يختار الباحث المغربي أحد أجزاء أنطولوجيا الحاءات الثلاث: الحب/ الحلم/ الحرية لمحمد سعيد الريحاني ليتناول لنا مختلف تجليات الحب في مختاراته القصصية.

ثنائية الأسطوري والواقعي في أنطلوجيا الحب

التيجاني بولعوالي

(الحاءات الثلاث) مشروع نقدي طموح
يعتبر مشروع (الحاءات الثلاث) القصصي والأدبي، على الإطلاق، أهم مشروع نقدي حداثي تشهده القصة المغربية المعاصرة، يقف خلفه شخص مثابر يسهم بشكل لافت ومثمر في مختلف قضايا الثقافة والأدب المغربي خاصة، والعربي عامة، وهو الأستاذ محمد سعيد الريحاني، الذي راهن بقوة على أن يثبت مدى خصوصية القصة المغربية وتميزها وفرادتها، فسعى حثيثا إلى تحقيق ذلك المنال، عن طريق طرح هذا المشروع الأنطولوجي، الذي يؤرخ للقصة المغربية المعاصرة، قلبا وقالبا، دلاليا وجماليا، معنى ومبنى. وهو مشروع أطلق عليه (الحاءات الثلاث)، مختارات من القصة المغربية الجديدة [1]، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء، كل واحد منها خاص بموضوعة ما من الموضوعات الحاضرة بكثافة في القصة المغربية، وهي موضوعات: الحلم والحب والحرية، ثم إن تلك الأجزاء الثلاثة عبارة عن أنطولوجيات تتضمن مختارات قصصية لمجموعة من القصاصين والكتاب المغاربة، مع ثبت جانب من سيرتهم الذاتية والعلمية، مما يجعل منها مشروعا نقديا تصنيفيا، يحاول الأستاذ الريحاني نسجه بدقة تامة، ووعي عميق، سواء أعلى مستوى اختيار النصوص، التي تتميز بالتنوع من حيث المضامين والأساليب والتجارب، أم على مستوى المنهجية المتبعة في تشكيل هذا المشروع، إعلاميا حيث يعمل الأستاذ الريحاني كل ما في وسعه من أجل نشر وتعميم مشروعه الأنطولوجي، أو معالجةً حيث يعرف دوما بالمتن القصصي المختار، إما من خلال مقالاته التقديمية أو حواراته الكثيرة والمتنوعة أو غير ذلك، أو ترجمةً حيث قام بترجمة الكثير من قصص أنطولوجيا الحاءات الثلاثة إلى اللغة الإنجليزية، وينوي أن يصدرها كذلك في نسخة ورقية إنجليزية.

هكذا فإن الغرض الأساس من مشروع أنطولوجيا القصة المغربية الذي أطلقه الأستاذ محمد سعيد الريحاني، ليس هو فقط التعريف بطبيعة القصة المغربية المعاصرة وبحفنة من كتابها، وإنما أكثر من ذلك، وهو التأسيس لمدرسة مغربية قادمة، يقول الأستاذ الريحاني في مقاله التقديمي للجزء الثاني من هذه الأنطولوجيا، وهو أنطولوجيا الحب: "الحاءات الثلاث" مشروع إبداعي وتنظيري يهدف إلى التعريف بالقصة المغربية القصيرة عبر ترجمتها للغة الإنجليزية ثم نشرها ورقيا باللغتين العربية والإنجليزية، كما يتقصد التأسيس لمدرسة مغربية قادمة للقصة القصيرة من خلال المشترك المضاميني والجمالي المجمع بين النصوص الخمسين للكاتبات والكتاب الخمسين المشاركين في المشروع الأنطولوجي والموزعين على ثلاثة أجزاء: "أنطولوجيا الحلم المغربي" و"أنطولوجيا الحب" وأنطولوجيا الحرية"." ص3.

وسوف أحاول من خلال هذا المقال، مقاربة الجزء الثاني من الحاءات الثلاثة، الذي هو أنطولوجيا الحب، وذلك بتناول أهم الأبعاد التي يتخذها متن هذه الأنطولوجيا، الذي يتركب من واحد وعشرين قصة قصيرة، لواحد وعشرين قاصا مغربيا، وهؤلاء القصاصون ينحدرون من مختلف الأجناس والتجارب والاشتغالات.

1-  حضور المرأة القاصة: حيث وازن الأستاذ الريحاني في اختيار النماذج القصصية المشكلة لهذه الأنطولوجيا، بين الحضور الرجالي المحدد بثلاثة عشر قاصا هم: محمد فري، الحبيب الدايم ربي، أحمد الفطناسي، محمد سعيد الريحاني، محمد اشويكة، التجاني بولعوالي، إدريس الصغير، إسماعيل غزالي، محمد نبيل، عبد الحميد الغرباوي، محمد التطواني، هشام بن الشاوي وهشام حراك، أو الحضور النسائي المحدد بثماني قاصات هن: فتيحة أعرور، سعاد الناصر، زهور كرام، رشيدة عدناوي، نهاد بنعكيدة، سعيدة فرحات، أسماء حرمة الله ووفاء الحمري. والملاحظ أنه ولو أن عدد القاصات يبدو أقل من عدد القصاص الذكور، فإنه يعتبر كافيا ومهما بالنظر إلى الإحصاء العام لعدد الكتاب والكاتبات المغربية، مما يمنح المرأة حيزا أكبر لتعبر عن تجربتها الإبداعية المتميزة، التي قد تضاهي العديد من التجارب الذكورية، كما قد يستجلي قاريء هذه الأنطولوجيا.

2-  تعدد الأجيال وتداخلها: حيث كسر الأستاذ الريحاني ذلك التصنيف التقليدي الذي يدرس مختلف الأجناس الأدبية، كالشعر والرواية والقصة وغيرها، انطلاقا من التقسيم العشري أو العقدي، أي حسب العقود الزمنية، فيقال هذا شاعر أو قاص ستيني أو سبعيني أو تسعيني أو غير ذلك، وهو تصنيف إجرائي لا أقل ولا أكثر، لا سيما وأنه من الصعوبة بمكان الحكم على شاعر أو قاص بأنه سبعيني، وهو كان حاضرا في العقد الثمانيني والتسعيني من القرن الماضي، بل وثمة من يحضر في العشرية الأولى من هذا القرن! وقد وعى الأستاذ الريحاني هذا الجانب الإشكالي، فحاول تفاديه عندما أطلق تسمية (القصة المغربية الجديدة) مشركا كل من يساهم فيها، بغض النظر عن سنه أو جنسه أو توجهه، حيث نصادف أسماء من الجيل القديم، الذي ساهم بقسط وافر في تأسيس القصة المغربية عموما، كإدريس الصغير وعبد الحميد الغرباوي والحبيب الدايم ربي وأحمد الفطناسي، ثم الجيل الشاب الذي تلاه، كمحمد سعيد الريحاني ومحمد أشويكة وسعاد الناصر، ثم الجيل الأصغر منه سنا، وهو الأكثر حضورا في هذه الأنطولوجيا، كهشام حراك ولطيفة أعرور وهشام بن الشاوي ومحمد نبيل وغيرهم.

3-  تنوع التجارب والأبعاد: فالمفارقة العجيبة، أنه رغم أن المتن مخصص النصوص القصصية المكتوبة حول تيمة الحب وحدها، فإن القاريء يجد نفسه أمام تجارب متنوعة، سواء أمن حيث المضامين المنتقاة، أم من حيث أساليب صياغة تلك المضامين، وقد لاحظت أن متن هذه الأنطولوجيا يتخذ أبعادا متنوعة، قد تحضر منفردة، أو تتداخل فيما بينها، كالبعد الأسطوري والواقعي والجنسي والتجريدي وغيرها.

ثنائية الأسطوري والواقعي
بعد قراءة الجزء الثاني من مشروع (الحاءات الثلاث)، الذي هو أنطولوجيا الحب، يستكنه القاريء أن الواحد والعشرين قصة التي يتضمنها، تتميز بتنوع  إما من حيث المضامين الفرعية التي تشتغل عليها، التي قد تكون واقعية أو أسطورية أو تجريدية أو غير ذلك، وإما من حيث الطرائق التي يعتمدها الكتاب في صياغة تلك المضامين وتثويرها وعرضها، وهي طرائق إجرائية  تتراوح، بين توظيف اللغة اليومية العادية، أو اللغة الرفيعة المستوى، بين الامتياح من المعاجم الأسطورية والدينية، أو الاكتفاء بمعطيات الواقع وأحداثه، بين اعتماد آلية السرد المتواصل، أو توظيف تقنية الحوار وتبادل الأدوار بين الشخوص. على هذا الأساس، ارتأيت أن أولي أهمية في مقاربتي هذه، لهذا التنوع اللافت لأبعاد القص في متن أنطولوجيا الحب المغربي، وهي أبعاد، في مجملها، تتراوح بين ما هو أسطوري وما هو واقعي.

ويتحدد البعد الأسطوري في توظيف المعطى الأسطوري في مجموعة من قصص المتن، وقبل الشروع في ثبت بعض النماذج الأسطورية التي تتضمنها تلك القصص، حقيق بنا تحديد مصطلح الأسطورة، الذي يرتبط معجميا بما هو خرافي من الأباطيل الكاذبة والمنحرفة، ورد في لسان العرب "يقال كتب سطرًا وغرس سطرًا ج أسطر وسُطُور وأَسطار وأساطير وهي جمع أسطار .ومنهُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ  أي أشياء اكتتبوها كذبًا" [2]، وعلى النهج نفسه يمضي المعجم الوسيط الذي نقرأ فيه "(الأساطِيرُ): الأباطيلُ والأحاديثُ العَجيبةُ. وفي التنزيل العزيز: إنْ هَذَا إِلاَّ أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ . واحدها: إسطار، وإسْطِير، وأُسطور. وبالهاء في الثلاثةِ" [3]. أما مصطلحيا فتعني لفظة الأسطورة غير ذلك، فهي عبارة عن "حكاية أو رواية شعبية، أو إنسانية متصلة بحياة إحدى الأمم. تهدف إلى التعبير عن بطولة أو قيمة ذات أثر مهم في نفوس الناس أو الأمة" [4] ، وثمة أنواع مختلفة من الأساطير، كالشعائرية والرمزية والتاريخية وغيرها.

في ضوء التحديد الاصطلاحي السابق للأسطورة، يمكن استيعاب النماذج الأسطورية، التي تم توظيفها من لدن بعض كتاب أنطولوجيا الحب، وذلك نظرا لقيمتها المعنوية والفكرية، وطابعها الجمالي والاستيتيقي، مما يجعلها تمارس أثرا مهما في النفوس والأذهان، وقد تنوعت الأساطير المستعملة، من يونانية وأمازيغية وغيرها. فيما يتعلق بالمعطى الأسطوري اليوناني، إن أهم رمز تم توظيفه هو كيوبيد، ويعتبر في الميثولوجيا الإغريقية إله الحب والجمال. وقد اشتهر بسلاح القوس، وأن أي انسان يصيبه سهم كيوبيد يقع في الحب بشكل جنوني [5]. وهو يحضر مرتين في متن أنطولوجيا الحب؛ أولاهما في قصة (كيوبيد والشيطان) لمحمد فري، التي تنبني على صراع بين الشر الذي يمثله الشيطان، والخير الذي يمثله الملاك كيوبيد، وسوف ينتهي ذلك الصراع بانتصار الخير، عندما يتمكن كيوبيد من تسديد سهمه إلى قلب الشيطان، فتتبدد منه ذخيرة الشر ليصبح ملاكا! وثانيهما في قصة (أحلام طاميزودا) لإدريس الصغير، لكنه توظيف سريع وهامشي، لأن غرض القصة الرئيس كان الحديث عن معطى أسطوري آخر، وهو طاميزودا، وهي مدينة رومانية قديمة، تقع قرب مدينة القنيطرة في غرب المغرب، راح القاص يناجيها مستعرضا جانبا من تاريخها القديم المشرق، راثيا واقعها المزري، حيث يراها القاص مجرد جسد مسجى على المحمل.

أما فيما يرتبط بالمعطى الأسطوري الأمازيغي، فقد تم استعمال رمزين معروفين في الثقافة الأمازيغية والمغربية، الأول هو تانيت الذي ورد في قصة (تانيت) لفتيحة أعرور، ويعني هذا الرمز كما تحدده القاصة في مستهل قصتها، "إلهة الخصب في معتقدات أجدادنا، تحكي الأسطورة أنها كانت تعشق ابن كبير إحدى القبائل حد الجنون، غير أن كبير الآلهة مذ أن رآها في أصيل ذات يوم تسبح عارية في البحيرة، هام حبا بها فطلب يدها للزواج، ولما أعرضت عنه، منع نزول المطر انتقاما"، وقد وظفت القاصة هذا المعطى في نصها مازجة إياه بما هو واقعي، فراحت تحكي قصة الجدة العجوز تودا التي كانت تقصد المقبرة لتناجي روح الجد إيدر، الذي استشهد وهو يقاوم معية المجاهدين جيش العدو، عبر التداعي بالقاريء إلى ماضي القبيلة وما شهدته من ذكريات وأحداث، والثاني هو لونجا الذي وظف في قصة (من السماء إلى الأرض) للتجاني بولعوالي، ولونجا هو رمز أسطوري مشهور في الثقافة الشفوية المغربية والأمازيغية، كانت الجدات يحكينه لأحفادهن في صيغ قصصية متنوعة، أهمها أن لونجا كانت فتاة جميلة تحب ابن عمها، فوقع الغول في حبال عشقها، فخطفها وذهب بها بعيدا عن أهلها وقبيلتها... إلى آخر الحكاية، وقد استعملها الكاتب بمثابة معادل أسطوري لمعشوقته الواقعية، حيث راح يناجيها في هيام صوفي، يمزج بين التحليق في متاهات الخيال اللا متناهي، والنزول من فينة إلى أخرى إلى الواقع.

وتعتبر قصة (إيقاع الدائرة) لإسماعيل غزالي، خير نموذج يمزج بين الواقع والأسطورة، فهو يؤسطر الواقع راقيا بالحدث الواقعي إلى مدارج الأسطورة، فلا يدري القاريء، ما إذا كان القاص يسرد تجربة واقعية معيشة، أو يروي حكاية خيالية، وأغلب الظن أنه يحكي ما هو واقعي بأسلوب يرقى بالحدث والفكرة والتجربة إلى ما هو أسطوري، حيث المكان واقعي عادي، وهو جبل أزغار، والشخوص من طينة آدمية، وهم الفتى والأب والفتاة شامة إضافة إلى الكلب بلاك وغيرهم، لكن الأمور سوف تتطور مما هو معتاد، إلى ما هو غير متوقع، حيث ينقلب موسم الحب إلى موسم القتل، يقتل الكلب بلاك الذي يحبه الجميع من قبل أنثى خنزير، سوف ينتقم منها الأب الشديد ذو اللباس العسكري، ثم تقتل معشوقة الفتى/ الإبن فتاة الجبل أزغار شامة، من طرف الخنزير، الذي بدوره سوف ينتقم لموت أنثاه!.  

إذا كان المعطى الأسطوري هو المهيمن على هذه القصص، فإن ما تبقى من المتن يطغى عليه الملمح الواقعي، الذي تتنوع تيماته، وتتكاثر موضوعاته، لكنها تلتقي كلها حول الموضوعة الرئيسة التي هي: الحب. ويقصد بالواقعي ذلك الاتجاه الأدبي والفكري الذي "يقوم على أساس ارتباط الكاتب وجدانيا وعقليا بقضايا المجتمع، وإحساسه بتحولات الزمان والمكان، واتخاذ موقف إزاء هذه القضايا" [6]. وعندما نمعن النظر في الكيفية التي يقدم بها الحب واقعيا، ندرك أنها تتخذ أبعادا عدة، أهمها:

الهاجس الجنسي: حيث يختزل الحب في الهاجس الجنسي، أو يفهم على أن الغرض منه هو تحقيق المتعة الجنسية أو غير ذلك، كما نقرأ في قصة حب لأحمد الفطناسي، الذي يتناول ظاهرة الشعوذة في المجتمع المغربي، وتقديس بعض الأماكن كالشجرة المباركة والولي الصالح، التي تصبح أحيانا مرتعا للتدنيس وممارسة الفاحشة، كما هو الحال لبطلة القصة، التي تختلي في ضريح الولي الصالح ليس للعبادة والتوسل، وإنما لتفريغ مكبوتها الجنسي، وإشباع شهوتها، وهي تردد التعاويذ! في حين تحاول قصة ومضة لزهور كرام، تجاوز الخطوط الحمراء في بعض تفاصيلها، التي تمزج بين الغرابة والواقع، لا سيما عندما تصور مشهد العلاقة الأولى بين الذكر والأنثى، "انسحب. بعنف فر من شفتيها. ظلت قطرة لعاب شاهدة على أنه كان هنا. اغتصب انتشاءها فيه. ما عادت شفتيها. بقيتا مقبلتين عليه. هل علم أنه بنى جرحا؟ ربما دمر روحا... ربما شعر... ربما لم يشعر... ربما...". وفي مقابل ذلك، تبدو قصة على شاطيء الحب لهشام حراك، أقل حدة، فهي تصف بأسلوب ملتو وغير مباشر، تماسا جنسيا يحدث عن طيب خاطر، بين رجل وامرأة،.

حب المراهقة: إن قصة قبلات لمحمد نبيل، تتطرق إلى حب المراهقة، حيث يصف تجربة تلميذ تحبه تلميذة اسمها عائشة، فتعمل المستحيل من أجل الإيقاع به، وجعله يترنح تحت وابل من قبلاتها، لكن سرعان ما سوف ينتهي ذلك الحب، عندما يشي بعض الحاسدين من التلاميذ، بذلك إلى أب التلميذة، فتنقطع عن الدراسة، فيرفض القاص أنه لن يقبل منذ ذلك اليوم الملعون كل الفتيات والنساء، لأن القبلة التي وراءها ضياع امرأة، تعد قبلة خاسرة! وعلى المنوال نفسه، تمضي قصة محمد التطواني (هواجس حب)، التي تروي تجربة، ولعلها شخصية خاصة بالقاص، حب تلميذ لتلميذة، استمرت أياما طوالا ترفض الإذعان لهذا التلميذ الذي عشقها بقوة، واستغرق يلح في طلب ودها، لكن في الأخير، سوف تنقاد إليه، وهي تكشف عن حقيقتها الأصلية، التي كانت تختفي خلف لباسها التقليدي/ الجلباب، فينقلب حب المراهقة البريء، إلى حب مسكون بالمتعة الجنسية، لكن هذه المتعة سوف لن تدوم، فيستحيل الحب كرها، لأن البطلة انصاعت مع نمط حياة يتعففها المحب!.

الحب العذري: إن أهم نموذج في المتن يمثل هذا النوع من الحب الهادف، الذي سوف تكون نتيجته الزواج، هي قصة سعاد الناصر قصة حب، وهي قصة إنسانية رائعة، تصور تجربة صحافية خرجت من علاقة زواج فاشلة انتهت بالطلاق، وبينما كانت تجري مقابلة مع مساجين الرأي، لفت انتباهها سجين، سوف يكون فارس أحلامها، الذي سيعوضها عن معاناتها الأولى، التي كانت قد أفقدتها الثقة في كل الرجال، غير أن هذا الرجل/السجين من طينة أخرى، وكيف لا ترضى عنه وقد علمها "كيف أن الحب يجعل روح المرء بلا حدود، يستوعب القاصي والداني، وتندثر في ألقه الحدود والتقاليد، وأن التسامح فجر يلملم فيه العاشقون شتات عطاء، ينثرونه دون حساب". أما قصة الوشم لنهاد بنعكيدة، فهي تحكي موقف رجل هذا الزمان من زوجه، وكيف تبدو في عينه، فهي مجرد علامة يرسمها في يده! حتى يتمكن من تذكرها، لذلك فهي غير راضية عن هذه القيمة، تتمنى لو كانت على الأقل وشما كما وشم جدها على ذراعه اسم جدتها، التي عاش معها تسعين عاما ومات معها، ثم بعد تأمل، تستدرك، وتقول: حسنا، خذني علامة على يدك. فذلك أفضل بكثير من أن تنساني جسدا وروحا على رفوفك.

الحب المجرد: وهو نوع من الحب الذهني الذي يعلو عما هو مادي وملموس، عادة ما يسكن الأفكار والمعاني ولا يتجاوزها، إلى المتعة الجسدية المعهودة الزائلة، أو أنه يخلق متعة من طينة مغايرة، كما يصنع محمد سعيد الريحاني في قصته عاشق، الذي يفهم العشق من منظور فلسفي، او أنه يفلسف العشق؛ يقول: "أنا الآن أستمتع بوميض النجوم وعشقها، عشق عمره الآن آلاف السنين بين نجوم على بعد آلاف السنين الضوئية... تلألؤ النجوم يزين السماء ويضفي على ميكانيكية حركة الأجرام السماوية بعدا غراميا"، أما الحبيب الدايم ربي في قصته عاشق أخرس، فيزاوج بين الغرابة والتجريدية، وهو يتأمل خرساءه من خلل سد القصب، وهذه المعشوقة الخرساء "ناولته جعبة قصب كي يسكب فيها هواه. ففعل. انذرفت دموعه فوق القصبة فخرمتها سبع خرمات. وعلى مدى أيام الأسبوع، ومنذ كان الماء والقصب، راحت النايات، كلما هبت الريح، تشدو بأنغام شجية يزعم العواذل أنها لعاشق أخرس يلوذ بحقول القصب!"، هكذا يضيف القاص إلى عنصري الغرابة والتجريدية عنصرا جديدا، وهو الأسطورة. في حين يرى محمد شويكة في قصته لازمة المحنة، التي هي عبارة عن مقاطع قصيرة سماها أبجديات، أن "الحب قيمة تجعل الذات المحبة والمحبوبة تحت وطأة حرج الصراع بين قيم الجسد وقيم الروح..."، ثم يحاول أن يصوغ أبجدية فلسفية للعشق، وهو يتساءل: هل توصلت معي إلى تعريف الحب؟ أم أن المعرف لا يعرف؟.

الحب باعتباره معاناة: وهو يتجلى عبر مستويات مختلفة، كالهجران الذي يسود العلاقات الزوجية، فيعيش كل واحد منهما في عالم خاص به، محكوم بالعزلة والوحدة واللا تجاوب، كما يتضح ذلك من خلال قصة هي والسكين لسعيدة فرحات، التي تختزل كل تلك المعاناة في الجملة الأخيرة من قصتها: "وبذلك بدأ يوم جديد ليجري كل واحد منهما في طريقه الخاص وعينه صوب أفقه المغاير". والفشل في العلاقة الغرامية، حيث عندما يريد بعض الرجال الزواج، لا يعيرون اهتماما للصداقات والعلاقات القديمة، ولا يأخذون بعين الاعتبار مشاعر نسوة سعين حثيثا إلى حبهم، فبطلة قصة بلا عنوان لأسماء حرمة الله، رغم خيبة أملها العميقة وإحباطها الذريع، أرادت أن تحضر يوم زواج حبيبها القديم، الذي اختار امرأة أخرى، حتى تتقدم له بالتهنئة، لكنها عندما أزمعت على ذلك، لم تستطع تحت فرط التأثر والألم، فما كان عليها إلا أن خرجت من قاعة العرس مهرولة ونظرات الحاضرين ممن يعرفون الحكاية، تلاحقها حتى أن العروس برحيلها ابتسمت.. فأدرك الجميع لماذا كانت البسمة غائبة عن محيا العروس قبل ذلك! والمخاض كما تروي قصة ولادة لوفاء الحمري، التي تصور حالة ولادة عسيرة في مستشفى غريب، لا رائحة فيه للرحمة والعطف، يعامل فيه الإنسان بقسوة تامة، "أتت الممرضة... وخزتها بحقنة في وريدها أشعلت نارا تتلظى بها هي وحدها..."، وكانت نتيجة هذه الولادة أن فقدت رحمها، ومات الجنين! ربما هذا حدث عادي، يقع مرارا وتكرارا، لكن الغريب فيه، أن المريضة هي التي تجني وحدها ثمرة الحب، التي هي المعاناة؛ فأين هو الزوج أو الحبيب، الذي، لا شك، أنه بادلها متعة الحب بنهم، لكن لم يبادلها معاناة الحب، ولو بعين الشفقة!.

الحب واللا توقع: حيث تكون خاتمة الحب غير متوقعة، تكسر خط التأويل والمتابعة لدى القاريء، مما يجعل القصة أكثر تشويقا وجذبا، ويتجلى عنصر اللا توقع من خلال نموذجين قصصين في أنطولوجيا الحب، أولاهما؛ قصة حبيبة الشات لعبد الحميد الغرباوي، الذي حاول أن يستثمر إمكانية التواصل الرقمي الشيق في هذا النص، الذي يحكي قصة زوجين فاشلين على أبواب الطلاق، ففكر كل واحد منهما في البحث عبر التواصل الإلكتروني، المعروف بالشات، عن حبيبة جديدة، فتمكنا من ذلك دون أن يعرف بعضهما البعض أكثر، لأنهما ترك ذلك كمفاجأة ليوم اللقاء، فتهيآ لذلك اليوم المتميز، وعندما أزف يوم اللقاء، وجدت الزوجة أن حبيبها الرقمي الجديد "لم يكن سوى،... ذاك الذي هجرها وتنتظر منه، في أية لحظة، إعلان الطلاق...". أما النموذج الثاني فهو قصة حالة شرود لرشيدة عدناوي، وهي كذلك عبارة عن نص ينطلق مما هو عادي من الأحداث، نحو النهاية غير المتوقعة، بينما كانت البطلة في نزهة رفقة زوجها وأبنائها، وهي شاردة بذهنها المكسوف في الفشل الذي يرين على علاقتها الزوجية، إذا مشهد غرامي لشاب وشابة في مقتبل العمر، يسترعي انتباهها، لحظة، ويختفي الشابان المتعانقان خلف الغابة، ثم بعد حين يعود الشاب وحده، مما يلفت انتباهها أكثر، فتساءلت: أين الفتاة؟ وعلى الجهة الأخرى كان ثمة راع يتابع بدوره ذلك المشهد، فجأة، انطلق مهرولا تاركا خلفه أغنامه، لم يكن يتعقب خطوات الشاب لأمر يهمه، بل إنه دخل إلى مخدع هاتفي، ليتصل بجهة معينة، لم تبح القصة بها، قد تكون رجال النجدة، أو الشرطة، أو سيارة الإسعاف! مما يجعل خاصية اللا توقع منفتحة على أكثر من تأويل.


باحث مغربي مقيم بهولندا

www.tijaniboulaouali.nl

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]  الحاءات الثلاث، مختارات من القصة المغربية الجديدة، الحاء الثانية: انطولوجيا الحب، محمد سعيد الريحاني، مطبعة طوب بريس الرباط، ط1/2007
[2]  لسان العرب، ابن منظور، الرابط:
http://lexicons.ajeeb.com/openme.asp?fileurl=/html/7068273.html
[3]  المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية - القاهرة ، ط4/1425 2004 ، ص 429
[4]  معجم المصطلحات الحديثة، د. سمير سعيد حجازي، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، ط1/2005، ص129
[5]  الموسوعة الحرة، الرابط:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%83%D9%8A%D9%88%D8%A8%D8%AF
[6]  معجم المصطلحات الحديثة، د. سمير سعيد حجازي، ص286