يكشف الباحث المغربي في هذه الدراسة عن علاقات التماثل والاختلاف بين تلك الأعمال الأدبية الثلاثة التي ركزت على حياة الموظف، وكيف استطاع كل منها أي يتحول إلى أمثولة كاشفة عن الكثير مما يدور في المجتمع الذي صدرت عنه، دون أن تفقد قدرتها على تناول الحياة الإنسانية العامة في أي مجتمع.

البؤساء الثلاثة: جوانب من سيرة الموظف

في «معطف غوغول» و«حضرة المحترم» و«كتيبة الخراب»

عبدالحي طالبي

 

تمهيد:

يحاول هذا المقال استكشاف نمط حياة "الموظف" في ثلاثة أعمال أدبية بارزة هي: "المعطف" لنيكولاي غوغول (1842) و"حضرة المحترم" لنجيب محفوظ (1975) و"كتيبة الخراب" لعبد الكريم الجويطي (2006).

لا يعني اختيار هذه الأعمال منطلقا للكتابة أنه لا يوجد غيرها، ولا يعني أنها الأجمل والأبلغ في عالم الكتابة الروائية والقصصية حول "الموظف"... فذاك عمل آخر يحتاج استقصاء وموازنات وتمحيصا نقديا ليس هذا مجاله. مرجع اختيار الكتابة عن هذه الأعمال رغبةٌ في الاعتراف بقيمتها الفنية، ثم توجه نحو الاهتمام بما تثيره من أسئلة حول عالم الموظفين، ومما يزيد هذه النصوص أهمية أنها صدرت عن أدباء كبار من أزمنة وبيئات ثقافية مختلفة: روسيا ومصر والمغرب، وكان كل هؤلاء الأدباء قد زاول الوظيفة الحكومية وانخرط في أسلاكها ودُفع في مضايقها، مما يجعلهم حججا لا في الأدب عموما فحسب بل في نمط الكتابة عن الموظف بشكل خاص ... وقد قيل قديما: كلامُ الحجةِ حجةٌ وقيل أيضا إنه لا يعرف الشعر إلا من دفع في مضايقه!

لا تكتفي هذه النصوص الجميلة باستدراج القارئ إلى قصور عوالمها المشيدة بمهارة سردية نادرة وحذق وصفي فريد، ولا هي تكتفي بإشباع نهمه الجمالي بأساليبها المتدفقة حيوية وإشراقا... ولكنها، إذ تفعل كل ذلك ببراعة فنية لافتة، لا تترك القارئ إلا وقد وهبته من التفاصيل الدقيقة ما يجعله يشعر كأنه واحد من عباد الله الموظفين العاملين في ذلك الفضاء الحديث المسمى "إدارة"، فلا يلبث إلا مفكرا فيها وفي "سكانها" متسائلا: ما الذي يجري داخل أروقة الإدارات، كيف تتأسس علاقات الموظف مع محيطه الإداري والاجتماعي؟ كيف يعيش الموظف؟ ما موقعه الاعتباري في البنية الإدارية؟ ما محددات التقدير والاعتراف فيها؛ الكفاءة أم الولاء؟ ما الصورة التي تشكلها هذه الأعمال الأدبية عن الإدارة؛ أهي تلك المؤسسة العقلانية الحديثة أم هي تلك المؤسسة السلطوية البائسة؟  

1ـــ أكاكيفيتش، الموظف الآلة

في قصة "المعطف" موظف صغير يُدعى أكاكيفيتش، مثير للشفقة والسخرية، يعمل ناسخا بشغف كبير ولا يعرف غير النسخ، في الإدارة وفي البيت[1]، له معطف بال لم يقو على التخلص منه إلا بعدما اهترأ تماما ولم يعد فيه شيء يصلح للرتق فاشترى معطفا جديدا بعد كد طويل وشعر بسعادة غامرة[2] قبل أن يُنتزع منه قهرا، ليموت على إثرها غما وغيظا، لكنه سيتحول إلى شبح يطارد كل أصحاب المعاطف وعلى رأسهم الجنرال الذي كان سبب وفاته، وقيل إن شبحا آخر أطول قليلا ظهر بعد ذلك...

هكذا تكون قصة غوغول موزعة على لحظات ثلاث: لحظة البداية حيث مشاهد الحياة الرتيبة البائسة التي يعيشها الناسخ أكاكيفيتش، ولحظة خياطة المعطف الجديد وهي فترة فرح مختلس ولذة عابرة مفعمة بكثير من الزهو والأحلام، ولحظة غصب المعطف حيث تنقلب اللذات الطارئة إلى مآس متلاحقة: ضرب ولطم وإهانات متلاحقة في مكاتب المسؤولين آخرها مكتب الجنرال الذي يقدس النظام البيروقراطي أكثر من أي شيء آخر؛ وقد حظيت هذه اللحظة بعناية خاصة من السارد، إذ من خلالها سيتمكن من إظهار الروح البشعة للنظام البيروقراطي؛ فحين وصل أكاكيفيتش إلى مكتب الجنرال قيل له: دعوه ينتظر! وبعد انتظار طويل وبعد سماع طلبه، قذفه بهذه الكلمات: ألست على علم بالإجراءات؟ هل تدرك من تخاطب؟ ما هذه الوقاحة... وعنفه وقرعه بما يكفي ويزيد حتى أفقده حواسه ثم مات بعدها ولم يخلف شيئا ذا بال ونسي كأن لم يكن، شيء واحد ذكَّر الناس به هو الشبح الذي ظهر في المدينة متعقبا أصحاب المعاطف.

في هذه القصة عبارة تكاد تلخص كل شيء هي: "هكذا زال واختفى إلى الأبد إنسان لم يفكر أحد من الخلق في حمايته!" (ص61)؛ موظف عاش بائسا ومات كمدا، وما أكثر الموظفين البؤساء في عالمنا، ما أكثر الأكاكيفيتشيين! هذه هي قصة المعطف التي ألهمت كتاب القصة القصيرة حتى قال عنها الروائي الشهير تورغينيف: "كلنا خرجنا من معطف غوغول"، وغير خاف أن هذه القصة لم تكن ملهمة من حيث دقة الوصف فيها وإحكام السرد وبراعة التصوير فحسب، بل هي كذلك من حيث إنها عبدت الطريق للكتاب حتى يقولوا الأشياء الكبيرة من خلال رصد التفاصيل اليومية الصغيرة في الحضارة الحديثة السريعة... وهل التفاصيل الصغيرة سوى الترجمة العملية والمباشرة والأمينة لما يعتمل في النفس البشرية وكذا في المجتمع من هموم ومشكلات، أبصرها من أبصرها وعمي عنها من عمي. القصة القصيرة، إذن، صورة أدبية فائقة الجمال، تجعلنا نرى بوضوح ما لا نقوى على رؤيته في زحمة اليومي الجارف، تجعلنا ننتبه من غفلاتنا ونتحرر من كثير من الحجب التي تغشي أعيننا... أو لك أن تقول إنها تعيد ترتيب أشياء العالم وتسميتها وتعريفها بحيث لا يجد القارئ مهربا من الإقرار بوجودها وبأهميتها الفارقة. إنها تعطي للقراء أعينا واسعة وألسنة مبينة، بحيث لا يتم الانتباه إلى "الحدث" وحده بل إلى "الحديث" المناسب عنه... قد يقال وهل يستحق معطف بال أو جديد أن يُكتب عنه؟

نعم، يستحق وزيادة! هذا ما تقوله كناية المعطف بإحالاتها العميقة على الوضع الاجتماعي القاسي للموظف؛ فليس المعطف الجديد في أبسط المعاني سوى الوضع الاجتماعي الطارئ وليس انتزاعه بالقهر سوى إشارة إلى الإقصاء الاجتماعي وتعبير عن الانتقام من كل من يتجرأ على تغيير معطفه - طبقته! فكأنه يُستكثر على الموظف أن يملك معطفا ويحال دونه ودون الاستمتاع به ويعاقَب إن هو تجرأ، وهنا نكون إزاء وضع إداري بيروقراطي مختل؛ فالوظيفة التي تستغرق كل جهد الموظف ووقته يُفترض فيها أن تكون أداةً لحفظ كرامة الانسان وتلبية احتياجاته (والمعطف أبسطها) دون عناء، والإدارة المكلفة برعاية مصالح الناس يفترض أن تكون وسيلةَ تنظيم وخدمة وإنصاف، لا أداة قهر واستبعاد؛ لم تنصف المكاتب أكاكيفيتش بل أمعنت في قهره وإذلاله، وهو ما خلق وضعا نفسيا قاسيا كانت نهايته الموت غما.

شراء معطف أو فقده، استقبال إنسان أو طرده، تقدير موظف أو تجاهله ... أشياء صغيرة تحدث ملايين المرات في اليوم ولكن مفاعيلها كبيرة جدا، كبيرة إلى الحد الذي يجعلها تصنع من الحياة الإنسانية فضاء للألفة والتعاون أو فضاء قاسيا مملا يموت فيه الكثير من الناس دون أن يعبأ بهم أحد. كما تحيل هذه الكناية على معان فلسفية تتعلق بالتملك والحرية عند الإنسان؛ فالتملك هاجس المرء ولكنه سبب عذاباته في الوقت نفسه. يجتهد الإنسان في الحيازة والتملك باذلا وسعه، ممنيا نفسه بوعود لذيذة فتستولي عليه هذه اللذات وتخلق لديه أوهاما بالقدرة والحرية والتفوق ولكن ذلك يفرض عليه تحديات كثيرة، تتعلق بالقدرة على تحصين وحماية الأشياء المتملَّكة؛ كان المعطف أداة تحرر أكاكيفيتش من العزلة القاسية التي عاش فيها مدثَّرا بمعطفه البالي (روب دو شامبر) بين البيت والمكتب، كان جواز مروره إلى اكتشاف العالم واندماجه في المحيط الاجتماعي (أول مرة يخرج بالليل ويشارك في حفلة، حين اشترى المعطف الجديد، وأول يوم يقضيه خارج المكتب حين خرج بحثا عنه!)... وعلى هذا الأساس فتملك المعطف، بعد جهد جهيد، مكنه من ممارسة حريته الاجتماعية. غير أن العجز عن حماية المعطف أو استرداده بعد الفقد لن يسلب أكاكيفيتش حريته فحسب بل سيسلبه حياته!

بمجرد فقدان الموجود المتمَلَّك (المعطف) بدا اكاكيفيتش خائر القوى، مضطربا هائجا، لا يفكر إلا في المعطف، أسيرا لما تملكه. بدا، من شدة تعلقه بالمعطف، في قبضة الوهم الذي تخلقه الممتلكات الجديدة (المعطف الجديد) ولو بقي في وضعه السابق (المعطف البالي) أو ترك مسافة تفصله عن التعلق به لكان، ربما، أكثر حرية من الناحية النفسانية على الأقل. يبدو، في هذه الوضعية، كأن هناك ضربين من الحرية: حرية نفسانية باطنية من نصيب البؤساء المعدمين؛ أقرب إلى اللامبالاة، وضريبتها الفقر والعزلة والوحدة... وحرية اجتماعية خارجية من نصيب الأغنياء (أصحاب المعاطف)... محرمة على الموظفين البؤساء، محكومة ومراقَبة ومُحصَّنة بإدارة فاسدة!

2ــ عثمان بيومي، الموظف اللاهث
نقرأ في فاتحة الرواية مشهدا يصف دخول موظف صغير باب حجرة المدير العام: "انفتح الباب فتراءت الحجرة مترامية لا نهائية. تراءت دنيا من المعاني والمثيرات لا مكانا محدودا منطويا في شتى التفاصيل. آمن بأنها تلتهم القادمين وتذيبهم، لذلك اشتعل وجدانه وغرق في انبهار سحري. فقد أول ما فقد تركيزه نسي ما تاقت النفس لرؤيته. الأرض والجدران والسقف، حتى الإله القابع وراء المكتب الفخم وتلقى صدمة كهربائية موحية خلاقة غرست في صميم قلبه حبا جنونيا ببهجة الحياة في ذروتها الجليلة المتسلطة. عند ذاك دعاه نداء القوة للسجود وحرضه على الفداء ولكنه سلك مع الآخرين سلوك التقوى والابتهال والطاعة والأمان كالوليد عليه أن يذرف الدمع الغزير قبل أن يملي إرادته وتلبية لإغراء لا يقاوم خطَف نظرة من الإله القابع وراء المكتب ثم خفض البصر متحليا بكل ما يملك من خشوع ..." (حضرة المحترم، ص5).

رغم أن هذا المشهد وصفي بالأساس (فعل واحد هو انفتاح باب الحجرة) فإنه يقدم إشارات مركزة تعِدُ بحركة كثيفة؛ فهناك فضاء مترام، "لا متناه"، دال على الفخامة والعظمة (مكتب المدير العام) وهناك موظف صغير في حالة صدمة وانبهار وموظف كبير في حالة تأله (إله قابع وراء المكتب الفخم) وهناك تصوير بليغ للمسافة الفاصلة بين الموظفين، وهي المسافة بين إله متعال وعبد ذليل. وهناك رصد للمحرك الفاعل (نداء القوة= الحافز) وهناك إشارة لموضوع الرغبة (مقام المدير العام= القوة= "الألوهية") وهناك رسم لطريق الحصول عليها وهو الطاعة والفداء والخضوع. وأما في مشهد النهاية فنقرأ: "وما يحز في نفسه أن كل شيء يمضي في سبيله دون مبالاة به ... ولعله من محاسن الصدف أن القبر الجديد قد حاز رضاه تحت ضوء الشمس" ص158، وإنه لمشهد حزين، بالغ القتامة: فهناك شخص يتألم، لا يأبه به أحد وهناك قبر في الانتظار.

ما بين البداية ووعودها والنهاية وانسدادها قصة موظف صغير مسحور بنداء القوة والمجد... لم يبق له من كدحه الطويل سوى قبر صغير ولامبالاة عريضة!

نتعرف في "حضرة المحترم" على قصة "موظف لاهث" نذر حياته ليصبح مديرا عاما، فعمل كل شيء من أجل ذلك: طموح مشتعل، شهادات، ثقافة واسعة، خدمات إدارية لا محدودة، تملق الرؤساء، انضباط، تفان... وقبل هذا وذاك إيمان ثابت بأن "الطريق المقدس هو طريق المجد، أو تحقيق الألولهية على الأرض" و"بأن الله خلق الإنسان للقوة والمجد. الحياة قوة. المحافظة عليها قوة. الاستمرار فيها قوة. فردوس الله لا يبلغ إلا بالقوة والنضال" (ص 66)، فتسلق درجات عديدة ولكنه انهار في اللحظات الأخيرة ولم يدخل المكتب الفخم ولم يمارس مهامه مديرا عاما... لقد قضى عمره يمني نفسه بأن يكون "حضرة المحترم" ولكنه كان يطارد سرابا، فمات عطَشا للقوة، مريضا وحيدا في المشفى، فقد كان العمر أسرع من جميع حركات الترقيات! (ص110)

تتتبع الرواية حياة عثمان بيومي، الموظف في الدرجة الثامنة بإحدى إدارات الدولة في مصر. يطمح بيومي الموظف البائس الشقي في قسم المحفوظات أن يجعل من الوظيفة جناحَه لبلوغ النجوم[3] وما وراءها إلى حيث اللانهاية، حيث المجد والقوة والفردوس الأرضي والسماوي. الوظيفة بالنسبة إليه ليست مجرد مهنة، ليست فرصة عمل، ولا هي دليل انتماء اجتماعي فحسب بل هي السر الأعظم الجدير بالاهتمام: فهي "عمل مقدس وخدمة إنسانية وعبادة بكل معنى الكلمة" (ص138)، و"هي المثل الأعلى، وهي منبع القوة وسلم المجد"، و"الوظيفة حجر في بناء الدولة، والدولة نفحة من روح الله مجسدة على الأرض" (ص147)، و"الدولة هي معبد الله على الأرض، وبقدر اجتهادنا فيها تتقرر مكانتنا في الدنيا والآخرة" (ص129)، والانتظام في أسلاكها يرفع الرأس ويجعل الإنسان يتطلع إلى فوق:" إلى فوق، إلى سلم الدرجات المتصاعد حتى أعتاب الآلهة في السماء. الوظيفة خدمة للناس وحق للكفاءة وواجب للضمير الحي وكبرياء للذات البشرية وعبادة الله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء"، (ص113)، "وأما درجة المدير العام فما هي إلا مقام مقدس في الطريق الإلهي اللانهائي" (ص14)، و"التعاون مع المدير العام طقس من طقوس العبادة في العمل" (ص138)... هذه "أوراد" بيومي التي يرددها صبح مساء!

 ولكن وظيفة بيومي لا تؤهله لشيء ذي بال، ويلزمه 64 عاما بالتمام حتى يصل إلى المقام المقدس: مقام المدير العام. لا مناص، إذن، من الكدح الطويل، ولا مناص من برنامج عمل صارم (وهو بمثابة شعار في الحياة يتضمن ثماني نقط تبدأ بالقيام بالواجب بدقة وأمانة وتنتهي بالاستفادة من الفرص ص15). لقد قرر أن ينحت في صخر زمانه بأظافره وعقد العزم على أن يصبح "محترما"، مديرا عاما متسلحا بكفاءته الموثقة بشهاداته وبواسع ثقافته، ليكون "أهلا ً للمركز الذي سيشغله يوما بإذن الله وفضله. ويتسلَّح بها في نضاله الطويل المرير في الغابة الرسمية التي يطالب فيها كل ٍ ذي شأن بقرابينه. إنه لا يملك سحر المال، ولا يتمتع بامتيازات الأسر الكبيرة. ولا قوة حزبية تسنده، وليس من الذين يرتضون أن يلعبوا دور البهلوان أو العبد أو القواد، إنه واحد من أبناء الشعب التعيس الذي عليه أن يتزود َّ بكل سلاح، ويتحين كل فرصة، ويتوكل على الله، ويستلهم حكمته الأبدية التي قضت على الإنسان بالسقوط في الأرض ليرتفع بعرقه ودمه مرةً أخرى إلى السماء”. (ص42)

فهِمَ بيومي البائسُ مبكرا أن عليه أن يكدح، وفهم ما ينطوي عليه الاجتراء على الحلم بالجنة المحرمة (مقام المدير العام) من مغامرة، وفهم أن الجنون وحده هو الذي يدفعه إلى أن "يشيم ألق النجوم وهو مغروس حتى قمة رأسه في الوحل؟! (ص106)، فهم كل ذلك... ولكنه فهم أيضا أن الشقاء قدر الإنسان وسر جاذبية الحياة وأن حياة البشر قائمة على المبدأ التالي: ""مأساة الآدمية أنها تبدأ من الطين، وأن عليها أن تحتل مكانتها بعد ذلك بين النجوم" (ص55). ولأنه يجد نفسه قد فهم كل هذا وآنس في نفسه القدرة على دفع ما يتطلبه من أثمان غالية، فقد قرر ألا يقنع بما دون النجوم. لقد مضى وأنوار النجوم تغريه وتسلب لبَّه ويكاد سناها يذهب ببصره، مضى وخمرة المجد تغريه ببذل كل ما يستطيع، مضى مثلَ سياسي ميكيافيلي محترف لا يعرف غير "غايته" ولا يجد غضاضة في أن يستقل إلى بحرها كل السواقيا. كل شيء رخيص في سبيل القوة والمجد ومقام الألوهية على الأرض – مقام المدير العام!   

ليس المجد بالرخيص ولا النجوم بالقريبة وفي سبيلهما تنقطع الأعناق وتُضرَبُ الأكباد وتبذل المهج والأرواح... لقد رضي بيومي أن يبذلَ دمه وعرقه[4] وثقافته بل نفسَه وحريته وكرامته وكل شيء قربانا لتلك المكانة المشتهاة[5]، عسى يدرك ما تمناه، ولكن هيهات.. هيهات؛ لقد استغفلته الأوهام هو أيضا ومضى الزمن وهو لا يعلم! لقد انقلبت أحلامه بالمجد واللانهاية والقوة والألوهية إلى هباء... كان الموت ينتظره عند الباب ساخرا من كده العبثي، قائلا له مثلما قيل لسلفه أكاكيفيتش: كيف تجرؤ...!

هكذا نجد أنفسنا مرة أخرى مع موظف شقي، أكثر كفاءة وطموحا وحيوية من أكاكيفيتش ولكنه أبأس منه مرات كثيرة لأن الاختبارات التي تعرض لها والتنازلات التي قدمها بيومي لا تقارن بما وقع لأكاكيفيتش. فقد قضى سحابة عمره في امتهان نفسه وهضمها حقها إرضاءً للرؤساء وأمزجتهم المتقلبة بينما عاش أكاكيفيتش قانعا بوضعه الوظيفي، غارقا في مهمته الوحيدة (النسخ) شغوفا بها، والمرة الوحيدة التي تجرأ فيها على التغيير هي تغيير المعطف فكانت نهايتها مأساوية. هل نقول إن بيومي هو النسخة المعدلة أو الجيل الجديد من الموظفين؛ أولئك الذين فهموا الدروس الإدارية القاسية فحاولوا التكيف معها طمعا في البقاء والتسلق والارتقاء؟

ربما؛ صحيح أن بيومي قد ترقى ولكن الثمن كان فادحا. ترقى ولكن الطريق إلى الترقيات قد جرده من كل شيء حتى سلبه حياته في الأخير. وهذا يعني أن النظام الإداري (والاجتماعي بالتبع) شديد الإحكام والإغلاق. يمكنك مخاتلة هذا النظام، يمكنك الاستفادة من بعض "حقوقك" داخله، يمكنك تغيير المكتب والموقع والصفة والأجر... ولكن لا يمكنك هزيمة النظام أو ترويضه أو عقلنته؛ ستظل دائما ذلك الموظف الزاحف الذي يَتكرَّم عليه الرؤساء ببعض العطف نظيرَ كثير من الإذلال والامتهان والتملق والخدمات اللامحدودة لأشخاصهم، لا نظير الكفاءة والتفاني والاستحقاق والخدمات المقدمة للصالح العام!

في ظل هذا النظام الإداري مؤسسات ومكاتب ورتب واختصاصات وألقاب تُشعر الناظرَ إليها بأن الإدارة حديثة، ولكن هذه الأطر القانونية ليست سوى هياكل اسمية ووسائل تقنية لتكريس منطق الغنيمة والقبيلة، حيث الولاء مقدَّمٌ أبدا على الكفاءة والطاعة دليل الولاء؛ لا قيمة للمردود والكفاءة والإنجاز في سلم الوظيفة... وإن وجد كفء منتج فإنه سيستنزف حتى آخر قطرة من ماء وجهه وآخر نبضة من وجيب قلبه، مثلما حصل لبيومي الذي "كان يحمل الزمن على ظهره لحظة فلحظة ويعاني في الصبر نقطة نقطة" ص 46.

أليس طبيعيا، في ظل وضع كهذا، أن تعشش مساوئ الأخلاق: الكيد والتملق والنفاق والطمع والقهر والإهانة والاستبعاد والإقصاء، أليس طبيعيا أن يموت الناس (الأكفاء) قهرا في طريق الحصول على حقهم البسيط في اختيار مهنتهم ووظيفتهم وطبقتهم، بما يتناسب وقدراتهم؟

هكذا تتشابه نهاية إنسانين- موظفين "تراجيديين" لم يفكر أحد في حمايتهما هما: أكاكيفيتش الساذج القانع وبيومي الكفء الطامح... فلننظر الآن في مسار موظف آخر في عمل أدبي آخر هو "كتيبة الخراب".

3 كتيبة الخراب/ الموظف الرافض (الجندي المتمرد)
في رواية "كتيبة الخراب" نكتشف أشياء جديدة متعلقة بحياة الموظف ولكننا لا نبتعد كثيرا عن الأجواء العامة السائدة في قصة المعطف وفي رواية حضرة المحترم. يفصل بين هذه الرواية وقصة المعطف أكثر من قرن ونصف من الزمان ويفصلها عن "حضرة المحترم" أكثر من ثلاثين سنة... ورغم طول المدة فإن الرواية لا تغادر ذلك العالم الغامض وذلك الشكل الإداري العجيب المسمى "بيروقراطية" وتلك الفئة "الخفيفة" من عباد الله المسماة بالموظفين...

ليس المعطف الحقير وحده هو الذي يذكر بقصة المعطف، أو برواية حضرة المحترم (والمعطف محوري في كل هذه الأعمال) ولكنه، بالأساس، فسادُ الإدارة وهشاشةُ الموظف وبؤس حياته... هذا ما يكشفه طقسُ الاستعلاء والامتعاض الذي يحترفه الرؤساء في الإدارة في النصوص الثلاثة؛ فكلهم يصرخون في وجوه مرؤوسيهم بعبارات "كيف تجرؤ، ألا تعرف من تخاطب؟ هل تعي من هو الواقف أمامك... وكلهم حريص على إشهار جبروته في وجه الخليقة...

تبدأ هذه الرواية بمشهد استقبال الرئيس لأحد الموظفين (وهو السارد نفسه) باستعلاء ظاهر في مكتبه الفخم، ليكلفه بمهمة محاورة امرأة دانماركية بالانجليزية: "رمقني بنظرة من صنف تلك النظرات المهيبة التي يملك الموظفون الكبار وحدهم سر تحميلها بدلالات الاستعلاء والامتعاض، وخصوصا بوقار تراتبية محصنة وراء مسافة نأي ضرورية... فتنكس نظرك طيلة المقابلة إلى حيث يجب أن تكون تحت أرجلهم تماما"... "ودعاني لخلع المعطف الحقير الذي ألبسه (هكذا؟)"ص10، ثم تتوالى بعد هذا المشهد العنيف فصول من الألم والخيبات المتلاحقة التي جسدتها شخصيات الموظفين والحلاق والأب وبني ملال وسلوى... وتنتهي الرواية بمشهد رمزي يضم ثلاثة بؤساء (الأب والابن وسلوى) يطالبون باسترداد ماء العين.

هناك، إذن، في كل الأعمال الثلاثة موظف وإدارة وسلطة... ولكن المسارات مختلفة، كما سنوضح ببعض المقارنات أدناه.

يبدو الموظف في قصة المعطف (الناسخ أكاكيفيتش) مندمجا بشكل مثالي في وظيفته، شغوفا بها وقانعا بما يأتيه منها، غارقا في رتابتها، ويبدو في رواية "حضرة المحترم" (عثمان بيومي) في هيأة راهب بروتستانتي يقدس الوظيفة ويعبدها ويجتهد في تحسينها، ساعيا إلى التسلق الطبقي من خلالها... الوظيفة في العملين كليهما سماء مُظلة تشرئب إليها الأعناق، تملأ الأفق، تذوب في عشقها الأفئدة ولا حياة بغيرها، مهما كانت قاسية ومهينة وظالمة؛ هي البيت والسكن في المعطف وهي سلم المجد في حضرة المحترم، وعلى الحياة أن تتكيف معها!

وأما في "كتيبة الخراب"، فإن الوضع مختلف تماما؛ ذلك أنَّ الموظف وإن بدا جزءا صغيرا من بنية ملعونة مستوعَبة تماما في أحابيل الوظيفة، غارقا في دوامة الفراغ الطاحنة بين ردهات مكاتبها، فإنه، وخلافا للآخرين، يعيش على هامش الوظيفة، يتعيش بها ولكنه يمقتها ويتسامى عليها ولا يألو جهدا في تجنب مصائدها ومكائدها. إنه لا يأمن فيها ولا يستطيب كنفها ولا يتطلع للرقي عبرها، بل يلعنها باستمرار ويلعن نظامها وإدارتها والمدينة التي تحتضنها. إنها ليست أكثر من بؤس مقنَّع شبيه بالمستنقع، أو هكذا على الأقل ينظر إليها بطل الرواية الذي عوقب بتعيينه مراقبا للنفايات بالمطرح البلدي[6]، لا لشيء إلا لأنه ضحك في مكتب الرئيس!

هناك موظفون كثر في رواية كتيبة الخراب يشبهون الموظف في "المعطف" أو في "حضرة المحترم" (الآنسة ابن سيرين، عبد الصمد الوقور، الدكتور الكروازي، محمد النقابة...) ولكن الموظف - البطل هنا يرفض أن يكون جنديا في كتيبة الفراغ/الخراب؛ ذلك أنه، خلافا للآخرين، يعي جيدا أنه موضوع للمسخ والسحق والتطبيع مع القبح والعبث، ومن هنا قلقه الدائم وتأزيمه المستمر لكل ما يراه وأول ذلك ذاتُه وهويته. إنه ليس أكاكيفيتش الراضي المطمئن ولا عثمان بيومي المثقف الطامع المتلهف الذي استعبدته طموحاته الشخصية، ولكنه الموظف الذي يرفض أن يكون آلة صمَّاء أو كلبا يلهث على الدوام... ولو كان الثمن أن تتقهقر رتبته الوظيفية فيُحَوَّل إلى "مراقب نفايات".

إنه يقول بوضوح لا لبس فيه إنه "موظف بسيط" "في الدرك الأسفل من مؤسسة سوريالية... موظف بئيس في مدينة أشد بؤسا من ضفدعة جف غديرها"! ص19، مجرد "قناع إداري" صنعته الدولة عبر سنوات من التخويف والحرمان والإذلال وأربع سنوات كاملة من معاناة البطالة... رقم تأجير ووضعية إدارية تقضي بخضوع المرؤوس لمشيئة رئيسه المطلقة" ص19، بل يصور نفسه في صورة عبءٍ ثقيل ألقت به الدولة "ليتنفس في المؤسسة، في الهزل الغامض لما سمي بالشباب والمستقبل" ص50.

يكتشف السارد أن التعيين الممنوح له ليس سوى شراك منصوب ومحن متوالية تخنقه تدريجيا وتحوله إلى "غنيمة خالصة للنفاق المعشش في الروابط السائدة" (ص47)، وتحشره بمكر في قلب دوامة العبث إلى جانب موظفين متحررين من "عذابات تبكيت الضمير"، لا يزيد عملهم على توقيع محضري الدخول والخروج (ص50)، وكل فلسفتهم في الحياة "تحسين الوضعية الإدارية"، توسلا ب"الخضوع والكراهية والتزلف والنميمة والتلون الدائم.." (ص20).

إنها نتيجة طبيعية للبيروقراطية الفاسدة والفراغ المتعاظم الذي يلف موظفي الإداراة، هذا ما يقوله السارد في نبرة تهكمية قاسية "يتعاظم الفراغ حتى يصير شراء حذاء أو جوارب أو كيلو سمك من الغديرة الحمراء حدثا يستحق لوك الكلام عنه لساعات طوال، بكاء طفل في الليل حدث، حتى التثاؤب والتمطي يصيران موضوعين للتحليل والمناقشة. كيف يتمكنون من العيش محاطين بمثل هذه الأفكار؟ (ص72)، ويقول عنهم أيضا في صفحات مفصلة: "ورأيت موظفين شابوا قبل الأوان وتقرحت جفونهم وهدهم الفراغ المكرور. لا يفوتهم دعاء أذان أو دعاء كأس، يتلهون فقط بالتعمق في تفاصيل الأمراض العديدة التي غنموها من مكاتبهم: الروماتيزم، البواسير، ألم المفاصل، السياتيك، السهو، فقدان الذاكرة واضطرابات القلب والنوم وفقدان الشهية... (ينظر: صص 128-133 أصناف الموظفين)

وأما عن التدبير الإداري، فإنه أشد بؤسا، ولعل التخبط فيه هو الذي خلق تلك الأصناف من الموظفين الفائضين عن الحاجة. إنه "مجال يبرز فيه الرؤساء مواهبهم في تعذيب المرؤوسين وفي الإيحاء بأن العجلة تتقدم ومقاومة الهباء الذي يطحن قلب الإدارة ومفاصلها. اجتماعات تلد اجتماعات وتتفرع هذه الى لجان واللجان الى لجينات تقبر فيها أشد النوايا حسنا ونجاعة. مساحات زمنية من الجدية الزائفة والمهاترات والتثاؤب والكلام لمجرد إثبات الحضور ص74. لاشيء، لاشيء... أو لك أن تقول، بالأحرى، إن التدبير المعلن زائف، ليس سوى تدوير للفراغ من أجل ألا يتغير أي شيء. هناك تدبير، ولكنه تدبير مفرغ من الروح، يطرد العقلانية بعيدا ويحصن الإدارة ضدها، لتبقى السلطوية سيدة المشهد وراعيته وحامية بؤسه وانحطاطه.

هذه بعض المشاهد الحية من واقع الإدارة وموظفيها. ظاهرها حداثة وروحها جاهلية وتخلف، إنها كتيبة الخراب. وما أمر هذا الوصف وما أقساه!

ما الحل؟

يقول بطل كتيبة الخراب:

"كنتُ أحصن الوضعية التي اخترتها لنفسي: نكرة إدارية مهملة لا ترى في حرب المهزومين ضد بعضهم إلا كلَبية مقرفة... ص20. ويقول موصيا نفسه بالمقاومة السلبية: "سلاحك الكتاب وضرب من العزلة الصارمة... واحرص على أن تبدي نوعا من الغباء الإداري، لا أحد يفكر فيك لأية مهمة، لا أحد يحسدك أو يطاردك لحظوة أو نجاح موهوم" (ص52). قد يكون هذا السلوك ضربا من الانسحاب والتولي، ولكنه سلوك المضطَر الذي سحقوه وحشروه في زاوية المتفرج المنتظر:

"أما نحن قطيع المؤسسة الوديع والصامت الذين لا تتجاوز أحلامنا مشاغلَنا وهمومنا الفردية البسيطة، فلا نتطلع لقيادة أحد، ولا ننصب أنفسنا للدفاع عن أحد ولا ندعي حكمة أو معرفة أو حتى صلابة (الزهد والعفة والإحساس بالقهر). نحن الذين مرغت أمام أعيننا في التراب كل الأفكار العظيمة لمجتمع أفضل، وعري أمامنا معظم الرموز، وشهدنا النقائض تتآخى والحمل والذئب يأكلان من نفس الصحن ويتحدثان نفس اللغة، والمسافر وقاطع الطريق يتخاصران، ورأينا تصحر الأفكار والمشاعر ومواطن الجمال والخير والرأفة تتسع من حولنا. نحن اللاشيء الذين جرب فينا كل شيء. اللاشيء الذي انتظر وسينتظر حتى خريف العمر. (ص149).

وبالإجمال، فكل شيء في هذه الرواية مدثَّرٌ بالخيبات، آيل إلى السقوط، متجه إلى الخراب...  كأن هناك يدا ماهرة ولكنها خبيثة هي التي تدير المشهد وتتحكم فيه، وإحدى أخطر أدوات تحكمها تيئيس الناس وإغراقهم في الهموم الصغيرة: "دولة مريضة برهاب الأمن تريد مني ومنك أن نغرق في صغائر يومنا" (ص63).

غير أن تتبع سلوك السارد، تجاه نفسه ووظيفته وزملائه والإدارة والدولة والمدينة، يكشف عن نمط جديد من الموظفين مغاير كل المغايَرة لأكاكيفيتش أو بيومي أو زملائه الموظفين. نكتشف، مع هذا النمط الجديد توجها حثيثا نحو المقاومة، معززا بوعي حاد بالخراب المستشري واحتراق دائم بهموم وضعه ووضع زملائه والمؤسسة التي ينتمي إليها ووضع المدينة وفضاءاتها ومعمارها وسكانها والبيئة وتحدياتها وحقوق الإنسان وقضايا الوطن... لم يكن منطويا على نفسه ولا كان أنانيا يقدس ذاته ورغباته ولم يستسغ تحويله إلى "لا شيء". كان، رغم كل شيء، يرفض العبث والتناقض والفراغ ويرى أن ذلك لا يُربك الحياة فحسب، بل يسحقها ويحول الناس فيها إلى عدم، إلى لا شيء. كان فاعلا اجتماعيا (مساعدة ميمون الحلاق، مساعدة الآنسة، مؤازرة الأب، احتضان الشجيرة...) وكان ثالث ثلاثة "مجانين" يطالبون باسترداد ماء العين... واسترداد ماء العين يعني استرداد الحياة في صفائها وعذوبتها، ووقف زحف التصحر والقبح والخراب!

خلاصات واستنتاجات

  • هذه أعمال أدبية في فترات متباينة، كتبها أدباء موظفون؛ تعرض جوانب من حياة الموظف المهنية والنفسية والاجتماعية.
  • في هذه الأعمال الأدبية صور مختلفة لكائن واحد هو الموظف؛ يبحث أكاكيفيتش في قصة المعطف عن حياة عادية، كسائر الناس، فيحال بينه وبينها، ويبحث عثمان بيومي، في حضرة المحترم، عن القوة والمجد فيموت دونهما ويبحث البطل في كتيبة الخراب عن معنى وجدوى فلا يجد إلا العبث والفوضى والفراغ واللامسؤولية... عاش أكاكيفيتش آلةَ إنتاج ومات فداء لمعطفٍ! وعاش بيومي لاهثا وراء القوة والمجد والسلطة فمات وحيدا! وعاش الموظف السارد في كتيبة الخراب رافضا ساخرا، فانتهى جنديا متمردا...  

القلق صفة ملازمة للموظف في الأعمال الثلاثة؛ الجميع قلق: الموظف الآلة والموظف اللاهث والموظف الرافض... على اختلاف بينهم في النوع والدرجة.

  • مشاهد البؤس الاجتماعي تلفُّ الموظف؛ ففضلا عن الفقر والتهميش اللذين لم تغن عنهما الوظيفة شيئا، نجد أكاكيفيتش مثيرا للشفقة والسخرية (من زملائه) ومثيرا للازدراء (من السلطة)، ونجد بيومي وحيدا معزولا، مستبعَدا من الفئات الاجتماعية العليا ومستعبَدا مقهورا من الأعلى منه درجة في الوظيفة، أما في كتيبة الخراب فإننا نجد الموظف السارد نُهبة للفراغ، مهدور القُوى، ضحية مزاج السلطة، فريسة لوعيه الشقي...
  • يبدو النظام الإداري في الأعمال الثلاثة مفرغا من روحه؛ فلا عقلانية ولا تخطيط ولا اعتبار للكفاءة والمردود... هو مجرد أداة لممارسة التسلط بطريقة عصرية ومنظمة!

أخيرا نتساءل؛ هل أخطأ الموظفون الثلاثة في شيء؟ هل أخطأ أكاكيفيتش حين دفن نفسه بين الأوراق ناسخا ونسي حظه من الحياة؟ هل أخطأ بيومي حين تجرأ على الإيمان بقدراته وحلم بالقوة والمجد كما يليق بأي إنسان طموح؟ هل أخطأ السارد في كتيبة الخراب حين كان الأكثر وعيا وثقافة، فظل على هامش النظام الوظيفي واختار العزلة الصارمة رافضا الانخراط في حرب المهزومين؟ هل كان يملك البؤساء الثلاثة بديلا آخر غير الوظيفة، وهل كان هناك أسلوب آخر أضمن لحياتهم المهنية والاجتماعية والنفسية ولم يسلكوه؟ هل كانوا يملكون القدرة على تغيير الواقع الإداري والاجتماعي المعادي للعقل والأخلاق؟ ولماذا توجد إدارة سيئة رغم وجود موظفين أكفاء ومتفانين؟ أين الخلل بالضبط؟ ولماذا الإصرار المستميت على تحديث شكل الإدارة والعبث المستديم بروحها؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

  1. عبد الكريم الجويطي، كتيبة الخراب، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2/2023.
  2. نجيب محفوظ، حضرة المحترم، دار القلم، بيروت، ط1/ 1977.
  3. نيكولاي غوغول، المعطف والأنف، ترجمة محمد الخزاعي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1/2013.
 

[1] المعطف، صص:13-15.

[2] حين قرر خياطة المعطف، أصبح له هدف وصار أكثر تصميما وحين ارتدائه غمره الدفء والسعادة "ولم تكن تمر ثانية دون أن يشعر بان معطفه الجديد على كتفيه"!.

[3] هبط إلى مقره الجديد (في قسم المحفوظات) وجناحاه ترفرفان! ص 8

[4] لا يتحقق معنى لوجودنا الا بالعرق والدم ص45

[5] قال لنفسه... ولكن كيف يفوز بحريته ورضى رئيسه معا؟! ص28

[6] كتيبة الخراب، ص218.