أندهشُ دائماً كلما تذكرت أنّ روايات محمد ناجى لم تصبح موضوعا بعد للرسائل الجامعية الأكاديمية، وأُتبع الدهشة بتساؤل بسيط: "عن أي شيء تُكتب الرسائل إذن إذا كانت تتجاهل روائياً له مشروع واضح المعالم يقدمه بأعلى درجات الحرفة، وبأمتع أدوات الفن؟ ". ومما يثير العجب (بعد أن تجاوزنا مرحلة الدهشة) أن مفاتيح عالم "ناجى" ومدينته الروائية بدت واضحة المعالم منذ روايته الأولى "خافية قمر "، ثم تبلورت الصورة وأبعادها مع رواياته التالية: "لحن الصباح" و "مقامات عربية" و "العايقة بنت الزين" و "رجل أبله .. امرأة تافهة" و "الأفندى " و "ليلة سفر". لا بل إن الأسئلة التى طرحتها هذه الروايات ستجدها أيضا فى المونولوج النثرى البديع "تسابيح النسيان" . هى جدارية ضخمة ملونة تتزاحم فيها الوجوه، وتُسمع فيها الأصوات والآلات، تتحدث عن الحاضر ولكن من باب واسع اسمه الذاكرة، ترسم البشر من الداخل والخارج، بالقلب والعقل، وحول المشهد بقايا أساطير وحكايات نلتمس منها الفهم والتفسير، الجدارية عن الوطن مثلما هى عن الإنسان الباحث عن معنى وطريق، الإنسان الذى يسأل سؤال "عبد الحارس" المؤلم فى "خافية قمر": " يا حفيد الزباء خبرني كيف تفرّق الصحاب وقضيتهم واحدة؟ وكيف نسى الناس ملكهم البكّاء حتى ضاع وريثه فى البرية؟!، لأجل ذلك تبدو الجدارية ملّونة بالأخضر (لون الحياة والحلم) والوردى (لون النشوة والحب) والرمادى (لون الموت والحرب)، وتظهر شخوصها معلّقة بين السماء والأرض مثل كائنات "مارك شاجال"، ويستدعى المشهد كله علامة استفهام ضخمة كتلك التى ارتسمت بيت الرجل والمرأة فى "رجل أبله .. امرأة تافهة "، وكأنها ترتسم بين الإنسان والحياة . ترى ما المطلوب أن ترسم أكثر من جدارية بعمق واتساع تجربة الشخوص والوطن والبشر حتى يدركها الآخرون؟
نتحدث بيقين عن مدينة روائية صنعها "ناجى"، وهذه المدينة لها مفاتيح سنحاول هنا تفصيل حرفتها ووصف معالمها وطريقة استخدامها، وراء سهولة الحكى وبراعة الحواديت صنعةٌ وسبْكٌ، ورؤيةٌ ووجهة نظر ليست فقط عن الطبيعة البشرية، وعن تحولات الوطن العاصفة، ولكن أيضا عن فن الرواية ومدى قدرته فى التعبير عن الأسئلة والتاريخ الواقعى أو الأسطورى . بدون هذه المفاتيح ستحصل فقط على متعة المستوى الأول من روايات "ناجى": جمال الحكى وبهجة الحواديت، ولكن ستفوتك بقايا المتع: وخْزُ السؤال، ومغزى الفكرة، ومتعةُ الاكتشاف، وسرّ الصنعة، ونشوة التأمل، وقانون اللعبة .
أول المفاتيح وأهمها جميعاً هو "الذاكرة ". "محمد ناجى " هو أديب البحث عن الذاكرة بامتياز، لا بل إن فن الرواية عنده هو "فن تفريغ الذاكرة سواء على مستوى الشخصيات أو الوطن أو البشرية. نقطة البدء في أي رواية له أن تبحث في الطريقة التي تعمل بها الذاكرة، ذاكرة الرواية، كل شخصية لها علاقة ما بالذاكرة سواء سلباً أو إيجابا، وهناك وراء الجميع الراوي العليم/ أو شبه العليم الذى يستكمل التفصيلات. فى بعض الروايات هناك حارس الذاكرة الأسطورية السحيقة (عبد الحارس فى خافية قمر، العم الغامض الذى يحكى عن الجد حمروش فى الأفندى، نازك التى تحكى عن ستّنا فى الأفندى، نوسة وسمعان والعايقة الذين يحكون عن ملوك وفتوات وبدايات الأشياء فى العايقة بنت الزين، فانوس الذى يحكى عن فارس المدينة والعدل فى لحن الصباح)، وفى روايات أخرى هناك من يعيش حرفياً في الذاكرة بعد أن اصبح على هامش الواقع (عبد القوى وكوكب فى "ليلة سفر"، والرجل فى رواية "رجل أبله .. امرأة تافهة "، ونوسة فى "العايقة بنت الزين")، وهناك شخصيات تعانى مشكلة مع الذاكرة (نصر/ المهزوم نفسياً الذى يتأفف من حكايات الجد فى "ليلة سفر"، و"حسين جعفر" الذى تُمسح ذاكرته تماما فينسى اسمه فيموت في "الأفندى"، والرجل الذى فقد ذاكرته في "ليلة سفر" فأصبح بلا اسم، فمنحوه اسم "صنّارة"، ولكنه ظل يحاول أن يتذكر فينسى، يتدلّى فكّه معبراً عن علامة استفهام معلّقة، إنسان معلّق في الفراغ، و"سلامة" فى "مقامات عربية" الذى يبوح إذا أراد ويبلع لسانه خوفاً فتسكت الذاكرة) .
ليس الشخوص فقط التى ترتبط بالذاكرة، كل شئ تقريبا له ذاكرة: الأماكن (واقعية أو أسطورية)، والأشياء (فى رواية الأفندى تفتح وداد قروى صندوق الخواتم فتخرج منها كل الذكريات والشخوص)، والصور (صورة القاضى مثلا فى العايقة بنت الزين التى تنوب عنه)، الآلات الموسيقية (كما فى العايقة)، صوت الريح الذى يحتفظ بالحكمة عبر القرون (من "لحن الصباح نقرأ: " لو أنصتّ جيداً لسمعت، ثمة ارتعاشة قوس خلف الليل والبيوت، تكاد الأذن تمسك الصوت لكنها شاخت، خسارة . بالتأكيد هناك رجل فى المدينة يمكن أن يسمع بشكل أوضح، ولكن هل ينتبه؟ لاشئ يموت عند ناجى طالما أن هناك ذاكرة . فى رواية "الأفندى" تستطيع أن تقول أن هذه العبارات تلخص رأى "ناجى" فى فكرة الذاكرة: "أن تكون بلا ذاكرة، فذلك يعنى أنك غير موجود تقريبا. أظن أن الأكثر حسماً للتعريف هو الذاكرة، الإنسان حيوان له ذاكرة. الذاكرة، ذلك الإجهاد الساطع، تعنى أنك لا تزال موجوداً، لاتزال حياً، عندما تتلاشى ذاكرتك تتلاشى معها. الذاكرة عند "ناجى" وفى رواياته هي الحياة، والنسيان موت، لا أقل أبداً من ذلك، وبقدر نجاح الشخصيات فى التذكّر بقدر مدى وعيها بمأساتها (عبد الحارس الذى يعبّر عن الإنسان الحائر فى البحث عن أصله مابين خافية وخلاء، والأفندى الذى لايفهم ولا يكتب اسم حمروش فى شهادة ميلاده فلا يفهم نفسه ولا يعرف أن طريق الجسد مغلق الأبواب، ونازك التى تكاد تحكى حكايتها هى مع الأفندى وهى تقص حكاية ستّنا مع الواطي التى تصلح بدورها تعبيراً عن كل واطى اغتصب الكرسى فانتقمت منه ستّنا، وتصل الماساة الى ذروتها عند "صنّارة " الذى لا يتذكر فأصبح منذوراً للنسيان، يقول عنه "عبد القوى": هو إنسان مثلنا، لكنه مسكين فقد الذاكرة . فترد عليه "كوكب": وهل هذه مسألة بسيطة؟! يا أفندى، مالا تعرف أوله لا تستطيع أن تخمن آخره . فاهم ."
المفتاح الثانى فى عالم " ناجى" هو الاسماء سواء أسماء الشخوص أو الروايات نفسها . كل اسم له معنى ودلالة ترتبط بمغزى الحكاية، وهناك دائما لمسة سخرية تجعل للعبارات معانى مزدوجة امتداداً لفكرة ائتلاف المتناقضات التى تظهر فى الروايات كلها إذ لا يوجد أبداً لون واحد أو وجه واحد للأشخاص، لايوجد أبيض بدون أسود، لاتوجد أفكار كبيرة بدون تفاصيل صغيرة وتافهة . سبق أن شرحت معنى "خافية قمر" عند تحليل الرواية العظيمة، ولكنى أدعوك الى تأمل تأثير هذه الصدمة التى يصنعها التناقض بين القمر عنوان الوضوح ومصدر النور وبين الخافية التى توحى بالوحشة والإظلام والغموض، أدعوك لتتأمل هذا العنوان "مقامات عربية" فتتذكر فن المقامة الذى يعتبر أحد الخطوات على طريق فن الرواية، ولكن البناء لا يقلّد المقامة حرفياً لأنها تحتاج الى راو وبطل جوال، وليس لدينا شئ من ذلك فى "مقامات عربية"، كل العلاقة فى هذه المشاهد المتتالية التى تمثل قصة سلطان أو حاكم، والتى تمتزج بذكاء وحرفة بأسلوب حوليّات المؤرخين (كابن إياس والجبرتى)، مضافاً إليها خيال ألف ليلة وليلة الخارق، ولكن توقف وتأمل أيضاً: أليست " المقامات " هى أيضاً الضروب اللحنية التى تُصاغ فيها الأغنيات، ألا يقول لك العنوان: "هكذا يغنى العرب لحن السلطة والسلطان؟ ثم ألا تُحيلك كلمة "مقامات" الى تعبير "أصاحب المقامات العالية أو الرفيعة"، فلتكن هذه رواية عن "أصحاب المقامات العربية .. الوضيعة ". فى عنوان رواية "لحن الصباح" ما يدعو الى التفاؤل وبداية اليوم بسعادة، ولكن الرواية عكس ذلك على طول الخط: مأساة رجلين يبحثان عن العدل الذى يمكن وحده أن يكون "لحن الصباح" الجدير بالتفاؤل. "الأفندى" لم يكن أفندياً/ موظفاً مربوطاً على درجة مالية قط، ولم يكن أيضاً شبحاً للأفنديات (أولئك الذين يرتدون البدل للمشاركة فى الجنازات والمناسبات نظير أجر)، ولكنه كان أفنديا قطاع خاص جداً لا يخدم إلا نفسه وجسده، كان أفندياً يليق بعصر سحق الأفنديات الأصليين. ومثل العناوين، يمكنك أن تكتشف مفاتيح كثير من الشخصيات من أسمائها، الإسم عند "ناجى" هو الهوية والشخصية وبدونه لا يوجد معنى للإنسان (من رواية الأفندى: " عندما يصل الأمر الى درجة نسيان الاسم تكون قد وصلت الى أحرج نقطة، عُدت الى الحيوان مرة أخرى، يبقى أن ينطفئ جسدك، ينسى حتى شفرته الداخلية، شفرة الطبيعة، يموت. أغمض عينيك وحاول أن تتأمل نفسك بلا اسم، أن تنظر هوّة النسيان، حاول مرة، الهوّة) تغيُّر الاسم يغيّر الجسد والهوية فتبدو "قمر" انساناً آخر مختلفاً عن "سلمى". الأخيرة تتحقق لها السلامة وتحتفظ بصورة الأم البريئة والثانية تتعرض للإغواء وتتقلب تقلّب القمر، ويبدو "عبد القهار" شخصاً آخر غير " إدريس البكاء"، الأول صارم ومحارب، والثانى رءوف رحيم، اسمان يصنعان شخصين مثل "الفاتح " الذى ينشطر الى شخص يبيع ويقبض ويتنازل اسمه "شبراوى" . الذى حارب الأعداء يتحول الى الحرب على نفسه، يقتلها بلا رحمة. الفكرة يتم تجسيمها وتضخيمها فتتكاثر الأسماء والأجساد . طوفان من الأسماء والمعانى فى روايات "ناجى" تفتح لك أبواب القراءة والتفسير: حبيب الله سابقا/ حبيب المال حاليا، نازك/ المرأة الرقيقة بالفارسية، فانوس الذى يضئ الطريق، سمعان فاقد البصر الذى يمتلك البصيرة، فايز/ نصر/ عبد القوى/ الفاتح مهزومون رغم الأسماء الخادعة، رعد الجبان، النص نص المهزوز، كوكب/ المنيرة لغيرها، عسراوى من العسر والشدة والمأزق الذى يعيشه، مباهج التى أصبحت رخيصة، رقبة /المائل الذى لا يعرف التوازن، قدمٌ فى السماء وأخرى فى التراب، برهان الحيران رسول الأقدار التى لا نفهمها، البرهان رمز الدليل القاطع فى الرياضيات يبدو مثلنا حائراً فى فهم الأقدار رغم أنه من أدواتها، نور / النور الجديد الذى ربما يضئ حياة الأفندى بعد أن أفلس روحياً، الغرباوى بيزنس مان ينبئ بالخراب ، زغلول الدسوقى المناضل من زمن يذكرك بالزعامات المقدسة، المعلم كسّاب انفتاحى آخر يريد أن يكسب دنيا وآخرة، حسن الحلوانى "اللى بنى مصر" وعاد إليها مريضاً، العايقة ست الحسن والجمال ...الخ .وداد قروى لا تنادى "الأفندى" أبدا باسمه، تقول له فقط "ياولد" لأنه لايزيد فى نظرها على ذلك، وفى نفس اليوم الذى يقوم فيه برفع لافتة "الأفندى" المُنيرة، تكون "نازك" مشغولة بممارسة طقوسها فى الحديث عن مأساة "ستّنا"، والدعاء على "الواطى"، ولكن الأفندى لا ولن يفهم، صحيح هو مجرد طفل فى أنانيته الساذجة .
هناك استثناءان فقط فى أهمية الاسم: الأول في رواية "رجل أبله .. امرأة تافهة " حيث لن نعرف اسماً لا للرجل ولا للمرأة رغم أن هويّات الاثنين وتفاصيل التفاصيل عنهما مرسومة بعناية فائقة ومثيرة للإعجاب، السبب أن قصة الرجل الباحث عن الأفكار الكبيرة، والمرأة الباحثة عن التفاصيل تتجاوز حالة محددة لأنها تكاد تصف جيلاً بأكمله أعطى ولم يأخذ سواء فيما يتعلق بالأفكار الكبرى، أو فيما يتعلق بالتفاصيل الصغيرة، الاستثناء الثاني فى المونولوج النثرى "تسابيح النسيان " حيث لانعرف للمتحدث اسماً، أولا لأننا نعرف أن "ناجى" نفسه يمارس التأمل بشكل مباشر وليس عبر شخوصه، وثانيا: لأن هذه التأملات تبدو مرتبطة بقضايا وجودية عامة لا تستدعى أسماء محددة، ولا يحسمها أن تكون من بلد أو دين أو هوية محددة .
المفتاح الثالث لعالم "ناجى" هو أن تستقبل الرواية كسؤال لا كإجابة . كل رواية تنتهى بدائرة مفتوحة وكأنها تمهيد لرواية جديدة، وكل رواية يمكن أن تركز مغزاها فى سؤال أو عدّة اسئلة. فى "خافية قمر" السؤال الأبرز هو: كيف نعرف الحقيقة إذا كان موضوع المعرفة والباحث عنها متقلبان ومتغيران؟ وسؤال "لحن الصباح" هو: كيف تطلبون مجتمعا يخلو من التشوهات (بدنية ونفسية واجتماعية) فى ظل غياب العدل؟ والسؤال فى "مقامات عربية " هو: من يلعبْ بمنْ؟ السلطان بالسلطة أم السلطة بالسلطان أم أن الاثنين ألعوبتان فى أيدى الزمن؟ والسؤال فى "العايقة بنت الزين" هو: من كسب الحرب .. الذى انتصر في الجبهة أم الذى جمع الغنائم فى الداخل؟ والسؤال فى "الأفندى" هو: كيف يمكن أن تعيش لنفسك دون أن تفقد جزءا من نفسك/ من قلبك/ من روحك؟ والسؤال فى "رجل أبله .. امرأة تافهة" هو: "هل الحياة أفكار كبرى فقط أم تفاصيل تافهة فقط أم الاثنين معاً؟ والسؤال فى "ليلة سفر" هو: "هل تنجح الذاكرة وحدها فى سد الشروخ سواء بين الأجيال أو فى جدار المنزل أو فى جدار الوطن؟ وسؤال "تسابيح النسيان" هو: "هل نستطيع أن نكون بالذكرى بعد أن كنا بالجسد؟، وداخل كل سؤال كبير عشرات الأسئلة الفرعية البسيطة والمعقدة وكلها تحاول أن ترسم ملامح كائن حائر بين الروح والجسد، بين العقل والقلب، بين التمرد والتسليم بالوعد والمكتوب . إن طبيعة الرواية كسؤال هى الذى تعطى روايات "ناجى" هذه الديناميكية وكأنه صياد متحرك يطارد أيضاً هدفاً متحركاً، ولاشك فى أن "ائتلاف المتناقضات" سواء فى الأسماء أوفى المزج بين الواقعى والأسطورى، أو فى تعدد الوجوه للشخصيات، أو فى التغيّر والتحوّل الدائم للشخصيات، أو النظر للأحداث من خلال مكعب لا من خلال سطح مستو، أو تجسيم وتضخيم الشخصيات بطرق متنوعة، كل ذلك يدعم هدف الرواية كسؤال، ويجعل من القارئ "شريكاً كاملاً "فى التفاعل مع النص ولو حتى من باب التخمين والإستنتاج، يضاف الى ذلك أنه رغم وضوح منطق الصواب والخطأ فى سلوك شخصيات "ناجى "، ورغم أن انحيازات الروائى الكبير واضحة، وسخريته تشير الى موطن الداء، إلا أن رواياته لاتنزلق أبداً الى أخلاقية تعليمية مباشرة، إنه لا "يدين" شخصياته بقدر ما يقوم "برثاء" ضعفهم وسقوطهم، فى "الأفندى" مثلاً يتعاطف " ناجى " حتى مع من يمارسون الثرثرة الثقافية تبريرا لورطتهم وانهزامهم، فتنتهى الرواية بأغنية تقول: "خوفى عليهم يا "نوخذة" خوفى عليهم، عينهم على "القرش" فى البر، والقرش فى البحر عينه عليهم، خوفى عليهم". حتى الشخصية الأسطورية ذات الأبعاد السياسية الواضحة، والتى يطلق عليها اسم "الواطى" لا تُتْرك أفعالها البشعة دون تفسير:" وداخل السوار كان الواطى، لا عينه ترى الجمال، ولا قلبه يعرف العشق، عجوز قبيح، بعين زجاج وقلب حجر ووجه صفيح، لكنه صاحب جيش وأمر، حوله حرس، وفى يده جرس، إذا صلصل يركع له البشر ". وعندما يرتكب جريمته ويأخذه الملاكان الى السماء لعقابه يعيشون فى حيرة كبيرة: كيف يمكن عقاب من لا يعرف معنى الجمال على قتل الجمال؟ أليس العقاب على قدر المعرفة؟ لذلك بقى "الواطى" معلقاً بين السماء والأرض والجنة والنار. هذه اللمسات الإنسانية الرائعة تجعل" ناجى" ممن يتعاطفون مع الإنسان بحكم التناقضات التى ولد بها والتى قد تمزقه تمزيقاً دون أن ينزلق الروائى الكبير الى تبرير الخطأ أو الدفاع عنه . إنه يقول لك: هذا مع الأسف هو الإنسان الذى يقفز تطوره المادى بينما يتجمد أو يتراجع تطوره الأخلاقى . حتى شخصية باعت كل شئ لمن يدفع مثل "فايز " يجعلها الروائى الكبير تطرح سؤالاً رائعاً رغم سقوطها هو: "هل يستطيع وعينا أن يحدد المصائر؟ أن يتحكم بها؟"
أما المفتاح الرابع فى عالم ناجى فهو "المرأة" من المستحيل أن تصل الى أبعاد كل رواية دون تحليل شخصياتها النسائية لأن المرأة فى أعمال "ناجى" لا تُقدّم فقط بملامح واقعية (مثل كوكب فى ليلة سفر، ووداد قروى وموزة فى الأفندى)، ولكنها تبدو فى روايات وأعمال أخرى كما لوكانت مرادفا للحياة متعددة الوجوه (مثل نازك فى الأفندى، ومثل المرأة التى ندهت حمروش فى نفس الرواية، ومثل قمر التى كانت سلمى فى "خافية قمر"، ومثل جول فى تسابيح النسيان التى سرعان ما تندمج مع الحياة التى تنسى عشاقها رغم الذكريات المشتركة، ومثل كاترين التى تتعرى دون أن تكشف لعسراوى أبداً لغز الحياة)، كما تحمل المرأة رموزاً مستترة وكأنها الوطن المُنتهك (العايقة فى العايقة بنت الزين، وستّنا فى الأفندى)، وفى بعض الأعمال تضع المرأة قدماً فى الواقع وقدماً فى الأسطورة، ويُقدّم الاثنان بمنتهى القوة والبراعة (العايقة ونوسة فى العايقة بنت الزين، ونازك فى الأفندى)، حتى المرأة فى "رجل أبله .. امرأة تافهة " تذكرك بإيزيس التى تلملم أشلاء الرجال المثُخنين بالجراح، والحاجة ويكا فى " لحن اصباح " هى الوحيدة التى تعطف على البطلين المشوهين . المرأة فى روايات "ناجى" لها شخصية مستقلة، قوية، وتعبر عن الحياة، وتحمل على ظهرها ذاكرة البشر الأسطورية، هى البيت والوطن، هى المتعة والعذاب، أما رجال روايات "ناجى" فهم أطفال بالمقارنة بنسائها الرائعات، فى تلك الروايات يتساند الرجال على النساء (نازك والأفندى فى رواية الأفندى، كوكب وعبد القوى فى ليلة سفر، سمعان ونوسة فى العايقة بنت الزين، الرجل والمراة فى رجل أبله وامرأة تافهة) . الرجال فى روايات " ناجى" يثرثرون ويصخبون ويرتكبون الحماقات ولكن النساء تمتلكن السحر والسر، المرأة هى متعة الجسد ومعراج الروح معا، فى "لحن الصباح " مثلا هذه العبارات: "سحبته المرأة الى الخلاء، وهناك تاه فى الجمال الذى لم تره عين، طاوع نفسه، وخلع أسمال الدراويش، ولما همّ بها، انشقت الأرض وابتلعتها، فانفتحت بصيرته وعرف أنه وقع فى الشرك، ستر عورته بيده ونظر الى السماء، سطعت الشمس فى منتصف الليل، وتفتحت شرفات السماوات "، وفى "الأفندى" ندّاهة أخرى متعددة الوجوه: " جدك حمروش خدعته السماء، مديحة وصبيحة وسميحة، لم ير الوجه الحقيقى، وتاه فى تقلبات الوجوه والسماء ........... كان يتتبع النساء فى السواق باحثاً فيهن عن وجه الجنيّة، أو يتوه فى الشوارع باحثاً عن أبواب كانت قد فُتحت أبوابها له يوماً، لم يعرف أنها بيوت مسحورة، يركع ويبكى على الأعتاب: "أين أنت ياهى؟ "، وهذه امراة كأنها الحياة فى "تسابيح النسيان ": " تماثيل صلصال بلمسات أصابعك / عيونٌ شاخصة فى مرايا ذاتك / تشتغلينهم على عجل / لينظروا فيك ما لاترين فى نفسك / وهبتهم نعمة الوجع / البصر الذى به يسبّحونك / وتتظاهرين بالنسيان / بين غمضة وغمضة / إشراقٌ وألف غياب / من نفس النقطة تقريبا ". وهذه أيضاً المرأة / الحياة التى تكاد تكرّر لعبة "كاترين "،والمقطع من "تسابيح النسيان ": "المرأة التى قامرت بكل مفاتنها / أعطته كل ما يريد / (ليس فى الوقت المناسب دائما ً) /وبخُلت عليه بالقطعة الأخيرة / وهو مثل كل مرة يتعرّى / يتأهب لدور جديد / يعرف أنها لن تفرّط فى ورقة التوت / لكنه مرة أخرى / آه .. / يحاول مرة أخرى " .
تنسجم فى عالم "ناجى" كل التناقضات لأنها ببساطة منسجمة فى عالم الإنسان، تهبط الأسطورة من السماء والجبال لتفسّر لنا ما يحدث على الأرض، يندمج الأسطورى والدينى والفلسفى والواقعى لأنهم يندمجون فعلاً فى ذاكرتنا وفى أفعالنا وأقوالنا، نعلو من الجسد الى الروح ثم نهبط من الروح الى الجسد، تحاصرنا دوائر ولكن يظل هناك دائما منفذٌ للخروج، تغيب أقمار وتشرق شموس والإنسان بين حربين: حربٌ فى داخله وأخرى فى خارجه، حروبنا أيضاً ضد الزمن وضد النسيان وضد ضعفنا وخوفنا وقيودنا، وانتصارنا عندما نعيش لحظة وعى ويقظة روح ونبضة قلب وفرحة حب، حلمُنا أن نُبحر فى سفينة وسط أمواج هادئة، وأن نختار بقدر اتساع الدائرة حولنا، وأن نعرف بقدر ما نستطيع، وأن نُحاسب فقط على قدْر ما نعرف .
مدينة "ناجى" الروائية لها أبوابٌ بعدد أسئلة الوطن والبشر، لن تخرج منها إلا وقد عرفت أكثر عن زمنك ووطنك وإنسانيتك، ستفرح بالأمل، وقد تخجل من تصرفات كل "واطى" فتسأل الروائى الكبير هذا السؤال اللذيذ: " هل كان لابد يا سيدى أن تضئ كل هذا النور؟ !