دار الهواء حول نفسه دورتين، ثلاثا، أربعا، فاستيقظ التراب الراكد منذ زمن، وبدأ يلاحق موجات الهواء الصغيرة التي تدور حول نفسها، اتسعت الدائرة، فارتفع التراب عموداً أحمر، أخذ مكانا واسعا في الفضاء الفسيح على حدود المدينة، مدفوعا بريح أكثر يأسا، صارمة، بدأت تركض كأنها امرأة تبحث عن حب مفقود.
الهواء يصارع نفسه في أعماق المدينة، يهب عليها من كل الجهات، كأنه يريد ابتلاعها بصفير حاد، غاضب وصارم، والتراب يتساقط بغزارة على الرؤوس المبهورة، و يغطى أسطح المنازل والمساجد، يغمر فناء المدينة بالعتمة، ويتحرك إلى الضفاف الأخرى، يعبر الشوارع، الأرصفة،الحارات، وجوه الناس، يغمر الجدران، الأشجار، ومقابر الأجداد، يغمر كل شيء مدفوعا برغبة ما، غاضبة وكئيبة، في جو رهيب.
الرجال والنساء والشيوخ، يركضون إلى مساكنهم، مثل فئران مذعورة، يغلقون الأبواب والنوافذ بأصوات تتوحد في صندوق الذعر: غضب عارم حل بالمدينة الطيبة.
من الداخل تأتى أصوات الشيوخ غامضة، الأصوات الأكثر ارتفاعاً ويأسا، يصرخون في ضجيج الأشياء حولهم، للسماء سطوتها وللريح جبروتها وللأرواح حبورها وخوفها، يعبئون الكئوس المكسورة بالتعاويذ والبكاء، يضيفون خوفا على خوف، الأطفال ينسلون من مساكن آبائهم خفية، يركضون في الحارات، كأنهم يحتفلون بضيف المدينة، في مهرجان بهجة وشرود وخوف لذيذ، يرقصون في الحارات للذي دخل مدينتهم ممتلئ الفم بالكلام، يركضون في الشوارع وتحت الجدران، يزفون وقتهم إلى حرارة أخرى مكتنزة، عذبة وجريئة في عرس كأنه موصول منذ آلاف السنين.
يزفون الغبار العالق بثيابهم وشعر رؤوسهم، إلى جدران أعمارهم المدهونة بفرح أصابعهم الصغيرة، يقرءون أسماءهم وتواريخ ميلادهم ساقطة تحت الجدران أكواما سوداء.
الريح تتجه جنوبا تقود تراب المدينة، وتزيح بعضا منه عن قرص الشمس ، وتبدو في خروجها المهيب كما لو أنها عروس من النار.
الأطفال ينفضون التراب عن شعر رؤوسهم وثيابهم، وأصواتهم القديمة، يرشون الماء على التراب الذي بدأ في الركود، يعجنون الطين من جديد، يتذكرون أسماءهم القديمة وتواريخ ميلادهم، يرسمونها على الجدران الخرسانية مرة أخرى، الجدران التي صارت أكثر بريقا تحت شمس ساطعة وجديدة، يمرون بأصابعهم على الجدران المدهونة بأحلامهم الطفلة، يغنون بصوت واحد للمدينة، للشمس، للريح، وقبل ذلك يقولون للناس:
اخرجوا من منازلكم، لأن الريح لم تعد ريح.