يتناول محرر باب سرد في (الكلمة) موضوع الوطن، كما يتجلى في عدد من قصص هذا العدد، وإن كانت بعض القصص الأخرى لم تندرج في تحليله حيث أنها وردت للكلمة عبر محررين آخرين. لكن يظل الموضوع جديرا بالتريث عنده وتأمل دلالاته المختلفة.

الوطن في الإبداع القصصي

شوقي عبدالحميد يحيى

 

قبل أن يولد الإنسان، لا يعلم أن الكثير من صفات الأبوين والأجداد تسرى فى شرايينه، وبعد أن يولد، يعلمانه ماذا يفعل، وماذ عليه ألا يفعل. ثم يكبر الإنسان، ويحتك بالأسرة ويلتقط الكثير والكثير من صفاتها، وتترسخ فى وجدانه. ويكبر أكثر، وتتسع دائرته، ويعلم أنه يعيش فى مجتمع ضيق، وتظل الدائرة تتسع من حوله، ليعلم أن الدائرة قبل النهائية تسمى (الوطن) فيتأثر بما يمليه هذا الوطن من عادات وتقاليد وقوانين، تصبح قيدا عليه. فإذا ما أصابته مهنة الكتابة، يعبر بها عن نفسه، ويسعى للحرية، فيحاول أن يتمرد على كل هذه القيود، ويحلم بالمدينة الفاضلة، فيأتى كل ذلك ثمرة لكل ما تم تلقينه إياه، وما يعيشه فى هذا المجتمع المسمى بالوطن.

وإذا كنا قد تخيرنا بعض النماذج المعاصرة من تلك الإبداعات، للمعاصرين من المبدعين، المصريين والعرب، فقد كان فى النية، أن نبدأ بالبدايات، فنبدأ ب"محمد حسين هيكل" الذى عرف بأنه أول من كتب الرواية- وإن كانت بعض الدراسات تعيد للذاكرة الكثير مما كتب فى حقل الرواية قبله- ولا يعلم الكثيرون أنه كتب القصة القصيرة- قصص مصرية 1969- إلا ان قصصه القصيرة تمتد لما يزيد عن العشر صفحات، ولما كانت المساحة المتاحة للقصة القصيرة لا تحتمل ذلك، فقد آثرنا أن نؤجل ذلك لنجعله مادة لها فى عدد قادم، واكتفينا هنا بالمحدثين، وإن تنوعت الكتابة، واختلفت المشارب، إلا أننا سنجد أن (الوطن) يكمن فى الخلفية منها، سواء سعى الكاتب لذلك، أو لم يسعَ، أو أراد ذلك، مكتفين بتلك النماذج المنشورة فى هذا العدد من مجلة "الكلمة".      

مواقيت الصخب – السيد نجم
كعادته، يواصل المبدع السيد نجم، فى قصته "مواقيت الصخب" يخبئ رؤيته المجتمعية فى ثنايا سطوره الضاجة بآلام الناس. فيعبر دون ضجيج عن تلك المرحلة التاريخية من حياة المصريين بإرتفاعات الأسعار المتتالية والمتسارعة، لينسج رؤيته، ويقدم تحذيره، من خلال أكثر الكائنات المعروفة بالسلام "الحمام"، فضلا عن شهرته بتوصيل الرسائل، وكأن الكاتب يبعث برسالته التحذيرية عبر أقدم وسيلة للتوصيل.

ففى البداية، وعند الخلية، كانت البداية، بداية حياة جديد، او بداية عهد جديد، أو بداية مسيرة جديدة، كان الحمام كثير، يتجمع أعلى صندوق جهاز التكييف المثبت بجوار الشرفة ، وكان يستطيع –السارد- أن يقم له الحبوب الكافية لغذائه. وعند تلك البداية، يلمح الكاتب أن هناك ما يدعو للتأمل والتفكير، وأن هذه ليست إلا البداية، وعلينا أن نبحث عن النهاية{ ابتسمت وزوجتى وقلت: فأل طيب، لم تبد العروس البكر حفاوتها ولا حتى ببسمة هينة}. ولم يطل الوقت، فقد ارتفعت أسعار الحبوب، وقل الغذاء، وينظر الكاتب إلى البعيد، او يحاول إضفاء الصفة القصصية على (الحكاية){ يبدو أن اﻹناث يفضلن الأقوياء الطغاة.. منذ ذلك اليوم فقدت الثقة في ﺇناث العالم، أدركت سر خيانة من كانت حبيبتى؟!}. حيث يشير أن ارتفاع الأسعار أدى إلى ضعف قدرة السارد على الفعل، فهجرته حبيبته. ولكن هناك ما هو أبعد من ذلك {لا يخلو المشهد من ﺇقتحام فرد حمام، ليس بأكبرهم حجما ولا منقارا، لكنه أكثرهم نزعة للسيطرة واﻹمتلاك، يغول على القارورة وحده، يزيح من رمى برأسه في فتحتها، يدفعه بجناحيه،  يلتهم كل ما بداخلها وحده.. غلبني تفسير بسيط ومباشر وسهل لسلوك المنتفخ الأوداج محتقن البشرة رئيسي فى العمل؟!}. فهنا يشير إلى الرئيس (فى العمل) بينما تأتى إشارة أخرى، ضمن تلك الإشارات التى ينثرها الكاتب عبر سطوره { كما مقدمات الجيوش المتحاربة للاستطلاع والتجسس!} ليدفعنا للنظر إلى البعيد، ولا نتوقف عن الرؤية المحدودة. ومع توالى أرتفاع الأسعار، يقل عدد العصافير، إلا أنها لم تنقطع { فورا رأيت الاحتمال المحتمل وعرفته، بلغه وجع ﺇرتفاع أسعار الحبوب.. عدت ﺇلى سابق عهدي مع مراحل الضحك كلها.. انتبهت، رأيت بعض الحمام بدأ يعاود مجيئه فرادى، يرسو فوق الصندوق الحديدى، لم يفقد الأمل بعد، يبقى الهنيهة وما يلبث أن يختفى}. ولكن الطعام لا غنى عنه، والكائنات لا تستطيع العيش بدونه، حتى لو وصل الأمر فى النهاية إلى دفع السارد ل{ كشفت عن وجهي توجهت برأسي أفحص ما خلف الصندوق الحديدي، فاذا بي التقط مشهد بقايا الزغب من الريش الهين لزغاليل قتلت منذ قليلّ، افترسها الحمام المسالم أبدا؟!}. فلا  يمتلك القارئ إلا ان يقرأ وينظر حوله، ليرى كم استطاع الكاتب أن يصوغ حياته، وعبر عن مرحلة جديدة بلغة يسيرة، وبسلاسة الحكى، ونعومة التوصيل، ليرى نفسه فى أعماق القصة، وليعلم أن {الكلام عن صوت الحمام ليس من باب الفضفضة، كما فهمت من نبوءة الحمام لي؟}

أول فيصل – أشرف الصباغ
[يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم]سورة النساء الآية 59. تلك الآية التى تُشهَر فى وجه كل من فكر فى الإعتراض على أى تصرف لأحد الرؤساء، على أى مستوى، من قبل التابعين والمؤيدين، فضلا عن رجال الدين، أدت إلى الاستكانة والنظر إلى الرؤساء بأنهم ظل الله على الأرض، فأصبح الخروج عليهم، عصيان لله ذاته. وإذا كان الشعب المصرى، والعربى عامة، يؤمن بالله، إيمانا مطلقا دون نقاش، فقد جُبِلت تلك الشعوب بالاستكانة، وعدم الثورة على الحكام –إلا طمعا فى الجلوس، ونيل تلك القدسية- ولذا لم نجد فى مصر ثورات على الحكام إلا فى العام 1952، ومحاولة لم تنجح، فى العام 2011 حيث عاد كل شئ إلى سابقه -. وامتد ذلك –فى مصر- منذ العهد الملكى، وطوال العهد (الرئاسى) منذ 1952. وهو ما تشير إليه قصة "أول فيصل للمبدع الساخر أشرف الصياغ فى {والدي ظل مدينا بحياته لمصر ولرؤساء مصر جميعا حتى توفي في عام 2020 وهو في سن السابعة والتسعين} و{ولا يقل صحة عن أخي الأكبر الذي يصل عمره الآن إلى الثمانين ولديه أحفاد أحفاده}. إلا أن الصباغ لا يكتب التاريخ، وإنما يكتب القصة القصيرة، بكل فنياتها. حيث من تراب الأرض يصنع تمثال الرموز التى صنعت الكثير من الأحداث التى أصبحت تاريخا، وعلى وقائع الأرض المعيشة، ينسج خيوط قصصه، ويستخرج جوهر الإنسان فيها. 

ففى السادس عشر من يوليو 2024. ظهر على شاشة كبيرة بشارع فيصل بالقاهرة. صور وعبارات مسئية للرئيس المصرى، سارعت قوات الأمن بالقبض على مرتكبها. وقد أحدثت هذه الواقعة ردود أفعال واسعة، فلم يكن لأشرف الصباغ أن يتركها تمر، دون أن يخترق الحاجز، ويقتحم دواخل الناس ليكشف بلغته الساخرة، ما استقر فى باطن الناس، وما يترسب فى باطن الواقعة، ويقتحم المسكوت عنه فيها، وهو الذى طاف كل شوارع القاهرة، بحثا عن دواخل الناس، ليحولها إلى عمل إبداعى. حيث تسير القصة للكشف عن الازدوجية فى طبيعة الشعب العربى عامة، فى أن له حياتين، إحداهما ظاهرة، والأخرى مخفية، يبحث عن متنفس لها ليظهرها للعلن. فضلا عن أنها تكشف عما يكمن فى النفس من كبت للحرية، والسكوت، الذى يقبع فيه، ويُقعده عن الحركة. فرغم امتداد الزمن الذى تتناوله القصة، إلا أنها تنحصر فى الذكرى، حيث يحكى السارد عن أشياء حدثت فى الماضى (كانت أمى ... ). كما أننا – كمعاصرين للحدث- نعلم أن القصة لها لب واحد لا يخرج عنه، ويؤخذ من العنوان (أول فيصل) حيث تعود الذاكرة إلى تلك الواقعة.   

وإذا ما أخذنا الفقرة الأولى فى القصة {كانت أمي بالذات هي التي تقذف أخي الأكبر بالحذاء عندما يبدي أي اعتراض على أداء الحكومة أو يسخر من كلام سيادة الرئيس عندما يخطب في عيد العمال أو في عيد الفلاحين أو في يوم العاشر من رمضان من كل عام}. نجد أننا أمام رغبة فى البوح تتمثل فى {هى التى تقذف بالحذاء عندما يبدى إعتراضا) فالإبن هنا، يمثل جيل الشباب الذى يبدى الاعتراض، والقوة الأخرى {كانت أمى بالذات) فالأم هى التى تمنع الاعتراض، أو تمنع المعارضة، ولم يسخدم الكاتب كلمة (بالذات) عشوائيا، ولكنه أتى بها للدلالة، وليوقع القارئ فى التساؤل، فلماذا (هى بالذات)؟ هل لأنها توارثت الخوف عن الأباء و الأجداد، فالخوف والصمت والتقاعس، اصبح شيئا متوارثا{ وكلهم يحبون مصر وسيادة الرئيس مثل والدهم ووالدتهم وأجدادهم لأمهم ولأبيهم. إننا نعشقها أبا عن جد}؟. حتى لو كانت الغالبية تؤمن بما لا تُظهر، وما يؤكد الرجاء أو التمنى الذى تقدمه القصة { ولو صادف وكانت هناك عشر أسر مثل أسرتنا لاستطعنا أن نكون دولة وطنية محترمة تحب رئيسها وحكومتها وتضرب مثالا في الوطنية والإخلاص}. فالأمنية بأن هناك ما لا يصل لعشر أُسر- مهما كان عددها- يوحى بأن المعارضين أكثر كثيرا من المؤيدين. ثم كانت النهاية (الفانتاستيكية). والتى تحمل التمويه أكثر مما تحمل من التصريح، حيث يتجمع الناس على من يدعى أنه الرئيس، ويُوسعونه ضربا حتى الوفاة، مفجرة ما يعتمل فى النفوس، وتضغط عليها الظروف. مشيرة –ضمنيا- { فجأة وهو في ريعان شبابه، بعد أن ظل لأكثر من ثمانين عاما يخدم مصر وأبناءها في كافة المناصب التي تقلدها، وخاصة في السنوات الأربعين الأخيرة التي اعتلى فيها سدة الرئاسة}. فالإشارة إلى الأعوام الثمانين، تشمل كل الرؤساء الذى مروا خلال الفترة، ثم الإشارة إلى الأربعين عاما التى تولى فيها الرئاسة، فهى وإن كانت تشير إلى (مبارك) بإعتباره ظل أطول فترة فى تلك الحقبة، إلا أن الأربعين سنة، تحمل من المبالغة التى توحى بثقل تلك السنوات على نفوس البشر.

فالقصة القصيرة هنا، عبرت ما يقرب من التسعين عاما، غير أنها تحمل من التركيز المطلوب، ومن السخرية المحببة، ومن الخيال الصانع الأكبر لللإبداع، فقالت الكثير، وسكتت عن الكثير، ودفعت القارئ فى تأمل ذاته، و البحث عن إجابة: لماذا هو ما هو عليه؟.   

فى مدرسة البنات حمدى البطران
عن تجربة عاش مثلها الكثير من التجارب، ضابط الشرطة السابق، والمبدع الحالى حمدى البطران، الذى يستخرج من أرشيف تجاربه، ومن واقع الحياة المعاشة، يصور كيف تتحرك الدولة بأجهزتها، لمجرد أن طالبة من المدرسة الثانوية للبنات، توهمت بما تعنيه، او لا تعنيه، وعبرت عن رأيها، فهتفت فى طابور الصباح  " تحيا جمهورية مصر الإسلامية " بدلا من " تحيا جمهورية مصر العربية “. وليفجر الكاتب هنا أكثر من قضية: يأتى فى مقدمتها، كتم الرأى الآخر ، ولتصبح البلد لا صوت لها إلا ما تريده السلطة. فضلا عن تلك الدروس الى تغرزها السلطة فى عقول الشباب المتفتح للغد (المرسة الثانوية). إلى جانب أن هذه المدرسة، مدرسة بنات، وما يعنيه من صعود للشعارات المنادية بدور مهم لهن، إلا ان الواقع الفعلى يقول غير ذلك، الأمر الذى يقودنا إلى إزدواجية المعايير، والفارق بين الشعارات والواقع المعيش.

كما خلق الكاتب قصة الحب (من أول نظرة) بين المدرسة والضابط المحقق، ليعكس تلك الرؤية التى يراها (الشعب) لتلك الطائفة من المصريين الذين ينظرون نظرة الرغبة فى تلك الطائفة، بتداعياتها من فترة زمنية إلى أخرى، والتى عبر عن تحولاتها الضابط حين دار الحديث بعد الزيارة { ولكنني غيرت مجرى الحديث وقلت:

على فكره يا باشا الناظرة حلوه.

ضحك النائب وقال:

- أتأخرت عشرين سنه}. وإن كان هذا الاعتراف فى وجهة نظر الضابط يعنى الحالة الشخصية، إلا انه فى الرؤية العامة، يعنى تلك الرؤية التى تعبر عن التغير فى طبيعة ضابط الشركة، والذى توحى بأنه (مضطر) لأن يفعل مالا يؤمن به، ولكنه ينفذ التعليمات. وليصبح التعبير صالحا فى الحالتين: العامة والخاصة.

وقد تمت القصة بتحديد الكاتب للزمن التقريبى وهو { كانت التعليمات تقضي بأن يرتدي جميع رجال الشرطة الملابس المدنية حتى لا يتعرف عليهم أفراد الجماعات الإرهابية. كما أن لوحات سيارات الشرطة المميزة تم رفعها من على السيارات، ووضعت مكانها لوحات أخري}.

فإذا كان هذا هو الواقع، فإن اللوحة المعلقة على حائط المدرسة يقول:{كان النائب قد أنتقل ببصره إلى لوحه أخرى في حجرة المديرة، اللوحة لعامل قوى البنيه يرتدى ملابس العمال الزرقاء وفى يده المفتاح الشهير، وفى خلفية الصورة شلالات تنهمر منها المياه، وتعبر عن السد العالي الذي تمركز في قلب الصورة، ومكتوب تحتها " دقت ساعة العمل الثوري} الأمر الذى يخلق التناقض بين الحالتين، فإن الصورة، أو المثال، يقول أن ثورة الخامس والعشرين من يناير، كان يجب أن يبدأ فيه العمل الجاد، بينما الواقع يقول غير ذلك. وهنا تكمن رؤية القصة التى صاغها الكاتب ليمزج فيها بين الحالة الخاصة-الإمساك بالبنت التى هتفت فى طابور الصباح – والحالة العامة التى تنطق بأن الواقع ليس ما كنا نتمنى. أو أن الفقرة (أو اللوحة) تشير إلى عهد سابق لتلك الفترة ... وكأننا لم نغادرها. وقد يؤكد تلك الرؤية، ان المحقق أو الضابط الشاب، لم يقابل التلميذة، او لم يهتم بمقابلتها، الأمر الذى يحيل بؤرة القصة إلى أن الكاتب استخدمها، كحمولة يحمل عليها ما أراد توصيله إلى قارئه، بيصبح الوطن حاضرا فى كل الحالات، الفردية منها، والجمعية.

حبل تائك – سمير فوزى
تتحكم العادات والتقاليد فى الإنسان الشرقى، وكثيرا ما تكون أقوى من القانون ذاته- الغائب فى كثير من الأحيان-. ومن بين هذه العادات، ان يكون الرجل-العريس- أكبر من المرأة-العروس-. وقد يصل الفارق بينهما لسنوات كثيرة، وهو ما يؤثر على العلاقة بينهما فى الكبر، فبينما تكون الزوجة فى أشد حالاتها رغبة، يكون الرجل قد إنطفأ وهجه، وقلت حيلته. وهو ما عبر عنه الروائى والقاص سيمر فوزى فى قصته "حبل تائك" والتى يشير عنوانها إلى ذلك الحبل، والذى من المفروض أن يربط بين الإثنين .. لكنه اصبح تائكا. حيث نرى اللهفة، والحب المتبقى لدى (شبه الرجل)، وتساعده هى على ذلك، ولكنها تخبئ قميص النوم الأحمر، فى الوقت الذى كان هو يحب عليها القميص الأسود الأكثر إثارة على جسدها الأبيض. غير أنه لا يدرى أن هناك من يحب القميص الأحمر عليها.  ليعود ذلك الخيط الممتد عبر القصة، والذى خبأه الكاتب، وراء كل تلك التصرفات، وذلك الاهتمام المبالغ فيه، كما خبأ أن العادات والتقاليد، تكمن وراء القصة جميعها، وكأنه قد عنى أن تلك التقاليد تكمن فى باطن الإنسان، وتتحكم فى أعصابه ورؤيته للحياة، وهو لا يدرى شيئا.                             

 وإذا كان الكاتب قد عرض تلك الحالات، صراحة، إلا انه خبأ وراءها الكثير من المشاعر التى تفتحت وراء تلك الفعلة المحدودة، ظاهريا، والتى تفتح الكثير أمام القارئ، حيث يمكن أن تثور الشكوك اتى قد تصل للرغبة فى القتل، إلا انه اصبح فى وضع لا يستطيع فيه إلا ان يسلم ويستسلم، عجزا، أمام

قوة جبارة تكمن فى جسد المرأة المحتاج إلى الإشباع، والروى، بينما جفت منابع الإشباع، فى الجسد الواهن، الضعيف، العاجز. لنصبح أمام صراع نفسى بين قوتين غير متساويتين. كما نصبح أمام تحولات الزمن ليصبح القوى ضعيفا، والضعيف قويا، بفعل مرور الزمن، وتحكم المجتمع فى مستقبل الإنسان، وما المجتمع، سوى مجموعة عاداته المتحكمة فى حياة الإنسان، وتسيير مصيره ، إن رفضا، او استسلاما.

الغراب – محمد الحفيضى
عندما ييأس الإنسان من وجوده فى مكان معين، يلجأ إلى (الهروب الاحتجاجى). سواء الهروب خارج البلاد، أو الانغماس فى عمل ما، أو العودة بالذاكرة إلى فترة الطفولة، التى تحمل الآمال و والأحلام، وتبدو الدنيا –فيها- سعيدة، وبريئة. وهو ما فعله سارد المبدع المغربى محمد الفيضى، فى قصته "الغراب".

ورغم أن قصة "الغراب" لم ترد بالقصة إلا كما لو كانت عابرة، إلا أن اختيار الكاتب لهذا العنوان، يعنى أنها هى بؤرة القصة التى تفتح صندوق الماضى، حين كان السارد طفلا، بعد أن استعرض لنا، بلغته القصصصية، تلك المعيشة البسيطة، بل والفقيرة –ماديا- إلا أنها كانت غنية بالحب والشغف { نسكن في بيت طيني قديم ، يتوسطه  ممر طويل مظلم بسقف عال، لكن أعيننا ألفت الظلمة الدائمة، حيث لا نوافذ في الجدار، فقط هناك فتحات في السقف تسمح بمرور خيط من الضوء حينما تتعامد أشعة الشمس مع السطح}. ومن بين صندوق الذكريات، يتحدث الجد- الماضى- عن أحد الأعمام {ما المحفوظة يا جدي؟ هل هي من قبيل المحفوظات التي يتم تدريسها لنا اليوم ونطالب بحفظها تحت التهديد بالعقاب؟

أنا لا اعرف ما تدرسون، لكنه يلقنه محفوظة الغراب.

الغراب الذي حصل على الجبن الطرية و حاول الثعلب الماكر انتزاعها منه بالحيلة فجاءه متمسكنا يطلب منه ان يغني له، مثنيا على صوته العذب الرخيم الجميل، فإذا هم الغراب بفتح منقاره ، ليستجيب للإطراء ويغنى، سقطت الجبنة و التقطها الثعلب و فر بها. فتتحدث القصة عن التعليم الآن { هل هي من قبيل المحفوظات التي يتم تدريسها لنا اليوم ونطالب بحفظها تحت التهديد بالعقاب؟} الأمر الذى يشير إلى تدهور التعليم وقيامه على التلقين والعقاب. وينشأ الجدار السميك هنا بين الجد، وما يعلمه عن التعليم، ليستنكر ما هو عليه الآن { أنا لا اعرف ما تدرسون}، وربما كانت إشارة إلى فقدان التواصل بين الماضى(الجد) والمستقبل (الحفيد). ثم يحكى الجد عن قصة الغراب {الغراب الذي حصل على جبنة طرية و حاول الثعلب الماكر انتزاعها منه بالحيلة فجاءه متمسكنا يطلب منه ان يغني له، مثنيا على صوته العذب الرخيم الجميل، فإذا هم الغراب بفتح منقاره سقطت الجبنة و التقطها الثعلب وفر بها}. ليثور السؤال.. لماذا الغراب؟. وـاتى الإجابة: لأن الغراب فأل سئ، بسواده، ولإهلاكه الحرث والمزروعات. ثم إنه بات فألا سيئا فى ذهن العامة. أما الأهم فهو انخداع الغراب السهل، والوسيلة التى استطاع بها الثعلب الماكر ... الأمر الذى يوجه نظرنا نحو تلك الوسيلة التى ينخدع بها الكثير من البشر، وعلى رأسهم الحكام، وهو ما نستطيع أن نلمسه إذا تأملنا اولئك المحيطين بكل رئاسة، وعلى كل المستويات. لنتبين كيف استطاع الكاتب أن يُضمر قصته فى نحو ما يقل عن ثلاثة سطور، الأمر الذى يمكن معه إعتبار تلك الخلاصة هى العمود الفقرى فى القصة، بينما بقى ما زاد عن ذلك هو اللحم الذى غطى العمود الفقرى، والمُمَهد له، بالرجوع إلى الماضى الذى اتسم – رغم فقره- بالتجمع والعائلة، بينما خلا الحاضر من كل ذلك.

ونستطيع أن نتبين الاشارات التى أدت بنا لهذه القراءة، والتى يأتى فى مقدمتها ذلك الوصف المشهدى، والتفصيلى لتلك المنطقة من الوطن، والتى يزيلها الكاتب بـ{في ذلك الوقت لم تكن هناك أخبار تهمنا في هذه البقعة المنسية}. والتى توضح أنها منطقة بعيدة عن فكر الدولة، فلم يكن لدى أهلها إلا أن لا تشغلهم أخبارها. وكذلك إعتمادهم على موارد الطبيعة (المطر) {كل ما يعنينا هو سقوط المطر. إن سقط انتعشنا و إن لم يسقط سقطنا، وسقوطنا له علاقة بالتقشف الذي سيتم فرضه علينا جميعا في كل ما يتعلق بتفاصيل حياتنا البسيطة}.، فضلا عن التقشف المفروض عليهم فرضا.

إلى جانب الإشارة إلى "رابح درياسة" هو المطرب الجزائرى، والذي اشتهر بالأغاني التي ربطت بينه وبين المناطق الشعبية والوطنية، والتى جعلت له الشعبية الكبيرة، وكأنه المتحدث باسم تلك الطبقة التى ينتمى إليها السارد. فإذا تأملنا ترحيب الجد بالهجرة والاعتماد على النفس {وبأن الأخرى هي التي منعت بحبها الزائد فلانا بألا يهاجر، فحرمته من امتيازات المغامرة التي عاد منها أقرانه بالخير العميم}، يوحى بالسعى والمغامرة، وعدم الخوف، ورفض للواقع والبحث عن وسيلة للخروج منه. وكأنها دعوة لرفض الواقع والسعى نحو تغييره، على كافة المستويات. كل ذلك ليأتى الكاتب فى النهاية ليعلن الخروج من حلم الماضى، فهو لن يعود (الشريط غير واضح وغير مفهوم، ولم يأت به ليسيطر الماضى على الحاضر وإنما لأن نتخذ منه العبر {في المساء لما انكمشت حولي، أغمضت كل حواسي تجاه العالم، و فتحتها تجاه الشريط الرمادي، وإذا بي أسمع بشكل واضح وفصيح صراخ اختي بفعل لسع الذباب أو الجوع (لست ادري) وصوت عمي الكبير يلقن عمي الصغير محفوظة هذا مطلعها:

حط غراب فوق غصن شجرة // وجبنة في فمه مدورة}. ولنعود بتلك العبارة فى النهاية، لتؤكد ارتباطها بالبداية(الغراب) وأنها هى الجوهر لهذه القصة المنسوجة بصورة مشهدية لنعيش معها التجربة، ونتخذ منها الرؤية، والتى تتخفى وراء رمزية الغراب ، بما يوحيه لدى العامة من الشؤم، والتشاؤم، قصيدة محمد عثمان جلال والتى تنتهى ب:

خذ مثلا يا سيد الغربان واحفظه للاتي من الأزمان

من يقبل المديح من أعدائه يعش فقيرا أو يمت من دائه

حيث يصبح المديح فى هذه الحالة نوعا من العداء، وهو ما يدعو للتشاؤم وبؤس العاقبة-إن جاء من الصديق- وكأن الكاتب ما أراد من هذه القصة، إلا أن يأتى برؤية محددة، وتبطين للمعنى الذى لا يريد أن يجهر به، تصديقا للرؤية التى ترى أن فى الأدب العربى ثلاث محرمات

(الدين والجنس والسياسة). فقد نسج قصتة على المقابلة ، بين المكان الذى يقيم فيه السارد ، وأهل المدن. بين الحاضر الذى يعيشونه،  والماضى الذى تشوشت صورته، رغم ما فيه من دواعى الفخر أمام الغير. بين الحقيقة وقولها، والزيف المبطن بالرياء.

اللحن الأخير – حسنى الجهنى
كان العالم فى السابق، يعتمد على السلاح التقليدى فى عالم الحروب، والغزوات، ومع تطور الزمن، اصبح هناك ما تم تسميته القوة الناعمة، جامعة بين النقيضين( القوة- والناعمة). وتمثلت تلك فى الكثير من وسائل الإعلام والتمثيليات والأفلام، فأصبح، واصبحت هى الوسيلة الأكثر تأثيرا على الإنسان، خاصة فى تلك البلاد التى يرى العالم الغربى أنها تحتاج إلى تنوير أو تأثير، او إخراج من عصور مر عليها الآلاف من السنوات. وهو ما عبر عنه الكاتب حسنى الجهينى، فى قصته "اللحن الأخير" حيث تم تصوير تلك الوسائل ب"الحشرة: كاسم مؤقت حتى يتوصلوا إلى معرفته فى المختبر. وهو ما يعنى تعدد الرؤى، والأساليب المتبعة. ورغم العديد من التجارب (المعملية) فى البلاد التى لا تستطيع أن تتوصل لشئ من خلال تلك التجارب المعملية، يصيح أحد خبرائهم {"لقد فشلنا. اللحن لم يكن تجربة... كان نداء. الحشرة كانت مُستقبِلًا. لا نعلم من المرسل بعد. كل ما نعلمه أن الهواء صار آلة موسيقية... والمستمع لن يعود كما كان"}. وهى العبارة التى تكشف عن خواء وخداع تلك البلاد، وعجزها عن معرفة، ذلك الشئ الذى لم يكن صوتا، ولكنه اثير يطير مع الهواء ويصل كل البشر فى تلك المنطقة فيؤثر على أفكارهم ورؤاهم، ويوجههم وفق ما شاء صاحب الرسالة أن يوجههم إليه. وهكذا اصبح الاستعمار الجديد، لا يحتل البلاد، ولكن يحتل أفكار أناس تلك البلاد، فيقومون بما كانوا يقومون به فى الماضى. فتصبح تلك البلاد التى وقع عليها الغزو.. ليست إلا كورالا يعزف وراء المنشد المتخفى هناك فى البعيد. ولا يملك القارئ للقصة إلا أن ينظر حوله، ليعلم ويوقن أن بلاده فى الشرق الأوسط ليست إلا بعض أفراد الكورال الذى يعزف لحن الغرب، وأن ما يصل بنا إلى هذه الصورة إلا التخلف،، الناتج عن التبعية للغرب فى كل مناحى الحياة، فى الوقت الذى تفرغنا نحن للتفكير فى الموت.. وما بعد الموت. حتى أصبحنا نعيش للموت.

ذواق الملك- ليلى عبد الله- عمان 
لا شك أن الأدب الخليجى تأخر كثيرا عن غيره من الآداب العربية، نظرا لظروف المجتمع، وقيوده التى تأخرت كثيرا عن فك بعضها فى البلاد التى احتكت كثيرا بالغربى، وما أدى إليه من انفتاح على العلوم والآداب الغربية. ولذلك كانت الآداب الخليجىة سريعة التطور، لمحاولة اللحاق بركب التقدم. ولا شك أن فوز جوخة الحارثى بالبوكر العالمية (2019)، وفوز"زهران القاسمى" بالبوكر العربية (2023). من منطقة محددة، هى (عمان) لدليل على تسارع الخطى فى هذا المضمار. وهنا تأتى كاتبة أخرى، تسير على نفس المنوال المتسارع، وكتبت قصتها، "ذواق الملك". متكأة على تراث الماضى المتمثل فى كنز "ألف ليلة وليلة" لتلقى بحمولتها على أوجاع المجتمع، ليس فى عمان فقط، وإنما فى الودل العربية جمعاء، دون أن تنجرف إلى المباشرة، وإنما باستخدام أساليب الأدب المبطنة للهم العام، رغم تحميلها على الهم الخاص، الذى يتمثل فى حلم الرجل الفقير، والأمل فى أن يكون الحاكم واحدا من الشعب، يعيش مثلما يعيشون، ويشعر بما يشعرون.  

فعلى الرغم من أن قصة "ذواق الملك" للكاتبة العمانية ليلى عبد الله، تتناول إحدى أمنيات فرد من الطبقة المتواضعة من بين أفراد الشعب، حيث تبدأ القصة ب{ كان آخر أحلامي أن أموت بداء الملوك!}.. وتنتهى ب{ إلّا أنّني عدت مريضاً بالنّقرس}. لتنحصر القصة فى الحلم وتحقيقه، إلا ان الوصول إلى تحقيق الحلم، لم يكن إلا بالتفاعل بين الملك، وأحد رعاياه. ليكشف السرد عن معاناة الشعب، وخوف الملك على مكانته، والهروب من مطاردة الكارهين له، وهم كُثر. فقد وصل البؤس منتهاه، حين أصبحت كل أمنية أحد أفراده، أن يصيبه الله بداء الملوك (النقرس)، تمسحا بهم، وهروبا من المعاناة التى يعيشها أفراد الشعب، حيث اصبحت الدنانير الذهبية الممنوحة من الملك لذائق طعامة هى التى نقلت الانتعاش، وبثت الحياة فى أسرته، فلم يكن له من حيلة سواها {فما حيلتي؟!، حياتي أشبه بالموت، سأقبل بالمقامرة رغم معارضة زوجتي، لعلّي أنقذها وأطفالي من شبح الجوع}. بينما على الجانب الآخر { في أوّل ليلة تملّكني الذّهول لحجم المأكولات، ما لذّ وطاب منها، بقيت حائراً: أيّها ستقتلني؟!}. لتظل المقارنة، او المواجهة بين الحاكم ورعاياه، قائمة بطول القصة، التى اتخذت من ألف ليلة وليلة نبراسا لها، إثباتا لما بين الملك ورعاياه، اشبه بما فى تلك القصص التى تحمل خلفها أكثر مما تبوح به. لذلك كانت تلك المواجهة، تمس الإنسان فى أى مكان، وفى أى أرض، لإن القارئ العربى –بصفة خاصة-عندما يقرأ القصة، لابد سينظر حوله، ويتأمل وضعه، وتتحرك فيه مشاعر التغيير.   

راسلونى على العام – هايدى فاروق 
لم تكن ثورة الخامس والعشرين من يناير، تغييرا فى مسيرة الشعب المصرى، وتحويله من الضياع إلى الأمل فقط، وإنما كانت تعنى التحول الفردى من السلبية إلى الإيجابية، فكم شاهدنا وعرفنا وتابعنا، العديد من الأشخاص، بل والعائلات، خرجت وأصبح لها دور فى الميدان، حتى لو اقتصر على إحضار الطعام، او المستلزمات الطبية.

وقد عبرت الكاتبة هايدى فاروق عن ذلك التحول فى قصتها القصييرة عن ذلك، دون خطابية، أو هتافات، وإنما بصورة التحول فى حياة الإنسان الفرد، فبعد أن كانت الساردة متاحة للجميع، تسعى إلى الطلاق. وبعد أن كانت تتميز بين من حولها بالتفاهة، تعيش السكر واللعب، الأمر الذي يغرى الجميع، فقد كان { يضاجعها المثقف، والسياسي، والمخرج، والإعلامي}. إلا انها عندما ارتبطت بواحد من الثوار، نزلت معه إلى الميدان، وساقتها الصدفة للتعرف على دنيا جديدة، تغيرت حياتها، انضمت إلى حزب سياسى، هجرت حياتها الماجنة وأصبحت شيئا آخر. وكأنها تعلن عن توبتها، وبدايتها حياة جديدة، كمرشحة فى الانتخابات، اصبح {تذيّل منشوراتها دائمًا بجملة: "الخاص ممنوع... من يريد مناقشة شئون البلاد وموقفي السياسي فليراسلني على العام}.

فهكذا عبرت الكاتبة عن التغيير الذى حدث، فلم يكن التنحى هو النهاية، ولكنها البداية، بداية حياة جديدة لمصر وللساردة. فأصبح كل شئ فى حياتها، منشورا، فلا خشية منه. فتحول الشرع من الخاص إلى العام.

وإذا ما كانت القراءة الأولية للقص، توحى بأن القصة قد خرجت عن الإطار الزمنى للقصة القصيرة، والتى تتطلب التكثيف والاعتماد على الإيحاء، فإنه بتأمل ما كتبته الكاتبة فى جملة البداية {لو أن أحدا صارحنى بما سيحدث، لم أكن لاصدقه. فلم أكن يوما أتخيل أن يتم التغيير بهذه الصورة} تلك الجملة التى ظلت مبهمة طوال القصة، ونربطها بما جاء بنهاية القصة { تذيّل منشوراتها دائمًا بجملة: "الخاص ممنوع... من يريد مناقشة شئون البلاد وموقفي السياسي فليراسلني على العام." فهى نفسها لم تكن تتصور أن يسير تغيرها على هذه النحو، وتخرج من الظلام إلى النور ، فإذا ما اعتبرنا جملة البداية أداة شرط، فإن جوابها جاء مع نهاية القصة، لتتحول إلى اللحظة التى تتأمل فيها الساردة حياتها، وتجربتها، وتنظر لها من الخلف، كعملية استرجاع، فكانت تعبيرا عن التغيير الذى حدث للفرد وللجماعة معا، وكان هذا الدليل على قدرة القصة القصيرة، التى لا يتعدى زمنها الفترة الوجيزة، لتشمل كل أحداث وتطورات ثورة يناير، وتحولاتها الى استغرقت عددا من السنين.

والبنون – جمالات عبد اللطيف
الإنسان لا يتجزأ، والمبدع، مهما تعددت إبداعاته، وتنوعت كتاباته، فلابد هناك رؤية تتخفى وراء كل ما يكتب، وبأشكال متنوعة. فمن يقرأ رواية "بعيدا عن السماء" للروائية جمالات عبد اللطيف، سيدرك أن هناك هم يتخفى وراء كل كتاباتها، الإنسان، والمجتمع. فهى بحكم تواجدها فى بيئة متشددة، ولو ظاهريا، فإنها تبحث عن وجود الإنسان وسط القيود التى يكبلها به المجتمع القائم على العادات والتقاليد، والتى لها سطلة تفوق سلطة القوانين. ولـتأتى قصة "والبنون"، غارقة فى الهم الإنسانى فى أصعب فترة يتطلب الإنسان أن يكون بجواره أقرب الناس له، ومن أقرب للمرأة التى تحتضر، وتعانى سكرات الموت، من ابنتها، فلا تجدها. ولتستغل الكاتبة هذا الشحنة المكثفة من المشاعر، لتعبر عن الإنسان فى وحدته { ساعات النهار تتآكل وتزداد جثتي انتفاخا" فأين أنت يا ابنتي؟. كثيرون الآن يدقون بابي. هل لاحظ الجيران غيابي، واختفاء صوت سعالي؟ أم أن ما أخشاه قد حدث، وتسللت رائحتي إلى الخارج لتعلن عن موتي؟}. ولتزداد المأساة حين {تقدمت امرأة كنت أعينها  بما يتوفر لدي من ملابس وبعض الأطعمة، تقدمت من سريري وألقت بنصف الملاءة فوق جثتي}. فهنا تبحث (الإنسانة) الأم عن ابنتها فلا تجدها، ليتقدم من كانت تعطف عليها وتقوم بتغطيتها (بنصف) الملاءة. حيث توحى القصة بغياب الأبنة من فترة طويلة، ليثور التساؤل حول دور المجتمع فى مثل هذه الحالات، ولتتعدد الأسئلة والبحث عن الونس، ورد الجميل، لا من الإبنة فقط – والتى ربما شغلتها هموم الحياة، ومسئولية الأبناء، او ممانعة الزوج- وإنما ما قدمته هذه الأم للوطن بطول سنوات عمرها، ألا تستحق أن تكون نهايتها أفضل من تلك النهاية التى يتصدق عليها الغير فى لحظات الوداع؟!.

وإن كانت القصة تفيض بالكثير من المشاعر الإنسانية، إلا أن تلك البؤرة المختبئة خلف المواقف والكلمات، لتنضح بها الرؤية العامة، التى تبحث عن تأثير البيئة والمجتمع، على الفرد، ويكون لها السبق والأولوية، فضلا عما تثيره القصة من العلاقة بين الفرد والمجتمع، ولأننا اليوم فى عالم كل يدور فى ساقية حياته، وإنشغالاته، فعلى الدولة، المنوط بها رعاية أبنائها، بتوفير ميسرات الحياة، فى كل المراحل العمرية، فإذا ما قرأنا القصة، فلا نملك إلا النظر فيما حولنا، وهى القضية الأساسية للأبداع عامة، أن تدفع الإنسان إلى تأمل ما عيشه، وأين هو الخلل فيه، بحثا وعملا على تلافيه، وصولا إلى المدينة الفاضلة.  

 

إطار المرأة- أحمد غانم عبد الجليل

بلغة سلسة، نسج الكاتب العراقى أحمد غانم عبد الجليل، روايته المشحونة بالوجع، الذى يشعر به القارئ، ويلمسه، وكأنه الأنين المكبوت، والمشحون بالمرارة، وكأنه تجربة شخصية، يمكن أن تستأثر القارئ، وتنتزع منه التعاطف، الذى هو وسيلة الإبداع الحقيقية فى التوصيل. لتتحول روايته "إطار المرأة" إلى إبداع مثير للجدل، ويدعو للتساؤل. فإطار المرأة، يوحى بالعالم الخاص للمرأة، فيطمح القارئ أن يبدأ رحلة فى العالم النسائى، ولكن الكاتب لم يأخذا قارئه إلى عالم المرأة التى يتحدث عنها، فليست إمرأة عادية- وإن كان كل ما بالرواية من شخصيات وأحداث، يساعد فى رسم ذلك الإطار- خاصة وأن تلك المرأة "مروة" تعانى أمراضا نفسية، قد يجد القارئ فيها المبرر الموضوعى لكل تصرفاتها، حيث الظروف المجتمعية هى التى دفعتها لكل تلك الحالات التى تعيشها. خاصة أنه جعلها تتحدث بضمير المتكلم، وكأننا أمام صيغة السيرة الذاتية، كما أن إختيار المؤلف لصيغة الحديث مع كاتب، كل اسلحته هى الكلام، والسعى نحو إيجاد (الولد) جاء موفقا، وموحيا بأن الكلام والدعوات من الغرف المغلقة، لم يأت بجديد، وهذا ما يتفق مع ما انتهت إليه الرواية فى النهاية. 

إلا أن المتابع لأعمال أحمد عبد الجليل، سيجد أنه على المستوى الشخصى، لديه ما يخرج به عن ذلك الإطار الضيق، خاصة عندما يتم إعدام والده فى عهد الديكتاتورية الصَدَامية، بينما كان فى سن مبكرة. الأمر الذى يُنشئ جرحا فى الأعماق يستقر، ويمتد لسنوات عمره المتبقية. وعلى المستوى العام، سيجد أن كل أعماله مغموسة بالهم العام، الذى فرضه صدام حسين، وما حدث بالعراق بعد صدام، من غزو أمريكى (مارس 2003م) والذى أدى إلى إحناء الرؤوس، وضياع القوة –المفترضة- وراء شعارات صدام. وأدى إلى الكثير من الفرار، إما خارج الوطن، أو حتى داخله. كما أدى إلى اليأس الذى استقر فى النفوس، وقطع شعرة الأمل المرجو. فتخير أحمد عبد الجليل، المرأة، لتكون بطلة لروايته- مثلما كانت للمرأة الأدوار الرئيسية، فى رواياته الأخرى- حيث كان التوفيق رفيقه فى ذلك الاختيار، أولا للكشف عن التناقض فى شخصية العراقى – والعربى عامة-، وتذبذبه بين التقاليد والثورة عليها. إلى جانب أن الرجل عندما يثور أويسعى للثورة، فهذا شئ عادى، أما أن تثور المرأة، فهو الاستثناء. وثالثا، أن تتولى الأخت وحدها، رعاية الأم بينما الرجال خرجو للخارج وراء السعى عن مصالحهم الشخصية، مكتفين فقط بالشيكات التى يرسلونها، بل يصل الأمر إلى تكليف من يبيع البيت القديم بالعراق، والمرأة هى التى تحمى البيت من البيع، رغم أنها لم تُستأذن فى ذلك، شأن المرأة –عامة- فى بلداننا العربية، حيث لا يُؤخذ رايها فى عملية التصرف فى الميراث، لتنفتح الرؤية إلى عالم المرأة الفسيح وكيفية وضعها فى تلك البلدان. وهذا ما يدفعنا لقراءة الرواية فى محيطها الاجتماعى (السياسى).

فإذا ما تأملنا شخصية الساردة "مروة"، سنجد أنها تجنح إلى الشبقية، أو إشباع الجسد، حتى أنها قبلت أن تقيم علاقة مع "غزوان" متذرعة بعقد صورى –عقد زواج عرفى بدون شهود، ومن هو "غزوان" إنه الضابط السابق، الذى وقع فى الأسر، وهربت زوجته بابنتيه إلى الخارج، أى أنه المقاوم ، أو الرمز الوطنى مكسور الجناح، فحاولت هى أن تُقَوم إعوجاجه، وترفع من رأسه، خاصة أن رجولة العربى تكمن فى فحولته { كان غزوان يتبعني بسيارته في ذات السرعة، وكأنه الآخر يخشى فقداني من حياته التي ولجتها فجأة كي أحيل الهمود الذي أوصلته إليه هزيمة بلادنا ومن ثم ظلمات المعتقل إلى ثورة مستعرة طيلة وجوده بين أحضاني، يحرص ألا يتبدد عنفوانها منه أبدًا}. بينما رفضت الزواج من الشخص (الهارب) إلى الخارج "خالد"، والذى رشحه لها أخواها اللذين يقيما فى الخارج، فكانت العلاقة عبر وسائل الاتصال الحديثة، ولا يرغب فى الزواج إلا لمجرد أن يلحق قبل فوات السن التى وصل إليها، أن تأتى له بالولد ولنعلم فيما بعد أنه (كاتب)، أى أنه لا يملك إلا الكلام، حتى لو كان حلما بالولد، الذى يرمز للمستقبل، إلا أن الأحلام لم تحقق شيئا، لذا نراها فى النهاية ترفضه، وترفض أحلامه، متخلية عن كل الأقنعة التى تعودت فى بعض الأحيان، ان تتخلى عنها (الحجاب). معلنة أنها سترفض كل الأقنعة التى يتخفى وراءها كل العراقيين- والعرب جميعا- { حتى إن فعلتَ واستخدمت اسم (مروة) وكافة الأسماء الأخرى، فلن أخشى من فضح أسراري أمام أحد، وقد قررتُ إلقاء كل الأقنعة، المهم مواجهة نفسي كما هي، قبل أي شخص لم يعرف عن مروة أكثر مما جنحتْ به الرغبة لمعرفته}. وليكون "خالد" أحد الرموز –الرجالية- التى أراد الكاتب عن يستعرضها، والهاربة إلى الخارج. مثل أخويها الذين يخشيا الرجوع إلى البلاد، ولا تعرف سببا للخوف، مكتفيان بالشيكات التى يرسلانها لعلاج الأم، التى تحملت وحدها عبء مدواتها، ورعايتها، وحدها، دون مراعاة لظروفها الإنسانية، وأنها –كأنثى- تحتاج أن تركن إلى الرجل. بل وصل بهما الأمر لتوكيل من يتولى عملية بيع البيت، دون أن يأخذا حتى رأيها، وكأن ليس لها من رأى. فكانت هذه النماذج الهاربة من المواجهة، وفَضَّلا الهروب بعيدا عن المعركة.

فإذا كانت هذه حال قطاع من الشعب العراقى، فهناك قطاع آخر، لم يهرب إلى الخارج ولكنه ظل فى أرض الوطن ، ولكن أصابه التحول مثل زميل الدراسة القديم "إبراهيم" والذى هام بثدييها، سابقا، ولكنه مازال عند شغفه بالثديين، او رمز الأنوثة الجسدى. فرغم أنه كان من المعتقلين سابقا، إلا أنه اصبح اليوم من الواصلين إلى أعلى المستويات، ومن يملك الآن شراء البيت بأى ثمن، وصولا إلى لا البيت ، ولكن لصاحبة البيت، أو واحدة من سكانه {انتبهتُ لإشارته حول مدى ثرائه داخل وخارج الوطن المدَمر، فقلتُ ضاحكة: لا أستغرب ذلك في زمن الصفقات والفتاوى المبيحة كل شيء. بالمناسبة، ما أخبار شيخك المبارِك أوراق زيجاتك العرفية. على عكس خشيتي من امتعاضه ضحك بصلافة، وقال: جعلتِها زيجات، كل ما أردته أن أتزوجك أنتِ، وأنتِ تعرفين ما حدث بعد ذلك}.

فرغم أنه يمكن قراءة الرواية، بالرؤية المباشرة، وأن "مروة" ليست إلا أن تكون إمرأة لها طبيعة خاصة، حرمتها الحياة من دوافعها الشخصية، إلا أننا  لايمكن أن نتجاهل تلك الرؤية المجتمعية لمرحلة معينة فى منطقة (عربية) بعد أن أذاقها "صدام" تلك الديكتاتورية، والتى إنتهت بغزوه للكويت، ما أدى إلى الغزو الأمريكى لبلاده، إلا ان الكاتب لم يلق باللائمة على الخارج (الأمريكي)، وإنما وضع الوزر كله على الداخل، وعلى رجاله تحديدا، لتقف هى (المرأة) وحيدة تتشبث بالدفاع عن الوطن المتمثل فى الأم المريضة {الآن تذَكر حالة والدته الصحية واحتمال أن تتعرض لانتكاسة، بعد استقرار الأوضاع نسبيًا في البلاد وهدوء زوابع القصف والانفجارات التي كانت تحاصرنا فيمكن أن تمنعني حتى من الخروج والبحث عن دواء في بعض الأحيان، وأنا أتوقع أن أجدها لدى عودتي محترقةً بنيران الحرب المترامية في كل مكان}، والتى أوصلت الساردة إلى حالة من اليأس {يأس من عدم تحقيق ما نصبو إليه، أو ما لم نستطع قوله أو فعله، جهرًا دون خوف يفرض علينا وضع المزيد من الأقنعة الموارية لحقيقة ما نكون عليه، وبلا رتوش تجميلية أو ادعاء يحطُ منا أكثر في قرارة أنفسنا، ونكون مثل البلاد التي وُضعت لها الكثير من الوجوه الغريبة عنها لتكون أكثر اغترابًا عنا من أي زمنٍ مضى، أخذ منا ما أخذ ولم يعطِ إلا المزيد من الزيف}.

وهكذا تجد الساردة، ألا أمل فى الاعتماد على أحد، ولكن المقاومة، لن تكون إلا بالاعتماد على الذات، حيث ينهى الكاتب روايته، وقد نجح فى المزج بين "مروة" الإنسانة، و"مروة" ابنة الوطن الجريح، الذى أدى هروب وسلبية الرجال- بالمعنى الرمزى- إلى الاعتماد على النفس {أنا الآن سيدة نفسي حقًا، تعرفتُ على مجتمع جديد، لم تدمره بشاعة الحروب، فكونتُ الكثير من العلاقات، كما صرت على أتم الاستعداد لخوض مغامرات جديدة، لكن دون أن أضطر إلى التخفي في شقة منزوية عن العيون، فلم يعد يهمني أحد أو أخشى انتقاد أو نظرة اتهام من أيٍ كان}.