بدايةً، سأتمهل عند مقالة نُشرت في مجلة "الحديث" الحلبية سنة 1950، وتحمل عنوان: "عوامل النقص في شعورنا الوطني"، وكُتِبت في سياق تكوين المُتَّحد السوري، إثر جلاء القوات الاستعماريّة الفرنسيّة عنه. وفيها يأتي كاتبها أورخان ميسّر على تفنيد الصلة بين إحساس المواطنة والحالة السياسيّة. ويبدأ مقالته بالسؤال: "لماذا ينقصنا الشعور الوطني، وما هي عوامل هذا النقص؟"
بدايةً، لا يخفى أنّ في فعل السؤال والمساءلة انزياح عن اليقين نحو الشكّ النقدي. ففي مقالة ميسّر، يتبدّى قول "الوطن" كجدل نقدي عقلانيّ مفارق للانتماء الديني والمذهبي، ومرادف لمُتَّحد سياسي سوري مندرج في سياق التاريخ وتغيراته. فالنص يُومئ إلى تحوّلات الأطلس التاريخي لما عرف في المرحلة العثمانية بـ"الديار السوريّة". كما أنّ الفكرة لديه تتأسس ضمن سيرورة التاريخ العام المرتبط مع راهن الحياة اليوميّة ومشاعر الفرد المواطن. ويخلص إلى أنّ ثمّة "عوامل تولّد بمجموعها عند الفرد حالة نفسيّة خاصة هي التي تعتبر مسؤولة عن هذا النقص. غير أنّ في جملة هذه العوامل عاملين يفوق تأثيرهما تأثير العوامل الأخرى مجتمعة. وهذان العاملان هما:
1- عدم وجود وطن ذي حدود واضحة ومُتَّحد اجتماعي متميز ضمن هذه الحدود.
2- الفوارق الدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة."
بالنسبة للعامل الأول، يمكن القول أنّ الأجيال السوريّة بعد الاستقلال لم تعرف فضاء جغرافيًّا محسوم التخوم تدور في فلكه. والخرائط التي أقرّت في المراكز التربويّة والتعليميّة كانت منفصلة عن الواقع العياني. بمعنى أنّ هناك انفصام بين فكرة الوطن وحالة الوطن. أمرٌ ما زل ساري المفعول حتى يومنا هذا. وفي مقالته يؤكد أورخان ميسّر أن هذا "ليس إلا نتيجة سيكولوجيّة لعدم معرفتنا أرضنا وترابنا والحدود الفيزيونفسيّة التي تبلور مُتَّحدنا الاجتماعي. إن التحليل العلمي لا يستطيع أن يسمي هذا بالشعور الوطني، ويرى أنّ أقرب تحديد له هو في بحث اصطلاح جديد يمكن أن يدعى بـ(رد الفعل الوطني الخاطئ)".
من البديهي أن استخدام ميسّر لمصطلح "المُتَّحد الاجتماعي"، أو "المُتَّحد السياسي"، مرتبط بالعقد الاجتماعي الملازم له. بمعنى أنّ أيّ خلل في الانتماء لهذا المُتَّحد يستدعي بالضرورة خللًا في العلاقة مع العقد الاجتماعي وما يستدعيه من دستور وقوانين ناظمة، والعكس صحيح. أما بشأن الفوارق الدينيّة والمذهبيّة، فشدّد على "أنّ بلادنا في الوقت ذاته أيضًا مهرجان لعدد كبير من الأديان والطوائف والمذاهب، ونحن نأبى (...) إلا أنّ ننزلها إلى الشارع وأن نتخذ منها أداة للمهاجمات والمهاترات الفرديّة والجماعيّة وواسطة لإشفاء الغليل. وقد عرف فينا الأجنبي هذا الضعف فاستطاع أن يستغلّه بأحسن وسيلة وعن أقرب طريق فقوّى فينا رغبة التقلص حول كلّ دين بمفرده، وشجع في توليد شعور عدائي عند كلّ طائفة ضد أخرى، وكتّل المذاهب في فرق ذات ألوان متنوعة متفرقة. وكانت النتيجة السيكولوجيّة لهذه العمليات أن تركّزت في ذهن الفرد الوحدة والتقلص، ونمّت نظرة عدم ارتياح لمن كان من غير دينه أو طائفته أو مذهبه. وصار بالتالي يعتقد اعتقادًا لا شعوريًّا أنّه ليس مستقلًا بالأرض التي يحيا عليها وأنّه ليس حرًا بعلاقاته والتزاماته نحو هذه الأرض، وأن هناك تنافسًا وتناحرًا بينه وبين أفراد من فئات أخرى. وكلّما اشتد التقلص اشتد الشعور بعدم الترابط وقويت الانعزاليّة من جهة، وضعف وضلّ الشعور بالوطن من جهة أخرى. ونحن إذا لم ننتبه إلى هذين العاملين ونعمد إلى إزالتهما بالمعرفة والدرس العلمي الجدي ونفهم حقيقة واقعنا الاجتماعي فإنّ شعورنا الوطني سيبقى في غفوته وضلاله ووهمه".
من المؤسف أنه بعد مرور 75 عامًا على نشر مقالة الشاعر أورخان ميسّر، مؤسس السورياليّة الشعريّة في الثقافة العربيّة، مازالت عوامل النقص في الشعور الوطني فاعلة، وإن عرفت حالات من الكمون النسبي بين الحين والآخر. ومؤخرًا، دون الاتكاء على منطق العِلّة والمعلول لفهم ما وصل إليه الواقع السوري من تردي وشناعة، أعلن وزير العدل في الحكومة السورية المؤقتة عبر منصة X: "نحن بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تعزيز الروح الوطنية، فضعف الهويات الجامعة يفتح بابا للعصبيات الضيقة".
حقيقةً، ما انفضَت الآراء تتصارع وتتضارب حول مفاهيم الوطن والمواطن والوطنيّة. وثمّة استنساخ تاريخي لعوامل الضعف؛ بل بالأحرى قهقرى مناقضة لوجهة التاريخ، خاصة مع التلفيق الرومانسي الأخير بسرديّة تقول بـ"هويّة أمويّة-سنيّة" متعاليّة، سكونيّة أحاديّة البعد (تلغي ما قبلها وما بعدها، وما في لحظتها الراهنة من جدل سياسي). علاوة على استحضار مفهوم "الأغيار" وفق اعتبارات قروسطيّة سابقة على مفهوم "الدولة الحداثيّة" ذات السيادة، المتعارف عليه في تاريخ البشرية السياسي. فحينما يسأل مسؤول إداري، أو عنصر من الأمن (أو من يحمل رتبة "الشيخ" الضبابيّة) مواطنًا سوريًّا تعريف نفسه بالطائفة التي ينتمي لها، فإنه يؤدي فعلًا ارتجاعيًّا عن سيرورة الوطنيّة الذي بدأت ارهاصاتها اعتبارًا من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وارتدادًا إلى غياهب تعريف الفرد قسريًّا بسمته المِلّيّة ونسبه المذهبي، بالتالي تعريفه كمؤمن بمذهب محدد في الفضاء العام لا كمواطن. هذا إن لم أقل أنّ ذلك يعني تغييبًا تامًا لإرادة الفرد الحرّة، بقسره على تقديم نفسه من خلال الانتماء للطائفة التي ولد فيها.
كما هو معروف، يقوم مفهوم "الأغيار"، على الثنائية الضديّة "هم" مقابل "الـ-نحن" في بنية الخطاب، ويعمل على نزع مفهومي "الأكثريّة" و"الأقلّيّة" من النظرية السياسيّة، وتعريفهما باللاهوتي المعشّق بالمصالح السياسيّة، مؤسسًا بذلك لتراتبيّة روحيّة في المجتمع. أمرٌ، يتناقض مع المساواة والتعدد والتنوع ضمن الوحدة السياسية الجامعة. إن من يؤسس خطابه على مفهوم "الأغيار" يطمئن لـ"هوية المِلّة-المذهبيّة" المجايلة للعهد العثماني، أو لـ"إثنيّة الهويّة الطائفيّة" لما بعد الحداثة المفترضة لدى البعض أوائل هذا القرن، أو حتى لـ"هوية أمويّة-سنيّة-سياسيّة" تخلط الأوراق بين الزماني واللازماني في اِنبيق "العجيب الغريب"، الذي اعتدنا الاستنجاد بمُعوَجّته لحظات الشدّة، وغباشة الرؤية، وآن تقطير المفاهيم القسري. (ملاحظة: ستقود حفريات البحث التاريخي إلى أنّ أهم جذور المكون الإسلامي-الأموي هي مسيحيّة في سوريّة، على نحو مشابه، يمكن القول أنّ أحد أهمّ أصول المكون الاسباني-المسيحي يعود إلى اسبانيا المسلمة).
في جميع الأحوال، ليس لدي اعتراض على أيّ من الميول الهوياتيّة بحدّ ذاتها، فابتكار الهوية وتقرير المصير هما حقٌّ مشروع للفرد والجماعة، إلا أنّي أرى في تصنيع هذه الهويات ما يشبه فعل الاستشراق الذي شرّق "الشرق"، هكذا يتمّ العمل على مَذهَبة السياسة، إلى جانب طَوئَفة المِلّة ضمن كلٍّ متجانس جوهراني، هوياتي متعال على التاريخ الاجتماعي والجغرافيا التاريخيّة. بناء عليه، لا يتم استقراء وقائع المِلَل والنِحَل التاريخيّة، وظروف حقائقها المركبة، وتنوعها البنيويّ السياسيّ الاجتماعيّ الاقتصادي. كما لا يُأخذ بعين الاعتبار سردياتها الكبرى، وأساطيرها الروحيّة، وخرافاتها التأويليّة السياقيّة في صياغتها كجماعة. وعليه، يُنظر إليها من خلال منظار يقرّ بثبوتها المغلق، لا من خلال منظار يشير إلى تحولاتها وشروطها المندرجة في التاريخ.
وأعتقد أن هذه الهوّيات المفترضة المذكورة أعلاه، والآخذة بالفبركة هنا وهناك، سواء مشت عكس ما مشى عليه التاريخ الوطني السوري الحديث، أم حاملة للانفصال عنه، أم بنيويّة خارجة عنه، تشكل مصدر قلقٍ، لتعارضها مع أسّ التعاقد الأهلي المساواتي، وإمكانيّة المواطنة السلميّة، وإرادة الفعل التواصلي الحرّ... الذي شهدت لاحتمال تحققه الذاكرة التاريخيّة للإصلاح والنهضة، والفترة الدستورية لحكم الاتحاد والترقي، وأيام الحكم الفيصلي، ومرحلة الاستعمار الفرنسي. وهي ذاكرة تاريخيّة قام خطاب الاستبداد سواء "النظام الإجرامي البائد" أو "الجماعات التكفيريّة" على تهميشها وتغييبها. الأول بغائيّة تدّعي "قومويّة عقائديّة" وتتوجّه نحو أبديّة الذات السلطويّة (القائد)، والثاني بغائيّة "جهاديّة سلفيّة" تيمّم وجهها شطر دهريّة الذات النبويّة (الرسول). هكذا يعتبر الابتعاد الزماني عن الطواف بكعبة أيّ من الغائيتين ضلال، ومروق وشطط عن "الحقّ".
تستدعي الحاجة والضرورة بأن لا ينظر إلى "سكان سورية" كجماعات متشظيّة دينيًّا وعرقيًّا وطائفيًّا واثنيًّا، بل كجماعات برهن التاريخ على قدرتها العظيمة على تشكيل متحد سياسي، يقوم على إمكانية مواطنةٍ لا تنفي التعدديّة والاختلاف ضمن الوحدة، بل تساوي بين الجميع أيضًا. فنقيض المساواة ليس الاختلاف وإنما اللامساواة. بمعنى أنّ أسّ المعضلة ليس في الهويّة بذاتها والاختلاف، وإنما في تحقّق نظام حكم يساوي بين الجميع. وفي معرض الحديث هنا، أودّ التنويه إلى أنّ كلّ أنظمة الحكم السياسية رديئة، ولكن أقلها رداءة هو النظام الديموقراطي. بداهةً لا يمكن تمهيد الطريق نحو "التعدد ضمن الوحدة"، إن لم يَتِمّ العمل على تحقيق حوار وطني حجاجي، يؤسس لنظام عصري غير صوري، يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه من خلال ممثلين منتخبين. وعليه، فإنّ الحكم الديموقراطي، والقبول بممارسة قواعد اللعبة الديموقراطيّة بنزاهة، وتداول السلطة، هو الضامن لكافة التوجهات السياسية والهويات المختلفة من تقديم برامجها ورؤيتها السياسيّة، وعدم تسلّط توجه على آخر، أو هويّة مبتكرة على أخرى. ومما لا شكّ فيه، أنّ نجاعة وجودة الديموقراطيّة تتحدد بمدى تمثيلها لكافة أشكال الأقليّات والأفراد.
توعز الدلائل الواقعيّة بعد الإعلان الدستوري، أنّ الطريق الذي تتخذه الحكومة السورية المؤقتة يتجه ظاهريًّا نحو تصوّر توماس هوبز للدولة في كتابه "الليفياثان"، من حيث السلطة المطلقة التي تهيمن على الملفات الدينيّة والزمنيّة المؤسساتيّة. بمعنى أنّ مؤشرات عدّة تدل على تعزيز "حكم الفرد"، وإضعاف الكوابح الدستوريّة، وتقييد آليات محاسبة سُدّة الحُكم. حسناً، يمكن تفهّم هذا الأمر ضمن سياق المرحلة، بل ويمكن تبريره لدى البعض مرحليًّا، بانتظار إقرار دستور للبلاد والعباد، وإجراء استفتاء عام عليه، ثم الدعوة لانتخابات شرعيّة حرّة، في ما لو صوَّت الشعب السوري على الدستور الذي يحدد معالم طريق الحكم، وكيفيّة التعامل الإداري مع الأجزاء المناطقيّة للمتحد السوري. كما هو معروف، يُعَدّ "اللفياثان: الأصول الطبيعة والسياسيّة لسلطة الدولة" (1651) أحد أهمّ المؤلفات السجاليّة في تاريخ الفلسفة السياسيّة، التي تلهفتْ لتقديم إجابةٍ عقليّة حاسمة تبتغي تجاوز مَهْلَكَة "الحالة الطبيعيّة"، والبراء من مَفْزَعة الفوضى ورذائلها التي تقتات من قروسطيّة الخطاب السياسي. وصدر الكتاب بعد توقيع "صلح وستفاليا"، الذي أنهى "حرب الثلاثين عامًا" و"حرب الثمانين عامًا"، ودشّن أول اتفاق دبلوماسي في العصر المديني الحديث. وعليه، برزتْ ضرورة إرساء نظام جديد، والحاجة إلى فلسفة سياسيّة تقدم مفهومًا مبتكرًا لمبدأ "السيادة"؛ ممّا استلزم افساح المجال أمام الاجتهادات التنويريّة.
أخضع توماس هوبز تنين "الليفياثان"، الجسيم الشرير الخرافي، لعملية تحويل في دلالاته، ولكنه حافظ على جبروته كي يوظّفه كرمز للدولة ذات السيادة المطلقة، بغية مواجهة ندّه المتمثل بوحش البهيمُوث، وهو بهيمة ترمز للحالة الطبيعيّة القروسطيّة. فحسب هوبز، تُسبِّبُ الحالة البهيموثيّة تَفَجُّرَ وحشيّةٍ يتصارع فيها الكلّ مع الكلّ، والفتك العنيف هو الاحتمال المقيم دومًا. وللتوضيح استعار من المسرحي الروماني بلاوتوس العبارة القائلة بأنّ "الإنسان ذئبٌ لأخيه الانسان". وعليه، فإن مقترح "العقد الاجتماعي" هو الحلّ الذي يلجم الاقتتال؛ إلا أنّ الميثاق الذي يبرم بين أطرف متصارعة مهددٌ بالنقض إنْ لم تتحقّق الرهبة تجاه "الدولة" المركزيّة حامية التعاقد الاجتماعي من الفسخ. هكذا، ساهم "اللفياثان" في القضاء على الأفكار الموروثة من العصور الوسطى. بيد أنّه كأيّ فعل تاريخي سيأتي مُحمَّلًا بتناقضاته الجدليّة، التي آلت مع الدأب التنويري إلى تعزيز الحكم المدني الديموقراطيّ في الأنظمة العصرية المختلفة.
ولكن ما يحدث في سورية الآن، من متابعة مسلسل العنف والتشبيح والفظاعة الذي بدأ منذ 15 عامًا، زيادة على تفعيل ظواهر "النفير" الجهادي التطهيري أو "الفزعة" المسلّحة القروسطيّة بحق مكونات سوريّة مختلفة، يشير إلى أنّ الطريق الذي تتخذه الحكومة السوريّة المؤقتة، محفوف بالمخاطر، ويعرض المُتَّحد السوري والعيش المواطني المشترك للتهلكة. فالحكومة المؤقتة لا تنظر لضرورة التعامل مع كيان الدولة إسوة بالليفياثان الهوبزي فقط، أي سطوة سياسيّة مركزيّة متعاليّة، بل تتجاوزه على المستوى الإجرائي إلى التآلف مع الممارسات البهيموثيّة القروسطيّة (أو غضّ النظر عنها، أو عدم القدرة على السيطرة على الفصائل). بمعنى أنّها تناقض نظرية الدولة الحداثيّة من أساسها، لطالما الليفياثان يتسامح مع البهيموث بل ينصره ويتعايش معه في النموذج السوري.
في معرض الحديث هنا، من الجدير أن نتذكّر معّا، أنّ الأحرار العرب في "الديار السوريّة" عند بدايات القرن العشرين، طالبوا حكومة الاتحاد والترقي بمبدأ اللامركزيّة، إلا أنّ التعنُّت ورفض الحوار السياسي، واللجوء إلى البطش والتتريك، وأخيرًا إعدامات السادس من أيار، كانت الدافع للانفصال عن كيان دولتنا الجامع حينئذٍ. وكانت عبارة "طاب الموت يا عرب"، التي تفوه بها الأمير فيصل في حي القابون الدمشقي، إشعارًا ببداية "الثورة العربيّة الكبرى"، والانفصال عن كيان الدولة التي كنا ننتمي لها لقرون. استنادًا لذلك، يا ليتنا نتعلم من التاريخ أنّ العنف والقهر والفحشاء البهيموثيّة لن يؤدي إلا إلى مزيد من التفتت والانشقاق عن المتحد السوري الممكن و"المتعدد ضمن الوحدة". من جانب آخر، تقوم الحكومة المؤقتة، قبل إجراء انتخابات عامة، بإحكام سطوتها والهيمنة على مصير مؤسسات الدولة وممتلكاتها، سواء القطاع العام أم القطاع الخاص، والتصرف بها دون مصارحة أو مشورة الشعب. (مؤخرًا دلَّ تقرير وكالة رويتيرز -إن صحّ- على تمكين "الدولة العميقة" من التجذر في أجهزة الحكم).
نعرف أنّ الشعب السوري، عندما كانت رحى الاقتتال دائرة خلال السنين الماضية، قام بحماية كيان الدولة ومؤسساتها المدنيّة في جميع الأراضي السوريّة (محررة أم غير محررة من النظام المافيوي البائد). وبفضل أهل سورية وحدهم (بكافة مكوناتهم الدينيّة كما المهنيّة الحرفيّة) ما برحت الدولة مع مؤسساتها المدنيّة قائمة. وعليه أعتقد، أنّ حكومة منتخبة وموكّلة من قبل الشعب، هي من لها الحقّ بالتصرف بممتلكات هذا الشعب من أرض ومؤسسات ... إلخ.
قبل أن أنهي مقالتي، أودّ أن أشير إلى أنّ مفهوم "الوطنية" في الديار السورية ترافق مع نشوء المؤسسة الثقافيّة التنويريّة الحداثيّة. من هذا المنحى يمكن فهم لزوم المكتبة الظاهريّة، والدوريات و"لغة الجرائد"، ومدرسة مكتب عنبر، ومسرح القباني، والمجمع العلمي العربي، والجامعة السوريّة في دمشق على سبيل المثال لا الحصر، في صياغة الخلية الأم لوطنيّة المتحد السوري. هكذا، قالت "الوطنية" في تاريخنا بأنّه لا مكان للسياسة وفن الممكن، إن لم تتعشّق بثقافة حرّة جدليّة. من كلّ ما سبق تتبدى ضرورة الانفتاح على قرن جديد لم نلج إيقاعه بعد، فكل ما نعاني منه الآن ليس إلا مخاضًا نحاول فيه الخروج من استبداد ستة عقود مضت، لعلنا نستأنف خطواتنا باتجاه مجتمع مدني، ودولة وطنيّة، وثقافة وطنيّة ناطقة باسم عموم السوريين ولأجلهم ... واسترداد ما وسمت به المؤسسات الوطنيّة والثقافيّة عند بدايات تأسيسها: "شعبيّة" "سجاليّة"، و"علميّة"، و"أهليّة"، و"مدنيّة" و"سوريّة" دون أن يفوتنا استيعاب معنى تعدد تنقلات جغرافيتنا السياسيّة ما بين "الجامعة العثمانيّة" و"الجامعة المشرقيّة"، و"الجامعة الإسلاميّة"، و"الجامعة العربيّة"، وإدراك أن أفول هذه الجامعات السياسيّة لا يعني يباس أرض جامعاتها الثقافيّة، بل على العكس من ذلك، ما برحت خصوبتها مزدهرة أمام البحث وحفريات المعرفة. الأمر نفسه ينطبق على تقلباتنا في الحضارات القديمة، البعيدة منها والقريبة.