أثبت الناقد أن النقد إنتاج لمعرفة، وهذه المعرفة لا يمكن أن تستقيم دون استنفار ثقافة هائلة هي أساس مقاربة النص، وفهم العوالم الدلالية القريبة والبعيدة التي يشير إليها النص موضوع القراءة، فالتأويل كما أبان الناقد، ليس شرحا للكلمات كما يتوهم البعض، ولكنه إعادة لتنظيم العلاقات، أو هو الكشف عن علاقات غير مرئية من خلال التجلي المباشر للنص.

دينامية القراءة في كتاب» دينامية النص الروائي«

للكاتب أحمد اليابوري

أحمد بوغربي

 

تقديم لا بد منه:    

 لعل أقصى ما يمكن أن يبلغه قاريء كتب الأستاذ ومربي الجليل، أحمد اليابوري، ومنها كتاب ‘‘ دينامية النص الروائي‘‘ هو أن ينجز حولها قراءة وصفية، وإذا أراد أن يلخص ما جاء في الكتاب وجد الكاتب سبقه إلى ذلك في نهاية كل فصل وفي آخر الكتاب بتركيب  جامع مانع لا يترك للقارئ مجالا،  سوى التشبع بما في الكتاب من معرفة، وعلم. ذلك أن لغة  اليابوري لغة دقيقة، رشيقة، مكثفة، وفي غاية الاتساق والانسجام، بحيث لا يمكن الاستغناء عن حرف واحد، وكتبه محكمة تفرض على قارئها، أن يعتمدها دروسا تغني مداركه، وتقوم مواقفه.

ولم أقف  في هذه الورقة عند رصد هذه المعارف وهي غنية،  وخاصة فيما يتعلق بالدينامية وتعريفها الذي أضاف فيه إلى جانب الحركة، الغائية والقصدية، ولا عند النص وسبب اختياره له بدل الجنس، أوعند الرواية كجنس له ما يميزه عن باقي الأجناس الأدبية، لكن وقوفي انحصرعند تحليله/ قراءته لنماذج من الرواية المغربية، وهو يرصد ما تتميز به هذه النصوص من دينامية على مستوى بنائها ودلالتها، فقد قدم اليابوري  خلال هذا  مثالا لما يجب أن يكون عليه النقد  من دينامية وما يجب أن تتسم به القراءة من إنتاجية، مضمنا عددا من  التوجيهات التي شأنها أن  تفيد  الكاتب المبدع، والباحث الناقد، وطالب المعرفة ، فالرجل أستاذ على الاطلاق، وكتبه هي للاستيعاب والتكوين، ومن هذه الدروس استقينا لكم بعض أسئلتها فيما سيأتي: 

 سؤال القراءة:

يقدم  اليابوري في كتابه‘‘ دينامية النص الروائي‘‘ نموذجا لما يجب أن تكون عليه قراءة النصوص وتحليلها، وقد استخلصنا العديد من المعطيات  منها: اعتماد الكاتب على العديد من مناهج التحليل لمقاربة النص الواحد: السيميائية، والسمياءية الدينامية، والسوسيونقد، والتحليل النصي في إطار لا شعور النص، ونظرية التلقي، وغيرها من المناهج التي تسعى إلى تأسيس مقاربة ملائمة للنصوص الأدبية عامة، والروائية بصفة خاصة، أو كما يصرح اليابوري نفسه: ‘‘ تحليلها وفق قواعد ومفاهيم إجرائية، في إطار التكامل المعرفي.‘‘ص:(17).

وعندما يقول اليابوري: ‘‘‘‘ وقد كان تناولنا لهذا المتن الروائي بمنأى عن إي حكم قيمي أو تأويل يستند إلى السيرة الذاتية لكتابه‘‘ص(17)،فهو يدعو بشكل صريح، إلى وجوب تحلي القراءة بالحياد والموضوعية، والابتعاد عن الشخصنة، وأحكام القيمة المنحازة، لأنها لا تخدم النص، ولا تخدم القراءة، وهو ما لن يتأتى إلا بالاهتمام بالموضوع الفني ذاته، وبمناح الخلق والإبداع فيه، واستغلال طاقاته ومكوناته بعيدا عن التصور المسبق، وعن القراءة المغرضة  التي تنظر إلى النص بمعايير خارجية ترتبط بالمؤلف أو بظروفه، يقول  اليابوري مؤكدا: ‘‘  إن النظرة التي تقول إن الأدب تعبير عن الذات ، وأنه نقل للمشاعر والتجارب الشخصية، إنما هي نظرة جلية الخطأ... فالأثر الأدبي قد يجسد ‘‘ حلم‘‘ الأديب، لا واقع حياته أو قد يكون النقيض‘‘ الذي يختفي وراءه شخصه الحقيقي، أو قد يكون صورة عن الحياة التي يريد أن يهرب من نطاقها‘‘ ص: 70 .

ثم إن الكاتب وهو يباشر النصوص الروائية قراءة وتحليلا، اهتم بجميع مكونات النص الشكلية والدلالية، وكان بهذا يوجه القراءة إلى  أن خصوصية الأثر الفني في حالة الإبداع الروائي، ليست سوى هذا الاشتغال النوعي لعناصر الخطاب الروائي، وهذا الانتظام الخاص لبنياته وفق رؤية تعكسها فنيا وجماليا طرائق الكتابة عبر صياغة أبنيتها الخاصة، وأشكالها الفنية، يقول اليابوري: ‘‘ لا تنبني الأحادية على مستويي البناء والدلالة، بل ترتكز على تركيب معقد يتداخل فيه  الشعوري واللاوعيي، وتتواشج فيه اللغات ومستويات السرد لتحديد موقف متوازن من العالم‘‘ ص:  (77). وهو قول يدعو القاريء أن يبحث في كيفية تأسيس الذات الساردة  لخطابها : فضاء، وزمنا، وشخصيات، ولغة، فعبر هذه المكونات ينتج النص دلالاته.

وإذا كانت هذه التوجيهات وردت في الكتاب تصريحا، فمنها ما ورد ضمنا وتلميحا، وأهمها وجوب تمكن القارئ من  ثقافة موسوعية تجنح خارج ضيق التخصص لتتشرب مختلف مجالات المعرفة، هذه الموسوعية هي التي جعلت من كتاب‘‘ دينامية النص الروائي‘‘ نموذجا للقراءة الفاعلة والمنتجة التي حولت الابداع من وجود الفعل إلى وجود الادراك في بعده المفاهيمي العميق، والتحقيق الفعلي لمعاني هذا الابداع بكل سيروراتها الدلالية اللامتناهية، فهكذا يتم تجاوز المقاربة التاريخية، والوصفية نحو قراءة تخضع للمفاهيم، ولإطار نظري قابل لتصريف التصورات الجوهرية المحركة لهذا الانتاج.

سؤال التجريب:

لقد خلص اليابوري وهو يتناول بالتحليل بعض نماذج الرواية المغربية، أن هذه الأخيرة  قامت ‘‘ على تقويض أسس الكتابة التقليدية، وتأسيس مسارات جديدة، ورؤية جديدة لكتابة روائية ترتكز على الدينامية كمظهر من مظاهر التحديث ‘‘ ص: 117، ثم يضيف مقرا أنها اعتمدت  ‘‘ التجريب الحداثي كرؤية شمولية متميزة ... تتوسل إلى تحقيق غاياتها عن طريق  نسف كل أنظمة الفكر، وقواعد اللغة والفن التقليدية، وكذلك العلاقات بين الكلمات والأشياء، وفتح الباب على مصراعيه للانتقال المفاجيء وغير المنطقي من موضوع إلى موضوع آخر‘‘ص:102  أو ‘‘ هلوسة ما هو عقلاني، وتغريب ما هو شائع ومتوقع وتحويل ما هو غريب الأطوار وخارق إلى شيء تقليدي‘‘ ص: 117

وقد رصد اليابوري تجليات التجريب في  الرواية المغربية  مرة في  انفتاحها ‘‘على أجناس سردية صغرى تتظافر لتشييد الشكل الروائي الأكبر ‘‘ ص: 118 / ( أحلام بقوة)  وأخرى في ‘‘ تنويع طرائق السرد واعتماد أسلوب المفارقة وتلغيم طرق الحكي، وتداخل بين الأجناس الأدبية في الرواية ،وخلق فضاء نصي يوجد على حدود النظام والفوضى، وتداخل الإحالي/ الواقعي والرمزي والأسطوري‘‘ (ص:104)، كما يأتي أيضا بتوظيف الحكي الشعبي بمختلف سجلاته الاسلوبية: ( الثرات السردي العربي، التناص مع القرآن والحديث النبوي، اعتماد طرائق السرد الغربية،  تشضي الشخصية،  تقنية الحلم‘‘ص 138

ونستنتج مع اليابوري من خلال هذه التمظهرات، أن التجريب : ‘‘ ليس مجرد انفتاح على طرائق السرد المعاصرة كما يحصره التعريف السائد، ولكنه أيضا استيعاب وتشغيل لطرائق السرد الثراتية ولأساليب الحكي الشعبي الشفاهي‘‘ ص: .109

وفي معرض حديث الكاتب عن رواية ‘‘ الغربة‘‘ للعروي، يقر اليابوري كما باقي النقاد أن التجريب  ليس بدون مأزق، والشاهد قوله: ‘‘ حقا إن الحداثة في الرواية العربية المعاصرة تتجلى، في الدرجة الأولى، في عنايتها بالمعمار العام، وبالسرد على مستوى الأدوار والشخوص، والنماذج واللغات والصيغ... إلا أن هذه العناية تبدو أحيانا متكلفة، بحيث يصبح الشكل ‘‘ تنظيميا أكثر مما يجب، وجافا وراضيا أكثر مما ينبغي‘‘ ص: 44  وهذا يعني؛ أن النزوح التجريبي يصبح عائقا أمام التطور،  وأمام التلقي عندما يصبح الانشغال على اللغة يساوي التضحية بالقصة، أو الحكاية، وبالشخصية  والنباء ….مما يؤدي أحيانا إلى غياب المعنى أو تلاشيه. الأمر الذي حدا باليابوري في خضم تحليله، أن يلهم الكتاب والمبدعين طريقة لتجاوز هذا المأزق، بتوظيف التقنيات من أجل إغناء الدلالة والفهم،  حتى لا تتحول إلى مجرد عناصر تقنية توظف توظيفا عشوائيا ‘‘لتحدث بريقا سرعان ما يخبو فلا يترك أثرا في نفس القاريء‘‘. كما يقول محمد برادة في كتابه ‘‘ الرواية المغربية أسئلة الحداثة‘‘ ( ص: 177).

وأن يلهم النقاد/ القراء بأن يقوموا أثناء قراءتهم ب ‘‘تفكيك بنيات النص الروائي، والكشف عن أسرار الصنعة فيها، مع إبراز عناصر التوتر التي تخترقه‘‘ص: 81 تأكيدا  من اليابوري أن السرد، ليس مجرد شبكة من التقنيات تشتغل من تلقاء نفسها، دونما موجه أو غائية، وإنما هو على العكس من ذلك، بؤرة من الديناميات والاستراتيجيات الموصلة برؤية للعالم يصدر عنها المبدع.

من هذا المنطلق، ومن داخل هذا الفهم، اعتبر اليابوري  تقنية الانشطار، في رواية ‘‘ الغربة‘‘:‘‘ أشبه ما تكون بعدسات التصوير المقربة والمكبرة التي تساعد القاريء على استجلاء جزئيات الأحداث وأدق ملامح الشخصيات، والغوص في الفضاء العام للرواية للالمام بأبعادها الأسطورية .‘‘ ص: 48، وفي نفس الرواية يقول عن تداخل الأزمنة :‘‘ فسح المجال لتأمل صورة الماضي في مرآة الحاضروالمستقبل، وصورة الحاضر في مرآة الماضي‘‘(ص:48)، وعن الشكل الدائري في رواية‘‘ المباءة‘‘ يقول: ‘‘والدائرة كرمز تحيل بصفة عامة على الانغلاق الذي لا يترك مجالا للأمل، والصرامة التي لا تقبل أي خطأ في القياس، والجمود في نقطة الصفر، نقطة البداية- النهاية‘‘ ص: 127 مما يعطي الانطباع بأننا حيال زمن واحد، مطلق، يتلبس هيئة مجرى ثابت، لأن كل شيء فيه يمضي كيما يعود. وقال عن تقنية الحلم:في رواية  المرأة والوردة‘‘ يقول:‘‘ تقنية الحلم التي جعلت البطل تتنازعه قوتان داخليتان، الرغبة في الانضباط داخل البنية الاجتماعية، والخوف من أن يصبح الانضباط خشوعا,‘‘ ص: 74 . واعتبر تقنية المفارقة في رواية ‘‘أحلام بقرة‘‘: ‘‘ تمثل العنصر البنائي الذي يؤطر مختلف مستويات السرد، في تآلف مع تيمة التحول لإعطاء رؤية خاصة عن العالم‘‘ ص: 124 أما عن النسبية في رواية ‘‘ عين الفرس‘‘ والتي  ‘‘تطول  الزمن والمكان والشخصيات والأحداث والأحكام...  وساهمت في تقديم  الأحداث من وجهات نظر متنوعة، متقاربة أو معدلة أو متناقضة‘‘ ص: 112 فهي تعني فيما تعنيه  ‘‘ خلخلة المسلمات والبديهيات والأحكام اليقينية‘‘ 112.

نفهم من هذا أن اليابوري يؤكد أن ‘‘ كل تقنية تنمي عن عقيدة فلسفية‘‘* كما قال العروي في إحدى حواراته، وأن هناك ترابطا وثيقا للشكل بالموضوع لدرجة يصعب معها فهم الأبعاد الحقيقية الخاصة لكل عنصر منها خارج ارتباطه بالآخر، انسجاما وقوله: ‘‘ الشكل نقطة الارتكاز  التي دونها لا يتأتى ولوج فضاء الرواية، بمختلف أبعادها الاديلوجية والرمزية.‘‘ص:  55 وقوله أيضا: ‘‘الشكل في هذه الروايات أصبح له دور أساسي على مستوى البناء والدلالة في آن واحد‘‘ ص: 117.

هكذا نخلص مع الكاتب،  أن التجريب بما هو اختراق للتنميط السائد، ومواجهة القائم بالسؤال، والخروج على القاعدة المألوفة والمكرسة، والتحطيم المتصل للقالبية،  لا يعني في الوقت نفسه  أن يكون ( التجريب)  مجرد بحث شكلي مجاني متحرر من كل ارتباطات، أو أن  يكون تجريبا من أجل التجريب، بقدر ما  يجب أن يكون تجريبا هادفا، مسخرا لخدمة أغراض، وقضايا فكرية محددة تكسبه قيمة تعبيرية حقيقية، فالاهتمام بالشكل لا يعد مجرد ترف فني زائد، وإنما هو انشغال حقيقي يدخل في صلب العملية الإبداعية، إن لم يكن قلبها النابض؛ إنه إذن يؤسس لتجريب وظيفي، يصبح معه  خضوع البناء الروائي لمبادئ التعقيد، والتوتر، والتعدد، متارا ، للتأويلات، والأحكام، التي والقول لليابوري: ‘‘ لا يمكن الإلمام بدلالاتها إلا في ضوء هذه العناصر البنائية‘‘ (ص: 111).

وليس غريبا أن تكون أغلب عناوين الفصول التحليلية إحالة على قضايا نصية ذات صلة بالبناء الشكلي، لا على أحكام تأويلية. فكل عنوان هو سؤال موضوع على النص، وهو أيضا توجيه للقراءة وتحديد لمساراتها المقبلة، أما البحث عن الآثار المعنوية المتولدة عن هذه التقنية السردية أو تلك، فلا يأتي إلا لكي يدعم منابع النهر الكبير، أي البناء النصي في كامل تجلياته، فالبناء النصي من خلال مكوناته المتعددة، ليس عرضيا، إنه هو ما يؤسس المعنى، أو هو، بشكل من الأشكال، معنى المعنى.

سؤال التيمة:

لقد عمد اليابوري في خضم تحليله لنماذج من الرواية المغربية إلى استقصاء  بعض التيمات ،  ومنها تيمة  المرأة ، والمجتمع،  والتحول، وتيمة الغرب وغيرها من التيمات/ الموضوعات. وما استرعى انتباهنا  في هذا الحيز أن هناك تيمات فرضت نفسها بقوة التواتر والتكرار، كتيمة ‘‘ التحول‘‘ في رواية  ‘‘ أحلام بقرة‘‘، لكن  الأمر يختلف بالنسبة لتيمة ‘‘الغرب‘‘ في رواية ‘‘ الغربة‘‘، إذ لم يعتمد في رصدها على التكرار والتواتر كما ينص على ذلك المنهج الموضوعاتي،  بل إنه عمد من خلال  مشاهد محدودة من مثل: ‘‘ وبعد قليل دخل الحارس وجعل يركل الناس ويمشي  على سيقانن النيام، بين صيحات الألم والاستنكار‘‘ ص 52   و قول أحد الشخصيات الأجنبية يوليوس:  ‘‘إني جئت إلى هذا البلد كمن جاء قبلي بدافع الذكرى والخيال... كلانا يستعمل هذا البلد كوسيلة‘‘ ص:52 إلى  استنتاج   أن الغرب يعادل القهر والاستعباد، وأن الغرب معادل للحرب من خلال الفلم السينمائي ، ومن خلال الأول والثاني استنتج أن الغرب مرادف للخراب والتعصب، وليس للتطور والتسامح.

نفهم من هذا، أن اليابوري ينبه أن  التيمة لا يدل عليها دائما تكرارها وتواترها، فهناك نصوص لا تسعى إلى قول الموضوعات بقدر ما تسعى إلى تشكيلها، وفي مثل هذه الحالة، تصبح التيمة/ الموضوعة  مكونا بنيويا في النص،لا تتأتى إلا  باستيعاب وظائف الشخصيات، والتراكيب اللغوية، وأنحاء الاستعمال الوصفي، والإخباري، وامتداد السرد، وخصائص التشخيص الزمني والفضائي، وغيرها من مكونات الصور الحكائية وسماتها النوعية، دون التركيزات المنغلقة التي تتأسس على فضاءات المضامين وتشتغل عليها.

  ويصبح تقصي "التيمة"  من هذا المنطلق مرهون بتغطية المتن بكل مكوناته الخطابية، والشكلية المترابطة والمتواصلة ، لأن النص الروائي هو تجسيد للمعنى عبر هذه التمثلات، وهذا ما عبر عنه اليابوري في قوله  عن تيمة ‘‘ الغرب‘‘: ‘‘ إن الغرب في هذا النص الروائي جزء من بنية عامة، لا يفهم إلا من داخلها، وفي علاقة مع باقي عناصرها... وهي لا تتوقف عند نقطة ثابتة، بل يتحدد  مدلولها ، عبر لحظات صيرورتها‘‘ ص: 53  في إشارة واضحة أن النص لا يخلق التيمات ولا يبتدعها، ولكنه يخلق العلاقات الممكنة التي تقود إلى إنتاج هذه التيمات، وتنويع مضامينها، ذلك أن المضمون ليس مادة مطلقة التكوين والوجود يتوجب علينا الكشف عن جوهرها، إنها شكل، أي مرتبطة في وجودها واشتغالها بسلسلة العلاقات التي ينسجها النص، ومن تم،  فإن فصل عناصر السرد في استخلاص الموضوعة، سيقود حتما إلى قراءة تجزيئية، تفكك العمل وتهدمه، في الوقت الذي يظل المطلوب فيه، هو إعادة البناء.

على سبيل التركيب:

يمكن في ختام هذه الإطلالة البسيطة لكتاب ‘‘ دينامية النص الروائي‘‘ أن أذكر استنتاجين: الأول يهم الرواية المغربية، وقد أفادنا أنها رواية الاحتفاء بالتخييل والمتخيل،  وبالهوية، والغيرية، وسؤال الكتابة، والعلاقة الجمالية بين الواقع والتخييل، وهي أيضا رواية الانصات إلى  إيقاع الزمن وحركة الواقع الاجتماعي، ولغة الوجدان والحب، وصوفية العلائق الانسانية،  واستبطان الحقائق المحتجبة،  وأن هناك ثمة احساس بمسؤولية الروائي تجاه مجتمعه، فكتابته، ذات مغزى، وتستطيع التاثير في المجتمع والأفراد وليست خطابا وقتيا، وان كانت مقيدة بالزمن، فانها سعت الى تقديم حقائق باقية.

والاستنتاج الثاني،  شق منه يهم الناقد، والشق الثاني يهم القراءة النصوص،   فما يتعلق بالناقد فقد أبان اليابوري بما لا يدع مجالا للاحتمال، أن الناقد يحتاج أولا إلى ثقافة ومعرفة بالمفهوم الواسع للكلمة، فالقاريء لكتاب اليابوري يدرك جيدا أنه استند إلى ثقافة واسعة لها علاقة بالمدارس النظرية في أصولها المعرفية العميقة، ولها علاقة أيضا بكل الثرات الفكري لهذه الأمة،  وبمختلف النظريات والمناهج النقدية في إطار ما يدعوه اليابوري ب‘‘ التكامل المعرفي‘‘ ( ص:6 )، وهو (الناقد) أيضا مدعو إلى مواكبة واستثمار النظريات الحديثة تجديدا وتخصيبا لأفق القراءة، وتحويل المقولات والآليات التحليلية إلى تصورات تساهم في قراءة النصوص، وتدرج النص النقدي ضمن النص الثقافي والفكري.

أما ما يتعلق بالقراءة والنقد، فقد أثبت اليابوري أن النقد إنتاج لمعرفة، وهذه المعرفة لا يمكن أن تستقيم دون استنفار ثقافة هائلة هي أساس مقاربة النص، وفهم العوالم الدلالية القريبة والبعيدة التي يشير إليها النص موضوع القراءة، فالتأويل كما أبان اليابوري، ليس شرحا للكلمات كما يتوهم البعض، ولكنه إعادة لتنظيم العلاقات، أو هو الكشف عن علاقات غير مرئية من خلال التجلي المباشر للنص، وهو بهذا  قدم قراءة نموذجية، منهجية تخضع للمفاهيم ولإطار نظري متنوع، وقابل لتصريف التصورات الجوهرية المحركة لهذا الانتاج، إنها قراءة دينامية منتجة ، أبان اليابوري من خلالها أن  القاريء شريك في صياغة  معنى العمل من دون ان يكون رأيه اسقاطا جاهزا، او مسبقا على العمل الابداعي الذي يقرأه.  قراءة، تجاوزت المقاربة التاريخية، والوصفية، وتلك التي تغرق في التنظر وترهن النصوص إلا ما هو عام،  أو تلك التي  تحول الأدب إما  إلى مجرد "محتوى" متجاهلة خصوصية الأدب،  أوتحويله إلى مجرد شكل، وهي كلها قراءات لا ترسخ سوى التنميط، وتركيم الأدوات النقدية.

 

*باحث من المغرب

الهوامش:

أحمد اليابوري، ‘‘ دينامية النص الروائي‘‘ منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى الرباط،، 1993