تواصل مجلة الكلمة مشوارها مع فتح مغاليق القصة القصيرة في مصر، وكيف أنها تستطيع أن تحمل هموم الإنسان على الأرض. فتقدم قراءة سريعة حول اكتشاف مفاتيح القصص المنشورة فى هذا العدد.

الموت .. فى القصة

شوقي عبدالحميد يحيى

 

الموت... هو الحقيقة الوحيدة فى هذا الكون، وهو العتبة التى يمر بها كل كائن حى، ليدخل فى المجهول، ذلك العالم الذى لم يذهب إليه أى إنسان، ليعود ويخبرنا ماذا هناك، ويقف الإنسان على هذه العتبة، وظل، وما يزال يخبط عندها، ويتساءل، لذا كان الفلاسفة، أول من تساءل عن هذها المجهول الذى يثير الحيرة والتساؤل، فتناوله الفلاسفة من مختلف العصور والمدارس الفكرية. يختلف مفهوم الموت من فيلسوف لآخر، ولكن بشكل عام، يمكن القول أن الموت هو نهاية الحياة، سواء كانت هذه النهاية تعني الفناء التام أو انتقالً إلى عالم آخر، وهلى الموت هو فقط خروج الروح، التى تظل هى الأخرى سر لا يعلمه إلا الله.

 كما تناولته الأمثال والأقاويل الشعبية، تعبيرا عن رؤيتهم لذلك الحدث، المتكرر، والأبدى، منذ خلق الكائن الحى على ظهر هذه الأرض، وإلى ان يشاء الله. فأصبح من المسلم به قول القائلين: الموت ما يرحم صغير ولا كبير. "الموت راحة".  "الموت يزور كل بيت". ولكن هل حقيقة أن الموت راحة؟ .. فى بعض الأحيان وخاصة عندما يصبح أفضل من الحياة عندما تكون الحياة مليئة بالمعاناة والألم واليأس، ولا يرى فيها الإنسان أي أمل أو فرصة للتغيير الإيجابيعندما يصبح الألم المستمر أو فقدان الأمل هو السمة الغالبة على الحياة، قد يرى البعض أن الموت هو الخلاص أو الراحة الأبدية. وإن كان هذا المفهوم لا يتفق مع رؤية الأديان، التى ترى أن الموت نهاية مرحلة الحياة الدنيا، ليبدأ (الإنسان) مرحلة جديدة. ولما أصاب الإنسان اليأس من معرفة ما بعد الموت، حاول أن يستغل الموت ذاته، متخذا إياه وسيلة لتحسين الحياة، فقال سقراط عند محاكمته (الحياة بدون تجربة لا تستحق أن تعاش)، مؤكدا أن أن الموت يتربص بنا فى كل مكان، ولا يعنى هذا القعود والاستكانة، بل لابد من الحركة والتفاعل، وهو ما يخلق التجارب. وهو ما يفتح مجالا واسعا للنظر فى معنى الموت، حيث يعنى السكون، عدم الحركة، عدم الإحساس، عدم التفاعل مع الغير. فكأن الإنسان (أو الكائن الحى عموما) يتوحد مع ذاته، منفصلا عما حوله. فكان هناك الموت الفعلى، وهو خروج الروح من الجسد. والموت المعنوى، الذى تظل الروح فيها بداخل الجسد، لكنه منفصل ومنعزل عما حوله، رغم أنه يعيش فى مجتمع، ولا غناء له عنه. وهذا الذى وقف أمامه الإبداع، اكثر من النوع الأول، والذى لا راد له، وكأن الإبداع يدعو إلى الحركة، وإلى التفاعل، وهجر السلبية، أو الجمود.

وأول شئ وصلنا من ذلك الإبداع اسطورة إيزيس وأوزوريس، والتى (ظهرت في مصر القديمة، وتحديدا في النصوص الهرمية التي تعود إلى الدولة القديمة (فى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد. وقبل ظهور الأديان. حيث استنجدت إيزيس بأوزوريس -الذى مات-، فجمعت أشلاءه المبعثرة فى كل مكان. كما سعى فى -عصرنا الحديث – يوسف إدريس فى قصته "المرتبة المقعرة" والتى بدأها ب { في ليلة «الدخلة» و«المرتَبة» جديدةٌ وعالية ومنفوشة، رقَد فوقها بجسده الفارع الضخم، واستراح إلى نعومتها وفخامتها}. حيث تبدأ القصة بليلة الدخلة، وكأنها الدخلة على الحياة، أى بداية وجود الإنسان على الأرض. ثم يسأل زوجته {هل تغيرت الدنيا؟} وتجيبه بالنفى، فيطلب أن ينام بعض الوقت، ويصحو ويكرر ذات السؤال ويسمع ذات الجواب، وفى كل مرة تكون المرتبة قد هبطت به، ويزداد الهبوط إلى أن يصبح الرجل مغطى بالمرتبة، وتتحول إلى قبر له حيث يموت، وتعلن الزوجة أنه الآن قد تغيرت الدنيا. وعلى الرغم من تعدد الرؤية حول تلك النهاية، إلا أن  الرؤية الواضحة والمعنى المأخوذ من القصة عموما، أن الموت هو الحقيقة التى تغير عندها تتغير الدنيا. ولذلك كان الموت الذى عندها تتغير الدنيا.

وقد حفلت قصص هذا العدد من الكلمة، بتنوع الرؤية حول الموت، فمنها من تناوله بشكله التقليدى، والكثير منها تناوله بشكله الداعى إلى الصحيان وهجر السلبية، اى الدعوة للحركة، للإيجابية، لن يكون الإنسان فاعلا، اى يترك الموت، أو الموات.

فنستطيع أن نلحظ المفارقة فى قصة عمار على حسن، والحرية فى قصة محمد الفخرانى، والموت هو المحطة الأخير عند عاطف سليمان، والموت للأحياء فى قصة هايدى فاروق، والموت بالهروب من الحياة  لمراد ناجح عزيز، وموت الأم هو الشَق فى الجار الحامى عند ياسر سليمان، والعزلة وتجاهل الغير هو أيضا موت كما عند حاتم رضوان وهكذا.

الأيام أكلت جسده.. والمفارقة

فى لحظة الموت.. تتجمع كل مراحل الحياة. فيجلس صاحبنا، ليسير شريط حياة ابن عمه، أمامه، فيتعجب عمار على حسن، كيف لهذا البطل أن ينهزم أمام الموت؟ .. هكذا تقول (حكاية) القصة، إن جاز أن نقول أن للقصة القصيرة (حكاية). إلا أن تاريخ الكاتب، والظرف الاجتماعى الذى كتب فيه الكاتب قصته، لايمكن الفرار منها، والنظر إلى القصة بسردها المباشر، الأمر الذى يدعو للنظر فى قصة عمار، بما عهدناه منه من العمق والذهاب إلى الداخل، والبحث وراء السطور. وقد اختار لبطله مرض السكرى، ذلك المرض (اللص) الذى قد لا يسبب أعراضا محددة، لكنه يضرب فى عمق الإنسان، فيحيله إلى خيال رجل {أنه قد أصيب بالسُكَّري، لكنني لم أتصور أن ينهضم جسده، وتثرم أسنانه، إلى هذا الحد}. وفى المقابل، نرى أن هناك انفصال بين (الفرد) والقوة التى كان عليها ابن العم، أو من يمثله { ولأني ذهبت مباشرة من المقبرة إلى غربتي من جديد}. فالفرد هنا يعيش فى حالة انفصال بينه وبين المجتمع، وما خرج من (الغربة) إلا لتأدية الواجب. وكأننا أمام قوتين لا رابط بينهما، الفرد والمجتمع. ونستطيع أن نتصور كلا القوتين، خاصة عندما نتأمل فى حكمة الزمان. فمن كان يتصور أن{يومها أغلقت عينيَّ، فرأيته ذلك الشاب الذي كان يقف على نواصي شوارع قريتنا الصغيرة، مرتديًا جلابيبه اللافتة النظيفة، بيضاء وخضراء وبنفسجية، كانت تكسو جسدًا فارعًا ينتهي بهامة مرفوعة، ووجه لم أره يومًا عبوسًا}. 

ويوضح الكاتب، بعدا آخر عن ابن عمه، وتاريخه الذى جعله محط، وأطماع بنات البلد، منطلقا من تلك الحقيقة القائمة (وهل تعشق بنت سوى القوي الوسيم؟). بل لم تكن الصبايا هن فقط من أحبه، بل الأطفال أيضا، والأطفال هنا تفتح بؤرة تُطل على عالم كبير واسع، يحتوى عالم الطفولة، بتكويناته العقلية والخيالية {ورأينا فيه مثلنا الأعلى حين يتمكّن كل منّا من أن يجذب إليه اثنتين من جميلات قريتنا}. فقد توافرت لصاحبنا القوة، والوسامة، ورغم ذلك عندما تزوج، تزوج واحدة كان قد سبق لها الزواج، ولم تكن لها خلفة، ولم يتزوج أى مِن مَن أحبوه. فكانت المسيرة -لإبن العم- قد انحرفت عن المنطق السليم، خاصة إذا سرنا وراء تلك الكلمة المفردة، والتى –أيضا- تفتح الكثير من الأقاويل والرؤى { وتزوج في نهاية المطاف من سيدة تزوجت قبله، ولم تنجب}، حيث (لم تنجب) تفتح الكثير من المغاليق، وتفجر الكثير من الألغام التى يخبئها عمار وراء كلماته العادية، حيث لا يُنتظر –لإبن العم- من سيرة تمتد من بعده.

لكن الأطفال، انكسرت أحلامهم { لكن أحلامنا انكسرت في انكساره، ولم يكن أي منا قادرًا على أن يدرك ما يجب عليه أن يفعله في سبيل أن يمضي في ثقة وسلام على الطريق الصعبة الطويلة}. والصبايا { لكن كل هذا الضجيج، لم يُزِح نحيب امرأتين، صارت كل منهما أمًا لأولاد كثر، وقد دخلت إحداهما إلى حمام بيتها، والأخرى إلى غرفة نومها، وأغلقتا على نفسيهما بابين، وانخرطتا في بكاء حار، وكل منهما تستعيد أيامها معه، وتقر أنه كان طفلاً كبيرًا، ولم تكن هذه النهاية تليق بمن كان فتى مثله}.والطفل الكبير، تعنى نضج الخارج ، وتوقف الداخل عن النمو.

فهكذا كان الموت الفعلى لإبن عم السارد، والمعنوى لما يمثله من رمز، هو نهاية المطاف لذلك الذى كان، ولكنه أصبح غير ما كان عليه، ولكنه أيضا، مات فى القلوب، فراحت البنات، اللائى كن، وتحطمت أحلام الأطفال -الذين كانوا-. وهكذا يجب البحث فيما وراء السطور، عند قراءة عمار على حسن، الذى لا ينفصل عن مجتمعه.

ماشية على حل شعرها.. ماشية على حل مشاعرها

عندما تناول إحسان عبد القدوس، المرأة، أو الفتاة، فى رواياته الكثيرة، قالوا عنه أنه "أديب الحب" وتناسوا أنه السياسي الساعى للتنوير، متخذا من المرأة، أو الفتاة تحديدا، مصباحا يضئ به الطريق، لمن لم ير الطريق. وها هو محمد الفخرانى، يتتبع منهج عبد القدوس، دون تقليد، أو محاكاة، حيث عُرف الفخرانى بإسلوبه المميز، والجمع بين الخيالى والواقعى، الذى يرسو عليه بقدم ثابتة. فهنا فى قصة "ماشية على حل شعرها" نعيش مع فتاة خرجت عن المألوف، فكانت اللعنات تصب عليها من كل الجهات، والأخص أمها التى تمثل الموروث المُكبِل للحركة، والغارق فى الظلامية. جمع فيها الفخراني بين الإنس والجان، ليقول لنا أن الجان والشياطين، لا يفعلون فعل الإنسى، الذى له نكهة خاصة محببة { تثير علاقتها بأولاد الإنس غيرة أولاد الشياطين، غيرة حلوة بلا ضغينة، هي لا تتعمّد تجاهلهم أو البُعد عنهم، تتعامل معهم في مواقف عابرة، ويتمنّون لو يتعرّفون إليها أكثر، لكنهم يتفهّمون مزاجها ويقبلونه، ببساطة: هي تُفضِّل أولاد الإنس}. وتَقبل الأبنة من أمها أى وصف (سئ)، إلا ان تقول لها (أنا بقرف منك). ذلك الوصف الذى يتهمها بالقذارة، وهى تعلم جيدا الفتاة- أنها ليست كذلك، اى أنها تثق فيما تفعل، وتظل الحرية الشخصية هى الكامنة فى الداخل. تلك الفتاة التى لم يكن الرجال يعلمون لما يحبونها، رغم أنها ليست جميلة، وليست دميمة، لكن {كان بها شيء مُلْهِم لنا جميعًا، لكن لم يكن أحد يتكلّم عنه لأننا لا نعرف طبيعته تحديدًا، أو لأنهم لم يريدوا الاعتراف، أو لأنها لم تهتم، عرَفْت فيما بعد أنّ مصدر إلهامها لنا هو روحها الحُرّة، وحتى أسلوبها في الاستهتار، خصوصيتها وتَفَرُّدِها ومَشاعِيَّتها معًا، كانوا يشعرون بأنها قريبة وفي الوقت نفسه بعيدة، المحبوبة في السرّ، الملعونة في العلن}. حيث تأتى الغرابة والغربة فى فهم ما تفعل، الأمر الذى يحيل إلى ضوء خافت وسط الظلمة الدامسة.

وتموت الفتاة بعد أن أخبرتهم أنها ستموت فى الصباح، وكان موتها {موت مفاجئ للبعض: لأنها صغيرة السنّ، ومُتوَقَّع للبعض: لأنها ما هي عليه} فالموت لا يتطلب شروطا معينة. وبعد أن كانت الأم فى ثورة غضبها عليها، قد خلعت خصلة من شعرها، وبعد أن فقدت الأم- القدرة على تذكر اسمها الحقيقى من طول ما نادتها بألفاظ جارحة، وبعد موتها، يحدث التغيير فى حياة الأم، المجتمع، فتدور الأم على أصدقائها، أصدقاء البنت، وكأنها قد أدركت أن ابنتها لم تكن عاصية، ولم تكن شاذة، فتلعنهم ف{ تمُرّ الأم على بيوت أصدقاء البنت، بيتًا بيتًا، صديقًا صديقًا، وتسأل كل واحدٍ منهم: "لم تُقبِّلها؟ ولا قُبلة واحدة؟"، تشتمهم لأنّ أيًّا منهم لم يُقبِّل البنت، تضرب وجوههم وصدورهم: "كانت محبوبتكم وفَرْحتكم، ولا قُبلة واحدة يا عديمي الذوق والرحمة؟ حاولتم على الأقل يا مُخنّثين؟"، وتَخبط على أبواب أولاد الشياطين: "ولا قبلة واحدة؟ كانت حلمكم، يا عديمي الحِسّ}.  

 وتأتى جملة تستدعى القارئ أن يتأملها{اثنان فقط انتَبَها، وصَدَّقاها: أبوها، وأنا}. فيلعب الفخرانى لعبته المحببة، فيُأنسن الموجودات، ويُنطق الجن والعفاريت، فيختلط المعقول بالامعقول فيتحول الصبح إلى كائن حى، يسعى الأب لمفاوضته { لم يكن قد تَبقَّى على الصُّبح غير ساعة أو أكثر قليلًا، حاول خلالها الأب أن يمنعه عن الحضور، مرّة بالقوة، ومرّة بمفاوضات، وتعاطَف الصُّبح معه، وكاد يقتنع، لكنه لم يفعل شيئًا غير أنه تأخَّر دقيقتين، وفي الوقت نفسه لم يتصرَّف ضد البنت، هو فقط: حَضَر}. ويصبح الأب، مع السارد، كممثلين لنظرة الرجل إلى الفتاة. ليس لأنهما فقط المستفيدين، بل لأن الرجل يمثل- بالدرجة الأولى العقل والحكمة.

كما أن حضور السارد هنا، لم يكن دخيللا على النص، وإنما منسوجا ومضفرا فى نسيج العمل، حيث تهفو نفسه إليها، وكأنه الداعى إلى التنوير، او الحرية، ليس للفتاة وحدها، وإنما الداعى إلى الحرية للجميع، فهو هنا ممثل للفكر التنويرى، فليس إلا واحدا من الجميع، فيتحدث باسم الجميع {كان بها شيء مُلْهِم لنا جميعًا}. وتفتح جملة واحدة نوافذ على الطبيعة العربية التى تأخذ بالظاهر فقط، دون التعمق فى الباطن { المحبوبة في السرّ، الملعونة في العلن}. وهو ما يؤكده الكاتب عندما يكشف بعدا آخر، يكشف تلك الازدواجية فى الفكر الإنسانى عامة والعربى خاصة {كثيرات وقتها تَمَنَّين لو أنهنّ صاحبات البِزّ المعضوض، وكثيرون تمنّوا لو أنهم صاحب العضّة}. وهو ما يفتح الرؤية ويوسعها، لتخرج من الحيز الفردى، إلى الحيز المجتمعى.

والأمر هنا لا يؤثر على أحد، إنما الحرية هنا تأخذ معناها الصحيح، فالبنت حرة، وحريتها كما أنها لا تصيبها بما يعيبها، فهى أيضا لا تضر أحدا {على فكرة، البنت وأصدقاؤها لا يؤذون أحدًا ببذاءتهم، لا يوجّهونها لأحد، إنما هكذا في الهواء، يستعملونها بمهارة تخُصّهم، للمرح واللّعب، ويتجاوب أهل الحيّ معهم أحيانًا ويدخلون اللّعبة، لعبة البذاءة اللذيذة، للتسلية والضحك}.

وكان طبيعيا أن تموت مثل هذه الفتاة، فيخرج الكاتب المنولوج من أعماق السارد إلى العلن {طمأنْت نفسي قليلًا، قلتُ لي إنها بنت لا تموت بهذه السهولة، لكن.. اتّضح أنّ موتًا بهذه السهولة يليق بها}. فقد كانت صوتا نشازا فى موروث متراكم وضاغط على الأنفاس، فعبأ الأم التى هى مصدر الحنان، إلى أم ساخطة وغاضبة على ابنتها، وكأنها تعيش سنوات وسنوات، تحت ضغط هذا الموروث، فقد علمنا مما ساقه الكاتب فى قصته، أنه كان فى الرابعة عشر من عمره، عندما تمنى أن يصادقها، وقد أصبح الآن فى السبعين من عمره. فكأن البنت بما تمثله من صحوة ويقظة داعية إلى الخروج للنور، لا تأتى إلا كل عدد من السنوات، لأرث ظل قابعا لعدد من القرون. وليصبح ما تعيشه المرأة، من ذلك الإرث، فى حالة موات، ولكنه هنا  الموت المعنوى، القابع فى النفوس، حيث استطاع الفخرانى أن يكون خليطا إبداعيىا، أضمر فيه الرؤية الكلية وراء العديد من التهويمات، التى تمنح القارئ المتعة القرائية، إلى جانب الحشد المعنوى الداعى إلى تحطيم الموروث المُكَبِل للحركة، وكأنه يدعو لأن نعيش الحياة، دونما قيود، طالما أننا لا نضر غيرنا. وأن ننظر للمرأة (نصف المجتمع) بإعتبار أن لها مشاعر، فبدَّل الفخرانى القول المشهور عن (المنحرفة) "ماشية على حل شعرها" إلى "ماشية على حل مشاعرها". 

حواس الحريقة .. وقطار الحياة

بلغة شاعرية، توحى أكثر مما تفصح، وباستخدام الهمس الشفيف، وباستخدام الإضغام، والتورية، والإيحاء، يصنع عاطف سليمان قصة تتناول عمر الإنسان الذى يمثل الرحلة التى لابد تنتهى إلى المحطة الأخيرة، تمتد فى الزمن الداخلى، سنوات وسنوات، وفى الزمن الخارجى، لاتتعدى القصة رحلة القطار من الأسكندرية وإليها. لينتظر الموت هناك، فهو نهاية الرحلة، ونهاية المشوار الدنيوى.

فى البداية، وضع لنا عاطف سليمان، مفتاح الدخول إلى قصته. وهو القطار، وخاصة قطار الدرجة الثالثة، القشاش، وأن يكتب فى كل محطة كلمة، وكأنه يعلن منذ البداية، أن الحياة محطات، لكن القطار يسير بطيئا، وكأنه يعلن أن الملل قد أصابه من طول المسير، وأنه سيكتب فى كل محطة كلمة، فنترقب كتابة المذكرات عن تلك الرحلة البطيئة المملة.

وتأتى أولى المحطات، عند فترة الطفولة، حيث العيش فى القرية، المميزة بحقولها وفتوتها، التى يصبح كل تفكير السارد فى أحلامه، حتى لو كانت مستحيلة.

وفى المحطة الثانية، كانت الأحلام كبيرة، غير أن الرفاق قد بدأوا فى الاختفاء.

وفى المحطة الراثالثة، اتسع نور القمر ليغمر مساحة أكبر، وبدأت المعرفة تطرق بابه، فبينما كان صغيرا، لم يكن يعلم أن الطائرة تحمل بشرا، لكنه الآن يعلم. ويظهر له رجل، من بين صفحات الكتب. ليطلب منه أن يسافر، وألا يكتفى بالكتب، وكأنه يدعوه أن يبحث عن المعرفة والعلم على أرض الواقع، لا بين صفحات الكتب.

ويكبر الفتى، ينام ويصحى، و{ سَاوَرَهُ إدراكٌ بأن الليالي الجميلةَ تردُفُهَا نهاراتٌ فاترةٌ. وانتابَهُ شعورٌ بالإثم تجاه ليلةِ الأمسِ وقمرِها وحقولِها، وتوجَّسَ أن ثمةَ قَصَاصَاً سوف يطالهُ}، فتحسر على ليالى الخضرة والحقول والبراءة. ويحلم بالطائرة تحترق، وتخرج منها فتاة تقترب منه ليجدها محترقة، وتطلب منه أن يقبلها، فيقبلها، لكنه لا يشم فيها الاحتراق، وكأن الحب يزيل كل شئ، ويحول القبح إلى جمال.

وفى المحطة التالية، يصعد سطوح البيت، ويرى أباه المتوفى، بحجر أسود غير معلوم المصدر، وكأنه يصعد للسماء لمقابلته. واختلط أبوه الميت مع الموتى الآخرين { لقد ضاعَ الحجرُ واختلطَ ميتُهُ بالموتى الآخرين مثلما اختلطَ هو بالعائشين، ولو أتاهُ منْ يُخَيِّرُهُ، في لحظتِهِ هذه، بين رؤيةِ الأبِ ورؤيةِ الحجرِ لَشغفَهُ الحجرُ} فالمسألة هنا ليست فى بحث الموت، فقد أصبح قضية مغروغ منها، وإنما الأهم هو البحث عن الأسابا، أسباب الموت. كما تساءلت البنت التى رآها محترقة، أهى حقيقية أم أنها مجرد خيال. ليصح البحث عن المعنى، لا عن الفعل. من أين جاء الحجر الأسود الذى أمات أباه؟ وهل البنت المحترقة التى ضاجعها فى المنام، ألا يمكن أن يكون قد ضاجعها غيره فى الحقيقة وأصبح لها ابن؟ ثم إن الكمسار فى الترام، أعطاه تذكرتان واحتجز ثمن تذكرتين، فلابد أنها كانت مرئية لغيره وغير مرئية له.. لقد دخل الفتى فى مرحلة الشك والتساؤل، فلم يعد هناك من يقين{ لم يتغيَّر شيء. تغيَّر كلُّ شيء .... تغيَّر كلُّ شيء وإنْ لم يتغيَّر شيء}. ويأتى حجر أسود آخر، لكنه إسفنجى .. فلم يمت، ولكنه ظل يتأمل، وتذكر الشيخ الكبير الذى نجا من حريق الطائرة.     

ثم يضى النهار الكون، والقطار يعود به إلى السكندرية من جديد، وكأننا نقرأ الاية "ومن نعمره ننكسه فى الخلق"  بينما كثير من الأمور تغيرت{ ومن النافذةِ تراءتْ له الحقولُ مُتحَلِّيَّةً بقوةِ الحقولِ العاديةِ، وأحسَّها تعصَاهُ وتُجافيهِ دون أن تُنكِرَهُ أو تتخلى عنه أو تحْرمَهُ}[1] وكأن الحياة تدُبر عن الأنسان فى أواخر أيامه. فقد بلغ صاحبنا الشيخوخة، وأصبح لا يملك إلا الاشتهاء، فيشتهى فتاة الحلم المحروقة، بينما هو يتهيأ للموت.

متحدف الذكريات.. والموت المعنوى والفعلى

يقول المثل العامى (جوزك يحبك عفيه ...وجيرانك تحبوك سخيه...واهللك تحبوك غنيه...) ولو تأملنا هذا المثل وما يحويه من معان، فلن نجد إلآ أن المصلحة الشخصية، وراء كل الحالات. ولن يكون ذلك غريبا، فهى طبيعة البشر. ولذا يعانى الإنسان، عندما يكبر فى العمر، ولا تصبح له المقدرة على أن يكون مفيدا، انصرف عنه الجميع، وهو ما عبر عنه حاتم رضوان فى قصته، حيث الجد الذى مارس كل أنواع النشاط، وكانت لديه الحيوية والقدرة، بحث الأولاد عن مصلحتهم، فالابن تزوج فى شقته، والزوجة توفت ولا يستطيع البقاء فى بيت ابنته التى استضافته فى بيتها، حيث { يشعر الآن أنه غريب فيها، لا يرتاح البقاء مع زوجة ابنه، لا يطيق أن يظل وجهه في وجهها لفترة طويلة، بعد خروجه إلى المعاش واتساع أواقات فراغه، يغافل ابنته وأحفاده}. حينئذ لا يجد الإنسان ملاذا سوى "متحف الذكريات" الذى احتفظ به صاحبنا فى حجرته القديمة التى أستأجرها عندما كان طالبا، وبها كل ما مر به وبالوطن، من أحداث كبيرة وصغيرة.  ولا يجد راحته إلا فيها، فى الذكريات التى احتفظ بها لنفسه، فالكثير من الذكريات، لا يعلمها إلا صاحب الذكريات نفسه. ففيها يجد راحته، ويجد قوته –التى كانت- وقد تعود ألا يبيح بها لأحد ، خاصة أنه {يومًا بعد يوم تراخت قبضتهم عليه، فترت أسئلتهم، واعتادوا ما يفعل، لا يهتمون إن كان موجودًا أم لا، يستوي حضوره مع الغياب} وهنا أصبح ميتا –معنويا-. غير أن أحد الأحفاد أصر أن يتبعه إلى ذلك المخدع، وهناك يجد الباب مقفولا، فيدخل من الشباك، لكن الموت الفعلى كان قد وصل قبلا منه.

فنحن أمام التجربة الإنسانية، ومعاناة الإنسان عندما يصل للشيخوخة، ويصبح غير مفيد لغيره، بل يمكن أن يكون عبئا على غيره. فهى تجربة حية، تجمع بين الموت فى الحياة، والموت الفعلى. 

شهور العدة .. والصعود من الخاص للعام 

وكما تتعدد صور الحياة، وتتعدد أيضا صور الموت، فليس الموت كله خروج الروح، وإنما خروج النخوة، وخروج الناس عن المألوف، وخروج المنطق عن الحدود، لهو أيضا نوع من الموت. وهنا تعرض الكاتبة هايدى فاروق، لنوع من الموت-فى الحياة- لتعالج قضية مجتمعية، ذاع صوتها فى فترة من الفترات، وفى منطقة محددة، كان صوتها أعلى، وهى تزويج البنت صغيرة، ودون السن القانونية، للشيوخ الآتين من دول النفط، حتى أن البنت يمكن تزويجها لأكثر من شيخ، حتى وإن جانبها الصواب ونسيت التوصيات، وأتت بالولد أو البنت، فليكتب باسم أبيها، مثلما نرى فى هذه القصة. وتنهى الكاتبة قصتها، تلك النهاية المفتوحة، والتى تعنى استمرار الظاهرة، وإن تخفت فى عديد الصور، إلا أن دوافعها واحدة، هو الحاجة للمال، الذى ربما يتحول من (الشبكة) إلى (العوض). ذلك الذى كثفته الكاتبة بحجم المآساة، عندما جعلت "أمانى" أخت الضحية –ظاهريا- وابنتها فى الحقيقة، جعلتها، إنسانة ليست كاملة النمو العقلى، أى مشوهة، كتعبير عن تلك العلاقة المشوهة التى أنجبت "أمانى"، فى الوقت الذى يحمل اسمها الكثير من الأمنيات (الطيبة) التى كان من الممكن أن تستقبل بها "نورا" فى مثل تلك الزيجة، التى تعددت، واستعادت فيها بكارتها، ليتحول إلى وظيفة، لا فرح، وانتظار المستقبل. كما أن إختيار أسم "نورا" كان موفقا حيث تحوات البنت- فى الظاهر- إلى مصباح يحترق ليضئ للآخرين.

وإذا كانت القصة توحى بالقضية العامة، إلاأنها بتلك النهاية جعلتها تنبع من الرؤية الشخصة، حيث وضع التساؤل كل قارئ، أمام  نفسه، وتلفت حوله، فى وضع "نورا"، وهل يثور على الموت – فى الحياة- أم يستسلم للتقاليد والرؤية الجمعية؟، وذلك هو دور الأدب، تحويل الرؤية الشخصية إلى رؤية عامة، ومقاومة ما اصطلح عليه العامة، وكأننا أمام رؤية تنورية.   

رقصة تنفيض الوجع.. والموت المعنوى

وبيعة أخرى، تقنرب من الموت –فى الحياة- ، فالعروس آتية من بلاد الذهب الأبيض، بلاد الفلاحين، وقبل أن تدخل الهيلتون ربما أجبروها على حـك حراشـف قدميها، وكانوا  ألبسـوها الترحة التوللى،بينما العريس على رأسه شال وعقال. وتُصر الأخت، المتوقف عقلها عند تلك الفترة الزمنية، المكانية، هناك فى القرية، أن تحضر فرح أختها، وتصر أن تصرخ فى الفرح .. شير .. شير .. بطتنا وقعت فى البير. ولا يفلح أحد فى إيقافها.

وقد أضمر الكاتب أحمد عبده أن العروس، هى البطة، وكأن حالها يقول ما قالته شقيقتها - النصف الأخر من الفولة- أن نصفها، أو أختها قد وقعت فى البير. بير الفلوس التى يمثلها صاحب العقال، وربما بير الضياع، أو الموت فى الحياة، عندما باعت الأخت، والأهل، المشاعر، والحب، فى سبيل بيع الجسد، الذى تم إعداده ليكون وليمة  لمن يملك المال.

وهنا، قد لايقع العبئ كاملا على العروس، او الأهل، وإنما يقع العبئ الأكبر على النظام العام، الذى سمح لأن يبيع الفلاح عرضه، من أجل المال. وأن تساق البنت إلى حتفها، فبالتأكيد، هذا الشيخ لن يسمح للأهل أن يروا البنت مرة أخرى، ولكنه قد يرسل إليهم حفنة من المال أو الهدايا، إلا ان يرسل لهم من إشتراها بأمواله. فنحن أمام موت معنوى، بالتراضى، ومسئولية مجتمعية، تقاعس عنها، من بيدهم البحث عن تلافيها، والحفاظ على الهوية.

متنفس لهواء نقى.. والموت المعنوى

 قد لا تحتوى قصة "متنفس لهواء نقى" على أى شئ يمكن أن يلفت النظر، او يدعو للهاث وراء الكلمات، ولكنها تسير سيرا هادئا، وكأنه مسيرة الأيام المكرورة، والحياة المملة، والذى ليس فيها جديد، وهذا هو الجديد، أو المهم فى قصة مراد ناجح عزيز، حيث يصبح الشكل هو المضمون، الحياة رتيبة ومتكررة، يستوى فيها مباراه لكرة القدم، والمعارك الحربية على التى تؤدى إلى المزيد من القتلى والمشردين. ووسط هذا كله يموت "عم إبراهيم" الذى عانى فى حياته الكثير، وضحى بنفسه من أجل إخوته.. ويمر موته مرور الكرام. فهكذا يولد الإنسان، ويعيش، سعيدا أو تعيسا، لكنه لابد يصل إلى محطته الأخيرة، وينزل من القطار، ويواصل القطار رحلته، وكل من فيه يسعى لغرضه. حتى تأتى محطته.

آدم آيل للسقوط .. والموت المعنوى

 يقضى الإنسان فى بطن أمه تسعة شهور، يتغذى من غذائها، ويعيش بأنفاسها. وعند الولادة، يتم قطع الحبل السُرى الذى يربط الجنين بالأم. ويرتبط بها الطفل فى كل شئون حياته. ويظل ذلك إلى ما يزيد عن السنوات العشر. أى أنَ تَشكُل الإنسان، وتحديد مساره، مرهون، ومرتبط بالأم. لذا تظل العلاقة بينهما، علاقة خاصة، تلازمه طوال وجوده على الأرض. ويصبح فقدها، شرخ كبير فى جدار حياته الذى يحتمى به. وياسر سليمان هنا بؤكد على تلك العلاقة، واستمراريتها حتى عندما يكتشف نفسه مع جارتهم التى تكبره بعشرين سنة، وتتعدد علاقاته بالكثيرات بعد ذلك، وعلى الرغم من أنه لا يشم فيهن رائحة أمه، حتى الفانيليا التى تميز رائحة أمه لا يشمها، غير أنه عندما أحب، عاد يشم رائحة الأم، فهى التى علمته أنه ليس بحاجة للقوة، فيمَ يحتاج المرء للقوة؟ فلم يكن المرء عندها لا يحتاج لغير الحب..{ الحب وكفى، لكني لم أجِده مِن بعد رحيلِك، وها أنا ذا لا قوة ولا حب!}حيث ضاع الحب فى حب الأم وارتباطه بها {كانت لي ذاكرة عجيبة، كل الأصوات والروائح التي ارتبطت بها خلال تسعة أشهر كاملة داخلك لم تكن تفارقنى}. وقد ربط الكاتب "موت الأم" بالشرخ فى الجدار، وكلما اتسع الشرخ، غطاه بالتجارب الحياتية، والتى لم تكن سوى "الورق" فتعددت قطع الورق على الجدار.

وقد استعان الكاتب بالاستشهادات، التى جاءت منسوجة من خيط القصة، ليمزج العقل ، والثقافة، المعتمدين على العقل، ليشكل لوحة تتناغم فيها العاطفة(الحب) مع العقل (المنطق). ولنصبح فى النهاية أمام صورة الأم، المنسوجة من العاطفة، والعقل معا. ومعنونا قصته بذكر "آدم" وكأنه يعود بنا إلى أن آدم لم يكن ليأتى بهذه الذورية التى ملآت الدنيا ضجيجا وتزاوجا وحبا وحروبا، لتصبح الدنيا كما نراها.. بدون الأم. فنحن أمام قصة على الرغم من أن الرؤية المباشرة لها توحى بالتجربة الشخصية، إلا انها تحيط بالعالم الواسع، بكل تناقضاته، والذى كان أساسها، آدم، وحواء.

الجالس بجوار السور.. والموت المعنوى

تبدأ قصة "الرجل الجالس بجوار السور"، بالنفير الذى يدعو للأنتباه، واليقظة، وأن شيئا هاما إما حدث، أو سوف يحدث، وكأن الكاتب أحمد رجب شلتوت، يدعو الناس للانتباه، وتأمل ما سيأتى، فيجعل القارئ فى حالة من اليقظة، والانتباه، وكأن زلزالا سوف يحدث. وألا ينظر للآتى على أنه مجرد قصة عابرة، أو حدوتة، يتسلى بها القارئ، حتى وإن اعتمدت على الفانتازيا، التى تأخذ القارئ إلى أفق واسع من الخيال. ولكن، وكما نكرر دائما، أن الكاتب يصعد إلى السماء ويدور بين الأفلاك، لكن قدماه تدوس على الأرض، ويشعر بما يلامس قدميه منها، فلا بد للقارئ أن يتأمل ما يقرأ ، ويبحث عما وراء الظاهر من الكلمات. تلك الكلمات الكاشفة عن الكثير والكثير من المعانى، والرؤى، ليصل إلى نهاية القصة، حيث نجد أحدهم وهو جالس بجوار السور، ويتأمل فيما كان ، وما يجب أن يكون، دون حراك، أو فعل. والربط بين البداية والنهاية يكشف عن معنيين، كلاهما يخدم الرؤية الكلية للقصة، فأما أولاهما، فهى تخلق الحركية فتجعل القصة ديناميكية، فلا يشعر القارئ بالسكون فيها، ولكنه يتحرك معها، بفعل تلك الديناميكية. وأما الثانية، فهى وضع الرجل فى النهاية، التى تقربه من الموت –المعنوى-، حيث يشعر القارئ بأنه عاجز عن الفعل، الذى تدعوه إليه.. تفاصيل القصة. وتتحول القصة وكأنها تنبه ذلك الجالس بجوار السور، ان تحرك، ودع عنك ذلك الموت الذى تعيش فيه.

أما التفاصيل، فتدعو القارئ للتأمل والبحث عن التجربة، فهل كان المساجين (الخطرين) الثلاثة، كانوا بالفعل، خطرين، أم أن السلطات هى التى وصفتهم بذلك؟. إلا ان ما فعلوه، وما توالت القصة على تسلسل الأحداث، يجعل القارئ يتأمل، ألم يكونوا هم أول من بنى السور؟ واستغل الآخرون ذلك السور، وذلك الوضع الذى عليه أهل القرية، وساهموا فى أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه؟. وليبحث القارئ، وينشغل ذهنه فيمن كانوا أولئك الثلاثة، وما فعلوه بالقرية الآمنة.   

 موسم الغبار .. والموت فى الحياة

 ومن المغرب، تكتب نور الهدى سعودى، مسك الختام، قصة (موسم الغبار). حيث تشير كلمة موسم، إلى العادة، والتكرار الممتد عبر السنين، كما تشير الغبار، إلى غياب الرؤية، ووقوع الذهن تحت الكثير من الخيالات والأوهام. إلا أن الكاتبة غلفتها بالكثير من لفائف الغموض، لتخبئ حقيقة الإنسان العربى- المعروفة ، والساكنة فى الأعماق: يا أهل العرب، أنتم ميتون، ولا حياة لكم بدون التخلص من الوهم الذى تعيشون.

فسعيد، هو صانع أكفان الموتى وأثواب العرائس، فهو الجامع بين أحزان الموت، وزغاريد العرس، وبينهما كل حياة الإنسان، الذى هو ميت وابن ميت، مثلما حليمة، البالغة من العمر الثلاثين، بينما سعيد فى السبعين من عمره، بعد أن عاش خمسين منها يصنع الأكفان للموتى، و الفساتين للعرائس{جاء اليوم ليخيط كفنه الأخير، ليس من قماش، بل من ذكريات وخيبات وأمل واحد معلق على وعد قديم همسه له أبوه المحتضر بصوت الموت}.

استخدمت الكاتبة الرقم (7) -وملحقاتها (سبعون)- لما له من المعانى والايحاءات الرمزية فى الثقافة، والفلسفة (في يومه السابع والأخير، نفس الطقوس منذ قرون، نفس الصرخات، نفس الانتظارات المعلقة في الهواء الساخن)، إلا انها هنا استخدمته للمعانى الدينية، التى تتناول حياة الإنسان. فالسماوات سبع، والأراضين سبع. والقرآن أُنزل على سبعة أحرف، والسبع الموبقات، وسبعة من البشر يظلهم الله بظله يوم القيامة، وابواب النار سبعة. فالعدد (7) يشير بصورة خفية إلى وجود الإنسان ومصيره، فكانت هى المفتاح الذى يُدخل القارئ إلى رؤية القصة، من الداخل

فأن يظل الإنسان (أسيرا) ومحبوسا داخل بوتقة معينة، أوتقليد يصل حد التقديس، ولا يملك الفكاك منه، ليحيل الإنسان إلى أن يكون (مسيراً)، أو محبوسا داخل إطار لايستطيع الخروج منه، وكأنه ميت لا يملك قراره { يرى الموسم يتكرر سنة بعد سنة، قرناً بعد قرن، والناس يأتون وهم لا يعرفون أنهم يطعمون بانتظارهم وحشاً نائماً تحت التراب}، فهو قيد يربط الناس من قرونوعندما تُكتشف الحقيقة، وأن النائم تحت التراب، ليس إلا بشرا مثلهم، مات من قرون.

 ويتهدم الضريح، فنجد {الناس يستعيدون قدرتهم على الحركة). ونجد (سعيد يدير ظهره للأطلال ويمشي نحو القرية. خلفه، الريح تعزف لحناً قديماً بين الحجارة المتناثرة، لحن الموسم الذي انتهى ولن يعود). الأمر الذى يمنح القارئ الشعور بأن هذا الشعب .. عاد إلى الحياة.

ورغم أن القصة تتناول حياة الإنسان على الأرض، والتى تمتد لقرون، إلا أن الكاتبة (كَوُرَت) كل تلك السنوات فى إطار الزمن المتعارف عليه للقصة القصيرة ، عندما ذكرت ( جاء اليوم ليخيط كفنه الأخير، ليس من قماش، بل من ذكريات وخيبات وأمل واحد معلق)، فكأن القصة تدور بكاملها فى لحظة تأمل، يعيشها ذلك البالغ من العمر سبعين عاما، لكنه لم يمت، وإنما عاد إلى القرية، بأمل جديد، أن تتخلص القرية من ذلك الوهم الذى عاشوه قرونا طويلة..

 

 

 
  •  - الآية 68 من سورة يس.[1]