اللوحة . وحينها ارتعدت أصقاع السماء ، وتوسلت ضوء القمر أن يبزغ . بين ثنايا اللوحة ثلاثة أطفال شاحبو الوجوه ، مفطرو الأقدام , والقلوب , يجثون حول سرير السحابة البيضاء, ويتمسكون بخيوط نور توصلهم بالسماء .. في صالة العرض تساءلت :
- لمن هذه اللوحة ؟
تقدم نحوي مشرف المعرض :
- هذه اللوحة لطفلة اسمها "جارية النجار"
أجفل برموش عينيّ ؛ لتوضيح الرؤية , وأنظر في اللوحة ، ابتسامات مذبوحة تظهر على شفاههم ، يفترشون السحاب وينام بعضهم بجوار بعض كشواهد القبور ، يمدون أياديهم إلى الأعلى , ويتناغمون بموسيقاهم التي تتجاوب لصداها أرجاء السماء ؛ فترن نداءاتهم في بلاط العرش . الوجه الأصغر فيهم يسترجع في رقاده الآمن من سعير البشر. يوم وُضِع جوار برميل النفايات ذات مساء أفل عنه شاهد السماء ( القمر ) , ويتحسس لدغ النمل وهي تهرع من بقايا الطعام البارد إلى جسده الدافئ القادم من عالم الرحم للتو . تتفتح عيناه على يومه الأول وشمس البكور ترفل قيود المساء لتدفئ جسده المتجمد ، وتدفع عنه فلول النمل المتكومة فوق جسده , وفمه المنتظر حلمة الثدي الرافض أن يتشوه تكوره , ويلين ملمسه ؛ فتكرهه قبضات العُشاق .
يصبح الناس على صراخ ضعيف بجوار برميل النفايات فيفرون ؛ لكي لا يلتصق العار بهم ، ويتلسن عليهم الناس . وقد دفنوا إنسانيتهم في صدورهم المعلبة بختم العرف والعار . لتقدم الهرة البرية التي لا تسكن البيوت وتجاور البشر ، فترى اليدين الضعيفتين تتشبثان بالهواء واللاشيء ؛ فتهرب من جوار الجسد الضعيف وهي تلعن البشر . انتصف النهار والشمس تحث خطاها نحو الغروب لأن نبضات ضوئها تكاد تتوقف لتعلن المغيب في وسط السماء ؛ كي لا تضيء أم الطفلة وهي تذهب إلى شقة أبي الطفلة الخطيئة ، أو تبحث عن فارس جديد لخطايا جدد .
أما الطفلة فقد غادرت الحياة قبل أن تغادر الشمس سماءها وهي تبتسم..
وها هي خالدة على فرش السحابة البيضاء .
على اللوحة يدا الطفل الثاني ترتفعان وقد ربح منهما قدر الشقاء نصيباً .. تتهتك لهما ستائر السماء , وتتحطم لهما أغلال وقيود ، مازالت أثار ألوان أصابع الحلوى في يده . لون وردي ، بنفسجي ، وأصفر . يوم كان يدور حول السيارات في الجولة يروج لبيعها ويُمنّي نفسه باستبدالها بأقلام تحملها أصابعه . تحركت يدٌ بورقة نقود مقابل أصابع حلوى ذلك اليوم ؛ ليقفز الطفل من الفرح بما يحمل من نقود . فتعاجله عجلات سيارة فارهة تسرق فرحة لحظته ؛ فيتجمهر الناس حول فردتي حذائه إحداهما كبيرة والأخرى ممزقة فيرمونهما في برميل النفايات وهم يسخطون عليه ، ويتأوهون لضرر السيارة الفارهة .
ينزل صاحب السيارة الفارهة ليداعب عطره أنوف الحاضرين ، وينظر في ساعته يبدو أنه قد تأخر عن موعد مهم . اللون الأحمر الملتهب قد غطى ألوان أصابع الحلوى , ومرارة طعم الموت طغت على سكر الحلوى في فم الطفل.
التفتُّ إلى مشرف المعرض :
- وأين هي صاحبة اللوحة ؟
- أترى الوجه الطفولي الثالث على اللوحة ، هذه هي (جارية النجار).كانت تعشق اللوحة واللون , وكانت تحلم دوماً أن تكون (طبيبة) ؛ لتعالج أرواح الملائكة الصغار السقيمة المعوزة , وقبلها تطيب روحها المثقلة بالتهاب رئوي حاد . وعلّها أن تطيب روح أبيها المولعة بدخان السيجارة ، والذي وضعها يوماً (رهن ) عند صاحب البقالة مقابل علبة دخان يومه . وبعد مغيب الشفق ووأد الغسق لنجوى الضوء ، رحم صاحب البقالة صراخها وبكاءها ليعطيها علبة ألوان ؛ لتسكت . وأطلقها تعود في طريق البيت فتلاحظ نقطة ضوء حمراء تستعر متوهجة ثم تخفت بجوار بيتها , تشم رائحة النقطة ؛ فتعرفه وتحس بظلامه يطغى على ظلام الغسق . تدخل إلى حجرتها مع أخواتها ، لتكمل لوحتها وتلون حلمها - طبيبة - بالألوان الجديدة لكن حلمها توقف عند هذا الحد حينما نهشتها نوبة سعال حادة .
فرسمت على وجه السحاب ميزاناً أبيض تحمله أيادي الطفلين وهي ثالثتهما وفوقه عبارة " آلهة العدالة والحق لا ترحم " . لم يكتف السعال بالحد المألوف ذلك اليوم ، بل تكاثف حتى أضاق مجرى تنفسها , ليتوقف وهو يسيل اللون الأحمر الدافئ من أنفها . فسال على لوحتها ليكمل اللون الأخير خطوط لوحتها الناقصة.
أسفل اللوحة وتحت فرش السحابة البيضاء غبار ، وأرض مضطربة ، ووجوه بلاستيكية واجمة . وعلى خيوط الغبار أحرف متناثرة وعبارات يجرفها صرير الريح , وأعين البشر تقرؤها : "حاذروا ظلام أنفسكم ؛ سيلغي الأرض .. ويمحو السماء"
21 / 5 / 2010م