وهل نجحت ثورة الشعب فى يناير أن تقضى على الفساد؟ ذلك سؤال يخبؤه الكاتب بين السطور، فى صيغة الروايات البوليسية، التى تثير التساؤلات وتتكاثر فيها أصابع الاتهام، بحثا عن الأمل الذى بزغ فى الصدور، لما نفض الشعب عن صدره الجبن، ومخالب الخوف، متسلحا بغد أفضل، ولم يكن يعلم أن السُم مغموس فى العسل.

العكاز (رواية العدد)

سمير فوزى

 

إهداء

الى من قتل عربى.. طبعا

سلامة السمكري

توضأت منتوياً صلاة الفجر فى الزاوية ، منذ أن سمعت الشيخ حسنين يقول إن الخطوة من البيت للمسجد متوضئاً بألف حسنة ، أداوم علي الوضوء في الحمام المشترك بين حجرتي وحجرات الشباب البنغاليين ،الذين يسكنون معي في الدور الأرضي لبيتٍ قديمٍ بشارع الروضة، وصلت الجراج فتوجهت إلي العشة ، كان الليل لا يزال ساكناً ، ناديت عليه فلم يرد ، قلت لنفسي ربما يكون نائماً في الزاوية الملاصقة لمصنع الحاج سعد المشالي ، اقتطع من سوره جزءاً وبناها عليه حسبة لله ، سمعت أن الحاج سعد كان يوقف الماكينات مع كل آذان ، و يجبر العمال علي أداء الصلاة فيها، وعندما مات تخلي ابنه المهندس وائل عن هذه العادة ، ولم تعد الماكينات تتوقف، وهجر العمال الزاوية وأصبح من يريد الصلاة يصلِّي بجوار ماكينته.

 منذ أن عرفت طريقي إلي الجراج، نادراً ما رأيت أحدا يصلِّي في هذه الزاوية، ومع ذلك أداوم علي رفع الآذان في كل وقتٍ، وأصلِّي دائماً بمفردي.

كان عم عربي هو الوحيد الذي يدخل الزاوية لينام، يحتمي بها من البرد في الشتاء، أو ينعم بهواء مروحة السقف التي ينام تحتها مباشرة في الصيف، في المرة الأولي التي أذَّنت فيها للفجر كان نائماً، أيقظته قبل أن أؤذن، قلت له:

  • ما تقوم يا حاج تتوضا ونصلي سوا .

نظر إلي بحدة وهو لا يزال راقداً وقال :

  • خليك في حالك .

عندما انتهيت من الآذان لم أجده ، وفى الأيام التالية كان كثيراً ما ينهرنى ويصرخ في وجهي.

  • يا جدع انت مش ها تبطل إزعاج .
  • دا آذان ربنا يا حاج .
  •  حد بيعبَّرك ؟
  • ربنا يهدى
  • ربنا ياخدك ويريحني منك .

في تلك الليلة أضأت نور الزاوية ، كان الحصير غارقاً في الدماء ، وجثةٌ مذبوحةٌ بلا رأس منكفئة علي بطنها ، وعصا مغروزة في مؤخرتها ، تيقنت أنها جثة عم عربي من ملابسه التي لا يبدلها ، و من العكازين المرميين إلي جواره ، صرخت متوجِّهاً إليه، كان الرأس مفصولا من عند الرقبة ولا أثر له ، هرولت إلي الجراج أصرخ – الحقوني يا ناس – عم عربي اتقتل .

لم يسمعني أحد، ظللت أجرى حتى وصلت إلي الشارع الرئيسي ، لمحت خلفي الشيخ منصور يخرج من سيارته ويأتي ورائي ، سألني – فيه إيه يا بنى ؟

– عم عربي رقبته مقطوعة في الزاوية .

 تجمع الكثيرون من حولي وعادوا معي إلي الزاوية ، وسمعت الشيخ منصور يتصل بمأمور القسم ، وسرعان ما انقلبت الدنيا وبدأ الجميع يفتش عمن قتل عم عربي وأين رأسه .

عرفته عن طريق ورشة خالي الأسطى "خلاف" السمكري الذي اصطحبني من البلد وأنا طفل ، لأعمل معه في الورشة، أتقنت عنده الصنعة ، كنت أبات في الورشة ، وكان عربي يأتينا مع أصحاب السيارات المخبوطة ، أو يطلب من خالي إرسالي إليه في الجراج ، فكنت آخذ العدة وأصلح السيارة هناك ، في كل الأحوال كان عم عربي يأخذ سمسرته من خالي ، نسبةً مما يدفعه الزبون ، مع مرور الأيام بدأ يتصل بي من وراء ظهر خالي ، فكنت أتحجج بأي حجة ، وأذهب إلي الجراج لأصلح السيارة التي يتفق مع صاحبها ويعطيني نصيبي ، ثم جاءته فكرة أن استقل عن خالي وأعمل لحسابي ، أو بمعنى أدق لحسابه هو ، خصص لي مكاناً صغيراً في الجراج ليكون ورشة ، اشترى "عِدة " علي حسابه علي أن يكون الحساب مناصفة بيننا .

 أصبحت أنام في ورشتي الصغيرة إلي أن فاجأني بأنه استأجر لي الحجرة التي أعيش فيها في بيت يؤجر صاحبه غرفة للمغتربين من الهند وبنجلاديش الذين يعملون في مصانع البلاستيك الملاصقة للجراج .

كنت متأكداً أن ذمته واسعة ، وما يعطيه لي أقل كثيراً من حقي ، فهو يُخْفي عني قيمة الحساب الحقيقي مع الزبائن ، ومع ذلك كنت سعيداً ، أنتظر اليوم الذي أصبح فيه صاحب ورشة.

كان عم عربي يصفو لي أحياناً ، ويجالسني أمام العشة ويفضفض لي، كان يقول لي إنه يعرف أنني أحسن واحد في الذين يتعامل معهم ، علي الأقل أعرف ربنا ، وأواظب علي الصلاة ، ومن البيت للورشة ، ولم يجدني في مرَّةٍ أؤذى أحدا ، أو " ألابط " أحدا ، أو حتى أخوض في سيرة أحد بالشر ، فأنا في حالي ، ولهذا هو يحبني .

كان عربي يشكو دائماً من قسوة زوجته وأولاده الذين يسمعون كلام أمهم ولا يسألون عنه أبداً ، قال لي إنه كان يحلم أن يرى أحد أبنائه في وظيفةٍ محترمةٍ يتباهى بها ، مثل الأستاذ عبد الله مأمور الضرائب ، أو الباشمهندس مأمون ، لكن أمهم انتصرت عليه وأرغمته علي الصمت ، وفرضت أسلوبها في التربية ، فما أن يشد الولد حيله ، حتى تدور به علي الورش والمصانع تبحث له عن عملٍ ، ليتعلم " صنعة " ويعرف سكة الكسب من صغره ، حتى البنات .

لمحت الدموع في عين عم عربي أكثر من مرة وهو يتحدث عن بسمة ابنته ، قال إنها الشخص الوحيد الذي يعطف عليه ويتذكره دائماً ، وتمر عليه كل يومين من وراء أمها ، ومعها علبة كشري أو ساندويتش شاورمة أو " شبشب " جديد ، بكى بحرقة عندما قال إن بسمة هي الوحيدة التي تقبِّل يديه ورأسه ، اعترف إنه ضعيف أمام هذه البنت ويخشِّي عليها طمع أمها ، ويخاف أن تكتشف أنها تأتيه في السر فتؤذيها ، أفشى لي سراً يحتفظ به ، و هو أنه يُخْفي مبلغاً كبيراً في مكان لا يعرف الجن الأزرق طريقه ، ليساعد به "بسمة " عند زواجها .

لا أعرف لماذا شعرت أن عم عربي يُلَمِّحُ لي برغبته في زواجي من ابنته ، كان كلما جاءت إليه يطلب منى أن أوصلها إلي أول الطريق ، لأنه لا يطمئن عليها مع أحد سواي ، " بسمة " ليست جميلة ، وهذا أمر طبيعي ، فأمها ليست أكثر جمالاً من أبيها ، تشبه عم عربي إلي حدٍ كبير في سمرته ، لكن وجهها مريح ويبدو عليها الطيبة .

في تلك الليلة المشئومة صلَّيت استخارة بعد العشاء ، فرأيت "بسمة " تجلس بجواري في الكوشة ووجهها مضيء ، والناس كثيرون وجوههم مضيئة ، يلتفون حولنا في سعادة ، وعم عربي يقف علي قدميه دون العكازين ، يدور بين المعازيم في خفة يتقبل التهاني ، صحوت من النوم قبل الفجر عازماً علي مفاتحته في أمر زواجي من ابنته ، توضأت واتجهت مسرعاً إلي الجراج ، ثم إلي الزاوية حيث وجدته مقتولا والعصا مغروزة في مؤخرته ورأسه ضائعا .

عاذر أبادير المحامي

جاءني قبل مقتله بشهرٍ تقريباً ، يحمل مظروفاً أصفراً مكدساً بأوراق لم أتوقع أبداً ما فيها ، هيئته لا تنبىء بما عرفته، ملابسه معفَّرة تشم منها رائحة التراب ، طاقية لا تعرف لونها، في قدميه شبشب زنوبة يظهر قدمين متسختين تملأهما تشققات ، اطلعت علي المظروف ، فأذهلنى شيئان ، محتوياته وطريقة ترتيب الأوراق.

       كان المظروف مقسَّماً إلي ثلاثة حوافظ كما نسميها نحن المحامين ، حافظة للشيكات علي بياض وإيصالات الأمانة ، وحافظة لعقود الملكية الموثقة ، والثالثة للأمور الشخصية .

تبين من الأوراق أن عربي يمتلك ثلاث عربات ميكروباص، و توكتكين ، وتاكسياً حديثاً ماركة لانسر ، و قطعتي أرض علي الطريق الصحراوي ، وبيتين ، أحدهما في بهتيم ، والثاني في روض الفرج ، وجدت أيضاً شيكات علي بياض وإيصالات أمانة بمبالغ كبيرة ، موقع عليها من عدة أشخاص، وجدت ثلاث شهادات ميلاد لابنائه من أم واحدة ، وشهادة لابنٍ من أمٍ أخرى ، و قسيمة طلاق منذ عامين من أم الأبناء الثلاثة ، وقسيمة زواج قديمة جداً لأم الولد الوحيد، وجدت قائمةً بأسماء كثيرةٍ مدون أمامها عناوين وبعض أرقام التليفونات والمبالغ المستحقة علي كل منهم.

كان واضحاً ،محدداً، يعرف ماذا يريد، قال حاسما :

- شوف يا أستاذ .. مطلوب من حضرتك 3 حاجات ، أولاً تفتح لي حساب في بنك تحط فيه اللي تحصَّله من الديون .

سألته:

- كل دا وما عندكش حساب في أي بنك؟

- ما فيش في جيبي جنيه ، أعمل بالفلوس السَّايلة إيه ؟ كل اللي حيلتي داير بيشتغل ، ثانيا تحفظ لي الظرف بكل اللي فيه عندك ، وعلي فكرة ما فيش مخلوق علي وجه الأرض شاف الظرف دا ولا يعرف اللي فيه .

لم أتخل لحظةً واحدة عن اندهاشي بهذا الشخص العجيب وسألته:

- كنت عاين الظرف دا فين؟

- هنا في حضني جوا هدومي ما بيفارقنيش لحظة .

 - وأفرجت عنه ليه؟

تبدلت ملامحه فبدا بائساً مذعوراً ، وقال بصوت متحشرج:

- خايف .. عمري ما خفت، كان قلبي زى الحديد ، عملت بلاوى وتعاملت مع بلطجية وقتالين قتلة ، و كنت لما أحب أنام أنام، طول عمري أعرف أحمي نفسي ، مع إني عاجز زى ما انت شايف ، دلوقتِ نظرات الناس بترعبني ، حاسس إن الدنيا كلها عارفة سرى ، وان كل واحد ليا عنده جنيه أو شيك أو وصل أمانة عارف مكانه فين ، وها يموتني وياخده .

- واشمعنى اخترتني انا؟

- بصراحة ،اللي دلني عليك قال إنك عقر، قلبك جامد، تجيب القرش من عين أبوك ، وتسحب الموزة من بق القرد، لما قال لي إسمك قلت له دا مسيحي ، والمسيحيين اليومين دول بيخافوا من خيالهم ، وماشيين جنب الحيط ، قال لي إلا انت ، فقلت أجرب .

كنت أقلب في الأوراق وأنا أستمع إليه مشدوداً لصراحته التي تصل إلي حد الوقاحة، توقفت عند قسيمتَي الزواج فسألته :

- إنت متجوز كام؟

- شوف يا أستاذ ، الولية أم العيال ربنا يأخدها ، ما تعرفش لغاية دلوقتِ اني طلقتها ، والبركة في المأذون، دفعت له عشان ما يبلغهاش ، يعني لما اموت ، تطلع م المولد بلا حمص و تحصلني بحسرتها ، الست التانية بقى دي حدوتة ولا أفلام السيما ، تخيل اني نسيت انها علي ذمتي لغاية دلوقتِ ، مع إني ما شفتهاش من أكتر من عشرين سنة ، لا هي ولا ابنها، ودا الطلب التالت من حضرتك .

- عاوزني ارجَّعها لك؟

- أعمل بيها إيه ؟، هو أنا انفع لها واللا لغيرها ؟عاوزك تسأل عليهم وتعرف لي قرارهم ، أم طارق دي كانت مرات الحاج ضاحي ، صاحب معرض حصير بلاستيك في بلد صغيرة في الشرقية اسمها كفر الجمل ،كنت زمان باوزَّع الحصير بتاع مصنع الحاج ضيا بالنص نقل، كان راجل طيب وأمير وحقاني ، عمرَّه ما آخر جنيه ، حتى في الأيام اللي كان سوق الحصير نايم فيها، المهم رحت له بالبضاعة لقيت المعرض مقفول وعليه ورقة إن الراجل مات فرجعت ، وبعد كام يوم لقيت المصنع بيسلِّم لي إذن صرف لمحل المعلم ضاحي، قلت لنفسي يمكن حد من عياله فتح الدكان ، رحت لقيت ست عمري ما شفتها ، عرفت انها أم طارق مرات المرحوم ، كانت ست جدعة ، وكان لسَّا فيها الرمق ، عيني زاغت عليها ، بس مين ؟ كانت جبل ، طوِّلت نَفَسي علي الآخر، أكتر من سنة يا أستاذ عاذر ، لغاية ما لانت ووافقت علي الجواز ، مع إن مبدأي كان ضد حكاية الجواز ، لكن ما كانش فيه حل تاني ، طبعاً كدبت عليها وقلت لها اني أرمل ، و ما عنديش عيال ، وعايش لوحدي ، عشت معاها سنتين ، وبعد ما خلِّفت فاروق بشوية عِرْفِت الحقيقة ، ما أعرفش ازَّاي، قالت لي من غير فضايح وفرجة الناس ما اعتّبش بلدهم تاني ، وإلا تاخد فاروق وتروح لمراتى وللحاج ضيا صاحب المصنع وتكشفني قدَّامهم ، قلت أخدها من قصيرها وابعد شوية علي ما النفوس تهدا ، لكن القدر كان بيخطط لحاجة تانية ، وحصلت الحادثة ، وفضلت في المستشفى أكتر من سنة أخرج من عمليَّة لعمليَّة ، وخرجت زى ما انت شايف كدا مكسَّح ، لا انفع زوج ولا أب ولا حتى أم ، وخَدِتْني الدنيا بهمها وقرفها .

تَهرَّب منى كل من سألته عن أم طارق وابنها فاروق ، كلما سألت أحدا كان يشيح بيده في وجهي ، و يقول :

- ياعم سيبنى في حالي .

جلست علي مقهى صغير وطلبت شايا ،سألت من جاءني به :

- ماتعرفش بيت ام طارق؟

وضع الكوب وأعطاني ظهره.

- إحنا هنا بنقدم شاى وقهوة بس، دور عليهم بعيد عننا الله لايسيئك .

شعرت أن في الأمر شيئاً غامضاً، سرت في القرية أنظر إلي واجهات الدكاكين عسى أن أجد لافتة الحاج ضاحى ، ولكني لم أعثر عليها، سمعت آذان العصر فخطر علي بالي شيخ الجامع ، مشيت وراء صوت الآذان حتى وجدتنى أمام زاوية صغيرة ، انتظرت حتى تنتهى الصلاة ويخرج الشيخ ،عندما خرج قلت له :

- مولانا .. انا جاى من مصر اسأل عن الست أم طارق وابنها فاروق ، وما حدش هايدلنى عليهم غيرك .

بدت عليه علامات الدهشة ثم استعاد هدوءه وسألني

- عاوزهم في إيه يابنى ؟ ، وتعرفهم منين؟

- دي حكاية طويلة ها حكيها لفضيلتك ، بس دلني عليهم.

أخذني من يدى عائداً إلي الجامع قائلاً :

- تعال نقعد في الجامع ، وقل لي حكايتك .

- أنا مسيحي يافضيلة الشيخ .

- يبقى نروح عندي البيت ، وأهلاً وسهلاً بيك .

في الطريق إلي بيته حكيت له حكاية عربي ، وجدته يعرف أطرافاً منها ، قال الشيخ:

- فاروق كان فاكهة البلد ، كان الجميع يحبوه لخفة دمه وبشاشته ، عكس طارق اللي ورث عن أبيه الصرامة والجدية ، فكان يبدو أكبر من سنه ، وتحمَّل مع أمه مسئولية المعرض ، جعلنا فاروق نحب الكرة لمهارته الخارقة ولمحاته الرائعة في الملعب الصغير بجرن العمدة ، كان أصغر من اختير لمنتخب المحافظة ، وسبحانه مغير الأحوال، هجر فاروق الكرة والجرن ، وربنا هداه والتزم وساب دقنه وقعد في الجامع ، ثم بدأ يلف مع جماعة علي البيوت والنواصى والمقاهى يلم الناس و ياخذهم للصلاة ، ثم بدأ يغيب عن البلد فترات طويلة ، ولما يرجع يقول إنه كان في سبيل الله ، أم طارق عملت المستحيل مع ابنها ، وساقت عليه كل محبيه لكى لايتركها ، ويقف مع أخيه في المعرض اللي حوله إلي محل موبايلات ، فكان يقول إنه وهب نفسه للدعوة ونشر دين الله ، ثم اختفى تماماً ، كنا مانفتكروش إلا لما نسمع عن حادثة إرهابية ، نلاقى سيارات الأمن المركزى والعساكر يحوطوا البلد ، ويفتشوا بيت أم طارق ، سمعنا أنه في اليمن ، وقيل أنه فى باكستان ، أو أفغانستان ، وإنه مع بن لادن ، وإنه علي قوائم الإرهابيين ، وبعد حادثة كنيسة الإسكندرية ليلة عيد الميلاد ، توقعنا إن الشرطة تيجى ، وعرفنا أن ضباط أمن الدولة جم بالليل وأخذوا أم طارق ، غابت ثلاثة أيام وعادت أمرأة أخرى، منكسرة، فى عينيها بكاء مكتوم ، مابتخرجش من بيتها ، قال من رآها إنهم أهانوها ليضغطوا علي فاروق حتى يظهر، ماظهرش ، أيام قليلة واختفت أم طارق تماماً .. الله أعلم إن كان فاروق أخذها أو هجت من البلد ، فمن يومها ماشوفنهاش ، وبعد الثورة وكسر أمن الدولة ، أهل البلد يتوقعوا رجوع فاروق وأمه إن كانت عنده ، زى الكثير اللي رجعوا بذقونهم وكانوا هاربانين أو مختفين فى السجون .

حكيت لعربي ما حكاه الشيخ ، فسحب عكازيه وقام حزيناً محبطاً وقال :

- يا خسارة.. كنت عشمان .. ياللا.. البركة فيك يا أستاذ .. شوف شغلك .

لم أره بعدها حتى علمت بالخبر ، ولا أملك إلا أن أضع ماعندي من أوراق تخصه للبحث فيها ، فقد يكون القاتل من بين الأسماء الكثيرة المدونة فيها .

أم احمد

لم أره عندما مررت أمام العشة ، فقط سمعت صوته:

  • علي فين يا مدام ؟

التفتّ ، كان مستلقياً فوق الدكة ، لا يظهر منه من تحت البطانية سوى وجهه الأسمر وطاقيته البيضاء ، قلت :

  • هاسأل علي شغل .

لم يعقب فواصلت طريقى ، عند عودتى وجدته جالسَّا ، أشار لي بيده ، لمحت عكازين بجوار قدميه فأطمأنيت واقتربت منه ، سألني :

  • عملتِ إيه؟
  • قالوا لي اسألي الأسبوع الجاى .

بعد أسبوع ،عندما مررت جانبه ، كان ممدداً كالمرة السَّابقة قلت له :

  • صباح الخير ياحاج .
  • صباح الفل ، ربنا يسهل لك .

عند عودتى كان جالسَّا ، أمامه كرسى عليه طبق فول وقرطاس طعمية ، أشار لي فاقتربت.

  • خير ؟
  • مش خير ولا حاجة ، كل المصانع بتصفِّي ، ومش عاوزين عمال جداًد .

وكأنه كان يعلم قال :

  • افطرى معايا .
  • ماليش نفس .
  • مدى إيدك عشان يبقى عيش وفول، ربك ها يسهلها .
  • استجبت له وجلست ، سألني :
  • اشتغلتِ فى مصانع قبل كدا؟
  • لأ .
  • ما اشتغلتيِش فى أى حاجة؟
  • كنت فرَّاشة فى مدرسة .
  • سيبتيها ليه؟
  • فصلوني .
  • ازَّاي ؟ هو فراش المدرسة بيتفصل ؟ واللا عملتِ حاجة ؟
  • أبو أحمد الله يرحمه هو اللي كان متثبت ، وكنت باساعده ، لغاية ما حصلت الحادثة وربنا افتكره .
  • حادثة إيه ؟
  • قطر قليوب ، سمعت عنها؟
  • سمعت عن حوادث كتير ، الحوادث فى مصر السنين اللي فاتت ما فيش أكثر منها .
  • كل اللي فى المدرسة كانوا يعرفوني كويس ، ولما مات أبو أحمد جابوا لي موافقة من الإدارة أقعد مكانه بمكافأة .
  •  يشكروا ، فيهم الخير .
  • المصلحة كانت واحدة ياعم الحاج ، كنت عارفة نظام أبو أحمد معاهم ومشيت عليه .

سقطت اللقمة من فمه وهو يقذفها داخله ، فالتقطها من الأرض وأعادها مرة أخرى ، أحسست بقرف فتوقفت عن الأكل قال :

  • مش فاهم .
  • كانوا سايبين له كانتين المدرسة ،الله يرحمه بقى كان شاطر ، الكانتين دا كان ولا السوق ، كل حاجة كان يبيعها وطبعاً كله بتمنه ، كان بيسيب للمدرسة كل يوم ميت جنيه ، توزعهم الأبلة مهجة مديرة المدرسة بمعرفتها ، غير عشرة جنيه للجمعية التعاونية ، لما قعدت مكانه مشيت علي نفس النظام لحد ما قامت الثورة.

رمى اللقمة التي فى يده بعصبية وقال :

  • يادى الثورة اللي قلبت كيان البلد وخربت بيوت الناس .
  • لما الثورة قامت كنا فى أجازة نصف السنة ، فى أول يوم دراسة فوجئت بالأبلة مهجة تطلب منى ماجيش المدرسة تانى .. ليه يا أبلة هو انا عملت حاجة ؟ ، قال إيه تعليمات الإدارة التعليمية ، رحت الإدارة قابلت المدير ، كان راجل طيب ، قال لي بصراحة اني غير مرغوب فيا بعد الثورة ، وقال لي اني جزء من الفساد اللي الثورة قامت بسببه ، وأنه يعرف كل حاجة عن حكاية الميت جنيه والكانتين ، قلت له طيب وانا ذنبى إيه ؟ قال دول موظفين فى الدولة، ها نحولهم للتحقيق ولغينا بند المكافأة بتاعك .. والله يا حاج حاسة كدا أنه كان بيقسم معاهم.

لفت نظرى رجل يدخل مسرعاً من أول الجراج، اتجه إلي تاكسى أبيض يقف فى منتصفه ،تحرك بالسيارة فنادى عليه" عربى" توقف الرجل بسيارته بجوار العشة وفتح الشباك ،سأله :

  • لقيتو محمد يا اسطى ؟

كان رجلاً مسناً عيناه حمراوان يبدو عليهما أثار بكاء شديد ، قال :

  • الحمد الله لقيناه بعد أسبوع مرمي فى مستشفى ، أولاد الحرام خدوا منه العربية وما خلوش فيه حتة سليمة .
  • فى داهية العربية المهم سلامته .
  • ما انت عارف يا عربي عليها اقساط قد إيه.. سلام عليكم .
  • التفت إليَّ قائلاً :
  • وزعلانة أنك سيبتي المدرسة ،محمد دا وحيد أبوه علي خمس بنات ، علمه لغاية ما خلص الجامعة وخَد شهادة الأثار أو السياحة حاجة زى كدا ، وغلب يدوَّر له علي شغل ، وآخر ما زهق اشترى له بالقرشين اللي طلعوا له من المعاش تاكسى يشتغل عليه ، وآديكِ سمعتِ ، التاكسى اتاخد ، ويا عالم هاترجع ولا لأ ، والولد مدشدش فى المستشفى .

كان رذاذ مطر خفيف قد بدأ يتساقط علينا ، نظر إلي السماء ومد يده أمامه يتأكد من قطرات المطر ، قال :

  • كل يوم تعمل كدا.. تمطر شويه وتبطل .. عايزينها تمطر جامد عشان الجو يدفا .

قلت له :

  • أقوم أمشي قبل المطر ما يشد .
  • ما تخافيش ها تبطل دلوقت .

كان المطر قد ازداد ، قام مسرعاً مستنداً علي عكازيه يلم راكية النار ، ويقذف البرَّاد والأطباق بأحد العكازين إلي داخل العشة ، حملت شلتة الدكة وأسرعت إلي داخل العشة ، قال :

  • خشِّي خشِّي ها نغرق .

كانت العشة ضيقة جداً ، ولا يوجد بها سوى كنبة صغيرة عليها عدة بطاطين قديمة متسخة مكومة فوق بعضها ، وجركن ماء كبير ، وبوتاجاز شعلة واحدة ، وكيس بلاستيك أسود معلق علي الجدران ، ومسامير مدقوقة معلق عليها مفاتيح كثيرة .

 كان عربي قد جلس فى منتصف الكنبة وجلست علي الكرسي الخشب ، ترك العكازين من يديه فسقطا علي ساقى ، سقطت بعض قطرات المطر علي رأسى من سقف العشة ، نظرت إلي أعلي ، كانت مسقوفة بالخشب وبالسقف آثار نشع المياه ، أشار إلي الكنبة :

- تعالي هنا ، السقف بيسقط .

انتقلت إلي الكنبة ملتصقة بالجداًر الصاج ، فأصبحت إلي جواره قلت :

  • لازم أروَّح .. العيال لوحدهم
  • سايباهم فين ؟
  • قافلة عليهم .
  • هاتمشى ازَّاي فى المطر ، استنى لما تبطل .

أخرجت رأسي ناظرةً من باب العشة ، كانت الأرض قد توحلت تماماً وصوت المطر يزداد، أحسست بيديه علي ظهري وأنا محنية أراقب الأرض، بدت أصابعه خشنة تنغرز فى لحمي ، رفعت رأسى بسرعة ، والتصقت أكثر بالحائط وجسدي يرتعش ، مال بجذعه ليسحب البوتاجاز الصغير فكاد يسقط فأمسكت به ، قال :

  •  نشرب شاى يدفينا .

انحنيت مرة أخرى لأسحب البوتاجاز فمرر يده علي ظهري كله، انتفضت ، وقلت غاضبة :

  • اشرب انت لازم أروح للعيال.

التفتُّ إليه ،كان بارداً ، لم يرغمنى علي البقاء، تركنى أمشي .

خرجت مسرعة أخوض فى وحل الجراج ،أمر بين السيارات المتراصة،أحاول الاحتماء بها ، لم أعد أشعر بالبرد، كان صهد قد بدأ يخرج من وجهى ، منذ مات أبو أحمد لم أرتجف هكذا ، هل فعلت بى يد هذا الكسيح كل هذا ؟ أم أنه كان تحت جلدى لا أشعر به ؟

فى الليل احتميت بأحمد وعلا ، أخذتهما فى حضني لننام ،عاهدت نفسي أن لا أذهب هناك مرة أخرى .

يوماًن فقط ووجدتنى أمامه، كان يهوى علي نار راكية الخشب المحترق ، ويضع كنكة الشاى الصغيرة عليه .

  • صباح الخير .

فتح عينيه نصف فتحة من تأثير الدخان، وكأنه كان ينتظرنى، أشار فى بلادة إلي الكرسي المجاور للدكة فجلست .

  • ازى العيال ؟
  • الحمد لله .

 كان الجو صحواً ، والشمس ناعمة تأتى من خلف العشة، ساد بيننا صمت ، انتظرته أن يتكلم فظل صامتاً ، قلت :

  • هى العربيات دى مابتتحركش؟
  • تروح فين فى الأيام الخانقة دى، السواق من دول يطلع وبعد ساعتين يرجع يسب ويلعن ، يا مظاهرات قافلة الطريق ، يا زباين مفلسين ، باقول لك إيه، فيه واحد رخم جاى عندي دلوقت، لو شافك ها يتراخم عليكِ ، خشِّي العشَّة ولما يغور أخرجى .

سمعت كلامه ودخلت ، انتظرت أن أسمع صوت ذلك الرجل، مد يده بكوب شاى فأخذته و جلست وحيدة، أفتش عن القوة التي سحبتنى إلي هذا المكان ، وهذا الرجل الغريب ، لم أشعر بعد ذلك إلا وأنا ممددة علي الكنبة عارية تماماً ، وهو جالس أمامي علي الكرسي داخل العشة يمعن النظر فى جسدي انتفضت أتلفت حولي .

  • انت عملت إيه؟

قال ببرود:

  • خلِّيكِ زى ما انتِ ، ما حصلش أى حاجة .

 كانت كاميرا تليفونه المحمول موجهة إليّْ ، فأدركت أنه يصورنى ، بحثت عن ملابسي فلم أجدها ، لم أجد حتى البطاطين المعفنة التي كانت فوق الكنبة لأستر بها نفسي.

  • يخرب بيتك فين هدومي ؟

واصل بروده:

  • ازَّاي هان عليه يموت ويسيبك ، حد يبقى معاه ست جامدة زيك ويموت !

كان عقلي مشلولا ، ماذا أفعل مع هذا الجبان ؟

  • ها تجيب هدومي واللا اموتك ؟
  • مستعد اموت علي إيدك ، بس مين ها يجيب لك الهدوم ؟ ، وها تخرجي ازَّاي من هنا ؟

    سحب العكازين وخرج من باب العشة وتركنى عارية ، عاجزة ، ذليلة لا أعرف ماذا ينتظرنى من وراء هذا الكابوس ، دخل العشة ورمى الهدوم فى وجهى ، لاحظت أنه أخفى التليفون ، يبدو أنه خمن أننى سأخطفه منه :

  • أخرج برَّا عشان ألبس .

ضحك بشدة:

  • ياحلوة انتِ ها تلبسى مش ها تقلعى .

ارتديت ملابسي وسبقنى إلي خارج العشة.

أمرنى أن أجلس فجلست ، قال :

  • اسمعى يابنت الناس ، كل المطلوب منك تسمعى الكلام وبس، طول ما انتِ مطيعة انسي خالص اللي علي التليفون ، مع إن خسارة إن الناس تتحرم من المتعة دى ، من النهاردا ها تشتغلي معايا هنا فى الجراج ، تطوقى العربيات وتتابعى اللي خارج واللي داخل ، أصحاب العربيات كرما ، واللي ييجى بالنص بما يرضى الله .. صعبة دى ؟

لم أكن مطمئنة إليه ، كنت أود لو سحبت أحد العكازين وهويت به علي رأسه ، لكننى جبنت ، لم انقطع عن البكاء ، و قلت له :

  • ممكن تسيبنى النهاردا أروح وآجي لك بكرة.. أعصابي تعبانة .
  • ماشى ياعسل بالسلامة ، بس الشغل من الساعة ستة الصبح ، سته ونص أنا برَّا الاتفاق .
  • كنت متأكدة أن هناك مايدور فى رأس هذا الشيطان ، وأن الأمر لن يتوقف عند غسيل السيارات ، وأن هذا الكسيح يدبر أكثر من ذلك ، توجهت ناحيته مغلولة ، أمسكت برقبته مطبقة عليها حتى كاد أن يختنق .
  • يامجنونة سيبى رقبتى .
  • عارف لو الفيلم الوسخ اللي فى دماغك دا حاولت تكمله ..هاتكون آخرتك علي إيدي واللي يحصل يحصل .
  • خسارة تضيعى نفسك ومستقبل عيالك فى واحد ندل زيى، سيبى رقبتى وهانتفق .

كنت أود قتله كل يوم وأقسم اننى لم أفعل ،اعتدت علي المكان والناس الذين لم يصدقوا أبداً أننى قريبته كما ادعى وجاريته فى كذبته ، تعلمت غسيل السيارات وحفظت الأماكن المخصصة لركن كل سيارة ، ومواعيد خروج وعودة كل سائق ، خاصة السيارات الملاكى التي يعمل أصحابها فى وظائف ثابتة، سمعت قصصاً ونوادر عن سيد سياحة وعبد الفتاح سوزوكى ودرويش أبوعقدة والأستاذ أشرف وأبوهانى الاقرع وأحمد فندق الذي دخل يوماً بسيارته حتى العشة وبجواره أمرأة

سأل عربى من شباك السيارة:

  • الاستراحة فاضية؟

أشار عربى بيده ، فتخطى فندق العشة وانحرف خلفها ، كانت المرة الأولي التي أسمع فيها عن الاستراحة.

 سألته فقال :

  • أصبرى شوية وهاتعرفى كل حاجة .

بعد قليل سحبنى من يدى إلي داخل العشة ،خلعت يدى من يده ودخلت خلفه،أزاح لوحا من الخشب بعرض الجدار فظهرت فتحة صغيرة، نظر منها ثم ابتعد ، وأشار لي أن أفعل مثله ،نظرت من الفتحة فرأيت أحمد فندق والمرأة عاريين تماماً داخل السيارة ، ابتعدت مسرعة .

  • يا أولاد الكلب..انت شغال إيه بالظبط؟
  • أنا خدام الجنيه أعمل أى حاجة تجيبه.
  • أى حاجة ؟!
  • أنا خسرت إيه ؟ هما يتبسطوا وانا أتفرج واتبسط واقبض، وكلها ساعة ما تزيدش دقيقة .

تركنى أخرج من العشة وعاود التلصص عليهما من الفتحة ، ثم خرج مسرعاً عندما سمعنا صوت محرك السيارة، اتجه ناحية السيارة ، كانت المرأة لاتزال تسوى شعرها ، دس فندق فى يده مبلغاً وانطلقت السيارة .

كلما تكرر هذا الأمر كنت أقرر ترك الجراج ولا أفعل، تعودت علي ما يفعله متحسبة لأى تصرف معى، والحقيقة انه التزم بعهده معي ، كان أصحاب السيارات يتركون مفاتيحها له عندما يريدونه أن يغسلها ، علي الفور يفتح النوتة الصغيرة المدون بها أسماء رجال ونساء ، يحدد مواعيدا وأسعارا، كان يتعمد أن يفعل ذلك أمامي ويسمعنى كل التفاصيل بمنتهى البجاحة، فكرت أن أبلغ عنه الشرطة لكنه فاجأني وكسر صمتا طويلا بيننا ونحن جالسين أمام العشة وقال :

  • أوعي عقلك يوزِّك وتقولي أخلص من الراجل دا وابلغ عنه ، انتِ رجلك مغروزة معايا ، وكل حاجة انتِ شريكة فيها ، واللا ناسية البلاوي اللي علي التليفون ؟

رددت عليه :

  • واوعى انت كمان عقلك يوزك وتفتكر انك تقدر تجرِّني للمسخرة دى بأى شكل،عقلك النجس دا ابعده عنى ..أقسم بالله ما قدامي غير رقبتك .

ضحك حتى كاد يسقط من علي كرسيه وظهر ناباه الطويلان.

  • بصراحة .. فكرت فى الثروة اللي معايا ، وقلت يا واد شوية بويا علي هدمة مشخلعة ، ها تبقي فشر كل النسوان اياهم ، بس استخسرتك فى الرجالة ، وقلت تبقى بتاعتي لوحدى.
  • انت بتحلم .
  • ماتفهمنيش غلط .. هو أنا كنت لمستك .. انا كبيرى اتفرج وامتع عينيا.
  • انسى .. دى غلطة عمرى ولايمكن تتكرر .
  • تعرفى إن صورك علي الموبايل هى سلوتى طول الليل ، لايمكن يوم يعدى من غير ماشوفها.
  • ندل .
  • تعيش ندل تموت مستور .

تركته ومشيت حتى أول الشارع لأتخلص من الغيظ الشديد ، أحسست برَائحته العفنة تسير خلفى ، فكرت أن أكمل الطريق إلي البيت دون رجعة ، استخسرت الدخل الذي أحصل عليه من الجراج فأصحاب السيارات يخصوننى بسخائهم ، منهم من كان يُخْفي عنه مايعطيه لي ، كان يترك مايخرج من ذمته للعيال تحت دواسة العربية حتى لايعرف عربى الذي لاتغيب عيناه عنى.

لم أستطع الخروج من حالة الغل فاستدرت عائدة ، كان ممددا علي الدكة يبدو نائماً ، هاجمتنى الفكرة التي لاتفارقنى ، أن أتخلص منه ، فكرت أن أخطف عكازا وأضربه علي رأسه ،سحبت العكازين فى هدوء ومشيت بهما بعيداً ، أخفيتهما خلف سيارة نصف نقل مركونة بجوار المصنع ،فكرت فى إيقاظه لأتشفى فيه لكن انتظرت حنى فتح عينيه ورأيت الرعب علي وجهه وهو يتلفت باحثا عن العكازين .

  • العكاز فين؟

لم أرد عليه.

  • العكازين كانوا جنبى راحوا فين؟
  • ما اعرفش ، دور عليهم .
  • هو جنيه وقع ها ادوَّر عليه ! ما حدش كان هنا غيرك ، فين العكازين؟
  • ورا عربية محفوظ روح هاتهم .
  • انتِ مجنونة ؟ أجيبهم ازَّاي؟
  • اتصرف .
  • قومى هاتيهم .
  • وانا مالي .

استند بيديه علي الدكة ونزل بوسطه حتى جلس علي الأرض ،انحنى بجذعه حتى نام بجسمه كله وبدأ يزحف ، ظل يزحف حتى اقترب من السيارة ، سبقته إلي العكازين وعدت بهما أمام العشة ،زحف خلفى، جلست علي الكرسي وعندما وصل إلي العشة قذفت بالعكازين بطول يدى إلي منتصف الجراج ،استكان تحت قدمى .

  • حرام عليكِ بتذلينى ليه؟
  • مش عارف ليه ياراجل يانجس ؟

كاد يبكى وقال :

  • والله العظيم من يوم ما اشتغلتِ معايا وانا محافظ عليكِ، اللي ماتعرفيهوش ان السواقين ساوموني عليكِ ومارضيتش عشان باحبك .
  • هو اللي زيك يعرف ربنا واللا يعرف يحب حد ، أضمن منين ماتبعنيش للأنجاس اللي زيك .
  • لو حصل منى أى حاجة خبى العكازين خالص ، وابقى استاهل اللي يجرى لي .

أحضرت العكازين ورميتهما فى وجهه ، تسند عليهما حتى وقف ، ثم جلس علي الدكة وكأنه استرد روحه، أخذت جردل الماء إلي الطلمبة المجاورة للعشة وملأته ، اتجهت إلي سيارة الكابتن بلبل ، بينما كنت أغسل السيارة لمحت أمرأة تدخل من أول الجراج ، تعرف طريقها إلي عربى، كانت ترتدى عباءة سوداء متسخة وخمارا سماوي باهت، ما أن وصلت إليه حتى بدأ صوتها يعلو بينما هو صامت ، سمعتها تقول له :

  • أصلك ما بتحسش .

تركت السيارة واقتربت منها سألتها.

  • فيه إيه ياست ؟

قالت بحدة:

  • خلِّيكِ فى شغلك ،أنا مرات المعرص دا ، مش واحدة من اللي بتشغلوهم.

قال عربي :

  • روحى انتِ دلوقت يا أم أحمد .
  • سيبك من أم أحمد وأم زفت ، هاتجيب الفلوس والا لأ .
  • منين بس ؟ مانا كل اللي بيجى لي بابعته لك .

أسرعت إلي داخل العشة وغابت قليلاً ثم خرجت وفى يدها كيس بلاستيك قائلة :

  • أمال إيه دول يامعفن ، مخبى الفلوس منى أنا وعيالك ؟

لم ينطق .. بصقت فى وجهه وهى تنظر ناحيتى وتركتنا.

الشيخ منصور عتمان: وكيل وزارة الأوقاف

ركنت السيارة قبل الفجر بحوالي ساعة، تعودت أن أتأخر فى العودة، منذ أن أصيب ممدوح ابن أختى ولزم قصر العينى، نظل ساهرين إلي جواره ننتظر خروح السر الإلهى ، تلك الليلة فتح عينيه لأول مرة منذ شهور، جاءت عينه فى عينى سألني :

- فين أسماء؟

قبل أن أرد عليه عاد لغيبوبته وعاودت أمه البكاء، ارتمت فوق صدره تتسمع أنفاسه.

 كان الجراج مظلما، أضأت نور الكشاف الكبير، لمحت شخصاً يقف عند العشة وظهره لي ،طويل يرتدى جلباباً غامق وعمامةً بيضاء ،حركة جسمه تدل علي عصبية شديدة، لم أجد رغبة فى العودة للمنزل رغم الإرهاق الشديد ،قررت الانتظار فى السيارة لأصلي الفجر فى الزاوية، أغمضت عينى وأسندت رأسى علي الكرسي وذهبت مع ممدوح الموعود بالحرمان، لم ير أباه الذي كان مهندساً للبترول ، سافر للعراق وعاد نعشاً كنعوش كثير من المصريين الذين قتلوا أيام صدام حسين ،ولم يعرف أحد السبب حتى الآن ، تخرج ممدوح من كلية الطب العام الماضى 2010 وكُلِّف طبيب امتياز بقصر العينى .

 سمعت صوت المطر يشتد خارج الجامع فاختصرت خطبة الجمعة وأسرعت فى الصلاة بالناس ، كانت الأرض أمام الجامع قد توحلت تماماً، لمحته يقف محتمياً ببلكونة البيت المجاور للجامع ينتظرنى ،اتجهت ناحيته حذرا من السقوط ، ومع ذلك انزلقت قدمى، قبل أن أسقط بالكامل وجدته يمسك بى بقوة ويرفعنى لأعلي حتى استقمت واقفاً، تسندت عليه وسرنا باتجاه البيت، كان ذيل القفطان قد اتسخ وكذلك الجلباب الأبيض تحته وامتلأت العمامة بماء المطر فخلعتها وحملها عنى ، سار إلي جوارى صامتاً ، سألته :

- مالك يا دكتور؟

- سلامتك ياخال .

- مش عاجباك الخطبة .. صح؟

- بصراحة لأ ، وكان هاين عليا أقاطعك .

 - للدرجه دى!

- مش عارف ازَّاي قلبك بيطاوعك تتكلم عن حرمة الخروج عن الحاكم والبلد بالشكل دا!

- يابنى انت مش عارف الضغوط اللي علينا ، انت فاكر ان كل اللي فى الجامع مصلين ، أمن الدولة مالي الجامع ، وبيسجل لنا كل كلمة ، ولو حودت عن الكلام اللي متحدد لي يمكن ما اطلعش المنبر تانى ويمكن اتعزل من وظيفتى .

- يا مولانا الناس بتثق فيكم وبتسمع كلامكم والمفروض تعرفوهم حقوقهم مش تضللوهم .

ظهرت أمامنا بركة ماء غويطة تزداد اتساعاً مع سقوط المطر، اضطررت لرفع ذيل القفطان والجلباب وثنى ممدوح البنطلون حتى ركبتيه ، وغوطنا فى الماء وأنا ازداد تشبثا به وأعاتبه .

- كدا برضه يا ابن اختى ؟ أنا ضلالي ؟ ، الله يسامحك .

- ماتزعلش ياخالي ، انت شايف حال البلد، هو فيه دولة فى العالم يحكمها شخص واحد 30 سنة ؟ ، بص فى وشوش الناس يا فضيلة الشيخ تعرف حجم جريمته، هو دا المصرى المعروف بخفة دمه ، تعالي شوف العيال الصغيرة اللي بتموت قدامنا فى المستشفى بأمراض غريبة مانعرفهاش ، بسبب المبيدات والتلوث اللي مالوش مثيل فى العالم ، ما تزعلش منى يا مولانا ، الشعب دا ذنبه فى رقبتكم .

 فى البيت كانت أسماء جالسة أمام الكمبيوتر سألها :

- إيه الأخبار؟

ردت بفرح

- هايبقى يوم تاريخى .

لم يكن يوم 25 يناير بالنسية لي أكثر من مظاهرة مثل عشرات المظاهرات التي ظلت شهورا فى الشوارع ولم تلتفت لها الحكومة،كانت تصرخ وتنام فى العراء حتى تفض نفسها ،جاءتنا تعليمات أمن الدولة بالتعامل مع المظاهرة، أرسلت منشورا نمطيا يلزم خطباء المساجد بتخصيص خطبة الجمعة 20 يناير لتوعية المصلين بأهمية الاستقرار وحرمة توقف الإنتاج وحكم الخروج علي الحاكم ، فى اليوم الأول تغيب ممدوح عن موعد عودته من المستشفى ،اتصل بأمه طمأنها أن ظروف العمل تمنعه من العودة وقد يضطر للبيات ، كانت أمه تضبط ساعتها علي موعد رجوعه، يطير عقلها لو تأخر قليلاً ، وتطارده بالتليفون ، فشلت محاولاتنا فى إقناعها أنه كبر وأصبح طبيبا ولم يعد لائقا ملاحقته بهذه الصورة، كانت تقتنع ثم يغلبها القلق فلا تطيق تأخيره .

خلت شوارع مصر ليلة الثلاثاء الأول من فبرَّاير، جلس المصريون الذين لم ينزلوا الميادين أمام شاشات التليفزيون ، يترقبون البيان الثانى للرئيس، يراودهم الأمل أن تتوقف حالة الشلل التي أصابت البلد، يأملون أن يستمع لصوت الملايين التي تطالب بسقوطه.

       خرج الرجل شاحبا ، لم تفلح محاولات إخفاء أثر الأعوام الثلاثة والثمانين عن وجهه وصوته، رآه الناس منكسراً لأول مرة.

 بمجرد أن أطل من الشاشة قالت أسماء :

- مش حرام بلد زى مصر يحكمها واحد خرفان زى دا !

نهرتها أمها:

- أصبرى لما نشوف ها يقول إيه؟

 أعترف أننى لم أتمن لحظة واحدة رحيله، ففى زمنه أصبحت وكيلا للوزارة ،رأست الكثيرين ممن أقدم وأكفا وأعلم منى، كان الوزير نفسه يعمل ألف حساب لعلاقاتي المتشعبة مع صناع القرار ، خاصة الهانم زوجة الرئيس التي كانت تخصنى بالاختيار فى المجالس والمؤتمرات التي تترأسها.

استطاع الرجل أن يشق صف معارضيه وكسب تعاطف البعض، جاء بيانه مؤثرا ، خاصة عندما أعلن تمسكه بتراب الوطن الذي عاش فيه عمرَّة كله وخاض من أجله الحروب ولن يموت إلا فيه، طمأن الناس أنه لن يترشح مرة أخرى ، ولن يرشح ابنه، طالب المصريين أن يمهلوه الستة أشهر المتبقية من مدته لينفذ للثوار مطالبهم .

بكت أم ممدوح وقالت :

- حرام عليهم ، ما يسيبوه الكام شهر دول، يعتبروه زى ابوهم ويرحموا شيبته .

انتفضت أسماء وقالت :

- حرام عليكِ انتِ ياعمتى ، دا أفَّاق ، بيتمسكن لما يتمكن ، وبعدين يسيب كلابه علينا .

تمنيت أن يصدقه الناس ويتركوه ،جذبتنى أختى من ذراعى وقالت :

- ودينى التحرير يا شيخ منصور .

- تعملي إيه يا أم ممدوح؟

- أشوف ابنى .

- ممدوح فى شغله فى المستشفى .

- لأ .. فى التحرير من أول يوم .

- مين اللي قال لك؟

- انتم فاكرينى عبيطة ومخبيين عليا ، أنا عارفة من أول يوم ،صدقونى أنا قلبى واكلنى عليه بس فرحانة بيه، شوفته امبارح واقف وسط شباب كتير زيه، كلهم شكله بالظبط نفس الملامح نفس النضارة النظر والصلعة الخفيفة، طولهم وعرضهم واحد بس ممدوح الوحيد اللي لابس بالطو أبيض .

- دى تهيئات القلق ياحاجة .

- لا ياشيخ انت عارف اننى بشوفه بقلبى، ودينى له بكرة ربنا يخليك .

ظللت طول الليل أؤنب نفسي ، كيف تورطت أمام أختى ووعدتها بالذهاب للميدان باحثا عن ابنها ،ماذا لو رأونى وظنوا أننى مع الثوار، سيضيع حلمى الذي اقترب بتولي الوزارة ، ماذا لو اعتدى علي الشباب ، يعرفون موقفى الرافض لثورتهم والداعم للنظام، فكرت أن أتعلل بأى حجة ولا أذهب ، صلَّيت الفجر وفتحت باب غرفتى ، وجدت أسماء واقفة تنتظرنى وقد ارتدت ملابسها ، شخطت فيها :

- انت إيه اللي مصحيكِ دلوقت ؟ انا مش قلت لك مش هاتيجى معايا وانتهينا .

- عشان خاطرى ، هاروح معاك وارجع فى إيدك .

- ما ينفعش الميدان زحمة وخطر وانتِ متهوِّرة.

- اتكل علي الله يافضيلة الشيخ ، ربنا ها يستر .

أعرف عربي منذ فترة قصيرة ،تقريباً قبل الثورة بشهرٍ أو أكثر بقليل، دخل مكتبى أول مرة، خمنت أنه يريد إعانة ، نويت أن أوجهه لإدارة البر، أدخلنى فى سكة أخرى، قال إنه يقصدنى لأنه يعرفنى ولا آخذ بالي منه، قال إنه صاحب الجراج فى الممر بين شركة ناروبين والمدرسة الثانوية ، أمر كل يوم من الشارع الرئيسى الذي يقطعه الجراج ولم يلفت نظرى ، قلت له :

- تحت أمرك علي أى حال .

رجع بظهره للوراء فبانت وساخة التراب المختلط بالعرق أسفل رقبته وقال :

- خدمة بسيطة لأهل المنطقة.

- إذا كانت فى إيدي مش ها اتأخر .

- عارف الجامع الجديد اللي جنب ورشة البلاط فى شارع حمزة

- طبعاً .

- عاوزين نضمه للوزارة عشان نعين فيه اتنين غلابة من ولاد المنطقة .

- بس دا ما كملش ، وما تنطبقش عليه الشروط .

- ماهى دى الخدمة ، والبركة فى فضيلتك .

- مش ها يحصل .

- هايحصل انشاء الله ، وها تطلب لي شاى، وها نبقى أصحاب، وها اركن لك عربيتك فى الجراج عندي بدل ما انت ر اكنها قدام البيت فى شارعكم الزحمة ، والعيال بيتنططوا عليها وكسروا لك الإزاز كذا مرة .

- انت عارف كل حاجة عنى بقى .

- وعن الآنسة أسماء والدكتور ممدوح ابن اختك ، ومتأكد ان حكاية الجامع دى بسيطة ، بأمارة جامع الرحمة وجامع حسب الله فى بهتيم ، زى ماخدمتهم اخدمنا .

- لو زودت كلمة واحدة ها اطلب لك الأمن .

- واهون عليك بحالتي دى تكسر بخاطرى وترجعنى زعلان ، وتكسفنى قدام الناس.

- انت عاوز إيه بالظبط؟

- كل المطلوب تبلغنا باليوم اللي هاتنزل اللجنة اللي ها تعاين الجامع ، وإحنا نقعد الاتنين رجالة فى الجامع ، تيجى اللجنة تلاقيهم شغالين يثبتوا اسمائهم ، ولما الجامع ينضم للوزارة يتعينوا طبقاً للقانون .

أنبت نفسي عندما سمح لي الشباب احتراما للزى الأزهرى أن أعبر إلي الميدان دون تفتيش ،كيف فاتنى أن لا أخلعه ؟ ، فحتما سيلفت النظر.

فكرت فى العودة ، لكن أسماء كانت قد سبقتنى ودخلت وسط المتظاهرين فلحقت بها، أمسكت بيدها وسرنا وسط الزحام أتشبث بها حتى لا نفترق.

 كان هتاف الشباب " الشعب يريد إسقاط النظام" يرج السماء ، ويزيدنى رعباً ، وكأنهم يقصدوننى، أبحث عن مكان أتوارى فيه فتبتعد عنى أسماء فالحق بها، كانت تهتف معهم رافعة اليد المتحررة من قبضتى،خلعت يدها منى وانفلتت وسط الزحام تهتف،جريت وراءها سحبتها من يدها ثائراً :

- دا اتفاقنا ؟ ، ممكن نلاقى ممدوح فين فى الزحمة دى ؟ ، الله يجازيه اللي قطع الاتصالات .

- زى عمتى ماقالت فى أى مستشفى ميداني .

وبالفعل وجدناه داخل أحدى الخيام فى صينية الميدان ممسكاً بساق أحد الشباب يلف الجبس حولها، اندفعت أسماء تجاهه .

- أهه .

نسيت نفسها وارتمت فى حضنه، تنبها لوجودى فابتعدا، جرى ناحيتى واحتضننى .

 قلت له :

- يابنى حرام عليك أمك ها تموِّت نفسها .

نظر إلي أسماء وقال :

- ليه مانعها ياخالي، نص الميدان بنات زيها عايشين فى وسطنا لغاية ماننضف البلد .

- يا بنى انا خايف عليك ، الناس دى مش ها تسلم ، وانا شايف دم - باقول لك إيه يا فضيلة الشيخ ،الضهر قرب يأذن ، إيه رأيك تصلي بالمتظاهرين ؟ صدقنى وجود عالم كبير زيك فى وسطهم هايكون له تاثير السحر .

أحكمت قبضتى علي يد أسماء وجررتها ناحيتى فى غضب .

- انت ليه يابنى مصر تورطنى .

 - يامولانا الميدان مليان مشايخ ،كلهم ولادك وتلاميذك ، ها يفرحوا بيك .

- ماينفعش ياممدوح ، أنا جاى اطمن اختى علي ابنها وبس .

سمعنا صراخاً وتدافعاً، أخرجت رأسي من الخيمة ، رأيت خيولا وجمالاً تجرى وراء الناس الذين يسقطون تحت الأقدام ، اقتربت الخيول من الخيمة ، فأخذت أسماء وجربنا، كانت تفلت من يدى فأنادي عليها ونعاود الجرى، احتمينا برصيف محطة المترو أمام مبنى الخارجية القديم ،كانت أسماء تتسحب من جوارى وتشتم- يا ولاد الكلب- وهى تقذف بحجارة تجاه كوبرى قصر النيل ، فلا تطول أحدا ، ناديت عليها لم تلتفت لي ، فتركت عينى عليها أتابعها ، ثم غابت فجأة ،تحركت باحثاً عنها، ناديت بأعلي صوتى فضاع الصوت وسط التدافع والصراخ والهتافات ،سرت وسط الضرب المتبادل حتى عدت إلي خيمة ممدوح، سألت عنه فأخبرنى زملاؤه أنه أصيب ، وأخذته الإسعاف إلي المستشفى .

أصبحت بين نارين أبحث عن أسماء التي ضاعت فى الميدان أم عن ممدوح الذي لا أعرف إلي أى مستشفى نقلوه ، الأصعب أن الميدان كان مغلقاً لا يستطيع أحد الخروج أو الدخول.

مر ما يقرب من عامين ولم أجد أسماء ، ولا يزال ممدوح فى المستشفى شبه ميت .

غلبنى النوم داخل السيارة و صحوت علي صراخ سلامة السمكرى قبل آذان الفجر ، يستنجد بالناس ويصرخ " عم عربي اتقتل ، الحقونا ياناس " ، جريت إلي الزاوية ، وجدته مذبوحا ورأسه ليس موجودا ، اتصلت بمأمور القسم وبدأ الجميع يبحث عن قاتل عربي وعن رأسه ،أشك أنه قد يكون ذلك الرجل الطويل ذى الجلباب الغامق

أم صابر زوجته

فرغ الصبر فحرَّمت نفسي عليه ، لم يبد اهتماماً ، ثم بدأ يضيق ويحاول الاقتراب ، صددته بكل قوة ، فغضب وثار فى وجهى

  • انتِ فاكرة نفسك ست .. من بكرة اتجوز بنت بنوت واجيبها لك هنا تبقى ستك وست ولادك .
  • عارفة ان شراميطك كتير .
  • لو عينى مليانة ما كنتش عرفت غيرك .
  • انت وكل اللي تعرفهم علي أقدم جزمة .

رفع يده ونزل بها علي وجهى ، لمحت احمرار عينيه وهو يقول :

  • أنا اللي لبستك جزمة يا بنت بتاع العرقسوس .

كانت المرة الأولي التي يمد يده علي ،أحسست بمهانة شديدة فهجمت عليه و أطبقت فى رقبته .

  • ها تخنقينى يا بنت الكلب .

جريت وراءه رافعة الشبشب، قذفته خلفه فاصطدم بظهره ، فتح الباب وجرى خارج الشقة بملابسه الداخلية وهو يسب ويلعن اليوم الذي عرفنى فيه .يستحق القتل لكننى لم أقتله، أنا آخر إنسان علي وجه الأرض يفكر الآن فى قتل عربي، فعلاقتى به مقطوعة منذ واقعة " الشبشب " ، و أصبح بعدها يأتينا علي فترات متباعدة ضيفا غير مرحب به، حتى بعد الحادثة، ينام فى أى مكان إلا سريرى، لم يعد منذ ذلك اليوم عبئا ، كان يعرف أننى يمكن أن أفضحه فكان لا يتأخر فى الصرف علينا وتلبية كل احتياجاتنا .أعترف أننى الذي سعيت للزواج منه ، وظللت أعواما طويلة أعتقد أننى تمكنت من الإيقاع به ، ثم اكتشفت أن حساباتى كانت خاطئة ، كان أبي يسرح بقربة عرقسوس طوال النهار ويعود إلينا بقروش قليلة ، فاضطررت أنا وأمي وأختى الصغيرة أن نعمل فى مصنع الحاج ضيا للحصير البلاستيك ، وكان عربي يعمل به سائقاً علي السيارة النصف نقل الوحيدة . كانت سيرته علي لسَّان كل بنات العنبر ، كان يغريهن بأصابع الروج وعلب البودرة والملابس الداخلية المستوردة التي يأتى بها من بورسعيد ، لم يكن فيه ما يثير الإعجاب ، قصير ، نحيف ، أسمر غامق ، لكنه كان شاطراً ، يعرف كيف يأتى بالجنيه من يد العفريت ، تعمدت رفض هداياه وعدم الاستجابة لإغراءاته ، أعطيته دشاً بارداً فى الأدب والذوق واحترام الزمالة عندما تتبعنى وحاول الحديث معى عقب خروجى من الوردية ، فرجت عليه الشارع كله لولا أن كثيراً من المارة كانوا يعرفونه وخلصوه من يدى ، عندما أرسل لي مع " جمالات " زميلتى رغبته فى الزواج، اعتقدت أن خطتى قد نجحت .

تزوجت عربي يوم أن هاج عساكر الأمن المركزى ومنعت الحكومة الناس من الخروج ، وأصر علي أن يدخل بى ، فدخلت " سكيتى " ، لم أر له أهلاً أو أقارب منذ أن عرفته ، طول عمره بطوله ، لم يحدثنى أبداً عن حياته السَّابقة ، وكلما جاءت السيرة وحاولت النبش فيها يسدها ويتهرب ، حتى الأولاد عندما كبروا حاولوا أن يعرفوا لكنهم فشلوا .

       كان يعرف كيف يجعلنى أستسلم له فى كل ما يريد ، لم أكن أعرف الفرق بين الطبيعى والشاذ فى علاقتى به ، كان يبدو لي حلماً ، شيئاً مبهراً ، عالماً سحرياً ، اكتشفت بعد عشرة طويلة أن خبرَاته كانت نتيجة لعلاقات مشبوهة .

ليس صحيحا أن نفورى منه - كما يشهر بى - بدأ بعد الحادثة التي جعلته كسيحاً، كانت سفرياته كثيرة ، ويبيت أياما فى البلاد التي يوزع فيها حصير المصنع ، كانت رائحة النجاسة تسبقه قبل أن يدخل البيت ، وكنت أصرخ فيه - ع الحمام - ، وحتى بعد أن يستحم لم تكن الرائحة تفارقه، كان يزهو بأنه يعرف المومسات والشراميط فى كل محافظة، وأنهن يعرفنه، لم يراع مشاعرى ، ولم يأبه لصدمتى فيه، رضيت بقسمتى معه من أجل البنتين والولد .

كان يقول لي إننى عبيطة ، لا أفهم الدنيا علي حقيقتها ، يدعي دائماً أن الحياة لم تعد نظيفة ، وأن الناس ليسوا كما أظن، وأن علينا أن نكون أوساخاً مثلهم ، قال لي ذات مرة :

  • لو عشت علي مرتب المصنع ها تشحتى انتِ وعيالك.

قلت له :

  • لو ما بتضيعش فلوسك فى الهلس والمسخرة ها نعيش كويسين.
  • عبيطة مش فاهمة حاجة .

كنت أصاب بالرعب كلما حكى لي جزءاً من حياته السرية ، كنت أبتعد عنه أكثر وأخشي علي العيال منه ، حكى لي أنه يأخذ سيارة المصنع ليلاً ويدور علي الأفران الحكومية التي تأخذ حصة من الدقيق المدعم ، يشتريه من صاحب الفرن بثمن أعلي ويبيعه للأفران الحرة ويحصل علي فارق كبير والكل كسبان ، ويقف السذج والكسالي أمثإلي أمام الأفران من صباحية ربنا حتى الظهر ، فلا يحصلون علي رغيف واحد، فكرت أن أُبلغ عنه مباحث التموين، وخفت من فضيحة العيال وخيبة أملهم فى أبيهم.

كانت صدمتى الأكبر عندما روى لي حكاية الحاجة مبروكة زوجة الحاج ضياء صاحب المصنع مع المهندس علاء ، أعرف الحاجة منذ أن كنت أعمل فى المصنع ، خيرة وسخية ، تحج مع زوجها كل عام ، لم تنجب فكانت تعطف علي الجميع وتعتبرنا أولادها ، حاول عربي الله يجحمه إقناعى أن بين الحاجة مبروكة وعلاء علاقة غير شريفة ، وأنهما يتقابلان كلما سافر الحاج ، وأنه الذي يدبر هذه اللقاءات والوحيد الذي ائتمنته الحاجة علي سرها مع المهندس ، وإنها لا تطيق الاستغناء عنه ، وأنها فكرت فى طلب الطلاق من الحاج ضيا، لكن عربي اقنعها بأن لا تفعل ، لأن الحاج لن يطلقها وقد يكتشف علاقتهما ، وأقنعها باستمرار الوضع ، ثرت فى وجهه :

  • يا أخى حرام عليك .. راعى ربنا مرة واحدة .
  • مش باقول لك عبيطة وفاكرة الناس ملايكة .
  • خاف يترد لك فى بناتك ومراتك .. مش يمكن حد يقول علي اللي بتقوله علي الحاجة مبروكة .

ضحك طويلا وقال :

  • الحمد الله بناتك طالعين شبهك .. خناشير، ما حدش ها يبص لهم .
  • والله لولا خوفى من ربنا لكنت فضحتك ، وعملت زيك ، ونمت مع طوب الأرض .

أشاح بوجهه وشوح بيده فى استهانة وقال :

  • ومين ها يبص لك .. أنا اتجوزتك يا ست الحاجة عشان مافيكيش الطمع .. أنام مستريح .. كان ممكن اتجوز ملكة جمال ، لكن لأ ، أمشي معاها آه ..أنام معاها ماشى ، لكن اتجوز ، تبقى واحدة زيك.

نبيل ابن صاحب الجراج

لازالت رخصة الجراج فى مجلس المدينة باسم أبي ، كان عربي يعمل سائقاً بمصنع الحاج ضيا الملاصق للجراج ، وعندما أصيب أعطاه الحاج تعويضاً ، وأصر علي إبعاده عن المصنع ، رافضاً توفير أى عمل يتناسب مع ظروفه الجديدة ، أشفق عليه أبي وعرض عليه أن يعمل معه فى الجراج ، من يومها لم يغادر عربي الجراج ليلاً أو نهاراً ، اعتاد الناس رؤيته في الجراج ، فانطبع فى الأذهان أنه جراج عربي .

استراح أبي لذلك وترك له الجراج ، واكتفى بالمرور عليه بين فترة وأخرى ليأخذ الإيراد ، ويطمئن علي الأحوال ، كانت الشيشة هى تسلية أبي الوحيدة قبل أن يعرف عربي ، وبعدها عرف الحشيش والأفيون، مع الوقت زاد عليه وجع الصدر ، حذره أكثر من طبيب فلم يهتم ، تحول الأمر إلي نوبات اختناق وضيق تنفس ، وأصبح نزيلاً مزمناً بمستشفى صدر العباسية.

فى الشهور الأولي التزم عربي بخصم راتبه من إيراد الجراج وإرسال الباقى إلينا، ثم بدأ الإيراد يقل ، وعندما بدأ أبي يغيب عن الوعى لفترات طويلة ، انقطع الإيراد تماماً، فاتحت أبي أن أذهب إليه لأطالبه بما عنده، رفض قائلاً :

- انت مش قد عربي .

منذ صغرى كان يرفض اصطحابي معه ، ويصر علي التفرغ للدراسة لأصبح شيئاً مهماً،حصلت علي بكالوريوس العلوم وظللت لفترة طويلة أبحث عن عمل دون جدوى، كان معاش أبي الذي كان يعمل فى شركة القاهرة للمنسوجات ، وأخرجوه مبكراً مع الخصخصة ، لايسد حاجة خمسة أفراد ، هم أنا وبنتين وأمي وأبي المريض.

رشحنى الشيخ سليمان جارنا للشيخ عرفة رئيس مجلس إدارة المجمع الإسلامي التابع للجمعية الشرعية لكي أعمل مدرساً للعلوم فى فصول التقوية الملحقة بالمسجد، كنت سعيداً بالعمل الذي لم يدم كثيراً ، كانت الفصول تتوقف مع كل آذان وينزل التلاميذ إلي صحن المسجد ، لم أكن أصلي وكنت أظل جالسَّا فى الفصل حتى يعودوا، عندما شعرت بالحرج ، بدأت أتسحب خارجاً من المبنى كله حتى تنتهى الصلاة، وأعود لاستكمال الحصة ، لاحظ الشيخ عرفة ذلك فاستدعاني ، أعطاني درساً فى عقوبة تارك الصلاة ، وأننى يجب أن أكون قدوة لتلاميذى فى الالتزام بالفرائض ، حذرنى أن ينهى عملي لو تكررت تصرفاتى تلك ، فأنهيته بنفسي وانقطعت.

ذهبت إلي الجراج دون علم أبي، كنا علي أبواب الشتاء والدنيا غائمة وأبي ساءت حالته ، لم يعد يفيق من غيبوبته ، وأصبحنا فى انتظار موته ، كانت جدران الجراج ملطخة ببوسترات دعاية لمرشح الحزب الوطنى الحاج سعد فودة ، رغم أن الانتخابات انتهت منذ شهرين ونجح الحاج سعد باكتساح مشكوك فيه أمام مرشح الإخوان المسلمين ،كانت الملصقات باهتة بفعل الشمس ، وكان عربي جالسَّا أمام العشَّة التي يعلوها لافتة قماش لنفس المرشح الذي أصبح نائباً، كان فارداً ساقيه علي أحد الكراسى والعكازان بجواره .

  • سلام عليكم ياحاج .

رد بفتور

  • وعليكم
  • أنا نبيل ابن شوقى صاحب الجراج .
  • عارف .. ازى أبوك ؟
  • تعبان .
  • ربنا يشفى .. خير ؟
  • قذف الكلب الذي كان ينبح بالقرب منه بحجر ، تفادى الكلب الحجر وظل ينبح فى مواجهته، قذفه بحجر آخر فلم يبتعد وظل ينبح، قلت :
  •  حضرتك من زمان ما دفعتلناش إيراد الجراج ، وانت عارف الظروف .

قذف الكلب الذي علا نباحه وهو يقول :

  • ماتغور، هو أنا ناقصك .

ثم نظر إلي دون أن يدعونى للجلوس

  • إيراد إيه يا أستاذ ! أصحاب العربيات بلطجوا من ساعة ما ابوك قطع رجله من الجراج .
  • معقول ياعم عربى العربيات الواقفة دى كلها مابتدفعش وهاتسيبها ؟
  • والله هات أبوك يقعد ويشوف بنفسه .

ساد الصمت بيننا لدقائق ، انشغل خلالها بالكلب الذي يصر علي النباح، فكرت أن أصرخ فيه ، أو استشهد ببعض السَّائقين الموجودين بجوار عرباتهم ، وأقول لهم إنه يقول إنهم لايدفعون إيجار الجراج ، أو أسبه وأقول له أنت حرامي ونصاب ، أكلت حق أبي المريض بين الحياة والموت و أنكرت جميله، لكننى لم أفعل .

 نظر إلي بفتور وقال :

  • انت لسَّا واقف ؟ اقعد اقعد ،بتشتغل إيه؟
  • ضابط أمن فى مصنع .
  • بكام؟
  • خمسمية جنيه فى الشهر .
  • أدى أخرة العلام فى البلد دى ، اسمع .. أبوك صاحب فضل، شايف الميكروباص البيضا اللي واقفة هناك دى ؟

قلت فى حدة

  • مالها؟
  • من بكرة تطلع بيها ، واللي تجيبه بالنص ، وسيبك من حكاية الأمن دى .
  • أنا معايا بكالوريوس علوم !!
  • جايب لك خمسمية جنيه في الشهر ،الميكروباص هايصفى لك بالميِّت خمسين جنيه فى اليوم.
  • دى عربية مين؟
  • ياسيدى انت مالك ، أنا عارف انك بتسوق كويس .
  • ما معاييش رخصة
  • رخصة إيه انت هاتطلع علي الخط بتاعنا المؤسسة إبراهيم بيه، لا فيه مرور ولا غيره ، ولو اتزنقت حط إيدك فى عشرة جنيه للعسكرى .

وافقت مقهورا ،كانت قناعتى تزداد كل يوم أن الميكروباص حق لنا ، وأن عربي اشتراه من مال أبي المسروق ، فكرت أكثر من مرة ألا أعود به ولم أجد الشجاعة، لذلك قررت أن استرد جزءاً من حقنا يوميا، كنت أغالطه فى الإيراد ولا أعطيه إلا الربع ، وأحيانا أقل ، الغريب انه لم يناقشنى ولم يعترض وهو يعلم جيداً أننى أسرقه .

توزع يومى بين العمل علي الخط ومرافقة أبي الذي طالت رقدته فى المستشفى ،إلي أن جاء يوم 25 يناير ، وشاهدت فى التليفزيون مظاهرات ميدان التحرير، من يومها أصبح الميدان هو طريقى الثالث ، كان دوى الشعب يريد إسقاط النظام ينتزعنى من أبي وعربي والشيخ الذي حرمنى من العمل فى المجمع الإسلامي، ولولا مرض أبي وحاجتنا لإيراد الميكروباص ، ما تركت الميدان ، أتذكر هذا اليوم جيداً ، الرابع من فبرَّاير بعد موقعة الجمل بيومين، كانت الدبابات قد عسكرت فى الشوارع ، وجنود الشرطة العسكرية متفرقين فى الميادين ، والحياة شبه متوقفة، كنت خارجاً من المستشفى منتويا التوجه إلي الميدان ، لا أذكر أننى كنت يوماً طرفاً فى خناقة ، ولم أشتبك بالإيدي يوماً مع أحد ، حتى فى الأيام الأولي للثورة ، كنت أقرب إلي المتفرج المشارك بقلبه ، ولا أعرف من أين جاءتنى هذه الحمية ، وجدت نفسي يوم الواقعة مندفعاً إلي الصف الأمامي ، أكسر بلاط الرصيف مع الشباب ، وأقذفه تجاه كوبرى أكتوبر ، وأختبيء خلف ألواح الصاج التي نخلعها من سور الميدان ، كان الطرف الآخر مجرد أشباح ، فأراهم عربي والشيخ ومدير مستشفى الصدر الذي يصر علي أن يخرج أبي من المستشفى ليموت فى البيت ليخلي سريره .    

    فى ذلك اليوم رن هاتفى المحمول ، وكان ذلك أمراً غريباً ، لأن الاتصالات كانت مقطوعة ، كان عربي يتكلم من رقم ليس رقمه المسجل عندي ، سألني :

  • انت فين ؟

سألته مندهشاً .

  • رقم مين دا وازَّاي بتتصل والتليفونات مقطوعة !
  • سيبك من الكلام دا انت فين ؟
  • فى المستشفى .
  • سيب كل حاجة وتعالي خد العربية وتعالي لي علي قسم تانى بسرعة.
  • ليه ؟
  • لما تيجى ها تعرف .

غيرت مسارى باتجاه الجراج ، أتساءل طوال الطريق كيف تمكن هذا الرجل من الاتصال بى وتليفونات البلد كلها خامدة ،وصلت الجراج وأخذت السيارة وذهبت باتجاه القسم.

كلما اقتربت كانت ألسنة لهب تبدو واضحة أعلي مبنى القسم والسنترال الملاصق له، سمعت طلقات رصاص ، ركنت السيارة بعيداً ، كانت حشود من الناس أمام مدخل القسم الذي وجدته مستباحاً ، رأيت الكثيرين يكبرون وهم يسحلون شابا من داخل القسم ، خلعوا ملابسه تماماً ،كتفوا يديه وقدميه وربطوه فى عامود الكهرباء ، منهم من كان يبصق فى وجهه ومن يركله بقدميه أو يصفعه علي وجهه ، والشاب مستسلم تماماً ، سألت فقال لي أحد الشباب الملتفين حوله :

  • دا ابن الشرموطة محمد ابو حشيش ظابط المباحث .

التفت لمن يدق علي كتفى ، كان عربي يتـــحنجل علي عكازيه، صرخ :

  • فين العربية؟
  • ركنتها بعيد .
  • هاتها بسرعة .
  • ازَّاي فى الولعة دى ؟
  • ما لكش دعوة ، اسمع الكلام .

دخلت بالسيارة وسط الناس ، وجدته يخرج باتجاهي مسرعاً ، يقود أربعة صبية يشير لهم علي السيارة ،كانوا يحملون أجهزة كمبيوتر وكراسى جلد ، فتحوا الباب ووضعوا مايحملونه بالسيارة وعادوا إلي داخل القسم ، خرجوا مرة أخرى يحملون بنادق وطبنجات صغيرة ، وقفت أمام الباب رافضاً فتحه ، نادى أحدهم علي عربي فجاء مسرعاً، كان العكازان وكانهما حصان يصهل تحته، قال فى حدة :

  • ابعد عن الباب.

قلت متحدياً:

  • مش ها يحصل .

أشار إليهم فأمسكوا بى ، ودفعونى بعيداً ، ورموا ما يحملون داخل السيارة ، حجل عربي مقترباً منى و قال :

  • ها تطلع بالعربية واللا تجيب المفاتيح .

    كانت المفاتيح لاتزال فى الكونتاكت ، جريت مسرعاً، فتحت باب السَّائق، انتزعتها وألقيتها بطول يدى ، فسقطت تائهة وسط المحتشدين أمام باب القسم ، قال وهو يجز علي أسنانه :

  •  حسابنا بعدين .

 أمر أتباعه أن يركبوا السيارة ، ألقى بالعكازين عند باب السَّائق ، زحف علي مرفقيه حتى صعد ، رأيته يخرج من جيبه سلسلة بها مفاتيح كثيرة ، ثم رأيت السيارة تتحرك.

 من يومها لم أره ، كل ما ربطنى به خلال ما يقرب من عام ونصف هو بلاغ قدمته للشرطة العسكرية، لا أعرف مصيره حتى الأن ،عن السلاح الذي سرقه من القسم ، واليوم فقط عرفت بقصة ذبحه وفصل رأسه التي تبحثون عنها ولا علاقة لي بهذا الأمر .

بسمة عربي دعبس

عذرته عندما وعيت ، وأدركت السبب الذي من أجله كره خلفة البنات ، قالت أمي أنه ظل عاماً كاملاً لم يحملنى أو يلاعينى إلاعندما ولد أخى صابر ، فلان قلبه.

عندما عرفت طريق المرآة وراقبت ملا محى وتفاصيل جسدي ، عرفت أنه كان متحسباً لهذا اليوم ، فمن الطبيعى أن يتزوج رجل مثل أبي إمراًة مثل أمي ، فتكون ذريتهما علي شاكلتي أنا وأخي وأختي ، سبحان الله ، نحن الخمسه كأننا اقتطعنا من قطعة لحم واحدة ، حتى أبي وأمي ، أراهما يشبهان بعضهما ، لذلك قررت ألا أتزوج إلا رجلاً جميلاً وإن لم أتزوج أبداً.

    بدأت البحث عنه فى وجوه كل الرجال فى كل الأماكن ، أستبعد هذا ، و أوافق علي هذا، وكأن الأمر بيدى ، تنقلت بين ورش الخياطه و الأحذية و محلات الملابس و المصانع إلي أن انتهى بى المطاف فى كوافير مدام عبير ، وظهر حسام

أشرت للتوكتوك فتوقف ، ركبته باتجاه الكوافير، كان سائقه يدندن مع أغنية شادية- قولوا لعين الشمس- قلت له :

  • حلوة الأغنية دى .

التفت إلي ، فرأيت وسامته ، قال :

  • باعشق أغاني شادية ، حبوبة ودمها زى العسل ، مش زى أغاني اليومين دول بتصدع الدماغ ،
  • مشغلها علي إيه ؟
  • كل أغاني شادية ونجاة وليلي مراد علي الكارت ميمورى بتاع الماكنة
  • ممكن أخده وارجعه لك بكرة ؟
  • تحت أمر حضرتك

توقف أمام الكوافير، فك الكارت وأعطاه لي ، تعمدت أن أطيل وقفتى أمامه ، أتملي قسمات وجهه وأتاكد من ملامحه ، تبادلنا أرقام الهواتف ، و اتفقنا علي أن أرن عليه عندما أنتهى من العمل ليعيدني إلي البيت .

فى الليل جاء حسب الاتفاق ، اتفقنا علي أن يأتينى فى اليوم التإلي ليوصلنى إلي الكوافير ، ثم انتهينا إلي اتفاق أن أذهب وأعود معه كل يوم ، بعد أيام اتصلت به قبل موعد الرجوع ، و طلبت منه المجيء ، خرجت من الكوافير و ركبت التوكتوك ، سألني :

  • خارجة بدرى ليه ؟
  • زهقانة ، اتخنقت ، م الشغل للبيت للشغل ، حياه مملة ما تتطاقش
  • حد ضايقك ؟
  •  لأ ، بس فى البيت أمي ما لهاش سيرة غير تاريخ ابويا الاسود ، نفسها نكرهه ، أخويا صابر اشترى دماغه وعاش مع الولية ام شلبى اللي أكبر من امه ، الله أعلم بقى اتجوزها واللا عايش معاها كدا ، وأكيد طبعاً جرِّت رجله للهباب اللي بتتاجر فيه ، والبنت الصغيرة خيبت أملي فيها و مش عاوزة حتى تاخد الدبلوم ، ومصرَّة تشتغل معايا وامها مشجعاها ، وفى الكوافير كل حيزبونة شكلها مايفرقش عنى كتير ، عاوزانى أخليها نانسى عجرم .
  • انتِ يا أبلة ليه بتقولي انك وحشة ؟ مع انك يعني مش كدا .
  • الله يجبر بخاطرك ياعم حسام ، وبلاش والنبى حكاية أبلة دى ، محسسانى انى أمك ،

ضحك بشدة وقال :

  • المهم .. علي فين ؟
  • أى مكان المهم مش البيت

ركن التوكتوك بجوار سور مستشفى ناصر ، وطلعنا علي الطريق ، أشار لميكروباص المظلات ، توقف السَّائق ، فأخذني أمامه ، شعرت بيده تدفعنى بحنو فارتعش جسدي كله ، لم أسأله إلي أين يذهب بى ، وان خمنت أننا فى طريقنا للكورنيش فلم أمانع ، تأبطت ذراعه وسرنا بمحاذاة سور الكورنيش ،عبرنا مبنى شرطة المسطحات ، كان الكورنيش خالياً إلا من بعض العشاق الذين لا تظهر وجوههم فى الظلام ، كشافات الأعمدة مطفأة ، فلا تعرف الذكر من الأنثى إلا بالحجاب يغطى رؤوس الإناث ، استوقفتنا أمرأةٌ شابة ترتدى عباءة وطرحة سوداء ، قالت :

  • كراسى يا بيه ؟

سار وراءها وسحبنى خلفه ، نزلنا من سلم ينحدر إلي أسفل السور ، جاءت المرأة بكرسيبن وترابيزة صغيرة ، نظرت حولي ، وجدت السور يدارينا تماماً ، ولانرى إلا سطح الماء الذي تهزه الريح ، فتترجرج الأمواج ، جاءت المرآة بكوبين من حمص الشام ، وضعتهما علي الترابيزة وقالت يصوت منخفض :

- خدوا راحتكم ..... ثم اختفت .

بدأ جسمى يرتعش ، أحاطنى بذراعه فملت برأسى علي صدره والتصقت به فلفنا الجاكت الذي يرتديه ، كان صمتنا جميلاً ودافئاً ، سألته :

- انت مابتشتغلش حاجة غير التوكتوك ؟

  • هى بلدنا فيها شغل ؟!

تمنيت أن يجيبنى عن سؤالٍ يحيرنى منذ أن عرفت أن الكون منقسم إلي رجل وأمراًة ، هل يمكن ان يشتهى رجل هذا الجسد الملخبط ؟ ، انتظرته أن يجيب ففعل، بدأت يده تتسحب فى جسدي ، لم أعترض بل كنت أزداد التصاقا به ، نسينا حمص الشام حتى خمد الدخان الصاعد من الكوبين ، اقتربت المراة تتسحب ، فكرت أن أبتعد عنه ، ضمنى بقوة فاستسلمت ، ابتعدت المرأة عندما وجدت الكوبين ما زالا مملؤين كما هما .

تكررت لقاءاتنا فى نفس المكان الذي أصبحنا نقصده مباشرة ، و أصبحت صاحبة حمص الشام مصدر أمان لي ، تعودت علي يده وهي تتجول فى جسمى ، تسيطر علي خيالي طفلة جميلة شقراء تشبه حسام تماماً ، أمشط لها شعرها الطويل الناعم ، وأتركه سائباً علي ظهرها ، لاتفارقنى أبداً ، أناديها "بسمة" ولست علي استعداد لفراقها .

عندما التصقنا آخر مرَّة تحت سور الكورنيش ، وأحسست بسخونة أنفاسه ، قررت أن أتمنَّع عليه ، طلبنى للخروج فرفضت ، أبدى دهشته وسألني عن السبب ، قلت :

  • ضميرى بيأنبنى ، اللي بنعمله دا حرام ، معصية ما ترضيش ربنا .
  • الحرام هو حرماننا من بعض ، وبعدين انا اتعلقت بيكِ وما اقدرش استغنى عنِّك .
  • وانا كمان ، بس مش فى الضلمة
  • يعني نتقابل قدام الناس ؟!
  • وماله ، علي الأقل أحترم نفسي ، أنا بدأت أكرهها واكره ضعفى معاك ، أنا عمرى ما حد لمسنى ، ولا كان ممكن يحصل الا معاك .

كنا قد اقتربنا من البيت ، قبل أن يوقف التوكتوك ، قلت فى حزم :

  • اسمع ياحسام .. ها اتصل بيك بكرة فى ميعاد الشغل عادي ، لو شايف انك مش ها تقدر تواجه بيا الناس ، واننى مش ها اشرَّفك ، ما تجيش ، أنا من ناحيتى ها استناك .

تركته ونزلت دون أن ألتفت إليه .

    عشت ليلة مرعبة ، أحاسب نفسي ، فألومها أحياناً وأرضى بما فعلته أحياناً ، أعاتب نفسي علي تسرعى الذي قد ينتهى بموت الطفلة الجميلة التي كادت تختفى ، ثم استحضرها و أمنى نفسي بأنه تعلق بى ولن يتركنى بهذه السهولة ، سيأتى فى الغد ، سأنتظره لو تأخر ، لن يتأخر ، سيأتى قبل أن أتصل به ،وربما يتصل قبلي ، فى المرة الأخيرة أسفل الكورنيش كان متوهجاً مشدوداً إلي بكل حواسه .

اتصلت به ، ودون انتظار خرجت ، كان قلبى ينسل منى ، وجدته ينتظر أمام البيت ، كدت أرتمى فى حضنه وأقبل كل جزء فيه ، سألته :

  • بقى لك كتير ؟
  • من بدرى .. ع الكوافير ؟
  • كوافير إيه " علي جراج عمك عربى .
  • ها نعمل إيه ؟
  • ها اقول له انى كسبت التحدى مع الدنيا ، هايفرح قوي
  • يا بنت الناس اهدى ، لما نشوف ها نعمل إيه ،وها نقول له إيه .
  • مش انت عاوزنى ؟
  • طبعاً .
  • خلاص ما لكش دعوة بأى حاجة .
  • يا حبيبتى ما حيلتيش اللضا .
  •  الله .. كلمة حبيبتى بترد روحى ، مخلياك أغنى شخص فى العالم ، سيبنى اتصرف فى كل حاجة .
  • ومين قال لك انى ها اقبل الكلام دا ؟
  • ها تقبل ، مش ها تهون عليك فرحتى علشان شكليات عبيطة ، انت مش قلت ان صاحب التوكتوك ها يبيعه ؟ ، خلاص ، ها نشتريه ، خد الغوايش دى بيعها و ها تشتغل عليه ليل نهار .

كنت لا أسمع إلا صوت الفرح ، خلعت الغوايش وحشرتهم فى جيبه ، قلت له :

  • ها تنزل معايا ؟
  • صبرك عليا ، انزلي انتِ فرحى ابوكِ ، وبعدين نرتب أمورنا علي مهلنا .

كان وحيداً كعادته ، قبلت رأسه ويده وجلست ، قال :

  • بنت يابسمة .. بوستك النهاردا طعمها أحلي من كل مرَّة ، فيه حاجة واللا إيه ؟

أنزلت وجهى فى الأرض وهززت رأسي ، قال :

  • وشك منوَّر ، شكلك كدا فيه أخبار حلوة .. يكونش حد اتعمى فى عينه ؟
  • وبعدين بقى ياعم عربي ،هو لسَّانك دا ما فيش فايدة فيه ؟
  • ودا مين اللي امه داعية عليه ؟
  • اسمه حسام
  • أعرفه ؟
  • هو يعرفك .
  • يا بنت الكلب أبوكى الدنيا كلها تعرفه ، ابن مين يعني ؟
  • ما اعرفش ، بيقولوا له حسام الإسرائيلي
  • ابن سليمان الإسرائيلي؟
  •  تقريباً، تعرفه ؟

أعرف أبوه وامه ، هى امه لسَّا عايشة ؟

  • ما سألتوش .
  • دا عليه حتة أم يا بنت يا بسمة ، لو عايشة وحتى عندها ميت سنة، تخلي أبوكِ المكسَّح دا رهوان ، دا انا حفيت وراها انا وكل عتاولة شبرَّا ، هوشكل ابوه ؟ ، أحمرانى كدا ؟
  • زى القمر .
  • يبقى طالع لامه
  • الظاهر أمي عندها حق فى كل اللي بتقوله عنَّك .
  • أمك ! ، هى دى ست ؟ ، الفرق بين أمك ومرات الإسرائيلي زى الفرق بين مشتل بهتيم وبيارة الصرف الصحى بتاعة شارع المجارى ، ودا شافك فين ؟
  • عنده توكتوك .

ظروفه كويسة ؟

  • تتدبر ياعم الحاج ، المهم انه طيب وابن حلال وراضى بيَّا .
  • ابن حلال دى بقى الله اعلم ، بس كفاية انه ابن مرات الإسرائيلي ، كان نفسي اقطرها واعرف قرارها ، لكن عمرها ما خرجت لوحدها ، بس إيه يابت كانت فرسة ، الطول والعرض ، والشعر اللي بطول ضهرها ، والمينى جيب والبلوزات الكت ، ما كانش لسَّا فيه حجاب ولا خمار ولا نقاب ولا الحاجات اللي النسوان متكفنة بيها الأيام دى ، باقول لك إيه ،قومى معايا، فرحة بفرحة بقى .

تسند علي العكازين، ووقف متجهاً ناحية الزاوية ، خلع الشبشب ودخل ، توقفت أمام الباب ،علا صوته .

  • ماتدخلي يا بت .
  • ما ينفعش .
  • هو إيه اللي ما ينفعش ؟ باقول لك خشِّي .
  • صدقنى ما ينفعش أدخل جامع .
  • عليكِ الدورة ؟ وإيه يعني ، هو حد بيصلِّي هنا غير الواد سلامة ؟ ، خشِّي خشِّي .

خلعت الحذاء ودخلت خلفه حتى وصلنا إلي الميضا ، عبارة عن مبولة وحوضين ، وعين واحدة للاستنجاء ، اقترب من أحد الحوضين وجلس أسفله ، لاحظت أن حنفية الحوض منزوعة وموضوع مكانها طبَّة تسد الفتحة ، أخرج من جيبه مشرطاً صغيًرا ، وبدأ ينزع دوبارة سميكة ملفوفة حول كوع الحوض ، ثم بدا يلف الكوع حتى انفصل عن جسم الحوض ، مد ذراعه داخل الكوع و أخرج كيس بلاستيك أسود ، نظر إلي وهو يلهث .

  • أقعدى .

جلست إلي جواره مشدودة إلي ما يفعله ، أفرغ الكيس فسقطت رزمتان من نقودٍ ورقيَّة ، فزعت ، و صحت :

  • إيه دول ؟
  • فلوسك يا بسمة ، عشرتلاف جنيه ، باحوِّش لك فيهم من يوم ما حلمت اشوفك عروسة .
  • مش خايف يتسرقوا ؟ .. بذمتك حد عاقل يشيل فلوس فى المكان دا ؟
  • وهو فيه حد عاقل يدور علي فلوس فى المكان دا ؟ ، وبعدين هوانا باسيب الجراج ؟ ، باطَّمن عليهم فجر وضهر وعصر ومغرب وعشا، المهم ان ما حدِّش عارف الحكاية دى إلا انا وانتِ، لو فضلت عايش وموضوع جوازك تم ، ها يبقوا من إيدي لإيدك ، تعملي بيهم اللي يعجبك ، و لومت انتِ عارفة المكان .
  • ربنا يطوِّل لي فى عمرك ، الحمد لله مستورة ، باكسب كويس من الكوافير ومجهزة نفسي ، شيلهم من المكان دا ما تقلقنيش عليك .
  • ما تحرمينيش يا بنتي من الإحساس بإني ابوكى ولسَّا مسئول عنِّك .

أعاد النقود إلي الكيس ، وضعه داخل الكوع وأعاد ربطه بالحوض ، قَبَّلت يده ورأسه وحملته من تحت إبطيه ، وضعت تحتهما العكازين وتركته مسرعة متجهة للخروج ، سمعت صوته لآخر مرة وهو يمزح :

  • خلي حسام يسلم لي علي أمه علي ما اشوفها .

 كان حسام ينتظرنى عند أول الشارع ، كنت مرتبكة تائهة ، أذهلنى هذا الرجل ، اكتشفت أنى لم أكن أعرفه ، وأن كل ما حكته أمي عنه لن يكرِّهنى فيه .

اكتشفت عندما خلوت بنفسي فى البيت أننى حكيت لحسام كل ما دار مع أبي ، حتى السر الذي ائتمنني عليه ، ولا أعتقد أن حسام يمكن ان يكون القاتل ، وإلا أكون شريكة له ، شاب جميل بكل رومانسيته ووسامته ، كيف يطاوعه قلبه أن يذبح رجلاً عاجزاً ! ، ولو قتله من أجل سرقته ، فلماذا يذبحه ويُخْفي رأسه ؟ .

حسام الإسرائيلي

 (بسمة دى زى الفسيخ ، نفسك تروح له مرة فى السنة ، ولا يمكن تعيش عليه ، إزَّاي صور لها خيالها انى ممكن أرتبط بيها بعد كل اللي عرفتهم ! ، مطلقات وأرامل وعوانس ، واللي متجوزة ووقعت فى غرأمي و بنات صغيَّرين زى القمر ، آجي علي آخر الزمن أتدبس فى بسمة؟ ، وعشان إيه يعني ؟ ، ما كل واحدة عرفتها دفعت لي تمن التوكتوك وهو بتاعى أصلاً .

لما رفضت تقابلنى وشغلت اسطوانة الشرف والمعصية والحرام ، قررت اجاريها ، وأنا عارف ان ها ييجى يوم افك منها وانهى الموضوع ، والحجج كتيرة ، لكن بعد ما أقلبها فى قرشين ).

لست أنا الذي يغامر بحياته ويقتل رجلاً مثل عربي من أجل الفلوس ، أحصل عليها بيسر ودون أدنى مشقة ، عندما حكت لي بسمة عن الفلوس التي يخفيها فى الزاوية ، كنت علي ثقة أننى سأحصل عليها عن طريق بسمة ، وبدأت أفكر كيف أقنعها أن تأخذهم منه وتعطيهم لي، لكن ما حدث سبق تفكيرى ، أما عن أمي فقد ماتت ، تلك الفاتنة التي حكى عربي عنها لابنته ، لم أرها إلا فى ألبومات الصور وذكريات الأب الذي طالما تغنى بحسنها ، أمي التي وعيت عليها كانت أمرأةً أخرى ، لا تغادر الفراش إلا ثلاث مرات ، مرتان للغسيل الكلوى ، والثالثة ظلت سراً بينهما لسنوات حتى أفصحا عنه ، كان أبي يصطحبها صباح كل أحد إلي الكنيسة ، فقد كانت أمي قبطية اشترطت عليه أن تظل علي دينها شرطاً لقبول الزواج ، فهمنا سبب عزوفها عن الاختلاط بالجيران ، ومر الأمر علينا بسرعة ، لم نتوقف عنده كثيراً، فلم نكن أسرةً متدينةً بالدرجة التي تجعل هذا الموضوع مصيرياً ، أخذ أبي علينا عهداً ، وجعلنا نقسم ألا نفشى سر أمنا لأحد حتى لا نتعرض للمشاكل .

أتذكر الآن أن أمي كانت أكثرنا سماعاً للقرآن ، كان يهزها آداء الشيخ الحصرى ، و وتقول إنه يرتل القران وكأنه يوحى إليه، و إن صوته يهز القلب .

أصبحت أنوب عن أبي كثيراً فى اصطحابها إلي الكنيسة ، كانت ترفض أن أدخل معها، و تصر أن أنتظرها خارج السور وفاءً لعهدها الذي قطعته لأبي، ولأنها أيضا لا تريد لنا ذلك.

عندما أصيبت بالفشل الكلوى ، فشلت محاولات أبي فى الحصول علي قرار علاج علي نفقة الدولة ، ومصاريف العلاج كانت فوق طاقتنا ، كنت أسهم بكل ما يأتينى من وراء النساء اللاتى أعرفهن ، ولكنها لم تكن تكفي شيئاً ، لجأ أبي إلي الحاج سعد نائب الدائرة وصاحب مصانع النسيج التي يعمل أبي نساجا فى إحداها ، فوعده أن يتدخل مباشرة لدى وزير الصحة، وتوقف الأمر عند الوعد.

اضطر أبي للسفر إلي بلدته فى المنصورة التي لم يدخلها منذ أن قاطعه أهله وأهل أمي اعتراضا علي زواجهما ، فهجا من البلد ولم يدخلاها من يومها ، كان أبي فلاحاً يزرع أرضه مع إخوته ، وكانت أمي هي البنت الوحيدة للمقدس سمعان ، صاحب دكان البقالة الوحيد فى البلد ، والذي كان موافقاً علي الزواج بشرط أن يوافق أهل أبي الذين رفضوا تماماً .

تنازل أبي عن حقه لإخوته ، وأخذ منهم ما قدَّروه وعاد بالثمن ، فاجأته أمي بأن كاهن الكنيسة اتصل بها وأبلغها أن الكنيسة ستتكفل بمصاريف الغسيل كاملة ، لم أر أمي مصدر الغواية كما صورها عربي ، رايت الوجه الملائكى والجسد الفائر أنوثة ، قد تحول إلي هيكل عظمى مكسو بطبقة من جلد أزرق باهت ، تعود من الغسيل شبحاً ، لا يصدق أحد أن هذا الجسد البالي كان يوماً لأمراًة فاتنة كانت مطمعا لرجال كثيرين علي حد قول ذلك الكسيح الذي يستحق ما ناله من الدنيا ، استسلمتُ كثيراً لنوبات زهد ، كلما رأيت أمي تتلاشى وتبتعد ، أتوصل إلي أن جسدي هذا ووسامتى التي تفتن النساء وأتكسب منها ، ستزول يوماً طال أو قصر ،أعاهد نفسي أن أقطع علاقتى بما فات وأبداً حياة أخرى ، أركن التوكتوك واظل أياماً طويلة ابحث فيها عن عمل آخر ،و عن بنت حلال أتزوجها ، لكن لا يطول الوقت و يهزمنى الشيطان ، مازحت أمي مرة وهى تستمع إلي الشيخ الحصرى وقلت لها :

- ليه ما تسلميش؟

 لم أكن جاداً ، ولايعنينى كثيراً هذا الأمر .

 قالت بهدوء :

- أنا قبطية مسلمة

- هو ينفع ؟

- الأديان كلها طرق للرب ، الإسلام زى المسيحية زى إليهودية كلهم نور لهداية الإنسان .

- مش فاهم ، أنا أعرف إن المسلم هو اللي يقول أشهد أن لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .

 فوجئت بها تردد :

- أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن عيسى رسول الله وأن موسى رسول الله .

كان أبي جالسَّا معنا ، نَظَرْت إليه وقالت :

- عايزه اتدفن فى ترب المسلمين يا بوحسام .

 بانت المفاجأة علي أبي ، وقال بابتسامة غير مقنعة .

 - انتِ اللي ها تدفنينا يا ام حسام ، وبعدين اللي بيموت مابيحسش مدفون فين .

- اعتبروها وصيتى يا ولاد ، عشان ما اتحرمش من زيارتكم لو اندفنت فى الكنيسة .

لم أعرف أن أبي أخذ الأمر مأخذ الجد إلا عندما فاتحنى فى نيته بناء مدفن لنا ، فى البداية اعتبرت الأمر شؤما ، وتحت إلحاحه بدأت معه البحث عن موقع للمدفن ، فقد كنا نعرف أن أجل أمي قريب ، دون أن يجرؤ أحدنا علي التصريح للآخر ، وجدت إعلانا علي سور المستشفى عن بيع أراضى مقابر علي حدود بهتيم ، دوَّنت الرقم واتصلت ، حددت موعداً واصطحبت أبي واشتريناها .

فرحت أمي بالخبر ، وشجعتنا علي الإسراع ، كنت أذهب مع أبي بالتوكتوك لنتابع البناء ، حتى انتهينا من بناء عينين ، إحداهما للرجال ، وأخرى للنساء ، لم أجرؤ لحظة واحدة علي نزول القبر ، كتبنا عليه مدفن أسرة سليمان حسنين الخولي .

أصرت علي رؤية المدفن ، أخذتهما بالتوكتوك ، أول ما دخلنا منطقة المدافن ورأت المبانى الكثيرة ، والعمال يبنون مدافن لم تكتمل ، قالت :

  • دى ونس خالص ، مدافن بلدنا علي ما اوعى، كانت تخوف

فتح أبي الباب الحديدى بالمفتاح ، ودخلنا إلي الحوش ، فاجأتنا باصرارها علي فتح المقبرة ، رفض أبي ، ثم لان تحت ضغطها ، نادى علي التُرَبي ، الذي ما أن رآنا حتى وقف أمام الباب ، اشتركنا فى رفع الحجر الأسمنتى الضخم الذي يسد باب المقبرة ، ثم أزاح التُرَبي باباً خشبياً صغيراً ، أشبه بالشباك ، اندفعت أمي بيننا وهى تنظر إلي الداخل ، لم يكن أمام أعيننا إلا ظلاما ، قالت للتربى .

- نزلنى يا حاج .

قال مستغربا :

- ضلمة يا ست هانم ، ومش هاتشوفى حاجة .

قالت :

 - برضه ها انزل .

نظر الرجل إلي أبي الذي انفعل عليها صارخاً .

- بلاش جنان ها تنزلي فين ؟

       فتحت حقيبة يدها وأخرجت شمعة طويلة، أضاءتها وقالت :

- حد ها ينزل معايا ؟ .

       عاود التُرَبي النظر إلى أبي ، رآه معدوم الحيلة ، فسبقها ومشت خلفه حاملة الشمعة المضيئة ، سارت حتى جداًر المقبرة ، كانت المرة الأولي التي أضطر فيها للنظر بداخلها ، لم أجد إلا رملاً ، رأيناها تجلس مستندة بظهرها علي الجداًر ، ثم فردت جسدها علي الرمل ، انتابنى شعور بأنها ستموت الآن داخل المقبرة ، وسرح خيالي ، ماذا لو ماتت فعلاً داخل المقبرة؟ ، لمحتها تخرج شيئاً من صدرها لم أتبينه جيداً ، أ شك أنه الصليب الذي كانت تخفيه وأظهرته لنا فى البيت بعد أن عرفنا أنها قبطية .

صرخ أبي من مكانه أعلى الباب :

 - كفاية كدا بقى ، إرحمي نفسك وارحمينا .

       خرجت ثابتة بينما كنا نرتعش ، التفتت إلي التُرَبي و قالت وهى تضع فى يده كل ما فى (البوك) :

- أنا ها اموت قرِّيب يا حاج ، وها اندفن هنا ، وصيتى ما تقطعش عنى القرآن .

عدنا صامتين ، أوصلتهما للبيت ، وقبل أن أتحرك قالت :

- ما تروحش بعيد .

لم يطل الوقت ، فى نفس اليوم ماتت أمي ، ماتت التي قال عربي لابنته إنه يشك فى أننى ابن حلال ، ربنا يسامحه .

منير توفيق: مدير عام بالسكة الحديد

اكتشفت بعد أن تخطيت الخمسين ، أننى لم أكن أحلم عندما كنت صغيراً ، وأنجح فى المدرسة دون انقطاع ، عكس آخى الأكبر منى ، كنت أحتار عندما يسألني المحيطين بى " عاوز تطلع إيه ؟ " ، كان زملائي يجيبون الإجابات التقليدية لمن فى مثل أعمارنا ، فى الابتدائية والإعدادية ، دائماً يرى كل واحدٍ نفسه طبيباً أو مهندساً أو طياراً ، إلا أنا ، لم أجد فى نفسي ميلاً لشيء ، منا من صَدَق فى حُلمه عندما كبر ، مثل إبراهيم حسان ، الذي كان يردد أنه سيصبح مرشداً سياحياً ، ورغم أن مجموعه فى الثانوية لم يؤهله لكلية السياحة ودخل التجارة، إلا أنه اتجه بعد التخرج للعمل فى السياحة، و نجح فى عمله ، ولف العالم كله ، ثم فتح شركةً خاصة ، أصبح لها سمعة طيبة ، كان دائماً ما يتصل بى ، يطلب مني أن أستقيل من عملي فى هيئة السكة الحديد ، أو احصل علي أجازة بدون مرتب لأعمل معه بثلاثة أضعاف مرتبى ، كنت قد رتبت نفسي علي عملي فى الهيئة ، ولا أرغب فى المغامرة فى عمل آخر ، والحمد لله ربنا ستر ، فقد توقفت السياحة كلها بعد الثورة والانفلات الأمنى .

أما زميلنا سند هاشم، فقد كان يحلم بان يكون مطربا، وكان منذ صغره يتمتع بصوتٍ جميلٍ ، وموهبةٍ فى حفظ أغاني عبد الحليم حافظ ومحرم فؤاد ، كان يؤديها لنا فيبهرنا ، كان يدهشنا بالقمصان المشجَّرة ، والبنطلون الشارلستون الضيق من أعلي والواسع من أسفل، وتسريحة الخنافس لشعره الطويل الناعم ، كان نجماً للحفلات المدرسية ، ثم انقطعت أخباره ، إلي أن فوجئت أنه استشيخ وحول موهبته لتلاوة القرآن وإمامة الناس فى أحد المساجد الكبرى .

عندما كثرت الفضائيات الدينية رأيته علي إحداها ، فواظبت علي برنامجه اليومى ، كان حديثه جذاباً يشرح الصدر ، خاصة عندما يستشهد بآيات من القرآن ويرتلها بصوته الجميل ، كنت أتفرس وجهه المختفى تحت اللحية الثقيلة السوداء ، أفتش عن ملامح سند هاشم ، ذلك الصبى الطلوق الحبوب المرح الذي تعاكسه البنات ويعيش دور النجم وفتى الأحلام .

صلَّيت التراويح خلفه أول مرة في رمضان قبل الماضى ، عذرت الآلاف التي تصلي خلفه فتملأ المسجد وتسد الشارع ، كان صوته شجيا يدفع مَن خلفه للبكاء ، انتظرت طويلاً عقب الصلاة لأراه ، متمنيا أن يتذكرنى ، لم تنفض الناس من حوله ، يتبركون بالسلام عليه وتقبيل يده وكتفه ، اقتربت منه ، صافحته فصافحنى مثل غيرى ، انصرفت وواظبت من يومها علي الصلاة خلفه آملا أن أذكره بنفسي .

بدأت علاقتى ب عربي عندما رضخت لإلحاح البنتين وأمهما لشراء سيارة ، خاصة بعد أن رقيت لدرجة مدير عام ، والتي لم أسع إليها يوماً ، ولم تضف لي شيئاً ، فما زلت أشعر أننى ذلك الموظف الصغير الذي عليه أن يتقن عمله ليرضى من حوله ، ويسعد بإطرائهم وشكرهم له

أصبحت أتابع كل الملفات والسجلات بنفسي ، وأراجع أعمال المرؤوسين ، بل أن بعضهم لا يزال يتصرف معى مثلما كنت زميلا لهم ، يأتينى بالملفات التي لم تنته ويرجوني أن أستكملها ، ومازلت أجد متعة فى ذلك .

كنت أتهرب من البنتين وأمهما ، فأدعى حجة تلو الأخرى ، مثل القدرة المالية أو عدم المعرفة بالسواقة .

 فاجأتنى سناء بإصرارها علي اقتناء سيارة ، أبدت استعدادها لسحب ما فى دفاتر التوفير الخاصة بها وببنتيها وبيع ذهبها حتى لا نكسر نِفس البنتين ، ونحقق لهما أملهما .

قالت إن مسألة تعلم السواقة ليست عقبة صعبة تمنعنا من أن يكون عندنا سيارة مثل من هم فى مستوانا ، فهى مدرسة أولي بمدرسة شبرَّا الإعدادية ، وتكسب من الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية الكثير ، وأنا أصبحت مديراً عاماً ، ولبنى تخرجت من كلية الآداب ، و مرشحة للعمل كمترجمة ، أوعلى الأقل مدرسة لغة انجليزية، ثم إنها علي وش زواج ، وعفاف دخلت كلية الإعلام ، وتنوى أن تكون صحفية أو مذيعة فى التليفزيون ، فالبنت جميلة وقارئة نهمة ، وأكثرنا ثقافة وإلماماً بما يدور حولنا ، ولها آراء قاطعة فى السياسة والدين .

لم أجد مفراً ، وطبعاً لا أعرف الطريق لشراء السيارة ، وليس معقولاً ، ولا فى قدرتنا أن نشتريها جديدة ، وأنا لا أفهم فى مثل هذه الأمور .

استعنت بأخى مصطفى الذي يعمل نجاراً ، وله اتصالات وأدرى منى بالناس ، فدلنى علي عربي واتفقنا أن نذهب إليه فى الجراج .

لم أجد جراجاً بالشكل المعروف ، مجرد ممر ترابي طويل يفصل بين سور شركة ناروبين والمدرسة العسكرية ، تتراص فيه السيارات علي جانبيه بامتداد الشارع ، حتى تتوقف عند عشة عربي، التي تقف عند منحنى يبدأ منه شارع آخر يضم مجموعة مصانع البلاستيك .

وقفت أنا ومصطفى أمام العشة ، لم يكن موجوداً ، نادى مصطفى فى الفراغ :

  • ياحاج عربي .

لم يرد أحد ، دخل مصطفى العشة ، وخرج مسرعاً يمسك أنفه ، و قال

  • مش جوا ، ياساتر .. إيه الريحة دى ، دا عايش هنا ازَّاي؟!

ظهر عربي قادماً من ناحية المصانع ، يحجل علي عكازين ، همست فى أذن مصطفى :

  • هوّ دا ؟!

ضحك وقال :

  • يجعل سره فى أعجز خلقه .

كلما اقترب منا كنت أهم بإلغاء الفكرة ، لكنه كان قد أصبح أمامنا قائلاً :

  • أهلاً وسهلاً .. خير .

قال مصطفى:

  • جايين لك من طرف مسعد دوكو .
  • يا مرحب .. اتفضلوا .

      ركن عكازيه ، وارتكن بكفيه علي الدكة وجلس ، حاولت مساعدته فقال :

  • ما تتعبش نفسك يا أستاذ .

       جلست أنا ومصطفى علي الكرسيين الخيزران ، و قال مصطفى :

  • أخويا منير مدير عام فى السكه الحديد ، عاوز يشترى عربية ، والاسطى مسعد دلنا عليك وشكر لنا فيك .
  • تحت أمركم .. طلباتك يا منير بيه ؟
  • يعني ياحاج .. حاجة معقولة ، تكون حالتها كويسة وسعرها مهاود .
  • ميَّتك إيه ؟

       لم أفهم قصده ، فضحك مصطفى و قال :

  • يعني إمكانياتك كام ؟
  • من 20 ل25 ما يزيدش عن كدا .
  • ربنا يسهل ، سيبوا لي تليفوناتكم وان شاء الله خير .

اتصل بعد يومين ، أخذت مصطفى وذهبنا إليه ، عرَّفنى على صاحب سيارة يريد بيعها، كانت متوقفة أمام باب العشة ، قال مصطفى :

  • علي ضمانتك يا حاج ؟
  • علي ضمانتي ، وزيادة فى التأكيد هاتوا ميكانيكي يشوفها ويرفع الموتور .
  • البركة فيك ياعم عربي إحنا واثقين فيك .

       أخرج نوتة تليفونات صغيرة من جيبه ، طلب رقماً ، وسمعناه يقول :

  • إنت فين يا اسطى عاوزينك فى الجراج حالاً .

 اخبرنا أنه اتصل بميكانيكي يثق فيه ، جاء الرجل وعاين السيارة ، وأكد لنا أن حالتها جيدة ، و أن السعر معقول ، فاتفقنا علي البدء فى إجراءات نقل الملكية ، و قلت له :

  •  كمل جميلك بقى ودلنا علي مركز كويس لتعليم السواقة .
  • بانت عليه علامات الدهشة وقال :
  • هو حضرتك ما بتعرفش تسوق ؟! .
  • عمرى ما ركبت عربية .

ضحك بشدة ، فبان داخل فمه الخالي تماماً إلا من نابين طويلين وقال :

  • أول مرَّة تعدى عليَّ الحكاية دى ، عموماً ما تقلقش ، نخلص الأوراق وكل حاجة تتحل .
  • ازَّاي ؟ .
  • تيجى لي الجراج كل يوم الصبح بدرى قبل الزحمة،وانا ها اتصرف .

أنهيت الإجراءات ، وأصبحت صاحب سيارة لا يعرف كيف تسير ذهبت إليه كما اتفقنا ، كنت أظنه سيدبر من يعلمنى ، فوجئت به يقذف بالعكازين إلي داخل السيارة ، ويحشر نفسه علي كرسى السَّائق ويأمرنى أن اجلس بجواره ، ظهرت علي الدهشة فقال :

  • ما تقلقش ، اركب .

       أدار السيارة وتحرك بها، بدأ يشرح لي أثناء السير، مع الوقت بدأت الدهشة تزول ، اكتشفت أنه ماهر يعرف كل التفاصيل ، كنت مرعوبا ، وكان يحفظ المطبات والحفر ومداخل الشوارع ومخارجها ، بمرور الأيام كنت أقترب من السيارة ، وإن لم تفارقنى الرهبة، كنت أحكى ما يحدث يوميا لسناء والبنـتين فيشاركننى الدهشة. عرضت سناء أن ترافقنا لترى بنفسها ، وترى البنتان والدهما يقود السيارة ، كان الثلاثة يجلسن فى المقعد الخلفى يلاحظن فى صمت تعليماته لي ، ثم بدأن تدريجيا يألفن عربي ويتحدثن إليه ، بل ويمزحن معه أحيانا .

فوجئت بسناء تطلب منه أن يعلِّمها قائلة :

  • إنت لقطة يا عم عربي ، مش ها سيبك غير لما تعلمني .
  • تحت أمر حضرتك ، وقت ماتحبي .

تدخلت عفاف قائلاً :

  • ماما شاطرة ياعم عربي ، أشطر من بابا .

       رحبت بالفكرة ، وأردت توريط سناء فيها، فقلت:

  • من بكرة تبدأوا ، أنا يوم وهى يوم .

فى اليوم التإلي ذهبت معها إلي الجراج ، ركبت فى المقعد الخلفى ، وسناء إلي جواره ، وبدأ معها الدرس من أوله ، فى الأيام التالية كانت سناء تذهب بمفردها ، لأننى كنت أسبب لها ارتباكاً كلما أخطأت ، فاتفقنا ألا أرافقهما ، كانت تعود سعيدة تحكى عن تقدمها ، وأنها بدأت تقود السيارة بمفردها دون تدخل عربي ، وكان يثنى علي ذكائها وشطارتها ، فاجأني بعد أن أنهينا يوماً تدريبياً بقوله :

  • جهز لنا بكرة ألف جنيه .

كان الطلب صادماً ، فانا أدفع له بسخاء ، وسناء تخبرنى أنها تشفق علي حالته ولا تبخل عليه ، سألته :

  • ليه؟
  • ها تعرف بكرة ، ها نخلص لك مصلحه مهمة .

فوجئت به فى اليوم التالي يتوقف بالسيارة أمام إدارة المرور ويقول :

  • النهاردا انشاء الله ها يكون معاك رخصة .
  • انا لسَّا باقول يا هادى ، وأكيد ها اسقط فى الامتحان .
  • أخرج هاتفه المحمول وطلب رقماً ، وسمعته يقول :
  • مستنيينك برَّا ، ما تتأخرش علينا .

سألته :

  • مين دا ؟
  • الأستاذ عبد الله موظف كبير فى المرور ، سلمه الفلوس واعمل اللي يقول لك عليه .

       قبل أن أناقشه وجدت شاباً فى الأربعينات ، طويل وجهه محمر ، يرتدى نظارة شمسية أسفل شعره المسبسب بعناية ، ذكرنى بالقيادات العليا للهيئة ، سلم علينا ، غمز عربي بعينه فسلمت الرجل المظروف .

لم أكن مستريحاً لما أفعل ، لكننى لم أعترض ، أعطاني عبد الله بعض النماذج المطبوعة فملأتها ، ثم جرِّنى من يدى و دخلنا المبنى المزدحم عن آخره أمام شبابيك طويلة ، مررنا بجوارها إلي طرقةٍ مكدسةٍ بمكاتبٍ فوقها ملفاتٌ كثيرة ، سرت وراءه حتى دخلنا إحدى الحجرات، لم يكن بها سوى جندي يجلس بزيِّه الميرى أمام جهاز كمبيوتر ، انحنى عبد الله علي أذنه ، فدعاني الجندي للجلوس بجواره وقال :

  • ودنك معايا ودوس علي الرقم اللي تسمعه .

       كان السؤال يظهر علي الشاشة ، وقبل أن اقرأه أسمع الجندى يقول رقماً ، فأدوس عليه فى لوحة المفاتيح ، يتغير السؤال ، فأسمعه يقول رقماً فأدوس عليه ، و أخيراً قال :

  • شكراً يا أستاذ .

 أخذني عبد الله من يدى وقال :

  • مبروك ،عدينا الإشارات

ظللت سائراً خلفه لا أفهم ماذا يحدث ، توقف أمام باب زجآجي مكتوب علي لافتته الصغيرة عبارة " رئيس الوحدة " ، لمحت بداخله ضابطاً برتبة مقدم يجلس خلف مكتبه ، تركنى عبد الله ودخل ، فلم يعترضه الجندى الواقف أمام الباب ، مانعاً في نفس الوقت الكثيرين من الدخول للضابط .

تحدث عبدالله قليلاً مع الضابط ثم أشار لي ، وعندما اقتربت من الباب أشار للجندى ، فتركنى أدخل ، سألني الضابط :

  • بتشتغل إيه يا أستاذ منير؟
  • مدير عام فى هيئة السكة الحديد .
  • بتسوق كويس ؟ .

       نظرت إلي عبد الله ، هز رأسه فقلت :

  • آه .

       وقع الضابط علي النموذج الموضوع أمامه ، أعطاه لعبد الله ، وسمعته يقول :

  • - خده يتصور .

       عندما خرجنا من الحجرة الزجاجية،وضع يده علي كتفى .

  • خلاص يا عم ، رايحين نطلَّع الرخصة .
  • وامتحان السواقة !
  • ما انت امتحنت ونجحت،مش قلت للظابط انك بتعرف تسوق .

      كان عربي ينتظرنا فى السيارة ، فقال له :

 - بركاتك ياعم عربي .

حتى الأن لا أجد سبباً مقنعاً لانصراف سناء عن تعلم السواقه ، امتنعت عن التدريب ، وأصبحت تتجنب الحديث عن السيارة ، كلما سألتها كانت تتهرب بردود من نوعية زهقت .. مش مستريحة ، ألححت عليها ، فقالت فى حدة :

  • إنسى الموضوع دا .
  •  عربي ضايقك؟
  • لأ ، أنا اللي صرفت نظر

سألت عربي فنفى تماماً أن يكون علي علم بسبب امتناعها الفجائي ، أصبح الأمر لغزاً ، شغلنى لفترة ثم نسيت الأمر .

فتحت باب السيارة انتظاراً لقدوم عربي من عشته ، سمعت صوتا غريباً أسفل السيارة ، نظرت تحتها فرأيت أربعة كلاب صغيرة تلتف حول نفسها فى دائرة متشابكة ، أشرت إليه أن يسرع ، عندما وصل أخبرته بما رأيت ، انحنى ناظراً أسفل السيارة وقال :

- بنت الكلب عملتها برضه .. ولدت تحت العربية .

استند علي عكازه الأيسر ومد الأيمن أسفل السيارة ، وبدأ يجر الكلاب ، فجأة .. انشقت الأرض عن الكلبة الأم ، تطير باتجاهنا وتنبح بصوتٍ عالٍ ، قفزت داخل السيارة بينما ثبت

عربي مكانه ، وجدت الكلبة عند رقبته ، أمسكت بلحمه حتى سقط علي الأرض ، وجرته بعيداً وهو يصرخ .

دخلت الكلبة تحت السيارة ، سحبت صغارها بفمها اثنين اثنين وجرت بهم بعيداً.

كان عربي لا يزال يصرخ وقد سالت دماؤه مختلطة بتراب الجراج ، اختفت الكلبة فنزلت إليه ، حملته إلي السيارة ، كانت المرة الأولي التي أجد نفسي فيها مضطراً للسير بها دون متابعة عربي ، الذي كان بجوارى يصرخ ، قال :

  • علي مستشفى النيل بسرعة .

 فى الطريق سألته :

  • أتصل بحد من أهلك .
  • مش مهم .

سمعته يتصل من تليفونه بسيد سياحة ، يطلب منه أن يسبقنا إلي المستشفى ، عندما وصلنا وجدنا سيد ينتظرنا أمام الباب ، حمل عربي ودخل به، أدخلوه بسرعة لقسم الجراحة ، قلت لسيد:

  • مش نتصل بأهله ؟ .

قال باستهانة :

  • ما حدش ها ييجي .
  • عنده ولاد ؟ .
  • عنده ، لكن أقول لك إيه .. خد تليفون مراته كلمها ، يمكن .

طلبت الرقم ، ردت علي ، قلت :

  • حضرتك مرات الحاج عربي ؟ .
  • حاج ! .. أيوه ، مين انت ؟ .
  • للأسف هو فى المستشفى .
  • حصل له إيه ؟
  • وقع ، وحالته خطيرة ؟
  • والمطلوب ؟
  • تيجى انتِ وولاده تشوفوه .
  • البركة فيكم ، هو ما بيغلبش .

       لم يبد علي سيد استغراباً ، قال :

  • مش قلت لك
  • حاجة غريبة .

ظل فى المستشفى أسبوعاً ، كنت أذهب إليه كل يوم ، ظننت أنه سيخرج إلي البيت ، سمعت سيد يسأله :

  • علي البيت واللا الجراج ياعم عربي ؟ .
  • ما انت عارف ياسيد ، الجراج طبعاً .

تدخلت قائلاً

  • إنت محتاج راحة ، ها احاول تاني مع المدام .

 أصررت علي الاتصال بها ، قالت فى حدة :

  • هى القعدة فى البيت مش زى قعدة الجراج ؟ ، هاييجى البيت يهبب إيه ؟ ، مش كفاية بقى له أسبوع لا ابيض ولا اسود .