بلغة سلسة، نسج الكاتب العراقي روايته المشحونة بالوجع، الذى يشعر به القارئ، ويلمسه، وكأنه الأنين المكبوت، والمشحون بالمرارة، وكأنه تجربة شخصية، يمكن أن تستأثر بالقارئ، وتنتزع منه التعاطف، الذى هو وسيلة الإبداع الحقيقية في التوصيل. لتتحول روايته «إطار المرأة» إلى إبداع مثير للجدل، ويدعو للتساؤل والتفكير.

إطار المرآة

رواية العدد

أحمد غانم عبد الجليل

 

أكتبُ إليك ولا أعرف إن كنتَ متفرغًا أو سوف يواتيك المزاج لقراءة كل ما أدَوِن، لكنني أشعر الآن برغبة كبيرة في البوح، أخشى إن غادرتني فجأة أتوقف عن السرد تمامًا، وربما أمحو كل ما سَطرت وأخجل من إفشاء سره أمام أحد، وإن كنتُ أعرف منذ الآن أن الندم سوف يباغتني فيما بعد، إلا أنني لم أعد أعبأ حتى بالندم على شيء، أو آسف على أي مما خسرتُ، فليكن ما يصلك مني بشأن كل مراوغة قمتُ بها في حياة لا يفتقدني فيها أحد بمثابة مدَوَنة عنوانها:

 "ما لا تعرفه بعد عن مروة"

 

ـ 1 ـ

كدتُ أطلق ضحكة قوية وطويلة لدى سماعي زوجة أخي عبر الهاتف وهي تخبرني برغبة أحد أصدقائه بالزواج مني بعد أن رأى صورتي من ضمن الأصدقاء في صفحته على الفيسبوك، وأنه يرغب بالتواصل معي عبر الماسنجر كي نبدأ بالمحادثة تمهيدًا لحزم حقائب سفري ووالدتي، فيتم شملنا في ذات المدينة التي يقيم فيها شقيقي الأكبر وعائلته، اسمها صعب ويغيب عن بالي باستمرار، يكفي أنها في إحدى بلاد الأحلام لأي واحدة مثلي، امرأة تجاوزت منتصف العقد الثالث من العمر، ليس في ملامح وجهها سِمة جمال يمكن أن تلفت النظر نحوها، تؤكد ذلك دومًا المرآة التي اعتدتُ إطالة التحديق بها منذ بداية تكوُر جسدي وبروز النهدين على نحو كبير يسطع في العيون التي ألمحُ تلصص نظراتها المشاكس، بما فيها عيون الأساتذة في المرحلة الإعدادية والثانوية والجامعية.

 في البداية كنتُ أستمتع وأُستثار بتلك النظرات المشتهية تدلي الصدر وانحناءه، كما لو كان صدر راقصة عامر يهتز مع رعشات جسدها وتمايله المستمر، خاصة وأن الكثير من الفتيات كنّ يتمنين أن يمتلكن مثل حمامتيّ الساحرتين، بينما تلجأ بعضهن إلى حشو صدورهن بالقطن والإسفنج، إلا أن ذلك الزهو سرعان ما استحال لديّ إلى امتعاض وكراهية واشمئزاز من تلك العيون النهمة كما لو كانت لمعات مخالب تريد نهش لحمي العاري مهما ارتديت من ثياب فضفاضة، صرت أحبذُها على المفتوح والضَيق حتى انتهيت إلى قرار ارتداء الحجاب، لكنني مع ذلك ظللت أتوق أكثر وأكثر إلى أحضان رجل يحتويني ذراعاه بالكامل، لا صدري الذي يتسع لألف شفاه وملايين القبُلات فحسب، كما ظلت تتلقفني الأهواء الشبقية على نحوٍ متصاعد ولو في خفايا الخيال.

 وهجٌ ضبابي راح يعتريني بضراوة في ليال الشبق العارية من كل ملابس يمكن أن تلامس جسدي المتلوي في الفراش، كما لو أني عاهرة تنهكها التوبة التي شهد عليها كل من تعرف، أتستر عليها بالحجاب والجُبة الفضفاضة، دون وضع ذرة مكياج ولا قطرة عطر يمكن أن تشي بشيء مما يختلج كياني ويسرَح بعقلي نحو عيون الرجال ومكامن فحولتهم دون وعيٍ مني حتى أنتبه إلى ذلك فاستغرق في استعاذة أعرف أنها مجرد خداع للنفس ما دامت هواجس الغزوات الجنسية لا تنفك عن مراودتي حتى أثناء الصلاة التي لم ألتزم بها ذات التزامي بالحجاب.

من سخرية المواقف التي مررتُ بها أن البعض ظن أني واعظة أو على الأقل متفقهة في الدين، ومن الذين يشرَعون سيف الحلال والحرام لدى كل تصرف وكلمة، عندها أتعمد أن آتي بنكتة أو ضحكة عابثة تستعجل مغادرة مثل تلك الظنون المخيفة بالنسبة لي للأذهان، فما شأني أنا بالدروس والمحاضرات الوعظية والكُتيبات التي أخذت تتنقل خفية بين الطلاب المعزولين عن الحياة، بينما أتوق إلى الانغماس في كل تفاصيل الحياة بالكامل، لكن دون أن تعلق العيون النهمة في استدارة وانتفاخ نهديّن هما كل ما يمكن أن يميزني عن الفتيات الأخريات، وخاصة في عينيّ شخص مثل فراس.

 كم تمنيتُ أن أكون له طيلة العمر، حبيبة قبل أي شيء آخر، ينظر إليّ مثلما يفعل كلما حطت عيناه على فاتن، أيقونة الفتنة في ناظريه، وهذا يكفي أن يجعل منها بمثابة ملكة جمال العالم لديّ.

لهذه الدرجة كنتُ متيمة به، فهو أفضل فرصة حب يمكن أن تحظى بها فتاة في رأيي، لذا تمسكتُ بصداقتها، بل تقربت منها أكثر حتى صرت صديقتها الحميمة، والوحيدة تقريبًا، كي أكون قريبة منه أيضًا قدر المستطاع، ما دمتُ فقدت الأمل أن أكون حبيبته فلأكن على الأقل من ضمن محور حياته، خاصة عندما أتولى دور الوساطة بينهما عند الزعل، أو عندما لا يستطيع رؤيتها أو الاتصال بها لأنها تكون تحت رقابة أهلها المشدَدة بعد أن وصلَ مسامعهم بعض التلميحات السخيفة عن علاقة تربط بينها وبين شاب لم تكلمهم عنه شيئا...

حكاية كل قصة حب تبدأ في سَوح الكلية، وغالبًا ما تنتهي قبل نهاية السنة الدراسية.

 مع ذلك لم أتخذ دور الصديقة الحسود الشريرة والتي تُعِد المكائد وتنسج الأكاذيب للتفريق بين الحبيبين، بل أني ولسببٍ غريب، ربما لا يدرك تفسيره غير الأطباء النفسيين، كنت أحاول التقريب بينهما أكثر فأكثر، وكم استمتعتُ بجموح الخيال الذي يجمع بينهما فوق فراشي، كي أتعرى تحفزًا للمشاركة في حفل عشق لا ينتهي حتى بعد انبلاج الفجر، أرتشف من شهوة خمره ما أستطيع، فيكون معي مرة ومعها أخرى... شبق وأهواء جنونية أخجل منها حينًا وأعود لأهفو إليها أحيانًا أخر، حتى بعد مرور كل هذه السنوات وزواجهما وسفرهما إلى الخارج وتحول تواصلي معها إلى محادثات ومكالمات فيديو أخذت تقل عامًا بعد عام، وكالعادة تحدثني عما يحصل بينهما من مشاكل قد تهدد بالانفصال، فيبدو لي وكأنها تتكلم عن شخص لا أعرفه، وليس ذلك الشاب الوسيم الذي كنت أتشوق لرؤيته ولو لمجرد أن يلقي عليّ السلام بابتسامته الوهّاجة والمليئة بالثقة التي تبحث عنها أي فتاة في من تحب، وأنا أحببته بحق وليس فقط ليكون أحد أبطال أفلامي المستترة في جنح الظلام، أحببته ربما أكثر مما فعلتْ، ولو كنتُ أنا التي معه هناك لعرفت بالتأكيد كيف أحتوي شطط جنونه وجزعه من تحمل المسؤولية التي يفرضها عليه استمرار التنقل من مدينة إلى أخرى بين أكوام من الثلج، ترسل لي صوَره بين الحين والآخر، بينما تقف وإياه برفقة أولادهما في مراميه مثل أي عائلة سعيدة تخفي وجوهها ما ينحته تعاقب السنين فيهم، فتهفو نحوي المزيد من الذكريات ويطَوِحني الحنين إليه من جديد، رغمًا عنها وعن صداقتنا المستمرة عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، دون أن تعرف أي منا عن خصوصيات الأخرى إلا ما تسنح به فرص الكلام المختزِل للكثير من الأحداث والتفاصيل، في مقدمة تلك الذكريات شجاره الجسور لأجلي، فقط لأنني أعز صديقة لحبيبته، ووقوفه إلى جانبي سوف يزيد من رصيد حضوره في قلبها بالتأكيد.

دفعتُه إلى تلك المشاجرة عن عمد، فقط لأشعر باهتمامه وخوفه عليّ كأنثى، ولو على نحو مخادع، عندما تقٓربَ مني إبراهيم، أحد المخيفين بلُحاهم الكثة وغير المشذبة، رغم الابتسامة المصطنعة المرتسمة فوق الشفاه، وكأن واحدهم يقَلِد الآخر. لم يستغرق في الكلام تمهيدًا لعرضه الزواج مني في السر لدى الشيخ الذي يعتبره مرجعيته في كل شؤون الدين، بحضور اثنين من (أخواننا) في الله.

بذات سرعة كلماته حدستُ مدى طمعه في التهام نهديّ بصورة شرعية لا أكثر، فقد كنت أفطن إلى نظراته المتسللة نحو فوران أنوثتي قبل ارتدائي الحجاب، لكني بالتأكيد لم أرضَ إيواء طيفه في فراش شهواتي ولو قليلا. صرختُ في وجهه بقوة صدَّعت غرور وعنجهية فحولته التي ربما ظن أني أنتظرها على أحر من الجمر، وكان يمكن أن ينتهي الأمر عند ذلك الحد، خاصة وأنه لم يُجب بكلمة بل سارع الخطا حتى غاب عن نظراتي المشمئزة من مجرد تفكيره أني سوف أوافق على عرضه المهين، لكنني سمحت لدموعي أن تُذرف بغزارة أمام فراس وفاتن، وكأني أحثه أن يكون رجلي أنا دون أي فتاة أخرى، أن يحتضنني ويحميني بين ذراعيه من كل من يسعى إلى نهدين تاقتا لأن تكونا وسادة رأسه ومهبط أصابعه كما يشاء وبعيدًا عن كل العيون.

عند موقف السيارات أمام بوابة الكلية أوقفه وأمسك أحد ذراعيه بقوة، كما لو أنه تجرأ على المساس بأخته، ثم أخذ يضربه بعنف حتى أدماه، والآخر الجبان لما عجز عن الرد راح يصرخ وهو يُحسبِن ويحَوقِل ويُكبِر، كما لو أنه في معركة من معارك الإسلام الكبرى، مع أنه استطاع في البداية أن يسدد عدة لكمات إلى وجه وصدر حبيبي، فتمنيتُ أن أهفو نحوه لأضمد الكدمات بعناق لا ينتهي وعلى مرأى من الجميع، دون خجل من شيء أو خشية من أيٍ كان، ولو كُنيتُ بعاهرة الكلية بعد ذلك.

انتقلَ إليّ خوف فاتن أن يقرر ذلك الأحمق الانتقام من فراس، مستعينًا بعدد من أصدقائه المتشددين، ولو بحجة إقامة الحَد، وكأنها تحَمِلني إثم ما يمكن أن يواجهه على أيديهم على حين غفلة، والحمد لله أنه لم يحدث ما كنا نخشاه ويثير سخريته من جنوح مخيلتنا، فقد اختفى إبراهيم تمامًا دون أن يثير المزيد من المشاكل، وكأنه تعرى أمام الجميع ولم يعد يجرؤ أن ينظر في عينيّ أحد، لا عينيّ أنا فحسب، وقبل أن أحاول تناسي الموقف الذي أكدَ شجاعة ورجولة حبيبي لديّ عرفتُ أن ذلك الملتحي قد تم اعتقاله ومجموعة من رفاقه في دروس الوعظ، عندئذٍ فقط سمحتُ لطَيفه أن يلج فراشي ويعربد بي كما يشاء، ربما بدافع الشفقة بدل فرحة التشَفي لأنه تجاسرَ برغبة معاشرتي بمباركة من شيخه الجليل، فمن بين ما لا تعرفه عني لحد الآن أني شخصية عاطفية جدًا ورومانسية، على غير ما يعهده المُقربين مني عن تصرفاتي وانفعالاتي العصبية إلى حد الجنون أحيانًا.

نعم أنا رومانسية في طبعي، وأحب الحب في حد ذاته، وإن كانت هيئتي تبدو صارمة مثل راهبة أو مديرة مدرسة تقليدية تريد تسليط كل عُقَدها نحو طالباتها التواقات إلى شغف الحب والانطلاق بعيدًا عن أسوار المدرسة، لكنني لا أريد أن أسهب بمثل هذا الشرح والتحليل حول شخصيتي وما تتضمن من مشاعر لم يستطع احتواءها رجل، فأنا لا أبحث عن أعذار، ولست بحاجة لتبرئة نفسي أمام أحد، ولا تطالبُني ولو بينك وبين نفسك بما لم أشأ كتابته كي أترك لفطنتك تتبع المزيد من التفاصيل المترامية هنا وهناك، ومَن يرغب بالزواج من امرأة لا يعرف شيئًا عنها سوف يفعل ذات الأمر بالتأكيد ما أن تبدأ محادثاتنا المتلصصة على خفايا حياة كل منا، أما جسدي المشحون بتيارات الأنوثة الصاعقة فلن يرى منه إلا ملامح وجهي المحاط بالحجاب والثوب الفضفاض، لذا يجب أن أكون حريصة في كل كلمة أكتبها أو أقولها عبر شاشة الهاتف أو الكومبيوتر كي يصله مني ما أريد أن يعرفه فقط فيتسنى لي إنهاء التواصل عندما أريد دون أن أترك أي ذيول لرغبةٍ في الزواج نشأت عبر النت بين شخصين غريبين عن بعضهما تمامًا ولم يصادٓف أنهما التقيا من قبل، فيعود كل منا إلى عالمه الذي لا يعرف الآخر عنه شيئًا، أي أني لن أخبره عن نزواتي ولا مغامراتي المخبأة في جحر أسراري المحتجب عن الجميع، وبالتأكيد لن أنجر إلى مجرد التلميح بأني متزوجة في السر، ولتكن تلك المحادثات المتبادلة عبر قارتين مجرد تسلية جديدة علقت في جنح الخيال دون توقع مني، أو مغامرة مثيرة نحو رجل حفزته فحولته، المحرومة أغلب الظن، صوب صورة رآها عبر الفيسبوك، وربما خزنها لديه في الهاتف كي تكون معه حتى وهو في الفراش، من الأفضل أن يتشكل لدي مثل هذا التخمين الوقح كي أتحمس لإجراء أولى لقاءاتنا (التكنولوجية) فقد اشتقتُ لذلك الجموح المراهق المنسوج من خفايا ظلمة غرفتي، والذي يخاتل كل تحفظ تصطنعه فتاة مراهقة تشهد لتوها زهو أنوثتها أمام الجميع.

 

ـ 2 ـ

كان الأمر في البداية أشبه بلعبة لا أدري إن كانت سوف تستمر، وإلى أي حد، بعد أن عجزتُ عن استقراء ملامح من شخصيته عبر صوره الشخصية الموجودة في صفحته ومنشوراته وما يشارك بنشره، أما مواصفاته فلأعترف أنها أثارت فيّ رغبة التعرف عليه عن كثب، فقد بدا لي رجلًا يهتم بهيئته وصحته نسبة لعمره الستيني، وسيمًا إلى حد ما، وجهه شديد السمرة، ذا عينين سوداوين، وابتسامته لا تشي بشيء محدد، فقط تحفز للكثير من التأويلات التي لا أريد الركون لأيٍ منها كي لا يدفعني ذلك لاتخاذ موقف مُسبق دون أن أُمهل نفسي فرصة التعرف عليه كما طلب مني كل أخوتي بإصرار قلق نحو مستقبل أختهم التي أهملوها كي تكون وحدها المسؤولة عن والدتهم المريضة بمفردها، بعد رحيلهم تباعًا والاستقرار مع زوجاتهم وأبنائهم خارج البلاد دون أملٍ في العودة، فأكون هذه المرة سببًا في لمِ شمل العائلة في الخارج عبر الزواج الميمون والبدء من جديد في بلادٍ أخرى لم تخنق سماءها الحروب.

 صرت المتحكمة بكل شيء، والمسؤولة عن تدبير أمور المعيشة الصعبة رغم وضعنا المادي الجيد نسبةً إلى كثيرين ممن طحنهم خط الفقر المتزايد عتوًا وشراسة سنة تلو الأخرى من سنوات الحصار، ومع ذلك اضطررت إلى العمل في شركة استثمارية لأحد معارف والدي، عرفت بعد ذلك أنها من ضمن شركات الغطاء التي كثرَ الحديث عنها بعد ذلك، في الحقيقة لم يكن اضطرارًا بقدر ما كانت رغبة مني بعدم الاستمرار بأن أكون رهينة الإيفاء بمتطلبات والدتي المتزايدة حتى عجزت عن فعل أي شيء بالتدريج، فجلبتُ قريبة لنا في عمر الخمسين، اشتدت عليها وطأة الفقر والوحدة، لذلك رحبتْ بفكرة الإقامة معنا وأن تكون طوع أمر أمي ليل نهار مقابل ألا تعبأ بتوفير أساسيات الحياة في السنوات العجاف.

 في تلك الفترة بالتحديد تفاجأتُ بفراس يقف قرب مكتبي في الشركة، كما لو أنه يتعمد الضغط على وتر حساس داخلي مهما سكنَ وتراخى يبقى عصيًا على الهمود، خاصة وأنه قررَ التقرب مني هو الآخر كي أستغل علاقة الصداقة الجيدة بالمدير لإتمام صفقة تخصه واثنين من أصدقائه، فعملت كل ما في وسعي من أجل أن يحظى بها، فقط كي أظفر بنظرة سعادة في عينيه أكون أنا سببها لا صديقتي التي استولت على كل خصوصياته وصارت تملُ منها في بعض الأحيان، ولولا أني استعذت بالله من همزات الشيطان مرارًا لكنتُ هفوت إلى أحضانه المرَحبة بي ولا شك لضمان عدم عرقلة الربح الذي ينتظره سعيَا وراء حياة جديدة راح يخطط لها وفاتن في الخارج.

 لم تخبرني اللئيمة إلا بعد حسم قرارهما والبدء باتخاذ إجراءات السفر، فكدتُ اختنق من شدة البكاء، وفاتن محمرة الوجه تواصل شرح الظروف التي استعجلت عزمهما على السفر دون إخبار أقرب المقربين، حتى أنها لم تخبر أهلها إلا بعد حصولهما على جوازيّ السفر... حجج وأعذار وسفسطة كلامية صار يلجأ إليها الكثيرون ممن ينوون السفر في جو خانق من الرقابة الأمنية المفروضة على الجميع، رغم أن الدولة أول من يعرف أن عدد المسافرين دون تفكير في العودة يتزايد بصورة يومية منذ بداية التسعينات، ولعلها تُحرض على ذلك بشكلٍ أو بآخر ما دام المسافرون يدفعون (بدل) عبور الحدود كما لو أنهم يدفعون ثمن خلاصهم من أسوار معتقل راح يضيق على أنفاسهم حينًا بعد حين.

 في يوم سَفرهما وطفلهما انتحبتُ لساعات، مثل طفلة فقدت والديها، ليس لأجل فاتن ولا حتى فراس فحسب، إنما أيضًا لأجل سنوات تمضي بي سريعًا إلى غير عودة، تنأى بي عن كل من عرفت، وقد أخذ الفراق يحرمني منهم ما بين موت ورحيل، وفي النهاية مُر الفقدان واحد، كما لو أنه حبات مسبحة انفرطت بدءًا من وفاة والدي ومن ثم سفر أشقائي واحدًا تلو الآخر، تهديد المرض بتهاوي والدتي شيئًا فشيئا، وبعثرة جلسات الصديقات خلال سنوات يتغير إيقاعها بشكل يفوق التصور، رغم ما كنت أشكو من لؤم كلامهن الذي أجده دومًا مصوبًا نحوي دون أي واحدة أخرى، خاصة أنني الوحيدة التي لم تتزوج أو تُخطب من بين الحاضرات، بدَوري كنت أجتهد في الرد المسنون بابتسامة الطيبة والوداعة المتماشية مع الحجاب الذي جلبَ أكثر من خاطب، لكن على شاكلة من أراد مضاجعتي في الكلية بعقد مبارك، وأيضًا كنتُ أنتبه أن نهديّ لهما الفضل الأكبر في اختياري من قبَل والدة أو أخت أو إحدى أقارب الخاطب الكريم، كما لو أنهن قوادات يعرفن جيدًا رغبة الزبون وما عليهن إلا العثور على الجسد المناسب لسوقه إلى فراش حضرته.

 ضحكتْ مني فاتن كثيرًا لهذا الخاطر، وأخبرتني والدتي أن العْقد سوف تستنزف عمري بالكامل، وبشكل متزايد، وأني أرفض الزواج مرة تلو الأخرى لأني لا أحب أن أكون تحت سيطرة أحد، بعد أن صرت المتحكمة بكل شيء، بما في ذلك هي، كما لو أنها من ضمن مقتنيات المنزل، دون أن يستطيع أحد مراجعتي في أي شأن أو تصرف.

 في إحدى تلك المهاترات التي تبرع بها رغم ما ينهك جسدها من إعياء كدتُ أقرر مغادرة الدار إلى غير رجعة ولأرى كيف تستطيع التصرف وإدارة شؤون حياتها بمعزل عني، لعلها تتأكد عندئذٍ أني مصدر أمانها الوحيد، ولولا اعتمادها عليّ في كل شيء قد لا تستطيع حتى إجبار قريبتنا المقيمة معنا من أجل خدمتها على احتمالها، وأن من الأفضل لي البقاء دون زواج كي لا يستحوذ زوجي وأبناء المستقبل على وقتي واهتمامي بها شيئًا فشيئا حتى تجد نفسها مركونة على الهامش وتبحث عمن يسأل عنها، بعد رحيل أولادها إلى خارج البلاد وانغماس كل منهم في حياته البعيدة كما لو أنه لم يخلف وراءه من يبالي للسؤال عنه إلا عبر المكالمات الهاتفية القصيرة، وكل واحد من الفرسان الثلاثة يتهلل صوته بآخر حوالة مالية قام بإرسالها، وكأنه بذلك يسدد دين تحملي المسؤولية بالكامل نيابة عنهم، أو أنه يدفع بدل اهتمام ورعاية ومواجهة أصعب الظروف في بلادٍ أخذت بالتدحرج نحو هاوية الاحتلال، وحتى بعده لم يزد العرض على الإقامة في شقة في عمّان حتى تستتب الأوضاع الأمنية، وقد فعلنا ذلك لفترة فعلًا، فالتم الشمل عبر سفرات سريعة من قبَل كل منهم وعائلته، إلا أني وأمي سرعان ما أصابنا السأم، وكأننا غير معتادتي الأمان والحياة الطبيعية بعيدًا عن صخب الانفجارات أكثر، تلك الحياة التي بدأت بالتلاشي لدي بعد وفاة والدي، مخلفة وحشة كبيرة أخذت تستوطن رجفات صدري، وقد فقدتُ الشعور بالاستقرار الذي كنت أحتمي به من تلك الأنانية التي صرت أستشعرها من أخوتي كلما انعزل أحدهم في مكالماته الهاتفية مع حبيبته التي تستلب عادةً ما تبقى من حيز اهتمامه بي شيئًا فشيئا، وكأني لم أعد موجودة إلا من أجل مساعدة والدتنا في تلبية مطالبهم، خاصةً إذا ما أرادوا أن يبدوا أمام الحسناوات في أفضل هيئة، ولن أحكي ما عرفتُ من نزوات قبل زواج إثنين منهم واستمرار الثالث في عربدةٍ فشلَ الأحمق في مُداراتها عني رغم كل محاولات تكَتمه، كانت إحداها مع زميلةٍ لي في المرحلة الإعدادية والثانوية، والأدهى من ذلك أنها صارت مُلتزمة بالحجاب أيضًا بعد زواجها من أحمق آخر تبهره فتنة الوجه ذو القسمات الملائكية قبل أي شيء آخر.

 بدَوري كم اشتهيتُ الولوج في مغامرات على ذات النمط، بعد أن يئستُ من الظفر بواحد مثل فراس دون سواه، رغم أنه كان يمكن أن يكون في متناول يدي لو أني أغدقت عليه ما لدي من غنج خفي يتوق إليه الرجال بعد الزواج عادةً أكثر من أي وقت آخر، خاصة لدى حَمل فاتن بأول أبنائهما، عندئذٍ كانت أي أنثى أشهى لديه من البقرة التي تحولتْ إليها، وكان يمكن لي أن أتزوج منه بعقد عرفي رفضتُ مهانة عرضه قبل سنوات، إلا أني لم أشأ أن أكون من تطعن صديقتها في الظهر، ولو لفترة لا تخلف وجعًا لدى أحد، كما أنه لم يعد بالنسبة لي أكثر من جسد شديد الحميمية بما يمثل من شهقات حنين لا تفارق أي فتاة نحو أول من خفقَ قلبها لأجله، أو لنقل أكثر من خفقَ قلبها لأجله، فقد بدأ قلبي بالخفقان قبل ذلك بسنوات، نحو كل من يقترب مني في مواقف وظروف مختلفة، إلا أنها تبقى خفقات مراهِقة مضطربة، شديدة التخبط والتسارع ولا ترسو إلى قرار.

 مع ذلك لم أكن على استعداد أن أصير أنثاه الاحتياط بينما تعاني صديقتي من وهنٍ يأخذ بالاقتراب يومًا تلو الآخر من مخاض الولادة، وكما يبدأ الجميع حياته التي اختارها لأبدأ أنا أيضًا رحلتي الحقيقية مع شبق الرجال، بمنأى عن أي قيد أو شعور بإثم يمكن أن يغتال طمأنينتي ولو بعد حين.

 

ـ 3 ـ

وافقتُ على فتح الكاميرا سريعًا، مستجيبة لطلب خالد دون تأجيل، ولو بفعل الدلال كي لا يعتقد أنني متلهفة للاقتران بأي شخص تخطر على باله فكرة البحث عن زوجة عبر الماسنجر، فقد أخذتُ في الحسبان ما أرست الغربة فيه من تفكير عملي لا يعبأ بالمماطلة السخيفة التي ألفناها في بلادنا، وقد صدقَ حَدسي بشأنه لمّا بدأ حديثنا بشكل تلقائي كما لو كنا معتادين على ذلك منذ فترة وكل منا يعرف عن الآخر أكثر مما يتصور.

 لا أدري ما الذي أخبره شقيقي عني بالتحديد لكني عرفت منه ومن زوجته أنه كان متزوجًا وماتت زوجته إثر إحدى انفجارات حرب الخليج الثانية وهي حبلى، فنال تعاطفي مع محنته منذ البداية، ثم تزوج مرة أخرى بعد استقراره في بلد اللجوء من امرأة ثرية، كانت سبب ما لديه من ثروة، وقد رسمت مخيلتي صورة لها كامرأة ساقتها الشهوة للزواج بمغترب يصغرها بأعوام كي تمضي معه سنواتها المتبقية قبل وفاتها بمرض السرطان، قصة تقليدية إلى حدٍ ما، ربما يعيد حديثه تشكيلها في ما بعد، المهم أنه رجل غني الآن، والغنى يجعل منه فرصة مميزة للكثيرات، فلمَ ساقته الظروف للبحث عن عروس عبر الفيسبوك، حتى لو كانت شقيقة أحد أصدقائه، إلا إذا كان أخي الحبيب هو من عرضني عليه، بشكل مباشر أو غير مباشر، وخاصةََ عندما عرفت أنهما مرتبطان بأكثر من صفقة تجارية، وربما أكون أنا وسيلته لشراكة دائمة مع العريس المنتظر، غير مكتفٍ بما استولى عليه برفقة شقيقيَ الآخرين من حصتي في الميراث، مهددين ببيع بيتنا أيضًا، لولا أني ووالدتي مانعنا ذلك بإصرار من يخشى انتهاء مصيره إلى الشارع.

 اتبعتُ ذات طريقته العملية في الكلام وواجهته بالسؤال الذي دارَ في رأسي بإلحاح متزايد، فأخبرني دون تلكؤ، وكأنه كان ينتظر مني ذلك السؤال بالتحديد وأعدَ نفسه جيدًا للإجابة، أن رغبته في الإنجاب أكثر ما دفعه للتفكير بالزواج مجددًا، رغبة جامحة لم يستطع نبذها عن باله وسط كل مشاغله وسرعة تنقله بين بلد وآخر، لكنه أيضًا لا يريد أن يتزوج من غير نسوان بلاده، وقال مفردة (نسوان) بالتحديد عن قصد، لأنه أيضًا لا يميل إلى الزواج بفتاة عشرينية يكون فارق العمر بينهما جد كبير.

 صراحته جريئة، وربما تكون صادمة وجارحة إلى حدٍ ما، ومثيرة في ذات الوقت حتى أني تحفزتُ سريعًا، وعكس ما قررت من قبل، لخلع الحجاب أمامه ولبس ثوب ضيق كي أرى انعكاس تدلي نهديّ المثيرين في عينيه، وتثيرني نظراته عبر الفضاء الواسع.

 تجربة جديدة وغريبة بالنسبة لي، لا سيما نحو رجل ستيني، من في مثل عمره يمضي حياته بين أولاده، وربما أحفاده، لا أن يرغب بدنيا جديدة يحصل عليها من سوح بلاده التي غادرها منذ عمر وخلفَ فيها الكثير من ذكرياته مع امرأة أخرى كان يمكن أن تكون أم ولده، أو أولاده، في حياة مغايرة تمامًا لما هي عليه الآن، لولا شظايا الصاروخ التي اخترقت جسدها، بينما نجا هو كي تتجه خطاه نحو مسار لم يخلد في ظنه يومًا أن يخطو فيه خطوة واحدة، ومن ثم نحوي أنا بالذات، فرصته الأخيرة في تعويض ما فقدَ تحت الركام الذي تناثر على مدى بلدٍ بأكمله.

 خلال فترة الحرب المميتة تلك كنت في المرحلة الثانوية، تزهو في ذهني أحلام وأخيلة الشبق الأولى، بينما كان غزوان يشهد أولى انكسارات حياته العسكرية، كأحد ضباط الحرس الجمهوري، أثناء وبعد الانسحاب الشامل من إمارة الكويت.

 وكأنني أرقب تحركاتنا نحن الثلاثة في غمرة الأدخنة التي حجبت عنا كل شيء وعزَلتنا عن العالم، كل منا يدور في تيهه وشتاته، لا يتمكن من التراجع أو التقدم خطوة ضمن سيل أقداره التي قررت أن تسوقه صوب الآخر، وهأنا أجد نفسي بعد تتابع السنين وتوالي النكبات التي شهدها كلٌ منا بين رغبة الرجلين في إيجاد طوق نجاة من خلالي، بينما أبقى منغمسة في ذات الحلم الطريد الذي استولى عليّ منذ بداية أحلام المراهقة، شأن كل فتاة تحرص ألا تتصدع مرآتها ولو وسط دمار الحروب التي احتوت جُل سنواتها، دون أن يتسنى لها التوقف إلا كي تبدأ من جديد.

 

صورة غريبة ومستفزة استولت على ذهني حتى وأنا بين أحضان زوجي السري الذي يفاجئني كل مرة باحتدام فحولته أكثر من المرة السابقة للقائنا في الشقة التي استأجرها في أحد الأحياء البعيدة، حريصين على تجنب النظرات الفضولية والألسنة الثرثارة التي يمكن أن ترصد دخولنا وخروجنا، واحدًا في إثر الآخر، مرتوية بالكامل من شبق العسكري والمعتقل السابق لدى سلطة الاحتلال، والذي اصطدتُ استثارته نحوي فلم أشأ أن أفلتها كما حصل لشهوات الكثيرين من قبله، رغم كثرة إغراءات الموظفين والمتعاملين مع الشركة التي كنت أعمل فيها، أغلبهم من طبقة رجال الأعمال التي ظهرت فجأة في زمن الحصار، تكفي عطورهم الغالية لتغرقني في دنيا من الحميمية المتمردة على الحجاب الذي تمسكتُ بارتدائه أكثر من ذي قبل، وكأني أحاول إخفاء ميلي نحو أيٍ منهم والتصدي لأطماعهم في نهديّ العامرين بإثارة مغرية يمكن لها النفاذ عبر كل ثوب فضفاض يستر ثنايا جسدى، أو هذا ما يخطر في بالي كلما تحدثت مع رجل ولو ضمن سياق كلامٍ عابر. بينما أردت أن أختار أنا الرجل الذي أتفضل عليه بمنحة فض بكارتي واحتواء فتنة احتجبت عن أعين الرجال طويلًا، ولا أدرك لحد الآن مدى السرعة والجرأة اللتين ساقتنا إلى توقيع ورقة زواج عرفي، والله هو الشاهد على كل شيء، فلمَ نُقحِم آخريْن قد يخضع أيُ منا لابتزازهما في يومٍ من الأيام؟

اِسخر مني كما تشاء، لكني ورغم كل ما قد يخطر في بالك وكل فكرة خاطئة يمكن أن تنتابك عني أبقى امرأة ملتزمة، أخاف الله، وأحب المحافظة على اسم وشرف والدي ـ رحمه الله ـ الذي يشهد له الجميع بحسن السُمعة، فبالتأكيد لا يستحق مني أن ألَوث سيرته العطرة مهما اشتد بي سعير الشهوة نحو أيٍ كان، فقط فراس ربما، أقول ربما، كنت مستعدة في وقتٍ من الأوقات أن أكون له كما يشاء دون شرط ولا قيد، لكني أيضًا لم أغلق قلبي وعقلي عليه وحده، ما دمتُ سوف أبقى بالنسبة له صديقة زوجته المقربة لا أكثر.

أما الآن وقد خابَ لدي بقايا الأمل بزواج مُعلَن ومستقر ممن يستحق أن أكون له جارية وعشيقة متى شاء، بعد أن تمادى بي الرفض لمثل ذلك الزواج الذي يحتجزني رهينة نزق رجل يتحكم بي وبكل تصرفاتي ليل نهار، فيحق لي اختيار من أشاء، متجاوزة أي قيود وحواجز وأعراف اجتماعية، ما دمتُ صرت المسؤولة عن كل ما يخص حياتي وحياة والدتي بالكامل. لم أعرف أن صديقاتي شهدنَّ مثل هذه السعادة التي تفوق كل لذة خيال أدركتُها، فكيف كان لي أن أفوِت عليّ مثل هذا الجموح لدى رجل ترامى داخله الانكسار على مر سنوات منذ معركة المطار، التي ساقته أسيرًا لدى قوات التحالف، يشهد الكثير من التعذيب وربما حتى الاغتصاب.

بالتأكيد لم أجرؤ أن أساله عن هذا الأمر واكتفيتُ بما أشيعَ ووصل مسامعي من فضائح عن هول ما حدث في سجن "أبو غريب" لكني أدركت جيدًا ما يعانيه العسكري المهزوم حينًا بعد حين، فبعد خروجه من المعتقل تفاجأ بسفر ابنتيه الصغيرتين برفقة زوجته إلى الخارج، كما لو أنها قررت نفيه من حياتهم إلى الأبد، رغم أنها من كادت تعرض عليه نفسها حتى أقنعته بالزواج منها، كما أخبرتني شقيقته سوسن، من بقايا صديقات المرحلة الثانوية والمقيمة في بيت أهلها مع زوجها وأولادها من بعد إجبارهم على مغادرة دارهم تحت وطأة تهديد إحدى المليشيات الطائفية.

 كان لا يغادر غرفته إلا نادرًا، دون أن يجرؤ أحد على التكلم معه بشأن إفراطه في شرب الخمر كي لا يثور في وجه الجميع، كما لو أنه يريد أن ينتقم من الأمريكان والنظام الذي تخلى عنه ورفاقه واختبأ في الجحور مهددًا بإحراق الأرض تحت أقدام الجميع، مع ذلك وجدته شديد الانكسار من بعد أن كان يبدو أمامي بعينيّ صقر ومهابة رجل من ذوي النفوذ في حفل عرسه الذي حضرته قبل نحو خمس عشرة سنة، وكم حسدتُ زوجته البلهاء لأنها حظيت برجلٍ مثله، مع أنها في رأيي لا تستحق إلا أن تكون مدللة واحد من طبقة الأثرياء بعد جوع، إذ تتمكن من خداعه بدلالها المصطنع وتلك الضحكة المجلجلة لفتيات الليل.

 نعم حقدتُ عليها كما حقدت على الكثيرات ممن لا يستحقنَ جزءًا مما أتمنى ولم أحصل عليه، أما بعد أن تهاوى كل شيء فقد صار من حقي بمجرد أن أرسلتُ عدة إشارات لا يخبَرها إلا مكر المرأة جيدًا.

 بدأت بكلامي على مسمعٍ منه، لدى مغادرتي بيتهم، أن محرك سيارتي أخذ يصدر صوتًا غريبًا قبل وصولي وأخشى ألا يدور أو يتعطل خلال الطريق، ففازَ رهاني على شهامته بعرضه عليّ أن يفحصه، ومن حسن حظي أن أخته وصديقتي لم ترافقنا لأنها لم تستطع أن تترك ولدها الصغير وحده، فرعب الانفجارات صار مثل هاجس لا يرضى مفارقته أبدًا ولا يطمئن إلا بوجودها قربه طيلة الوقت.

 فتحَ غزوان صندوق المحرك ثم أداره، وراح يتفحصه فيما كنت أقف إلى جانبه. فاجأته بقولي أني ألاحظ عليه دومًا الإجهاد والشرود، قال ساخرًا أن شروده لن يتسبب بعطل سيارتي، فرددت أني لا أقصد هذا ولا تهمني السيارة بقدر رغبتي في الاطمئنان عليه، كما أن كلًا منا يحتاج إلى من يفضفض أمامه ويزيح عن كاهله بعض همومه، قلت ذلك ونظراتي تحتوي عينيه المجهدتين دون رمشة واحدة، بينما أخذتُ بالاقتراب منه أكثر وكأني أهمَ أن ألقي برأسي فوق كتفه العريض، وقد نجحت أن يلامس ذراعه أحد نهديّ بصورة تبدو عفوية حرّكت عرقًا في رقبته بطريقة أفهمها جيدًا من خلال خبرتي بخفقات الشهوة لدى الرجال، ثم أهديته ابتسامة تنم عن إدراكي ما خالجه جيدًا، بدوره أخبرني في مكر رجولي مفضوح، مهما تمت مداراته، أن السيارة تعمل لكن المحرك يمكن أن يتعطل في أي وقت ومن الأفضل أن يوصلني هو إلى بيتي كي يطمئن على سلامتي وعدم تعرضي للخطر في مثل تلك الظروف العصيبة، رغم الاستقرار الأمني الذي شهدته البلاد نسبيًا.

 خلال الطريق ظل يرمقني بنظرات الرجل الجائع والذي وعيَ إلى جوعه على حين غفلة، فنزعتُ الحجاب وبدأت بفك أزرار الثوب الفضفاض الذي اعتدت أن أرتديه فوق ملابسي، مستجيبة لرغبةٍ لم ينطقها لسانه، ليلوح له تكور نهديّ، وأنا أتعذر بحرارة الجو التي تجعلني كثيرة التعرق وأرغب بالاغتسال عدة مرات في اليوم.

 سألني إن كنا نستطيع أن نأخذ راحتنا في بيتي، لأنه يريد أن يحدثني طويلًا بما لا يستطيع أن يبوح به لأحد، خاصة وأنه صار يشعر بعزلته عن الجميع وكأنهم غرباء عنه تمامًا، وأنه لم يعد يعني لهم شيئًا من بعد أن كان محور اهتمام العائلة والأقارب والأصدقاء، بل وأصدقاء الأصدقاء أيضًا ... أجبتُ بحسم حرصت ألا أكون مبالغةً فيه، مكتفية بتحذيره من التمادي في تخيلاته، أن بيتنا ليس كافيتريا لنجلس فيه ويأخذ راحته كما يشاء.

 استمتعتُ بنظرة الدهشة التي بانت في عينيه دون أن ينبس بكلمة، واستدركتُ بابتسامة مشَبعة بدلال أعرف أنه يمكن أن يسوقه نحوي أكثر، ثم قلت بجرأة لم تواتني من قبل، فقد كانت أشبه بلعبة مقامرة على كل ما لديّ من أنوثة وكرامة في ذات الوقت، إنني لا أنكر إعجابي به وإنجذابي إليه من قبل أن يتزوج بواحدة لا تستحقه، غدرتْ به ما أن دخل المعتقل، لكني أيضًا لست فتاة متعة رخيصة ليفكر بي بهذه الطريقة.

غزوان: أية طريقة! أنا فقط سألت عن مكان نجلس فيه ونتحدث كما نشاء، بعيدًا عن كل الضغوط والقيود التي صارت تحوط المدينة بأسرها، ألم تطلبي أنت مني أن أفضفض لك بما يثقل صدري ولا أستطيع البوح به لأحد، وكذلك يمكنك أن تخبريني بكل ما ترغبين ولا ترغبين أن تقوليه لأقرب صديقاتك.

قلت بذات الجرأة التي صرت أخشى أن يفلت لجامها مني: لنكن صريحين مع بعضنا على الأقل، حتى الصداقة التي تطلبها مني سوف تظل مخنوقة وغير مكتملة ما دمت تفكر بي بالطريقة التي رأيتها في عينيك ما أن نزعت الحجاب. تلعثمتُ ثم أردفت وكأني أود الصراخ دون أن أتمكن من رفع صوتي: وأنا أيضًا أريدك، لا أنكر ذلك، لكني...

ـ لكنكِ ماذا؟

أجبتُ بعد تحيُر ولجلجة أشبه بتمتمة من يحاول تعلُم الكلام: لا أستطيع إلا بعقد زواج.

توقعتُ أن ينفجر بضحكة ساخرة تطن في أذنيّ مثل شتائم تطعن القحبة مصطنعة الشرف بعد سعيها للتقرب منه عبر تمثيلية طفولية شديدة السذاجة، إلا أنه قال بمنتهى الصراحة والجرأة إلى حد الوقاحة: موافق، فلم يعد لدي ما أخسره، المهم أن تكوني لي بأسرع وقت.

قلت وكأني أكمل كلامه: من خلال زواج لا يعلم به أحد كي نستطيع إنهاء التزامنا به متى نشاء، دون شجار ولا تدخل من أحد، وبعيدًا عن ضجيج المحاكم، فلا أنا ولا أنت نحتمل مثل هذه الثرثرة السخيفة.

نظر إليّ مليًا، ثم قال: وكأن أحدنا يقرأ أفكار الآخر جيدًا ويعرف ما يدور في دماغه، ولو عاد بي الزمن ما اخترت غيرك لأتزوجها.

ـ فلنترك ما فات ونلحق بما تتيحه لنا الحياة، المهم ألا نكون تحت أي ضغط، فقط ما يريده كل منا من الثاني.

 مددتُ كفي ومسكت ذراعه الممتد نحو مقوَد السيارة، وأردفت في ابتسامة استثارته مثل مراهق يشهد أولى مغامراته الشبقية: وأنا أريدك الآن كما لو كنتُ أنتظرك منذ سنوات سبقت اعتقالك بكثير.

 

ـ 4 ـ

 المرأة بعد الزواج أمرٌ آخر تمامًا، خاصة وأننا نستطيع أن نتفاهم بشأن كل شيء من دون كلامٍ حتى، وكأننا عاشقان لا ينضب منهما الشغف أبدًا، مما جعلني أسمح بمجيئه إلى بيتي في وقتٍ متأخر من الليل، مستجيبة لإصراره ورغبتي في تحدي فراش الأحلام الخاوي من شهقات رجل على مدى أعوام من الوحدة واعتصار جسدي بشهقات حرّى بين أطياف فراس وكل من تمنيته وعصفت به الدنيا بعيدُا عني.

 كان يغادر قبل انبلاج الفجر بقليل، اما مخاطر انكشاف أمرنا فأصبحت بمثابة فقرات من التشويق الذي يزيدنا شغفًا ببعضنا كما لو أننا أول رجل وامرأة يجمعهما فراش والكثير من الفضفضة التي تسوقنا عادة إلى زوايا مظلمة من الذكريات يحاول كل منا تجنبها، أو تناسيها، عندما يكون بمفرده أو بين أشخاص مهما كان قربهم منه لا يستطيعون النفاذ إلى داخله، كما يحصل لدى استلقائنا متحاضنين، لا يريد إفلاتي أبدًا، وكأنه يقبض على تعويضه من كل خساراته المتوالية، فيثور نحوي أكثر كي يخرج من خلالي من عتمة زنزانة المعتقل التي هوّت به صوب الموت مرات ومرات وغرست في جسده ندوبًا أشعر أنها يمكن أن تتفجر بالدماء من جديد كل حين.

 كنت أتجنب سؤاله عما شهده هناك بالتحديد، مكتفيةً بهبة الاحتلال التي رمته نحوي، فلولا هزيمته النكراء وما لحق بمسيرته العسكرية من خزي لما إلتُ إلى أحضانه دونًا عن كل النساء اللواتي يتمنينّ رجلًا في مثل مهابته التي كان يفرضها على الجميع، حتى أني كنت أخشاه ما أن أراه لدى زياراتي لشقيقته عندما كنا في الثانوية، ربما ذات خشيتها منه كما لو كان والدها الذي تتجنب إغضابه ولا تستطيع مغادرة الدار إلا بعد موافقته، وبسبب تلك الخشية والمهابة كان بعيد المنال حتى عن أحلامي التي كانت تتصيّد طيف هذا وذاك كي تستقر مع طيف فراس أغلب الوقت.

 أخبرني بصراحة استقاها من ثمالة جسدي، وأظنه قد ندم عليها كثيرًا فيما بعد، أنه وصل إلى حد فقدانه ثقته بفحولته بعد خروجه من المعتقل، فتمنيتُ لو أني كنت إلى جانبه في تلك الآونة كي أكون من تلقي عن كاهله عبء ذلك الهاجس، لا العاهرة التي حدَثني عنها، كأنه يتكلم مع أحد أصدقائه عن آخر غزواته النسائية، إلا أني صرت ممتنة لها أيضًا، لأنها ودون أن تدري أفسحت المجال كي أغتنم من شهواته ما أشاء، فلولاها لما نهلَ جسدي من شبق فحولته المهتاجة مثل أي عروس في ليلة الزفاف دون توجس من فشل المعاشرة بعد كل هذا الانتظار، فقد كنت ملتاعة لأن أكون له ويكون لي بالكامل، دون تأجيل ولا تمهل حتى يستعيد ثقته بنفسه، ربما بعد مرات من الإخفاق التي قد تنتهي بنا إلى تمزيق ورقة الزواج دون إتمامه.

 تستغرب من جرأتي على الإفصاح بمثل هذه الأمور؟ أنا أيضًا أستغربها في أحيانٍ كثيرة، وربما أتنكر لها أيضًا، لكني أعود لأجدها أكثر حقيقة من كل ما عشت وعايشت، مرآة صادقة تحوطني من كل الجهات وتصدُ عني كل عين لا تراني كما أبدو لنفسي بمعزلٍ عن الجميع، عن القيود والمسؤوليات التي تكبلني وخلّفتها لديّ أنانية أخوتي وأمراض أمي المتزايدة حتى صار بيتنا معَبق برائحة الأدوية، مثل أي مستشفى خانقة الأجواء يرغب المرء بمغادرتها سريعًا كي يتنفس نسمة هواء نقية في الخارج، بالإضافة إلى أجواء الحرب التي لم تغادر البلاد بعد مرور سنوات من الاحتلال، ما بين تفجير وإجراءات أمنية مشددة تعيق الحركة في أغلب الأوقات، فيتعذر وصولي إليه في مخبأنا الذي اختاره بعيدًا بعض الشي عن منطقتيّ سكنانا، وربما ذات الأمر يحصل معه فلا يأتي بعد انتظاري الطويل له، شبه عارية أو عارية تمامًا، ليس في الفراش فحسب، بل في كل أنحاء الشقة الصغيرة، كما لو أني تحولت إلى عاهرة بالفعل ويمكنني عرض جسدي على كل من يمر من أمام الباب الذي أحرص على إيصاده جيدًا قبل دخولي ونزعي الحجاب واللثوب الفضفاض التي صارت تتستر خلفه إثارتي أكثر من ذي قبل، إلا أن جمرة التحدي تظل مستعرة داخلي، فيستميلني الوقوف خلف ستار الشباك غامق اللون وكأني بانتظار تقديم عرضي الخاص فوق مسرح الجنون الذي يشهده جسدي وبلادنا في آنٍ واحد، فيما ينهمك الجميع بإطفاء الحرائق وانتشال المصابين من تحت الركام، وأصوات الهلع لمختلف الأعمار تدب في كل مكان ثم لا تلبث أن تسكن نهديّ المحمرين بوهج النيران وبطني وخصري وسائر جسدي، كما لو كنت قربان سدنة كل حرب شهدناها ولم نشهدها بعد.

 سخرَ من هاجسي ذاك كثيرًا وقال أن مآلي إلى الجنون إن استسلمت لمثل تلك الأفكار التي استوحيت هذيانها مما أقرأ من روايات وأشاهد من أفلام الحروب، وقد ورثت ذلك عن أبي الذي أظل أتذكره كل حين على نحوٍ متزايدة.

 كانت لديه آراء سياسية أحبُ الإنصات إليها دومًا لما لها من وعي وقدرة على استقراء أحداث غالبًا ما تُظهر أكثر مما تُخفي بكثير، كما أنه كان شديد الثقافة، وفي مجالات مختلفة، ومن خلاله عشقتُ عالم الكتب المُتراصة لديه، كي أستطيع فهم ما يجري من حولي قدر الإمكان، والأهم من ذلك شخصيات المحيطين بي كي أحدد سُبُل تعاملي مع الجميع، خاصة الرجال، بما يمتلكون من جاذبية ومخالب صرت أسعى للتحرش بها في جرأة لم تراودني من قبل، ثم لا ألبث أن أنتفض بشراسة على مطامع كلٍ منهم بالضحكة أو النظرة المثيرة التي طرقت غرائزه كي أستمتع بما يتجلى من خيبة في تعبيرات الوجه المحتقنة بفعل الحرمان، وبقدر ما تخلفه مصاعب الحياة وخداع أوهامها من انكسار.

قلتُ له في نبرة شبه متوسلة لم أعد أخشى انكشافها أمامه: إياك أن تتركني بمجرد أن تملَ مني، فأنا صرت أعشقك ولا أستطيع أن أعود للعيش بمفردي من دونك.

صمتُ، ثم أردفت بعد تردد مرتبك: وحتى لو كانت في حياتك أخرى فلا تنسَ أني زوجتك ولست إحدى مغامراتك. أعرف أن علاقتنا غريبة، وربما تكون مجنونة، وقد أبدو أمامك مثل أي واحدة مبتذلة، وإن كانت تربطنا ورقة زواج يمكن أن نمزقها في أية لحظة.

قال مثل أي زوج متذمر من شكوى زوجته المستمرة، على عكس ما كنت أتوقع من تفهمه مشاعري وأنا بين أحضانه: نحن اتفقنا منذ البداية على شكل العلاقة بيننا، كلٌ منا يرغب بالآخر ويرتاح أن يكون معه، أو حتى يحبه ولا يريد أن يجد له بديلا، لكن ليس أن نصير إلى ما تلَمحين إليه وإلا اختفت جذوة الإثارة فيما بيننا.

قلت مستاءة ومستغربة من فظاظة كلماته المفاجئة: إلى ماذا ألَمح؟ لا أفهم!

ـ أخبرتك منذ البداية أنكِ كنت الأنسب لي لو أننا تزوجنا منذ البداية، قبل الاحتلال، ومن قبل أن أتورط بالزواج من تلك الحقيرة التي أخذت ابنتيّ وهربت دون أن تبالي لأمري، بعد أن باعت البيت والسيارة وكل ما سجلتُ باِسمها ونفذَ من المصادرة، لكني الآن لا أستطيع ولا أريد الارتباط بأكثر من الوقت الذي نمضيه معًا، والذي أحرص عليه أكثر من أي شيء آخر في حياتي، أو ما بقي منها.

صرختُ في وجهه وأنا أبتعد عن استلقائه العاري من تحت البطانية وسط السرير: أنا لا أحاول ولا أريد أن نغير شيئًا مما اتفقنا عليه، أنا أيضًا حياتي لا تتسع لتحكم وعصبية ومطالب أي رجل طيلة الوقت، يكفي مرض والدتي والتزاماتي التي اثقلت كاهلي بعد سفر أخوتي، عندها وجدت نفسي وحيدة وسط كل هذا الموت الذي يحاصرنا في كل مكان.

ـ إذًا دعينا نقتنع بما لدينا من وقت نستطيع انتزاعه، من حياة كلٍ منا دون أن يسرح بنا الخيال نحو المزيد.

قلت والدموع تترقرق في عينيّ: حتى الحلم تريد أن تمنعني منه، مع أن الأحلام هي التي أوصلتني إليك.

خفتُ أن استغرق أكثر في الكلام عما لا أريد الجهر به أمامه، فصمتُ، ثم خطر لي أن أتعمد اغاظته: ماذا لو أخبرتك أني حامل مثلًا؟

صرخ في حسم: ماذا حصل لكِ كي تلجأي إلى أفلام المراهقة السخيفة هذه، أي حبل تتكلمين عنه! وحتى لو كان هذا صحيحًا، فسوف يكون مشكلتك وعليك التخلص منها بأسرع وقت، حتى دون أن أعرف متى وكيف.

شعرتُ أني أتجه إلى طريق مسدود معه، فقلت مصطنعة ضحكة ممازحة: لم أكن أعرف أن أسَد الحروب يخاف إلى هذا الحد من مجرد فكرة أن يكون له ولد أو بنت.

قبضَ على ذراعي بقوة، وقال بانفعال بدا على قسمات وجهه، وكأن هناك من يحاول خنقه: أنا أسد الحروب رغمًا عنك وعن الأمريكان وكل الدنيا، ولا يستطيع شيء النيل مني ومن كرامتي وقوتي في مواجهة الموت الذي تختبئون منه ولو في ظل دبابة أمريكية، لكني لم أعد أطيق ولا أريد ما يقيِدني بحياة جديدة وأنا لا أعرف شيئًا عن حياتي السابقة.

 حاولتُ التملص من قبضته التي راحت تؤلمني وكأنها تهم بكسر ذراعي، إلا أنه بحركة رشيقة احتواني تحت وطأة جسده مجددًا، فكانت تلك المرة الأكثر جموحًا حتى طفرت أدمعي من شدة النشوة التي شهدتها دون أي رغبة بأن يتركني حتى لو اضطر إلى تناول حبة منشط أخرى، ولعلها أيضًا كانت دموع إهانتي أمامه وبين حنايا جسده وهو يؤكد أني لا أعدو أكثر من أنثى غواية يمضي معها أحلى أوقاته الأسيرة بين ركام اختبائه من دنيا جرّدته من كل شيء على حين غفلة، بعد أن هوَت بعنجهية نظام جثمَ على كل شيء بقبضةٍ من حديد.

 قبضات أصابعه تترك آثارها هنا وهناك تباعًا، دون إبطاء ولا كلل، بينما أظل أتلوى من تحته في شهقات تثيره أكثر وكأنه دخل معها في تحدٍ لا يدرك منتهاه، كما لو أنه لم يتخلَ عن بزته العسكرية ويصر على ارتدائها حتى وهو يزفر أنفاسه ويرتمي إلى جانبي معلنًا انتهاء رغبته مني حتى موعدٍ ربما يترك لي تحديده، فقط لكي يزداد زهوًا بفحولةٍ أمسيت أشتاق إليها كل ليلة تقريبًا كأي بغية لا تستطيع التخلي عن إدمانها في معاشرة أكبر عدد من الرجال قبل أن يهمد جسدها تمامًا مع اقتراب الفجر، حيث أنهض لأغتسل وأصَلي وأنا أذرف الدموع الأشبه بحسرات مخافة عذاب الجحيم رغم اطمئناني إلى وجود الورقة التي يمكن أن تبرئني أمام الجميع وتشهد بطهارتي من أي دنس، إلا أن هاجس امرأة الغواية ظل يحاصرني ليل نهار حتى وصلتُ إلى قرار أعرف أنه شديد الصعوبة وربما يحيل حياتي إلى ذات الجحيم الذي أتخوف منه في الآخرة، لكن لا بد لي من اتخاذه في حسم يصد أمامي وأمامه أي سبيل للعودة إلى تلك الشقة الخانقة أو السماح بولوجه فراشي، ومن ثم جسدي، على بعد خطوات من غطيط والدتي وقريبتنا المقيمة معها والتي قد تتنبه إلى وجوده معي في أية لحظة.

 حزمتُ أمري في إخباره بذلك، وأنا أتهيَب من ثورة رد فعله، ومثله لم يعتد أن يوصَد باب أي امرأة في وجهه، مثلما يحب أن يتباهى أمامي في غرور المراهقين، كما لو أنه يريد أن يستعيض بذلك عما واجه من إذلال، وصل إلى حد الاغتصاب ربما.

 صورة لا تنفك عن التسلل إلى ذهني حتى وأنا أرضخ لنَهم شهواته، وكأني أتلقى مهانة المحتل نيابةً عنه، إذ تنالني الشفقة نحوه لكي أُستثار أكثر وأتمنى أن أهبه ما لا تستطيعه أي امرأة أخرى، لعله بذلك يدرك مدى احتياجي الحقيقي لأن أكون معه على الدوام، لا الوقت الذي نكون فيه معَا فحسب.

 نعم أحببته، واكثر مما يظنه طبعه العدائي الذي خلَفه فيه كل ما مرَّ به حتى وجد أحضاني وبكارتي في انتظاره، لكن لا بد من اتخاذ موقف حازم لإنهاء كل شيء، وكما اتفقنا في البداية، أن ننفصل في هدوء دون زعيق ولا حتى خصام، ولو أن أحدنا رأى الثاني في أي مكان يلقي عليه التحية كما لو أن شيئًا لم يحدث بيننا، بل أن أستمر في زياراتي لشقيقته بشكلٍ طبيعي جدًا.

 أخبرته بقراري في الهاتف، منتظرة أن يلقي عليّ يمين الطلاق كي تتأكد نهاية كل شيء بيننا، وأني صرت محررة منه تمامًا ولا يجوز أن يختلي بي مهما بلغت ذروة احتياج كل منا للآخر، إلا أنه سألني أين أكون ليأتي إليّ ونتحدث، فهذا من حقه قبل أن يتفوه بكلمة الطلاق، انتعشتُ بعض الشيء لأنه لم يسخر من خدعة الزواج التي كدتُ أصدِقها وأنا أتكلم عن مدى عشقي له، فواجهني دون تردد بحقيقة ما بيننا من شهوة لا مكان لها خارج حدود الفراش الذي يجمعنا ويبدد طاقة كلٍ منا المختنقة خلف الجدران.

قلتُ له في ذات النبرة الحاسمة: لا داعي من الإطالة، وكل كلمة يمكن أن يقولها كل منا قد تؤذي الأخر أكثر، ونحن اتفقنا...

قاطعني كأنه يحرص على أخر فرصه المتاحة في الحياة: مروة أرجوك، لا تكوني قاسية عليّ أنتِ الأخرى، لا تتخلي عني كما فعل الجميع.

ـ أنا لا أتخلى عنك، لكنك لا تفهم أني لستُ فتاة ليل بعقد زواج لا يعرف به سوانا، حتى أنه بلا شهود، مع أني أحببتك فعلًا حتى لو ظل دافعك نحوي مجرد الشهوة التي يمكن أن تزيح عنك ولو بعض ما يثقلك من هموم ونكبات.

 كدتُ أقول "وتعيد ثقتك بنفسك وبرجولتك المنتهَكة" إلا أني لم أفعل، فآخر ما أريده أن أتسبب له بأي إهانة، ليس لأني أخاف عربدة رد فعله فحسب، إنما لأني وقعت في حبه إلى درجة كنت أخشاها منذ البداية لئلا يتسلط عليّ أكثر مما يفعل جسده الذي صرت أشتاق إليه حتى وأنا أطلب الانفصال.

قال في تحدٍ أدركتُ منه مدى عناده الصبياني، بالإضافة إلى أنه أوغلَ الخوف داخلي: لن أتركك تتحررين مني حتى لو مزقنا ألف ورقة.

 صمتَ ثم عاد ليقول، وكأنه أراد استدراك نبرة التهديد التي طرقت مسامعي: لأن ما بيننا صار أهم من ذلك بكثير، وكان يجب أن تعرفي ذلك لوحدك.

ـ فقط لأنك تشتهيني وتريدني أن أبقى معك في الفراش أطول وقت ممكن، حتى لو استنزف كلُ منا الآخر ولم نعد نقوى حتى على العناق؟

ربما استفزته جرأتي وحدة نبرة كلامي معه، فقال بصوتٍ جهوري وكأنه يلقي بيانًا عسكريًا يعلن عن حربٍ جديدة: سوف أنتظرك في شقتنا حتى المساء، فإن لم تأتي أجيئك أنا، وهذه المرة لن يهمني إن كانت أمك تغط في نومها أم لا، ولا عيون الجيران الذين تخشين تعقبهم لتحركاتك ليل نهار حتى لو كنتِ تريدين الحجاب.

 تمسكتُ بموقفي ولم أذهب إليه، مستثارة بتمردي على رغبته في اعتلاء جسدي من جديد، عذرًا لتعبير البغايا هذا، لكن لمَ لا نسَمي الأمور بمسمياتها، على الأقل فيما يخص علاقات الفراش، وفي ذات الوقت أنتظر مجيئه واقتحام منزلنا كي يدَوي صوته باحتياجه إليّ دون أي امرأة يمكن أن تصطادها شراسة جموحه قبل ماله.

 جلست صوب الشباك المطل على باب الدار الخارجي متحفزة لدخوله مثل زوبعة ريحٍ عاتية تهوي بي تحته سريعًا، ولو على مرأى من والدتي وكل الجيران، كما ألمحَ تهديده، ومن ثم يمكننا الكلام والشجار ما شئنا.

 ربما صرت لديه مثل الإدمان الذي لا يستطيع الإقلاع عنه، وأعترف أني أيضًا شغوفة به إلى حد لم أكن أتوقعه، وفي أحيانٍ كثيرة أشعر أني لا أستطيع الاستغناء عنه والعودة إلى جحر اختناقي مجددًا، وقد شهدَ جسدي بين ذراعيه أجمل خفقاته، وهو يدرك ذلك جيدًا لذا يتشبت بي بكل إصرار لا يرضى إفلاتي من جموح رغباته، ما دام لا يمتلك بارقة أمل بأي تعويض جديد عما خسر في حياته الماضية.

 ضقتُ من تلك التحليلات المتسَربة إلى ذهني مع مضي الوقت في انتظار مجيئه الجسور كي يخضع أنوثتي إلى سطوته، كما لو كنت أهدد بانهيار نظامه الديكتاتوري من جديد، حتى وصلني عبر الهاتف رنة محادثة فيديو من قبَل خالد.

 نظرت إلى الشاشة طويلًا وكأني أحاول أن أتذكر ما غابَ عن بالي تمامًا، رغم أنه قد يكون من ضمن ما دفعني إلى النفور من مخبأ حياتي السرية مع غزوان، مع أني لم أحسب تلك المحادثات أكثر من لعبة يمكنني إنهائها متى ما أشاء لتتحول إلى سخرية أضحك عليها لفترة، ثم لا تلبث أن تكون من الذكريات العابثة التي قد أحنُ إليها من حين إلى آخر، إلا أنها تبقى بعيدة عن الواقع الذي أحياه وما انسقت إليه من خيارات جعلتني أسيرة أحد رجال الحرس القديم.

 لم أرد، وكتمت صوت الهاتف، وكأني أحفظ نفسي من خيانة زوجي مع آخر لم ألتقِه إلا عبر شاشة الهاتف الصغيرة، ومن ناحية أخرى لم أفطن أن أستغل طلب الزواج عبر القارات كي أحَرضه على التمسك بي أكثر، كحبيبة لا عشيقة فراش فحسب، ولا أدري إن كنت قد أخبرته عن خالد وما جرى بيننا من محادثات، ومن ثم أطلعته على صورته، ماذا كان يمكن أن يكون رد فعله، وأنا أعرف مدى سرعة غضبه لأسباب أبسط من هذا الأمر بكثير، فكيف قد تكون حدة هيجانه إن جاء طلب الزواج من الخارج الفسيح الذي رحلت إليه زوجته ومعها ابنتيه كي يستلبني منه أيضًا.

 من الجيد أني لم أفعل، ومن ناحية أخرى لا بد لي من التفكير بشيء من الجدية في ذلك العرض الذي قد ينقلني إلى دنيا جديدة لا يتوجب عليّ فيها القيام بدور العشيقة المتخفية أو المسؤولة عن كل شيء بمفردي، بما في ذلك صحة والدتي التي تجنح نحو خطر الفقدان كل حين.

 

ـ 5 ـ

 تهاوت أنفاسها سريعًا حتى كادت تتوقف. سارعتُ بنقلها إلى المستشفى قبل أن أفقدها للأبد وتؤول حياتي إلى دنيا من الخواء، دون أن يملأ أي رجل مهما كان الفراغ الذي تخلفه وراءها.

 كان غزوان يتبعني بسيارته في ذات السرعة، وكأنه الآخر يخشى فقداني من حياته التي ولجتها فجأة كي أحيل الهمود الذي أوصلته إليه هزيمة بلادنا ومن ثم ظلمات المعتقل إلى ثورة مستعرة طيلة وجوده بين أحضاني، يحرص ألا يتبدد عنفوانها منه أبدًا.

 عندما رأيته يدخل من باب البيت الخارجي، بذات الاندفاع الذي توقعته منه، هرعت نحوه كي أقوده من يده إلى الداخل قبل أن يثير الضجة التي توعدني بها إن لم أذهب للقائه.

 كانت قريبتنا ـ الخالة نجاح ـ منشغلة مع والدتي في غرفتها، فتسللنا إلى غرفة نومي دون أن تتنبه لنا أيٌ منهما. توَسلته ألا يرفع صوته ويثير فضيحة في بيت لم يعتد أن يدخله إلا من أجل إمضاء أوقات المتعة حتى تُنهك فحولته ويتركني مستلقية فوق فراشي، يستولي عليّ الخدر، فلا أكاد أقوى على الحراك.

غزوان في حدة من تلقى إهانة لا طاقة له على احتمالها: أنا هكذا بالنسبة لك، ليس أكثر من ثور هائج في الفراش!

أجبتُ مصطنعة البرود لئلا أفقد أعصابي ونمضي في ثورة الصياح معًا: كما أني بالنسبة لك لست أكثر من امرأة متعة ساقها الحرمان نحوك، أليس هذا ما جمعنا منذ البداية واتفقنا عليه بكل صراحة؛ أنَ أحدنا يرغب في الآخر بشدة، ولهذا صارت تلك الشقة الكئيبة وكر لهفتنا غير المنتهية؟

ـ ما دمتِ تفكرين بهذه الطريقة فكل شيء سوف يكون أصعب والدنيا كلها تصير أكثر حنقًا وسخافة.

ـ إذًا ابحث عن واحدة ليس لها الحق حتى أن تتكلم في حضرة جنابك، ولا أن تتفوه بما تفكر فيه، ولو على سبيل الحلم، مع أنك تعرف جيدًا أني أوْلى بذلك الحلم من كثيرات يعشنَّ حياة لا يسحقنها، مثل زوجتك التي كانت تتباهى كلما رأيتُها بما تحققه لها بمجرد أن تطلب، وها هي غدرت بك وحرمتك حتى من ابنتيك.

ـ لمَ تصرين على ذكرها أمامي وكأنك تعيِريني بما فعلتْ وتشمتين بي مثل كثيرين، بعضهم المفترض أن يكونوا من أقرب الناس إليّ.

ـ أنا لا شأن لي بكل عُقدك المتزايدة منذ أن جُردت من رتبتك العسكرية، ثم أن الأمر بسيط جدًا، إرمِ يمين الطلاق وينتهي كل شيء.

قال محتدًا: أنا لستُ بأمرك لتعزليني عن حياتك متى شئتِ.

فاجأته بخلع ثيابي بسرعةٍ عصبية، ثم قلت له: إذًا أفرغ فيّ شهوتك ثم امضِ، أليس هذا ما جاء بك الآن.

ـ قلت لك أني لستُ ثور فراش.

 تهاويتُ على الأرض منتحبة دون وعي مني، وكأني فقدتُ كل قوتي مرة واحدة، وشعرت أني أتطوى على نفسي من شدة الإنهاك الذي ألمَ بي نتيجة مجابهته ومجابهة ذاتي أيضًا، ويبدو أن هذا التكوُم المفضوح أمامه جعلني أبدو أشهى في عينيه، والرجفة الخفيفة تتسلل إلى بدني مثل تيار من الذبذبة الكهربائية شبه المنتظمة، فجثا على مقربة مني، وبدأ يتحسس ثنايا جسدي بكفيه في رفق أرسا داخلي شيئًا من الخدر وقبلاته تنهمر نحوي في زخة شبق مجنونة لم أشأ أن تفارقني، فيما رأحت أصابعي تفك أزرار قميصة بسرعة مثيرة تصاعدت مع شهقات عناقه، إلا أني لم أحاول فك حزام بنطاله وتمنيت ألا يفعل، كما تمنيتُ أن يقَبل يديّ وأشعر بلفح أنفاسه بين أصابعي، لو أنه يدرك معنى أن يقَبل رجل يد امرأة بمثل هذه الحميمية، يمكنه عندئذٍ أن يبلغ معها الذروة وإن لم يخلعا من ثيابهما قطعةً واحدة، ولا حتى حجاب الرأس الذي صرت أضيق ذرعًا به في أوقات كثيرة لشدة ما يضفي على حياتي من ازدواجية لا تغادرني إلا وأنا معه، عارية تمامًا دون وجل من شيء ما دمتُ قد حققتُ ما أريد رغمًا عن عنجهية أخوتي المطمئنة إلى انزواء أختهم عن حياة كل منهم، وعن كل هوى يمكن أن يتسبب لهم بأي قلق نحو شرفهم الذي صارت له مقاييس أخرى في بلاد الغربة، بما يسمح لبناتهم ارتداء (الشورت) و(البَدي) شديد الضيق وواسع فتحة الصدر في صور يلتقطوها معًا في الأماكن العامة كي يبعدوا عن أنفسهم شبهة أي تطرف مع تصاعد وتيرة الاتهامات لكل عربي ومسلم إثر كل انفجار يحدث هناك، وأيضًا بمنأى عن دعوات والدتي المبتهلة إلى الله أن أظفر بزوج وحياة مستقرة تخفف من وتيرة عصبيتي المستثارة لأبسط الأمور أحيانًا، ومن ثم أرزق بأولاد قبل أن أبلغ سن اليأس.

 عانقتُه بشغف من تودع حبيبها وتحرص ألا يتركها في ذات الوقت، حتى سكنت حركتنا المنفعلة فوق السجادة بصرخة تهتف باِسمي من الخالة نجاح، فانتفضت من تحته وكل ظني أن والدتي لفظت أنفاسها الأخيرة فيما كنت أشهق من فرط اللذة بين شفتيه.

 لا أدري كيف تسنى لي النهوض مرةً واحدة كفرس تهم بالعدو إلى أخر مدى، بينما تهاوى من فوقي كما لو أنه صخرة تدحرجت عن مكانها، ومن ثم لبستُ ثوبي الفضفاض لأذهب حافية القدمين نحو الغرفة المجاورة كي يخبرني اضطراب أنفاسها أن الوقت لم يفت بعد، وأن بإمكاني استعادتها من قبضات الموت فلا أهوي بدوري إلى الجحيم كلما تذكرت تلك الدقائق العاصفة لذةً وأسى يترقب لحظة الاحتضار.

 وجدته لدى مغادرتي غرفة والدتي يقف في حالة دهشة، فطلبتُ منه كما لو أني أوجه أمرًا لشخص يعمل لديّ أن يحمل جسدها النحيل، مثل كومة عظام، إلى سيارتي بينما أغير ملابسي، ولمّا عرضَ أن يحملها إلى سيارته نهرته في حزم قائلة: "أنت لا شأن لك بأي شيء يخصني، مفهوم" فامتثل لما طلبت مثل جندي مهزوم صدر له أمر الانسحاب السريع من ميدان المعركة وما عليه إلا تنفيذ الأوامر دون أي نقاش.

 أمضتْ أمي ليلتها في العناية المركزة، إلا أن حالتها أمست مستقرة، كما أخبرني الدكتور، ولشدة اهتمام غزوان ظنه زوجي، كدتُ أهتف، وكأني أنبذ عن نفسي تهمة يريد إلصاقها بي، أنه ليس أكثر من صديق تصادف وجوده في البيت فطلبتُ منه المساعدة في نقل والدتي إلى المستشفى، إلا أني خشيت من رد فعل أهوج يصدر عنه دون أن يعبأ لأحد ولا المكان الذي نحن فيه، فيما ظلت الخالة نجاح تنظر نحوه بدهشة تتساءل من يكون وسَبب وجوده فجأة في غرفة نوم والدتي كي يحملها مثل ابن يسارع لإنقاذ حياة والدته، وأين كان قبل ذلك دون أن تسمع لنا أي صوت، وكيف لي أن أتكلم معه بهذه الخشونة، كما لو أني معتادة على فعل ذلك، ودون أن أكون مرتدية الحجاب الذي أحرص على ارتدائه لدى وجود أي عامل جاء كي يصلح أحد الأجهزة الكهربائية، أو السباكة، أو أي شيء من هذا القبيل.

 لم أعرها انتباهًا، مكتفية بتصويب نظرات قاسية نحوها، كما لو أني أهدد بإلقائها في الشارع إن تجرأت على مجرد السؤال، فانكسرت نظراتها أمام جبروت وعيدي المكتوم، ثم أحنت رأسها في إذلال الفقر الذي رافقها طيلة سنوات عمرها وظل يشتد حدة فوق كاهلها مع كل نكبةٍ مرت بها البلاد.

 تراجع شرر نظراتي شفقةً على ما آلَ إليه حال الزوجة والأم بعد استشهاد ابنها الوحيد خلال الغزو الأمريكي، ومن ثم وفاة زوجها الذي أمضى عقود عمره يتدحرج في مَسرى هبوط الطبقة المتوسطة، كما كان يقول والدي عن زمن نالت مخالبه من الجميع شيئًا فشيئا.

 كم اشتقتُ إليه وإلى جلساته، إلى أحاديثه ودقة تحليلاته وذكاء تعليقاته، وإلى تلك الضحكة المشرقة في ملامح وجهه الحنون، حتى في أوقات غضبه سريع الزوال، واشتياقي إليه يظل في تزايد مع مرور السنوات التي ألقتني على هامش اهتمام أخوتي مع تهاوِ والدتي في براثن المرض المهدِد بأخذها مني في أية لحظة.

 طالَ وقوفي برفقة غزوان بعد ابتعاد الدكتور. دعاني للجلوس على أحد كراسي الانتظار، واضعًا يده فوق كتفي في رفق، فأبعدتُها في نفور، كما لو أنه تجرأ على تجاوز حدود الأدب معي دون مقدمات.

قلت له في حدة غضب خفيضة الصوت: لماذا أنتَ موجود هنا، ألم أخبرك ألا شأن لك بأي شيء يخصني؟

ردَ في امتعاض: ماذا حصل لكِ؟ لمَ هذا النفور مني! وكأني السبب في رقدة أمك في العناية المركزة.

ـ ألا تفهم، كادت تلفظ أنفاسها الأحيرة وأنا بين أحضان نهمك، والآن تريد أن أتركها هنا لآتي معك كي أشبعك ما دام البيت كله صار لنا كي تلتهمني فيه كما نشاء؟

قال مرتعدًا: وكأني كنت أغتصبك في غرفتك التي أدخلتني إليها بنفسك، ليس هذه المرة فقط، بل قبلها بمرات.

ـ وكأنك تكلم قحبة اعتادت أن تستقبل زبائنها في غرفتها دون مبالاة لأحد.

قال في نفور: لا فائدة من الكلام معك الآن. سأذهب وإن احتجتِ لشيء اتصلي بي.

رددتُ في تمرد عنيد: أنا منذ سنوات معتادة أن أتحمل مسؤولية كل شيء وحدي دون أن أحتاج إلى مساعدة أحد.

سارَ بخطوات سريعة نحو نهاية الرواق، ثم غابَ عن ناظريّ وكأنه يقرر تغييبي عن تفكيره للأبد.

 خرجتُ بدوري إلى حديقة المستشفى المهملة لأستنشق الهواء واذرف دموعي بمعزلٍ عن العيون التي شعرتُ أنها تحدق بي وتتلصص على كل جزء في جسدي نالته شفتاه كما لو أنه لم يلامس امرأة من قبل.

 انتبهتُ لتوي إلى توافد عدة مكالمات من خالد لم أسمعها بسبب كتم صوت الهاتف، ربما جاءت إحداها وأنا أتشبث بجسد غزوان بعد سيل ملتهب من القبلات والعناق الذي انتهى بصرخة مستغيثة أعادتني في لحظة إلى الأسر الذي وجدتُ نفسي فيه منذ سنوات سبقت الاحتلال.

 فكرتُ أن أكتب له رسالة نصية عبر الماسنجر، كما بدأت محادثاتنا، أخبره ألا يعاود التواصل معي مجددًا، وأني لا أنفعه لكي يحقق حلمه في الإنجاب، وليبحث عن أخرى تكون طوع أمره في أي بلد من بلاد الغربة، دون أن يتكلف عناء سفرها الطويل إليه، فقط لتكون تحته مراتٍ ومرات إلى أن يحصل على مبتغاه، فهناك الكثيرات ممن يتقنَّ لمثل هذا العرض السخي من رجل لا يحمل همَ البدء من جديد، وبالتأكيد سوف يجد من هنّ أصغر مني وأجمل بكثير، وأني ليس كما يظن وتكلم عني أخي وزوجته أمامه، فهما يكادان لا يعرفا شيئًا عني إلا ما أظهره لهما، وربما لنفسي في بعض الأحيان، كي أظل في هيئة المرأة القوية التي تكاد تنسى أنها أنثى تستحق حياةً طبيعية برفقة زوج وأولاد.

 حلم راح يبتعد عني رويدًا رويدا ولم يبقَ منه غير شغف المراهقات الذي استقيه من جسد غزوان في الخفاء مثل أي مومس يحتكر جسدها رجل واحد حتى يمله ويبحث كل منهما عن آخر.

 فكرت أيضًا بإخبار خالد تفاصيل علاقتي بزوجي السري في الفراش، وكأني أريد التخفف من عبء ذنب أثقلَ كاهلي أمام رجل لا أعرف عنه شيئًا غير ما يريد قوله عبر شاشة الهاتف، وليبَلغ أخوتي كل ما عرفه مني، ويثرثر ويضيف ما شاء، ومن ثم ليفعلوا ما يشاؤون، فلن يهمني شيئًا بعد الآن، ما دامت الحوالات المالية المتوافدة منهم لن تنقطع كي لا يشعر الأبناء الأوفياء بأنهم قد قصَروا بحق امهم قبل وفاتها.

 سوف أكون صريحة معه، ومعهم من خلاله، إلى أقصى درجة، وأخبره قبل كل هذا أن والدتي في العناية المركزة، وأني لم أخبر منهم أحدًا، ولن أفعل، لأنها صارت تخصني وحدي وليس أي شخص آخر.

 لكنني في النهاية استبعدتُ عن ذهني كل ذلك واكتفيت بأن أكتب له أن والدتي دخلت المستشفى، ثم رجوته ألا يبلغ شقيقي لئلا يثير قلقه وأخويّ الآخريْن دون أن يتمكنوا من الحضور إلا ربما بعد خروج والدتي، وقد وجدت في ذلك فرصة مناسبة لاختبار مدى الثقة التي يمكنني أن أوليها له، ومن خلال هذا سوف تتبين لي ملامح أكثر عن شخصيته، دون أن أفطن أني بذلك أحَول دفة آمالي ناحيته، بعد أن كان تواصلي معه لا يعدو أكثر من لعبة أتسلى بها وكذلك رغبات أخوتي الذين اعتادوا أن أكون وفق هواهم، كما لو أني أقرر نبذ غزوان من حياتي تمامًا.

 أعشقه وأعشق الوقت الذي أقضيه معه، وكل لمسة تثيرني نحوه أكثر، إلا أن شغف علاقتنا وضعني أيضًا أمام مرأة تقدم العمر بي، وأن السنوات لم تعد تسمح بالكثير من فرص الأحلام، وكل حياتنا معًا منحصرة ضمن مساحة فراش لا أكثر، نغادره منهوكيّ القوى كما لو أننا أمضينا عمرًا مغتربيْن عن واقعنا وكل ما مررنا به قبل أن يرتشف أحدنا من الآخر دون ارتواء، فما كانت تلك الصرخة المستنجدة للحاق بآخر أنفاس أمي إلا جرس إنذار أن وقت اللهو المتخفي عن الجميع قد انتهى إلى الأبد، وآنَ الأوان للتفكير بحياتي وحالتها الصحية بصورة مختلفة تحفزني لإعداد الحقائب من أجل واقع جديد لا بد أن أخطو نحوه دون أن أخَلف ورائي أي متعلقات تصرف نظري عما ينتظرني في مقبلات الأيام.

 لا بد أن أكون صريحة تمامًا مع غزوان في هذا الشأن، دون أن أخبره أو حتى ألَمِح عن فرصة الزواج التي تنتظرني في الخارج لئلا يتمسك بي عن عناد أو رغبة في التملك تحاول الانتقام لكل خسارته السابقة، فقد صرت أفهم طريقة تفكيره جيدًا، ولعلي دون درايةٍ مني أكرر أمامه صورة زوجته التي تخلت عنه وغادرت البلاد مع البنتين بينما كان قابعًا في أقبية الجحيم الأمريكي.

 طاشَ رأسي من كثرة ما انهمر داخله من أفكار وصلت إلى حدود الهذيان، وضاقت أنفاسي وكأن هناك من يمسك بخناقي، فقبضت أصابعي على الحجاب وخلعَتُه عن رأسي، ثم هوَت به يدي إلى الأرض بقوة من يتخلص من قيد أثقل كاهله طويلًا، إلا أني انحنيتُ لجذبه بعد لحظات قبل أن تبعده الريح التي أخذت في الاشتداد عني، نفضتُ عنه التراب، وأعدتُ وضعه فوق رأسي بسرعة كما لو كنت أخشى أن يراني أحد عارية، لا حاسرة الرأس فحسب، ربما لأني لم أكن مستعدة لمثل هذه الخطوة بعد، كما لا أستطيع احتمال كثرة الثرثرة المتوالية نحوي من هنا وهناك.

 لكنني بدأتُ أفعل ذلك في محادثات الفيديو مع خالد، بحجة النسيان أول الأمر، ثم اصطنعت الاقتناع بوجهة نظره؛ أننا سوف نتزوج ومن حقه أن يراني (بحرية) أكثر من أي شخصٍ آخر، وبدوري أخذتُ استجيب بكل أدب وحياء لمطلب زوجي القادم، فصرت أرتدي ما أجده جذابًا ومثيرًا أمام شاشة الهاتف، ثم الكومبيوتر إشفاقًا على نظراته التي شعرت أنها تتلصص على صدري المكتنز، كما فعل الكثيرون قبل ارتدائي الحجاب، حتى هجست المراهقة التي تأبى النضوج داخلي إلى طور المرأة المتزنة أنه سوف يطلب مني، رويدًا رويدا، خلع (التي شيرت) الضيق الذي ألبسه كي يتدلى نهدايّ على مرأى من عينيه الواسعتين وهما تقطران شهوة مصوَبة نحوي من بلدٍ آخر وقارة أخرى موعودة أن أمضي فيها ما بقيَ لي من عمر.

 

ـ 6 ـ

غادرتْ والدتي المستشفى بعد أيام من هلع الانتظار، لكنها لم تستطع أن تفي بوعدها بشأن عدم إخبار أخوتي عن دخولها المستشفى لدى أول مكالمة تلقتها من أحدهم، بعد أن تذرعتُ بحجة نومها عند كل اتصال يرد إليها، فانصب نحوي سيل من العتاب والصياح والاتهامات بأني أحاول الاستحواذ عليها بالكامل كما لو أنها أمي وحدي وليس لهم فيها غير حق السؤال عن بعد دون أن يعلموا أي شيء بخصوصها، مع أنهم لا يبخلون عنها بشيء، مشيرين إلى الحوالات المالية المتوافدة بانتظام، والتي تتيح لي الصرف كما أشاء دون سؤال من أحد، وكأنهم يخبروني، بشكل غير مباشر، أن ما يرسلونه لأجل ضمان سلامة والدتهم وأنها تعيش في أحسن مستوى، أما أنا فمكاني دومًا في آخر اهتمامهم، ولو كنتُ أعيش بمفردي لكفاني عُشر ما يبعثون من غنائم غربتهم الشاقة والتي لا أدري عن معاناتها شيئًا...

 نهرتني أمي كعادتها، رغم ما يعتريها من إجهاد، لأني تجرأت وتكلمت بالسوء عن أبنائها البعيدين عنها، وكم كانت تخشى أن تموت دون أن تمعن النظر في ملامح أيٍ منهم، وهم يغدقون عليها بالأحضان والقُبلات التي تذيب لوعة الفراق، ومن ثم تكون مطمئنة أنهم مَن سوف يحملون نعشها إلى مثواها الأخير...

 ترامت نحوي كلماتها بصورة متسارعة، أو هكذا هجستُ، كما لو أنها توجه شحنة قوية من الانفعالات نحوي كي تحثني أكثر على اللحاق بآخر محطة أتيحت أمامي، وأنا أكاد أوَدع سنوات الشباب، لأنعم بحياة جديدة وآمنة برفقة رجل عرفتْه من خلال كلام شقيقي الأكبر وزوجته فحسب، فراحت تتكلم عنه وكأنه نشأ وترعرع وأمضى أغلب سنوات عمره أمام ناظريها، حتى خالجها اليقين أنه الوحيد القادر أن ينقذني من سبات أيامي الذي يزيدني تقوقعًا على ذاتي ونفورًا من أقرب الناس إليّ بمن فيهم أخوتي كما لو أنهم صاروا غرباءً عني، فلا يراودني تجاههم غير مشاعر باردة قد تشوبها الغيرة وربما شيء من الحقد والكراهية.

 كدتُ أصرخ في وجهها كي أنفي عن نفسي تلك التهمة التي تمسخني إلى صورة دونية أنفر أن أكونها ذات يوم، لكني شعرت أن مجرد الرد يمكن أن يزيدني مهانة، وقد نجحتْ باستفزازي إلى حد كبير كاد يدفعني إلى ترك البيت والإقامة في شقتي وغزوان دون التفكير بالعودة، إلا أني عجزت عن تنفيذ هذا القرار لئلا يأخذني الندم على استعجال فراقها فيما بعد.

 مع ذلك لم أطق البقاء في البيت، فوجدت نفسي أقود السيارة نحو وكرنا الآمن، دون التفكير بالاتصال بغزوان.

 فتحتُ باب الشقة كما لو أني لم أغادرها إلا قبل قليل واندفعت نحو الاستلقاء على الفراش، عندها فقط باغتتني الدموع ببكاء حار يندب انزوائي عن الدنيا بجسدٍ مُشتهى لبعض الوقت لا أكثر، أو كأنثى طوارئ لرجل يريد أن يُرزق بذرية قبل إدراك سن الشيخوخة، ثم أخذتُ أفرك أوصالي بقسوة، كما لو أن شفتيّ رجل، أيٍ كان، تسعيان إلى التهامي، ويديه تنزعان عني كل ثيابي ليبلغ بي ذروة الشهوة مرات ومرات.

 وكأنه عرف بوجودي هناك، فلحق بي، إلا أنه لم يكن لوحده، بل برفقة شابة عشرينية ممشوقة القوام، لم أتمكن من تخمين مدى أثر المكياج في ملامح وجهها متوهج النضارة.

 فكرت أن أحتجب خلف الستار أو في خزانة ملابس غرفة النوم كي أتركه يطلق عنان شهواته كما يشاء، فيما أظل أرقب تفاصيل ما يحدث في شغف لم أعهد مثله من قبل، كما لو أن بعض أخيلتي تتجسد حقيقة أمام عينيّ، لكني لم أستطع أن أتزحزح عن مكاني وسط الفراش الذي وقفا أمامه في ذهول، كما لو أنهما من تفاجآ بي عارية في أحضان عشيق جلبته لدى غياب زوجي.

صرختُ في وجهها عندما سألتْ من أكون وما الذي أفعله، وربما ظنت أني عاهرة منافسة سبقتها إلى التعري فوق الفراش قبل أن تستلب الزبون منها: إنه زوجي يا كلبة الشوارع.

ثم علا صوتي أكثر بكل ما لدي من عزم على الاحتفاظ ولو بآخر حقوقي فيه، وربما في الدنيا بأسرها من خلاله: زوجي وليس لك ان تحتلي مكاني في فراشه، أم تظنيني مثلك، يلتقطك أي شخص من هنا وهناك ثم يعطيك ما اتفقتما عليه ويلقيك كما يلقي الزبالة دون أن تخطُري على باله إلا عند كل شهوة.

تدخل غزوان ليوقف صراخي وسيل الشتائم الذي بداتُ أقذفها به: ما الذي أتى بك إلى هنا، ودون أن تخبريني؟

قلت في تمرد على تبجحه، وكأنه يلقي عليّ باللوم ليستر دنسه: هل كان يجب أن آخذ الإذن من سيادتك قبل المجيء كي لا أتفاجأ بك وأنت تحضر إحدى القحاب إلى هنا.

 المسكينة بدا عليها الذعر بسرعة، فأخبرته أنها ستغادر، ونظرت نحوي وكأنها ترجوني الصفح، على الأغلب كانت مبتدئة وخافت أن أنقض عليها أو أتسبب لها بفضيحة وهي في أول الدرب، وكنتُ متحفزة لذلك فعلًا بكل ما يصفق داخلي من كلام والدتي وما تجرعتُ من حسرات على مدى سنوات عمري، إلا أني لم أدعها تذهب قبل أن تأخذ المبلغ الذي طلبته منه قبل دخولهما الشقة ووافق عليه بملء رغبته الشهوانية التي نأت عني طيلة الفترة الماضية.

قال في غضب: أنتِ التي رغبت أن أبتعد، كما لو كنتُ أحاول التحرش بك في المستشفى، بعد ذلك اكتفيتُ أن اطمئن على حالة أمك الصحية دون أن أريك وجهي أو حتى أزعج جنابك عبر الهاتف.

أجبتُ بذات الحدة: وأنت أردتَ أي حجة لتجلب فتيات الشوارع إلى هنا.

ـ لستُ بحاجة إلى أي حجة لأفعل ما أشاء، أم أنك تريديني رجلًا حسب الطلب، وما دمتِ لا ترغبين بلقائي أبقى أشكو لوعة الحرمان. مراهقة العاشقين هذه لا تلائمني بعد كل هذا العمر.

 بدلًا من أن استشيط غيظًا على صلافته المهينة اقتربتُ منه كي أفك أزرار قميصه وأنا أشعر أني أريد اختبار مدى تأثيري عليه بعد كل هذا الجفاء، كما أن حدة غضبه وموقف العاهرة التي فاجأني بها وأنا مستلقية فوق الفراش شبه عارية جعلني أتوق لأن أكون له مثل أول معاشرة جمعتنا.

 هو أيضًا كان مستثارًا رغم ما أبدى من غطرسة في البداية، فنحن متشابهان أكثر مما نعتقد، حتى في لوثات الجنون، فلم نشأ أن يترك أحدنا الآخر حتى بعد خبو الشهوة تمامًا، كما لو أن كلًا منا يريد الاستئثار بما اقتنصت رغباته رغمًا عن دنيا جرّدته من كل شيء.

 لوهلة أدركني هاجس أني متزوجة من خالد، وأني أخونه مع رجل آخر، ليس عن حب، إنما بفعل الرغبة لا أكثر، لا رغبة جسد شبِق، بل رغبة في التمرد قبل كل شيء، تمرد على الدور الذي وضعني فيه أخوتي منذ البداية، الفتاة مسلوبة الإرادة التي ليس لها إلا الرضوخ لمطالبهم ورغباتهم ومصالحهم، ولو عبر الآفاق البعيدة، تمرد على الصورة التي حددتها لي والدتي، الحقود والغيورة من نجاح أخوتها واستقرارهم مع زوجاتهم وأولادهم، تمرد على المرأة المعقدة التي إلتُ إليها في نظر الكثيرين، والمنعزلة عن كل مشاعر أنثوية ما دامت لم تتزوج رغم تجاوزها منتصف الثلاثينات من العمر، وأخيرًا رغبة عنيفة في التمرد على ذلك الطاووس المتبختر في جنان أوروبا، والذي خطرَ على باله الحصول على مواصفات خاصة لإمرأة يطمئن أن تكون المسؤولة على تأسيس حياة جديدة تعيد إليه روح الشباب الذي تبعثرت سنواته في سوح الغربة، بعد فقدانه زوجته الحبلى والتي ربما يعشقها لحد الآن ويريدني أن أكون صورة عنها، فقد يجمعنا بعض الشبه وهذا ما جعله يختارني دون أخريات، خاصة وأن كل بلاد الغربة الآن فيها الكثير من العراقيات، ومن مختلف الأعمار، وما لديه من ثروة يمكن أن يجعله يختار من بينهنّ ما يشاء، ثم أن الرجل في مثل عمره يرغب بالزواج من عشرينية تثيره بما يكفي لتحقيق المراد، وبالتأكيد تكون لديها فرص الإنجاب أكثر مني، أم أنه عندما رأى صورتي في الفيسبوك استثارت فحولته بالكامل ولم يعد يستطيع النوم إلا وأنا في أحضانه وقد استبدَ به هوَس لم يشهد مثله من قبل؟

 مآلي الجنون ولا شك ما دمتُ سوف أبقى أدور في حلقة تلك الأفكار المهووسة، بينما لا أريد أن أفارق جسد غزوان الذي أمسى يقبلني كما لو أنه يرجوني هو الآخر ألا أتركه، وإن أبى أن ينطق لسانه بشيء من هذا في عنجهية وصرامة العسكري الذي كان.

أثارني الفضول أن أسأله: ما الذي تجده فيّ دون أي واحدة أخرى، أقصد ما الذي يميزني عن غيري وأنا في أحضانك؟

استغربَ من سؤالي، حتى أنه بهت وقال: ما هذا السؤال الغريب!

ـ ولماذا غريب؟

صمتُ ثم أردفت في جرأة أكثر: يعني التي دخلت معك وكادت تكون مكاني معك هل كانت سوف تعطيك نفس اللذة التي تشعر بها معي؟ وهي جميلة ومثيرة ويبدو أنها أصغر مني بنحو عشر سنوات.

احتضنني كأنه يحرص ألا يفلتني فأغيب عنه تمامًا، وقال: لكنكِ شيء آخر غيرها، وغير الكثيرات، حتى تصعب المقارنة، أنتِ تهبيني الحرارة، التوق، والشغف. جسدك فيه أنوثة من نوع خاص. لا أعرف ماذا أقول لك أكثر.

ـ وكل هذا شعرت به لمّا كنتَ تراني بالحجاب؟

ـ ما هذه الأسئلة المُحيِرة؟ أفكارك وتصرفاتك دومًا غريبة ولا أعرف إلى ماذا يمكن أن تنتهي. تقَربيني منك كانك لا تستطيعين أن تعيشي من دوني، ومن ثم تنفرين مني كما لو كنتِ تتفاجئين بوجودي معك.

قلتُ في سخرية مؤنبة: وأنت بسرعة قررت أن تبحث عن بديلة لي في فراشك، كنتَ تريد أن تجد فيها شيئًا مني؟

قال مغازلًا: لأن من يسكن إلى جسدك يكون مثل المحرك، من الصعب له أن يتوقف.

شعرتُ بوخز كلماته بدل التميز الذي أهداني إياه، فقلت معاتبة بشيء من الحنق: لا تعاملني كأي عاهرة اعتادت أن تنام مع الرجال، أنت متأكد أني لم أكن مع أحد غيرك، وفي الحلال، أم نسيتَ أننا متزوجان.

ـ عدنا للحساسية المفرطة والتي تجعلكِ كئيبة جدًا، مثل أي زوجة تتحفز دومًا للعراك. تعرفين أني لا أقصد تجريحك، فأحلى ما في علاقتنا أن لا شيء يقيِد أحدنا ويجعله مضطرًا لاحتمال الآخر.

لم يمهلني لحظةً للرد، فقد أخذ يعانقني بحرارة تبدد مني كل كلام يمكن أن يثير البعد بيننا من جديد، طريقته في الإعراب عن ضجره من هذرٍ لا طائل منه، ولا مكان له بين اثنين يريدان الفرار مما خلَفا وراء باب خلوتهما الموصود، وبدا لي أنه تلك المرة بالذات أراد الفرار من الدنيا كلها في أحضان أي أنثى يلتقيها على قارعة الطريق، لعلها تستطيع تبديد رجع صدى أصوات ابنتيه من وعيه، لا أذنيه فحسب.

 أخيرًا سمحت لهما والدتهما بالاتصال به، من ذات المدينة التي يقيم فيها خالد! فكيف لو عرف أني على عتبات الذهاب إلى هناك أيضًا، لعلي عندئذٍ أكون سبية الغربة لديه فلا يرضى أن يتركني أبتعد عنه قيد أنملة كي يضمن أني لن أهجره واتركه خاليَ الوفاض من الماضي والحاضر.

 نبذتُ عن ذهني ذلك الهاجس سريعًا كي لا أستسلم لفكرة أني أسيرته ومجبرة على البقاء معه، فيما راودتني رغبة عنيفة باحتضانه كما لو كان طفلًا ليس له أن يدرك وجهته للاستدلال على بيت أهله، فآويتُ رأسه الممسوس بنزق الغضب مثل أسدٍ جريح يريد نهش كل من حوله إلى صدري وكأنه لم يمسسه من قبل، ثم لوهلة ظننتُ أنني أحترق بلهب دموعه التي باغتته فهطلت دون دراية من عنفوان العسكري شديد الوطأة الذي كان.

 أشفقتُ عليه وأيقنت مدى حبي له في ذات الوقت، مهما راوغت ونفرت من قيود تسلطه التي يريد فرضها عليّ فقط كي يشعر أنه ما يزال قادرًا على التحكم بمن حوله، ليس بسبب ما أحدثته داخله زوجته اللعينة من صَدع نفسي أفقده الثقة بكل شيء فحسب، بل لأنه أيضًا صار يضطر للعمل مع زوج شقيقته في بيع وشراء الأراضي، بشخصية أخرى تمامًا لا تمت بصلة لماضيه ومسيرته في الجيش بشيء، منصاعًا لتوجيهاته كما لو أنه أحد مساعديه، من بعد أن جرّده قرار الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة مما بقيَ لديه بعد غدر وخيانة زوجته التي أخذتُ مكانها بين أحضانه ولو سرًا.

 أحنو عليه بعناقٍ يحفزني للهروب معه والتخلي عن كل شيء، لعلَ أحدنا يستطيع أن يكون للآخر كل دنياه، لا عشيق فراش وغزوات الجموح فحسب، لكنه سرعان ما نفضَ عني ذلك الحلم الذي لا ينفك عن مراودتي منذ زهو الشباب ما أن ابتعد عني ونهض عن الفراش بكامل عريِّه نحو الحمام، وكأنه يخبرني بكل إصرار أنه اكتفى مني تمامًا ولم يعد بحاجة إلى مزيد من المواساة ولو من خلال شبق جسد يتشبث به حتى انقضاء لحظات الذروة، لأعود إلى ذلك الإحساس المقيت بالتقزز من حالي معه وما إلتُ إليه من وهَن يستولي على روحي وانا على ذات استلقائي العاري وسط الفراش.

 حدّقَ فيَ لدى خروجه ملتفًا بالمنشفة، نظراته الحاسمة كانت تخبرني بانتهاء وقت الاستكانة الذي هوّى به نحوي، وجعله هذه المرة يذرف دموع لوعة الاشتياق لابنتيه اللتين لا تغيبان عن باله ويتوق إلى لقائهما.

 أما أنا فسوف أبقى بالنسبة إليه مثل مخَدِر لبعض أوجاعه لحينٍ من العبث الذي يعربد بسنواته منذ انهيار النظام ومن ثم أمن البلاد.

 لا شأن لي بالسياسة الآن وأنا أشعر بمهانة جسدي أمامه، مع أني أشعر أحيانًا أن كل ما حدث ويحدث من حولنا فيه بعض الشبه من علاقتنا السرية والمجمَلة بورقة زواج مطواة تؤطر مرآة الشرعية لديّ كي لا أتهم نفسي، قبل أي شخصٍ آخر، بالزنا وأني فقدتُ عفتي التي حافظتُ عليها لسنواتٍ طوال كنتُ أستطيع خلالها فعل ما أشاء، حتى قبل سفر أخوتي اللاهين عني دومًا، بل من قبل وفاة والدي وتهاوي والدتي في براثن المرض.

قال وكأنه يؤكد انتهاء لقائنا، رغم ما قد يهبه جسدي المسترخي فوق الفراش من إغراء: أنا سأذهب.

أجبتُ كما لو أني أتحدث خلال نومي: وأنا سأبقى.

ـ لماذا؟

رددتُ في تحدٍ مفاجئ، له ولي أيضًا: أريد أن أبقى وحدي، أنا أساسًا جئت للبقاء بمفردي، هل هناك مانع؟

ردَ وهو يرتدي ملابسه: لا أبدًا، لكن الوقت تأخر، والدنيا لم تعد مثل قبل.

قلتُ بمرارة: لم يعد شيء مثل قبل مهما خدعنا أنفسنا بذلك، مع أننا في السابق أيضًا لم نكن كما كنا نتمنى.

ضحك وقال: الفيلسوفة العارية.

ـ يعني يجب أن أرتدي النقاب أو العباءة كي يحق لي التفلسف؟

جلس على كرسي عتيق قبالة الفراش، ثم قال كأنه يُحدِث نفسه: لا بد من التنكر والنكران كي نعيش ونستطيع المواصلة في استعراض بهلوانات هذا الزمن المزيف.

قلتُ وكأني أكمل جملته: لذا لا بد أن نبقى متخفين من كل شيء، ولو في فراش نختبئ فيه عن كل العيون، نثرثر بهمس اثارتنا المتخوفة من الافتضاح ولو عبر الجدران.

انتبهَ إلى ما أقوله من سفسطة مخمورة لا طائل لها، فنهض كي ينهي الحديث، وربما كل شيء: أنتِ تحبين الكلام الكثير، وأنا لا قدرة لي على مثل هذه الألغاز المتوارية خلف هذيّ السكارى.

ضحكتُ كما لو كنتُ سكرانة بالفعل، وقلت: وأنت تحب فقط ثورات الفراش المتوارية خلف أقنعة التنكر، ربما لهذا كانت علاقتنا سريعة ومتجهة نحو هدفها مباشرة، دون حاجة إلى رتوش تجميلية.

 لم يرد، معربًا عن ضيقه من المزيد من هذر الكلام، فتركني وغادر كما لو أنه يسدل الستار على أحد فصول مسرحيتنا المنزوية عن العيون، وربما آخرها، فيما بقيتُ أستنشق من خلال سائر حنايا جسدي المستثار، كأنه لم يشقَ بنهم فحولته الفوّارة حتى النضوب الأخير، وكم تمنيتُ ألا يذهب ويولي لي ظهره، وكأنه يخبرني أني لم أعد أثيره، لا الآن ولا في المستقبل، وأن استرسال حديثنا إشارة إلى بداية النهاية، خاصةً بعد أن عرف بوسائله الخاصة إسم المدينة التي استقرت فيها ابنتاه، وقد فشل في معرفة ذلك من أهل زوجته لأنه فقدَ مهابته العسكرية أمامهم أيضًا، ولمّا أراد الشجار هدده شقيقها المنتمي لأحد الأحزاب الحاكمة بعد الاحتلال بإعادته إلى غياهب المعتقلات من جديد، لكن دون أن يخالجه الأمل برؤية نور الشمس ثانيةً هذه المرة.

 شقيقته أخبرتني بذلك، لأن عنجهيته، أو ما تبقى منها، تأبى أن يُظهر مدى ضعفه إزاء من كان يتملق له على الدوام ويحاول أن يكون تابعَا له، متباهيًا بصلة النسب التي تربطهما في كل مكان...

ظللتُ قرابة الساعة أمَني نفسي بعودته، ينزع ثيابه في صمت، ومن ثم يستلقي إلى جانبي، فيحتضنني بشوق رجل لا يريد مفارقة حبيبته ليلة واحدة.

 ليلة عشق أرتوي منها كما أشاء، لا الوقت الذي يحدده هو، أمضيها متوَسدة صدره العريض، ومفتول العضلات، دون حراك، وبلا أن أضع في الحسبان ضرورة النهوض ووضع قناع حياتي الثانية أمام كل من أعرف سواه حتى يتلبسني بالكامل.

 لم يعد كما أملتُ، وأيضًا لم يطاوعني كَسلي على النهوض، فتغطيتُ بالبطانية وتشبثت بأطراف النوم الذي بدأ يراود عينيّ المشَبعتين بدموع الشعور بالنبذ، ليس من رغبته فحسب، بل من كل الدنيا التي اعتادت أن تجرجرني من خيبةٍ نحو أخرى، ومن رجاء صوب آخر.

 

ـ 7 ـ

 بدأتُ التفكير بعرض خالد بجدية أكثر فأكثر، من بعد أن استمتعتُ بمراوغة أهواء الرجل الستيني (الشبقية) نحوي، فلربما جاءت رغبته في الزواج مني في الوقت المناسب بالنسبة لي تمامًا، ولو لغرض الإنجاب في المقام الأول.

 فاجأته بإرتداء الحجاب أمامه مجددًا لأرى مدى الخيبة التي ألقيها في عينيه لدى مواراة كرتيّ صدري المتدليتين، كما لو أنهما تتدحرجان نحو شفتيه من موطنه الأصلي الذي فارقة منذ أكثر من عشرين عامًا دون أن يفكر في العودة ولو في زيارة سريعة، كأنه يخشى الاصطدام بوجع ذكرياته مع زوجته المتوفاة في مجزرة حرب من حروبنا.

سألته: لهذه الدرجة كنتَ تحبها؟

 بهتَ وكأنه استغرب لسؤالٍ تجاوز ضرورة التأكيد على إجابته منذ زمن، فحاول الاستفسار عن سببه، كما لو أن يتوقع مني ردًا يعيدها إليه من جديد.

قلتُ مستدركة ما شعرت به من حرج أمامه: ما بك، لمَ كل هذا الاستغراب؟ سؤال عادي لأعرفك أكثر، إن كنتَ من النوع الرومانسي الوفي لذكرياته، أم أن كل شيء محدد لديك بالمسطرة.

أردفتُ بعد صمت وتردد: ثم يحق لي أن أعرف إن كنتُ لديك مجرد وسيلة للإنجاب وتكوين عائلة؟

قال في شيء من الحدة، وكأني ذكَرته بما لم يخطر له على بال: عرضي منذ البداية كان واضحًا، ولم أقل لكِ أني أغرمت بك بمجرد أن رأيت صورتك في الفيسبوك وأنتِ ترتدين الحجاب.

استدرك هو هذه المرة صراحته الجريئة، وقال: مع ذلك صرتُ أشعر بانجذاب كبير نحوك، أريد أن أتكلم معك طويلًا وفي كل وقت، ربما هذا هو الحب لرجلٍ في مثل سني.

قلتُ وحمرة الخجل، والخيبة، تكسو ملامح وجهي: وماذا عما تحتاجه امرأة في مثل سني؟

قال في سخرية تحاول تجاوز سخف كلامه: اطمئني، أنا أجري الفحوصات بصورة دورية ومتأكد من قدرتي على إسعادك، ومن الإنجاب.

لم أتمالك نفسي، فقلت في عصبية حانقة على ما لمحَ إليه في وقاحة لا تكترث لحياء من يطلب يدها للزواج: هذا ما تظن أني أحتاجه فقط! أنت لا تواعد أو تتفق مع قحبة عبر النت.

صدمته بذاءة الكلمة، لكنه انشغل في التبرير قبل أن أنهي الاتصال، فقال مصطنعًا الضحك: ما بك، ألا نستطيع أن نمزح دون قيود، ألا يكفي قيود البعد وأننا لا نرى بعضنا إلا عبر شاشة الموبايل أو الكومبيوتر.

قال بعد تردد وانحناءة رأس، كأنه يفتش عما يقوله وسبق وكتبه في ورقة صغيرة أمامه خشية نسيانه: ثم يجب أن نتكلم بصراحة في كل شيء، وقد وصلنا إلى سن يجب أن يعرف فيه كلٌ منا ماذا يريد ويحتاج بالضبط.

قلتُ في نفور: ما قصة السن التي تصر عليها كل قليل، وكأنك تقول لي تعالي نلحق آخر المحطات قبل أن نُدفن في بلاد الغربة.

ـ أنا تعلمت أن أواجه كل الحقائق كما هي دون تجميل، لكي يكون كل شيء واضحًا منذ البداية، وما دمنا نتكلم بصراحة فأنا أود أن أعرف متى آخر مرة أجريتِ فيها فحوصات طبية.

سألته مستغربة من حلَقة الصحة والناس التي بدأت فجأة: فحوصاتي! لماذا؟

ـ هذا أفضل بالتأكيد بشكلٍ عام، ثم لكي نطمئن أن لا شيء يمكن أن يعيقنا عن الإنجاب.

ـ إن وجدتني عاطلة عن العمل حسب المواصفات أرجعني في مغلف إلى بلادي.

قطعتُ الاتصال بوجهٍ عابس دون انتظار رد منه، ولم أجب على اتصالاته ولا رسائله النصية التي يطلب فيها سماعه كي يبَين وجهة نظره التي علَمته إياها الغربة.

 الصراحة والوضوح في كل شيء، وواحد زائد واحد يساوي اثنان... ولكن هذا لا يعني أني لا أمَثل لديه سوى فرصة للإنجاب، فقد صرتُ بالنسبة له الأمل في أن يستعيد معنى الحياة من جديد، لأنه يريدني أن أكون معه في كل حياته، لا مجرد طرد أتاه من بعيد كي يعيده متى ما شاء، لكنه أيضًا صار أسير وسواس لا يرضى أن يفارقه أبدًا... وفي النهاية يطلب مني تفهمه قبل أن أقرر قطع كل اتصال أو تواصل بيننا، كما أنه مستعد أن يأتي إلى بغداد لرؤيتي والتفاهم معي بشأن كل شيء قبل أن أخطو خطوة واحدة خارج البلاد…

ذلك فحوى ما كتب.

 ياله من متواضع ومضَحي، كما لو كان من المفترض أن أسافر أنا للقائه في عمّان كي أحظى بشرف العرض على جنابه، ما دامت عُقد ذكرياته تمنعه من العودة إلى بلاده، فيراني واقفة أمامه بلحمي ودمي، ويتمعن بهيئتي وتفاصيل جسدي، بعد أن يطلب مني نزع الحجاب وما يمليه عليّ من ثيابٍ فضفاضة، لعل ذلك يغريه أكثر ب(اقتنائي) شرط أن أثبت له سلامة قدرتي على وهبه ما يتمنى من خلَف صالح يرث ما تركته له زوجته السابقة التي تزوجها كي يحقق ثراءً يمَكنه من التشرط على من يختار لتحظى برفقة العمر القادم في نعيم الجنان الأوروبية، بينما تبقى ذكرى حبيبته وزوجته الأولى مركومة تحت أنقاض بلادٍ لا يرغب أن تسطو كمائن حروبها الجديدة على مستقبله بأي شكلٍ من الأشكال، لذا يطلب مني منذ الآن أن أفكر بطريقته الغربية (شديدة الصراحة والوضوح) أما المشاعر وحميمية العواطف فيمكن أن تجلبهما شهوة السرير العريض، أمام النافذة الواسعة المطلة على الحديقة الخلفية رائعة الخضرة والجمال، كما نقلها الفيديو الذي جابَ بي كل أنحاء بيته ـ بيت زوجته فيما مضى ـ وأنا أجلس في غرفتي التي اصطادت الكثير من الأحلام عبر مخيلتي، دون أن أظفر بحياة حقيقية لحد الآن إلا عبر أوقات النشوة التي أمضيها مع غزوان، وكأن أحدنا يتمسك بالآخر مخافة أن يتركه ويرحل فتغادر معه آخر أمانيه المحتجزة بين أنقاض جديدة خلفتها الحروب وحسرات الفراق والغربة.

 ترى كيف هو في الفراش؟ أكثر عنفوانًا وصلابة من غزوان بفعل الحرمان للحب، أم أن العمر لم يُبقِ من فحولته إلا ما يكاد يسمح بتحقيق حلم الإنجاب؟

 نفرتُ سريعًا من وسواس الأفكار التي تحيلني إلى عاهرة مقززة لا حد لشهواتها بين أجساد الرجال، خاصةً وأني ما زلتُ متزوجة وفي نفس الوقت أسعى للخطو نحو رجل آخر أشعر منذ الآن بمدى شهوته المسترسلة عبر أحاديثنا، وإن كان جلَ تركيزه ينصب حول موضوع الإنجاب الذي لم يشغلني يومًا، فأنا لستُ كأغلب النساء، تثور داخلي غريزة الأمومة وتكاد دموعي تنفر من لوعة الحرمان والتوق لسماع صوت طفل وهو يناديني (ماما) كما أني لست مستعدة لتحمل مسؤولية أخرى بالإضافة إلى كل ما تحملتُ من مسؤوليات وعبء مرض والدتي المشتد حدة وضغطًا على أعصابي، ولولا الأوقات التي أقضيها مع غزوان لمّا تمكنت من الاحتمال أكثر وكل شيء من حولي يزداد كآبة وقتامة، ليس في حياتي فحسب بل بين كل أنحاء المدينة التي صرت أحس أنها تود افتراس ساكنيها في كل لحظة، وإن انزاح عنا هلع الانفجارات وعادت الشوارع إلى صخب يبدو للوهلة الأولى كما لو أنه حالة من البهجة أو زهو الانتصار في إحدى معارك حروبنا القديمة التي لم نكن نعرف عنها شيئًا سوى ما يذيعه إعلامنا الموَجه.

 جلستُ أمام المرآة طويلًا، كما لو أني عرفت لتوي أن السنوات تمضي بي سريعًا، وأن ما يسطو على تفكيري اليوم قد أتخلى عنه سريعًا في الغد القريب، كما حدث مع غزوان في الآونة الأخيرة.

 صحيح أننا كلما نلتقي نعود إلى ذات حنو الشبق الأول، ونغفو بين جنبات جنة نتمنى ألا تفارقنا أبدًا، إلا أن كل شيء بدأ يلقي بنا نحو عتبات النهاية، مهما أنكرت أشواقنا (الانفعالية) ذلك حتى لحظة خبو وهج آخر جذوة جنون تجمعنا.

 بالتأكيد جنون ونحن ندرك ذلك جيدًا، جنون أو وسيلة للهروب من ثقل يرزح فوق كاهل كل منا، حتى وإن توهمتُ لحين أني صرت أحبه ولا أستطيع المضي في سنوات الوحدة التي فرضتُها على نفسي وأوجبتها من حولي الظروف من دونه، ولعله يشعر ذات الأمر نحوي، لا يدري إن كان يحبني أم فقط تتجدد لديه الرغبة فيّ كل حين، ولعله لذلك حاول جلب واحدة من الشارع كي تحل محلي في الفراش، فقط من أجل أن يشغل نفسه عني، كي لا يتورط أكثر في جنوحه إلى أحضاني، خاصة لدى نفوري منه إثر النوبة التي ألَمَت بوالدتي، وهو يكاد يستنشق جسدي بدل الهواء من شدة هياجه ونحن نستلقي فوق أرضية غرفتي، أم أن ذلك كان مجرد رغبة في التملك، كما سبق واجتاحني التفكير، عوضًا عن عائلته البعيدة وكل ما أفقده إياه الاحتلال.

 في كل الأحوال سوف أبقى كما كنتُ دومًا، مفتقدة الحب مهما طال بحثي عنه، بالكاد أكون خليلة متعة أو وسيلة للإنجاب، بعد أن أستطيع إثبات قدرتي على ذلك بإجراء الفحوصات، إيجابيتها شرط ولوجي فراش خالد في بلادٍ بعيدة لا تشهد الدمار كل حين.

 من جهتى سوف أشترط ألا أسافر إلى هناك إلا ووالدتي معي، لا أن أتركها وحدها بعهدة الخالة نجاح حتى تنتهي إجراءات لحاقها بي وبقية أولادها الذين نسوا طريق العودة إلى هنا، ولا بد أن أضع هذا الشرط صوب عينيه منذ البداية، وإلا ليصرف النظر عن طلب العروس الجاهزة للحمل من الأساس ويبحث عن رحم آخر يحقق له أمنيته التي أجهِضت في أهوال حربٍ مضت وتلتها حروب كثيرة، ولو شاء أساعده أنا في البحث عن تلك العروس، سعيدة الحظ بزفافها إلى بلاد الغربة…

 هكذا سوف أخبره بكل حزم يضع النقاط فوق الحروف، من ناحية كي أرد على عنجهية ووقاحة طلبه بشأن التأكد من قدرتي على الحمل، ومن ناحية أخرى من أجل أن أعرف مدى تمسكه بي واستعداده لحل كل العقبات من أجلي، وقبل كل شيء فليتفضل ويتكرم ويأتي إلى هنا، لا أن يكتفي بإملاء مواصفات الزوجة المطلوبة من مكانه، دون أن يكلف نفسه عناء السفر لرؤيتي ومن ثم التقدم لخطبتي، كما تستحق أي واحدة مصانة في بيت أهلها، ولو من نفسي، ومن ثم والدتي ومن يعجبني دعوته من الأقارب مراعاةً للشكليات لا أكثر، إن لم يعنِ زواجي شيئًا يستحق أن يستغني أخوتي لأجله عن روض غربتهم، ولو لعدة أيام، والعودة إلى بيتهم الذي تركوني فيه وحيدة مع أنين والدتي متهافت الأنفاس حينًا تلو الآخر.

 ولا بد قبل كل ذلك أن أنهي مسلسل العشق السري مع غزوان بسماع كلمة طلاق منه لينتهي كل ما بيننا دون مماطلة ولا زعيق ولا ترامي الاتهامات فيما بيننا، وأظنه الآخر لن يتشبث بي للأبد، مهما استبدت به رغبات تملك أحد رجال سطوة عهد انتهى وليس له من عودة.

 اتصلتُ به على أمل أن أسمع منه كلمة انتهاء أوقات المعاشرة التي دامت بيننا لأشهر، بدت لي كما لو كانت سنوات، لينتهي كل شيء وأتفرغ لما ينتظرني، وحتى لو لم يتم زواجي بخالد فلأكتفِ من شبق الفراش معه إلى هذا الحد، دون أن تساورني المزيد من المخاوف أن يُكشف أمر لقاءاتنا السرية من قبَل أحد، والأهم من ذلك أن يُسرَب الخبر إلى وهن مرض والدتي التي لن تستطيع ان تتفهم مدى حاجتي إلى رجل، من غير أن يربطني به قيد زواج تقليدي، مع تحمل مسؤولية بيت آخر غير بيتنا الذي تحملت مسؤوليته بالكامل منذ سنوات، وربما أولاد في المستقبل، أظل متحيرة بينها وبينهم كل الوقت، كل هذا من أجل معاشرة تتباعد فتراتها من حين لآخر، وقد لا تحقق لي الارتواء الكامل.

 كيف لها أن تدرك كل ذلك، وكيف لي شرحه بوضوح دون لجلجة ولا تأتأة، فأنا لم أعتد الفضفضة أمام أحد، حتى صديقاتي لم أجد في أي منهن من تشجعني أن تكون ملجأً لأسراري، فقط الأحلام كانت لدي أشبه بمغارة تتشعب فيها ثرثرة الأفكار والتمنيات والخواطر، وكذلك أخيلة المراهِقة المحرومة من انجذاب الرجال لغير تكور نهديَ المشتهيين، بالإضافة إلى ما انكبُ على تدوينه الآن بكل حرية دون أن يهمني رأي أحد في ما انسقتُ إليه من جنون، لم أدرِ أني سأكشف بعضه أمام سوسن بمثل هذه البساطة والاندفاع الأهوج.

أولما تلقى هاتفه المكالمة لم أنتظر أن تأتي منه كلمة، وكأني أردت استباق أي رد منه كي لا تخفت جذوة حماستي في طلب الانفصال وسماع كلمة الطلاق منه.

 أتاني صوتها يحمل شهقات متفرقة من الحزن والدهشة الأشبه بالصرخات المكتومة وهي تخبرني أن شقيقها قد تم اعتقاله منذ يومين ولحد الآن لا يعرفون مكان اعتقاله أو نوع التهمة الموَجهة إليه.

 

ـ 8 ـ

ظللتُ منكبة على صمتي ودموعي وذهولي من هَول ما سمعتُ، وأيضًا من صدمة افتضاح أمري أمام سوسن، وربما كل أهله فيما بعد، متوجسةً من مدى رد فعلها إزاء المفاجأة التي ألقيتها على مسامعها، دون أن أعرف أن هاتفه ظل معها بعد اعتقاله، أو ربما كانت الأقرب إليه ممن كانوا في الدار، ولعل ذلك من حظي لأنها تبقى الأهون لدي من أي شخصٍ آخر.

 مفاجأتي بصوتها، وبما قالت، لم تترك لي فرصة للنطق بكلمة، فلم يسمح انفعالي والرجفة السارية في أنحاء جسدي إلا بإغلاق الخط بسرعة وكأني ألقي عني مصيبة تكاد تمسني حرائقها بالكامل مع إلقاء الهاتف بعيدًا عني، وتمنيتُ أن أسلَم من شر البلاء بمجرد تحطيمه ومن ثم التخلص من حطامه في كيس المهملات الذي لا يستحق منا نظرة واحدة إلا عند التفتيش عن شيء نكون قد رميناه بالخطأ أو في فورة غضب سرعان ما تغادرنا كي نعود ونبحث عما قد يفيدنا ولم ننتبه إليه من قبل.

 غالبًا ما تسطو عليّ مثل هذه الثرثرة الهاذية عندما أحاول الهرب أو محاولة نكران أمر لا سبيل أمامي لمواجهته، لكن هذه المرة لا بد لي من معرفة سبل مواجهة كل الاحتمالات جراء معرفة سوسن بأني زوجة شقيقها المتخفية عن العيون، ومن بعد ذلك الجميع، ليس بسبب مكالمة الهاتف (الغبية) فحسب، إنما كان يمكن أن يحدث ذلك بمجرد أن يعثر أي شخص بين أغراضه الشخصية على نسخته من زواجنا الممهور بتوقيع كلٍ منا مع الاسم الثلاثي.

 انتظرتها كما لو أن سنوات عمري الفائت تعيد مضيها من جديد، كنتُ متأكدة أنها سوف تأتي كي تستفسر عن المكالمة وما قلته خلالها عن نهاية علاقة لا أحد يعرف أنها كانت بيننا أساسًا.

 قبل كل شيء، وكي لا أعطيها فرصة للهذر والإساءة إلى سمعتي وشرفي، لا بد أن أشهر أمام عينيها ورقة الزواج التي كنتُ مستعدة لتمزيقها بمجرد أن أسمع منه كلمة (طالق) على أن يفعل ذات الشيء بالنسخة التي معه كي ننهي كل شيء دون متعلقات تسبب لنا أي نوع من القلق بعد ذلك، كما كان اتفاقنا منذ البداية.

 ما أن رأيتها تقف على عتبة الباب الداخلي، كما لو أنها اعتادت زيارتي باستمرار، بوجهٍ متصلب تحشد تعابيره الكثير من الكلام، حتى سحبتها من يدها نحو غرفتي كي لا تسمع أمي أو الخالة نجاح كلمة مما نقول.

 أوصدتُ الباب، فسخرتْ من علامات الخوف البادي على قسمات وجهي، لكني استبقت كلامها بمحاولة اطمئناني على حال أخيها، وكأني أنتظر أن أسمع غير ما أبلغتني إياه عبر الهاتف.

نظرتْ نحوي متحفزة، وقالت بنبرة لؤم خبرتٔها عنها منذ كنا في المرحلة الثانوية: تقصدين عشيقك. آخر ما كنت أتوقعه، أن تكوني...

لم أدعها تكمل، فقد قلت بكل ما تمكنتُ من ثقة، وكأنني أُسمِع نفسي وإياها: نحن متزوجان، فلا تدعي خيالك يوَرطك في أي ظنٍ لن أسمح به، لا منك ولا من أي شخص آخر.

وأظهرتُ أمامها الورقة التي تؤكد طهارتي، بخط يد شقيقها الذي أملتُ أن لا تخطئه.

 بدت الصدمة على قسمات وجهها كما توقعتها تمامًا، وكأنها تجسد مشهدًا أعدتْ إخراجه في مخيلتها، ثم جلست على كرسي قبالة فراشي كما لو أنها لم تعد تملك القدرة على الوقوف لحظةً واحدة، وهنا تذكرتُ حبها للمبالغة التمثيلية على وقع الأفلام العربية التي تحب إعادة مشاهدتها مرةً إثر مرة.

قالت في ذات ذهول الدراما المصطنع: متزوجان! دون أن يعرف أحد؟ وحتى أنا لا أعرف!

قلت ببرود ملَكَّني إياه انفعال (أمينة رزق): ولماذا يجب أن تعرفي أنتِ أو أي شخص آخر. نحن أردنا أن يكون هذا الأمر بيننا وحدنا، دون قيود ولا ضغوط من أحد، ونحن لسنا طفلين أو حتى مراهقين لنكون تحت الوصاية أو في انتظار المباركة، ثم أن لكلٍ منا ظروفه التي تفَهمها الآخر جيدًا.

شهقتْ، وقالت كما لو أنها وجدت ضالتها: لكن الزواج إشهار قبل كل شيء.

أجبتُ في نفور يُظهر عدم استعدادي للجدل الطويل: لا تمثلي أمامي الآن دور الشيخة الواعظة. أنا لا أنتظرك كي تقولي لي ما هو الحلال وما هو الحرام، ولولا يقيني من شرعية زواجنا لما تركت أخاكِ يلمسني مهما كانت حاجتي له.

 خرجتْ من فمي الجملة الأخيرة دون إرادة مني كي تومض عيناها وتسري نظراتها في جسدي، ثم تستقر فوق نهديّ العامرين، والذين كانا يسببان الغيرة لها وللكثير من البنات، بينما كانت صدورهن تبدو مثل كف طفل، أو حتى رضيع، مضمومة.

اشمأززتُ من تلك النظرات، فأردتُ جذب تفكيرها بعيدًا بقولي: المهم الآن أن نطمئنُ عليه.

كما لو كانت تذكرت لتوها أن شقيقها معتقل ولا مجال لما قبضت عليه من ثرثرة، خبر كل المواسم بالنسبة لها، فأجهشتْ بالبكاء.

قالت بعد لحظات من النحيب: في المرة السابقة كنا نعلم أنه لدى الأمريكان، أما هذه المرة فلسنا متأكدين لحد الآن من جهة اعتقاله وقد تزايدت سلطات الاعتقال، كل حزب وكل مليشيا دولة منفصلة عن الأخرى.

صمتت لحظات أخرى، ثم فاجأتني بسؤالها: أين كنتما تلتقيان، هنا؟ ووالدتك كانت تعلم!

فاجأتها بدَوري بضحكة عالية وطويلة، ثم قلت: لا فائدة منكِ، في أصعب الظروف ولا تملين من الثرثرة وفضول الفتيات، هل تريدين أن أحكي لكِ عما كنا نفعله بالتفصيل وكيف كان أخوكِ يشتهيني في كل مرة؟

قالت في استياء من صدمة صراحتي الوقحة بدَل علامات الخجل التي ربما كانت تتوقع أن تصدر عني كما لو أنها قبضت عليّ بالجرم المشهود: ما هذا؟ ماذا تقولين! عيب.

قلت في برود استغربته هذه المرة من نفسي: العيب أن تسأليني مثل هذه الأسئلة السخيفة والمتطفلة على خصوصياتي. عندما يخرج غزوان من المعتقل اسأليه عما تريدين، إن كنتِ تمتلكين الشجاعة لذلك. هو نفسه كان يتذمر من تدخلكم في حياته كما لو كنتم مسؤولين عنه، ولم يكن أحدكم في السابق يجرؤ أن ينطق أمامه كلمة واحدة يمكن أن تضايقه، وكأن الاحتلال أعطاكم الفرصة التي كنتم تنتظرونها دومًا.

بدت في موقف الدفاع من بعد أن أعدت نفسها لتنصب لي محاكمة طويلة وعسيرة، فقالت: نحن كلنا نحبه ونخاف عليه، ونشعر بما واجه من انكسار، خاصةً بعد غدر زوجته وأخذ ابنتيه إلى الخارج.

أردفتْ بعد أن عرفت كيف تدس سمَ كلماتها لاغاظتي: عندما بدأ يتلقى اتصالات من عائلته راح يرتب أوضاعه ويعدُ نفسه للسفر.

داريتُ عنها دهشتي من وخز لؤمها، وقلت كأني أصَدِق على كلامها: نعم أعرف، أخبرني بذلك، رغم أن أمر وصوله إلى عائلته السعيدة أمر شديد الصعوبة، إلا إذا تدبر أمر قبول لجوئه في ذات البلد، ولا أظن أن زوجته الحيزبون يمكن أن تساعده بذلك.

 لا أدري لمَ قلتُ كل ذلك في ثقة من تعرف كل خبايا زوجها، وكما لو أني ملمة بشأن معاملات اللجوء ولمِ الشمل التابعة للأمم المتحدة، وكم خشيتُ أن تفاجئني من جديد بما لا أعرف عن تدبر أمر سفره دون أن يهتم بإبلاغي، كما لو كنتُ عشيقته لا زوجته ويربطني به يمين طلاق، حتى لو أتاني عبر مكالمة هاتف أو رسالة نصية.

قالت في استسلام أمام عدم قدرتها على مضايقتي أكثر، وقد عادت إلى أسى الناحبة شقيقها: لندعُ الله أن ينقذه من هذه المحنة كما أنقذه من سابقتها.

لكنها أيضًا قبل خروجها لم تستطع ألا أن تغرز سيف المقت في صدري، فقالت بنظرات ماكرة وابتسامة صفراء: لم أكن أعرف أنكِ بمثل هذا الجبروت، تتزوجين أخي دون أن يظهر عليك أي شيء عندما تزوريني! كانت فاتن محقة في خشيتها أن تأخذي زوجها منها، خاصة عندما كانت تشتد نوبات العراك بينهما، رغم أنكِ كنت حمامة السلام التي تصلح بينهما.

 قبل أن تلتفت نحو الباب للمغادرة قبضتُ على ذراعها بشدة لأسألها، بكل الغيظ الذي عرفتْ أخيرًا كيف توغله في صدري، متى ولماذا يمكن أن تكون فاتن قد قالت لها مثل هذا الكلام، وهما لم تعرفا بعضهما إلا من خلالي ولم تنشأ بينهما صداقة حميمة، على حد علمي، كي تخبرها بمثل هذه السخافة التي تطعن فيّ وتستلب من كرامتها وأنوثتها في آنٍ واحد، ثم لو أنها كانت تفكر بي بهذه الطريقة لمَ أبقت على علاقتها بي كما لو كنت أختها، لا صديقتها المقربة فحسب، وتخبرني عن الكثير من خصوصياتها دون أن تخشى أن أستغل ذلك كي أخطف زوجها منها، ولولا وساطتي المستمرة ربما ما كانا سوف يتزوجان من الأساس، وحتى بعد سفرها بسنوات ظلت تتواصل معي دون أن تأتي بمجرد تلميح على مثل هذا اللغو المعيب!

حانت فرصتها للانتقام من خداعي لها بزواجي من أخيها في الخفاء بالضغط على جرحي أكثر، فقالت في نبرة لؤمٍ وتشَفي: كانت تعرف أنكِ تحبين زوجها منذ أن كنتم في الكلية، ولولا بعض ثقتها بأنكِ لن تغدري بها لأنها كانت أقرب صديقة لكِ لمّا سمحت لكٍ بالاقتراب منه ونظراتك تحدق به باستمرار، هي قالت ذلك بالتحديد في لحظة نفور وغضب من كل شيء عندما كنا في بيتها وخرجتِ مسرعة في نوبة من نوبات الغضب الطفولي التي تصيبك فجأة، لأنك لم تستطيعي أن تسيطري على نفسك وأن تدافعين عنه كالعادة، كما لو كنتِ المسؤولة عنه، بينما كانت في آخر فترة من حبلها وتشتكي من لا مبالاته وهوج تصرفاته الرعناء، فردتْ عليك بعصبية وبدَورك أخبرتها أنها مجنونة ولا يستطيع أحد احتمالها. مشاحنة عادية بين الصديقات لكنها كشفت عما لم تشأ قوله من قبل.

صمتت، ثم أردفت كي تجعلني أتجرع مرارة لغوها للنهاية: وفراس كذلك كان يعرف أنكِ تحبينه، كما أخبرتني فاتن أيضًا، وكان يستمتع بذلك ليزهو بنفسه أمامها، وأيضًا استغل تعلقكِ المتيَم به كي تساعديه بشأن الصفقة التي حصل عليها من الشركة التي تعملين بها.

تبحرتْ في سيماء وجهي التي انعكست في المرآة أمامي، كما لو أنها لامرأة أخرى غريبة عني تمامًا، ثم قذفت آخر ما لديها من غيظ: أرأيتِ؟ لستِ وحدك التي تخفين المكائد وتتصورين دومًا أنكِ أذكى من الجميع، وأن مشاعرك الجياشة مخفية في جُحرٍ لا يعرف أسراره غيرك.

 خرجتْ مثل زوبعة ريح تبددت من أمامي دون أن أقوى على الاحتماء من شدة عصفها مهما راوغتُ وحاولتُ مجابهة النيران التي أتت متحفزة لإلقائها في وجهي المزداد امتقاعًا في المرآة حتى ظننت أنها يمكن أن تتصدع من شدة تأثير نظراتي المحَدِقة في عريي على مدى عمر بأكمله، وصورة فاتن وفراس تتجسد أمامي وكأن السنوات لم تمضِ بأيٍ منا على هذا النحو السريع.

 كل هذه السنوات وهي تحمل نحوي مثل هذه الضغينة، وتتصور أني يمكن أن أسلبها حب عمرها حتى بعد الزواج، رغم أني كنت أبقى عندها لساعات وبصورة شبه يومية وتحكي لي عن أمور كثيرة تخص علاقتها بفراس الذي كانت تتركني بمفردي معه كما لو كنت أخت أحدهما، دون أن ألمح منها نظرة شك أو عدم ارتياح لوجودي، والأدهى من ذلك أنه كان يفرح ويتباهى بأني بقيت أسيرة هواه حتى حلول موعد رحيلهما، ولعلها أيضًا ظنت أني لم أتزوج لأجله، وقد عقدتُ العزم أن أظل راهبة في محراب عشقه حتى النهاية، عسى أن تحين الفرصة لكي أتمرد على صداقتنا وأحظى به كعشيقة أو زوجة ثانية، وربما انتابها الظن أني قد أسعى من أجل طلاقهما!

 من يدري هذه المعتوهة كيف وبماذا كانت تفكر بالضبط حتى شعرتْ أنها تفوز بالفرار به بعيدًا عني وعن البلاد، ولو كلمتُها الآن وحاولت مواجهتها لأنكرتْ بالتأكيد وسلطت أصابع الاتهام صوب ثرثرة سوسن وفبركتها لكل هذا الكلام من وحي أوهامها الثرثارة والأحقاد المتمسكة بعُقد المراهقة لحد الآن...

 لربما ساقها ذلك إلى الاتصال بسوسن كي تتعارك معها وهي تسألها عن سبب إثارة مثل هذا اللغو بعد مرور كل هذه الأحداث في حياة كل منا، عندها سوف تسرد لها في نفورٍ نزِق عن زواجي السري من غزوان، فيفتضِح أمري شيئًا فشيئًا أمامها، ومن ثم أمام فراس الذي لا أظنه الآن يتذكرني إلا كإحدى عاشقات وسامته في مرحلة الشباب، أو أني مشروع مغامرة لم يقم بها، ولعله ندم على ذلك فيما بعد.

 فكرتُ من شدة الغيظ الذي ظل يتآكلني وأنساني كل ما يدور حولي أن أبدأ بالتواصل مع فراس، وأرى أين يمكن أن يوصلنا وهج التحدي الذي أثاره كلام فاتن القديم من خلف ظهري، ومن يدري، لعلي أستطيع لقاءه بعد وصولي إلى فراش خالد في إحدى بلاد اللجوء لأكون عشيقته، ولو سافرت لأجله من بلدٍ إلى آخر، أو أغريه أن يفعل ذات الأمر كي ينهل مني ما يشاء، نكايةً بصديقتي التي ظنت بي أبشع الظنون، وقد...

 دومًا يحضر، عبر الهاتف، في الوقت غير المناسب، أو ربما يكون المناسب دون أن أدري كي يفيقني من عبث الأفكار السكرى التي تسطو على رأسي المطوَح من شدة ما لقيَ خلال ساعات معدودة أرجعتني سنوات إلى الوراء.

 جاء اتصاله كي يعيدني إلى الحاضر، عبر ضغط زر الرد على مكالمة الفيديو، لكني لم أفعل، ليس لأني لم أكن مستعدة للحديث معه فحسب، إنما أيضًا بسبب جنون حطَ في ذهني فجأة ومَحا كل ما اجتاحني من ثرثرة وعربدة الذكريات، بالاضافة الى هواجس غياب غزوان لأمدٍ طويل وبقائي معلقة بكلمةٍ منه.

 كتبتُ له أني أهمُ بدخول الحمام للاغتسال، وألتفُ بالمنشفة، وكدتُ أتمادى أكثر فأسأل إن كان يريد أن نتواصل في محادثة فيديو وأنا مستلقية في (البانيو) كي يراني في كافة الأحوال قبل أن نقرر الزواج، إلا أني اكتفيتُ بما قد أثيرُ فيه من جنون الشهوة التي رحت أتحرق لها كما لو أني أود الاحتماء بلهيبها من كل ما يحوطني، في ميوعة مراهقة تتسلى بلهاث الشباب من حولها.

جاء رده: "نعيمًا مقدمًا، يجب أن نتحدث عندما تكونين مستعدة... لمّا تصيرين معي نغتسل معًا وأنَشفكِ بنفسي يا قطتي"

 أطلقتُ ضحكة عالية، كأنه كان معي ويداعبني كما يشاء. يا للوقاحة الصبيانية التي بدأت تشدني نحوه أكثر، كما أن خفة دمه تنزع عنه الشيب والمظهر الوقور، المتكلف بعض الشيء، والذي لا أحبه في الرجل عادة.

 استمررتُ في الضحك كما لو أني شربتُ حد الثمالة، نابذةً عن تفكيري طلبه السخيف بضرورة إجراء فحص لأجل تحديد مدى قدرتي على الإنجاب السريع الذي يتلهف إليه أكثر من لهفته نحو أي امرأة في العالم، لكني لن أتنازل عن شرط حضوره إلى بغداد كي نتفق على كل شيء برَوية، أمام والدتي على الأقل، ومن ثم نرى كيف نتدبر كافة الترتيبات خطوة تلو أخرى، ما دام أخوتي الأعزاء لا يهتمون إلا بإتمام صفقة زواجي، ولو عن طريق البريد السريع.

 لكن كل هذا، وأي مخطط آخر، يجب أن يتوقف الآن، حتى أعرف مصير غزوان، فأنا زوجته أمام الله، وإن لم يكن هناك شاهد واحد على عقدنا المحتجب عن العيون.

 

ـ 9 ـ

تحدثتُ وخالد طويلًا، إلا أننا ظللنا نتغافل عن قول أمر محدد، فلم يجرؤ على معاودة طرح موضوع إجراء فحوصات من أجل ضمان حصول الحَمل بعد فترة من استلقائي تحته في انتظار نضوح فحولته فيّ، وعذرًا لجرأة التعبير مجددََا إلا أني لم أجد من داعٍ لتجميل ما يريده مني قبل أي شيء آخر. أظنه قد خافَ أن يفقدني ومن ثم يضطر إلى البحث عن... عن وعاء غيري لإنجاب حُلمه القديم، وإن أثمرت سنوات غربته الشاقة عن ثراء أعطاه حق البحث عن فرصة حياة جديدة، كما لو كان في زهو الشباب ولم يدركه مشيب الستين.

 من جهتي لم أقل شيئًا عن اشتراطي مجيئه إلى بغداد كي نرى بعضنا بشكل حقيقي، خارج حدود (كادر) الكاميرا، ومن ثم نحدد موعد الزواج، إذا ما اتفقنا على كل شيء، شأن أي اثنين لم يعربد جنون الغربة والفقدان بكلٍ منهما، فلعلي أكون أكثر اغترابًا منه، على الأقل هو وجد هدفه واستطاع أن يحدد ما يريد كي لا يكون القادم من سنواته أشد وطأة وضياعًا مما مضى؛ أما أنا فقد أبقى هائمة على وجهي دون أن أدري أي طريق أسلك وما غايتي منه، حتى لو استقر بي المقام هناك، في بيته الساحر الجميل، وتحقق له ما يتمنى، وصرتُ أمًا لا بد لها أن تهب بلا حدود ودون انتظار المقابل من فلذة كبدها، المهم أن يرضى الجميع ويكونوا سعداءً، حتى لو أنه قرر ألا يلمسني بعد الإنجاب، إلا كلما هفا به الشوق نحو الجسد الملَوَح بالسمرة الشرقية الغامقة الآتية من أرضٍ فارقها منذ زمن.

 قد أتجرأ واصارحه بهذا الهاجس، ما دام بدأ هو بالإفصاح عن غرضه من الزواح بمنتهى الوقاحة، كي أعلن له أني امرأة متطلبة الشهوة، سوف أبدل الكلمة بالحب، عسى أن يفهم من خلال تعابير وجهي ما أعني بالتحديد، وأنه يجب أن ينتبه إلى ذلك دومًا ويأخذه في الحسبان، وإلا صارت حياتنا جحيمًا يحرق روض الطفولة الذي يتمناها.

 لتكن شروط (العَقد) واضحة بيننا منذ البداية، كما كانت بيني وبين غزوان من قبل شروعه بفض بكارتي بمجرد كتابة الورقة التي شرَّعت كل ما حدث بيننا في لوعة جنونية كادت تُفقدني عقلي من شدة حرمان كلٍ منا من حياة أستُلبت منه بدل المرة مرات، فهو أيضًا عانى ما أعاني وأكثر من انكسار تشَظى ما بين سوح معارك هزائمه في جبهات القتال، سكرات عذاب المعتقل، وغدر زوجته وفراق ابنتيه، كي ينتهي كل هذا بعودته إلى أنياب المعتقل من جديد.

 هذه المرة كأني ولجته معه، ما دمت مرتبطة به، دون أن أستطيع الجهر بذلك أمام أيٍ كان وإلا لصرتُ في ذات الموقف الذي صرت فيه أمام أخته لتنفث سُم لسانها وبذاءة وقاحتها بشأن تعلق أهوائي القديمة نحو فراس، والمتجددة ربما، رغم أنه لم يعد يلج تفكيري إلا كل حين.

 مع ذلك لا أستطيع أن أنكر سُكنى طيفه جسد غزوان عندما غشاني أول مرة، حتى خشيتُ أن يشعر (زوجي) بذلك، أو أن أهمس باِسمه دون وعيٍ مني، فيزداد سخطًا ومقتًا لكل ما واجه وجنح به نحو ركنٍ قصيّ عن الدنيا.

 نحو تلك الشقة البائسة قدتُ السيارة مسرعة، فقد خطرَ في بالي ضرورة إخفاء كل أثر لي فيها، من قبل أن يتم تفتيشها، رغم أن رجال الأمن لم يفتشوا بيت أهله، محل إقامته بعد خروجه من المعتقل أول مرة والحجز على بيته وكل ما لم يكن مسجلًا باِسم زوجته التي استطاعت النفاذ من أحكام ما بعد الاحتلال عبر مكانة شقيقها في أحد الأحزاب المتنفذة داخل البلاد.

 كل الظروف كانت مهيأة لأن يجمعنا فراش واحد، ولفترة ربما تكون بمثابة غفوة من ضمن غفوات تتفلت بنا من سطوة قيود تتراكم فوق كواهلنا مثل عبء ديون لا مفر من سدادها في النهاية، إلا أني لم أتوقع مثل هذه النهاية الممطوطة إلى حينٍ لا يدريه أحد وهو مغَيَب عني وعن الدنيا في جحور معتقل لا أملك حق معرفة أين يكون بالتحديد، مع أني حتى لو عرفت وتأكدت ما أستطعت فعل شيء، فأنا في النهاية لست من ضمن عائلته ولا أعني له شيئًا إلا خلال خلواتنا المشحونة بالتَوق بعيدًا عما يعيشه كلٌ منا.

 جلستُ فوق السرير كما لو كنت أنتظر دخوله بكل عنفوان رجل متشوق للحياة دومًا، رغم كل ما يقَيد خطاه خارج جدران هذه الشقة المختزنة عبق آخر ذكرياتنا، وكأننا لم نغادرها إلا قبل دقائق.

 نزعتً الحجاب ورميته بعيدًا على الأرض، واستلقيت على جانبٍ من السرير، لكن قبل أن أغمض عينيّ، مستسلمةً لوَهن صار يثقل كاهلي كل حين، رنَّ الهاتف، فتوقعتُ أن يكون خالد دون سواه، كما هي عادة اتصالاته دومًا، إلا أنه لم يكن هو، إنما رقمٌ غريب!

 استعدلتُ في جلستي، ثم فتحت الخط، وصلني صوت غريب عرَّف صاحبه نفسه أنه محمد سلام، من مكتب دلّالية اتصل به أحد أشقائي من الخارج وعرضَ بيتنا للبيع عن طريقه، دون أن يخبرني! ثم أعطاه رقم هاتفي كي يتصل بي عندما يجد المشتري المناسب، ومن حسن الحظ هناك من يرغب بالشراء، وهو يعرفني أيضًا ومنذ زمن، كان زميلي في الكلية، واسمه إبراهيم حسن عبد الرازق!

 إبراهيم، هو نفسه بالتأكيد، لا أحد آخر، إبراهيم الذي رغب بالزواج مني سرًا ونالَ لكمات قوية من فراس ثم اختفى نهائيًا من حياتي لكي يعود الآن من أجل شراء دارنا، ودون أن أعرف أنه معروض للبيع أساسًا!

 ثارَ غضبي من أشقائي الثلاثة حتى كدتُ اصرخ بكل الوجع الذي يعتريني، امتعاضًا من ذات الأسلوب الذي يتبعوه معي منذ زمن؛ أن أكون رهن الأمر الواقع فلا أستطيع فعل شيء إزاء ما يقررون لي وفق مصالحهم ورغباتهم، وكذلك مصلحة العريس المنتظَر.

 وكأنهم يتعمدون أن أبقى قابعة في ظل أهوائهم إلى الأبد، دون أن يمهلوني حق الاعتراض أو حتى فرصة الاختيار، فلا أملك سوى تنفيذ ما يتفقون عليه دون قيد ولا شرط، كما لو أن حياتي حقيبة سفر نسوها في بلاد غادروها منذ سنوات وأرسلوا كي تصلهم في أسرع وقت، برفقة والدتهم وما تبقى لهم من إرثٍ لم يدفعوني إلى بيع حصتي فيه قبل هروبهم إلى الخارج الذي يشيرون نحوه الآن كي أخطو نحوه دون تلكؤ ما دام من قررَ التفضُل بتخصيب بويضاتي قد أمرَ بذلك.

 كدتُ أتصل به، نكايةً بالأشقاء الأحبة، كي أبلغه أن عليه الانتظار لحين انتهائي من زواج سري لا يعرف به أحد، وبعد انتهاء فترة العدة سوف أكون متفرغة تمامًا لإنجاب وريث العهد، ولو رغب أستعيد بكارتي من خلال عملية تلجأ إليها الكثيرات عادةً، كي يزهو بفحولته على أكمل وجه ما دام الرجل الشرقي لا يرضى مغادرته رغم مضي عقود عليه في بلاد الغرب.

 كم أعجبني أن أتشَفى بالذهول الذي أبصره مرتسمًا على سيماء وجوههم لدى معرفتهم أن شقيقتهم المحَجبة المصون تمضي وقتها بين أحضان من لا يعرفون بورقة زواج غير معترف بها في أي محكمة في العالم، ومن دون وجود شاهد واحد، فحتى الزواج المدني في البلاد التي يقيمون فيها يكون موَثقًا لضمان حقوق الطرفين، أما أنا وغزوان فلم تشغلنا غير حقوق الفراش وشهوات الجسد المنفلتة من كل شيء، والأدهى من كل ذلك أن (نسيبهم الغامض) معتقل حاليًا ولا يعرف أحد التهمة الموَجهة ضده...

 صدمة تساوي كل ما يسعون إليه من ثمن بيع البيت للراغب القديم بنهديّ، وأيضًا بورقة زواج مخفيّة عن العيون، كأنه انتظر كل ذلك كي يكون المشتري لكل سنواتي الماضية، ومن دون أن يرى البيت الذي ينوي شراءه وافقَ على السعر الذي قرره أخوتي، كما لو أنه يتعمد الاستعراض أمامي والتباهي بقدرته على دفع أي مبلغ كان بلا جدال أو حتى مساومة!

 لم أشأ الرد عندما سألني الدلّال متى يمكن أن يحضر ومعه المشتري كي يلقي نظرة على البيت من الداخل ونتفق على موعد لتوقيع عقد البيع، وقد أبلغه أخي أني أملك حق التوقيع عن الجميع، رغم فضولي لرؤية إبراهيم بعد كل هذه السنوات وما آل إليه من ثراء جعله يستطيع شراء دار كبير في منطقة اليرموك، بعد أن كان يبدو ممن يتدبرون أمورهم بالكاد، خاصةً في سنوات الحصار الشاقة، والأهم من هذا ما الذي أوصله إلى شراء دارنا دون سواه، مجرد الصدفة!

 أية صدفة هذه استحضرت الماضي بغمضة عين، لتستعيد معها ذكرى ضرب فراس له أمام الطلبة بسبب عرضه الزواج عليّ، في السر ودون علم أحد، لمجرد الشهوة الشرعية.

 بالتأكيد هو الآخر لم يخرج عن فلك تلك الذكريات، وكيف له أن ينسى تلك الواقعة المؤلمة التي بصمته بالمهانة حتى بعد انقطاعه عن الدوام ووصول أخبار عن اعتقاله، وما دريتُ أن الاعتقال سوف يتعقب مصيري مع من اخترته كي أكون خليلته بعقد زواج لا يفرق شيئًا عما عرضه إبراهيم فيما مضى وجعلني أتسبب له بفضيحة خشيتُ لحينٍ أن تدفعه للانتقام مني في أي شارع أمشي فيه بمفردي، أو أن يختطفني ليأخذ مني ما يريد دون عقد زواج رفضته في حدة غضب تنفي عني تهمة العهر التي وجهها لي، ولو بمباركة شيخه وحضور شاهدين يجيزون له ما يشاء حتى يأخذه السأم منى فيضطر إلى أبغض الحلال كي يشرع بتجربة نكاح (مبارك) مع أخرى.

 خاطر من ضمن خواطر عديدة اجتاحتني، بقدر مخاوفي منها، وقد تشوَق شيءٌ مني أن أكون المختطَفه بين ذراعيه وتحت وطأة جسده، حتى لو شكوتُ بعد ذلك كوني الضحية، المغتصَبة، المدمَرة، وجالبة العار لأهلها رغم تحصنها بالحجاب الذي ميَزها بالهداية عن الكثيرات...

 أوَ حقًا فكرتُ بمثل هذا الهراء ذات يوم! أي جنون اجتاحني عندها، وكيف لي أن أداريه عنه عندما نلتقي في بيتنا، بحضور والدتي والدلّال الذي حددتُ موعدًا معه في النهاية، وإن كان ذلك يعني موافقتي على البيع، ولو بصورةٍ مبدئية، رغم الثورة العارمة التي قررتُ خوضها ضد أخوتي الذين يصرون على معاملتي مثل مستخدم لديهم، ليس لي إلا تنفيذ ما يأمرون به بشأن كل ما يخص حياتي التي لا تعني لهم شيئًا منذ أمدٍ بعيد.

 سوف أبدأ هجومي بهذه الكلمات تحديدًا، وعلى مسمع من الجميع، بمن فيهم أمي، فهي تعرف أيضًا ولا شك وموافِقة بالتأكيد، ما دام أولادها المدَللون قد طلبوا منها ذلك، فقد قررتُ ألا أبقى رهينة بين يديّ هذا وذاك طول العمر.

 سوف أجعلهم يدركون هذا جيدًا، وإن اضطررتُ إلى شيء من المواربة حتى حين.

 

ـ 10 ـ

 أخبرني شقيقي (الهُمام) بصراخٍ يرد على عصبية حادة استفزتها نبرته الآمرة لدى إمدادي بتوجيهاته السديدة بشأن بيع البيت، وكأنه يُلقن طفلة ما يتوجب عليها أن تفعل، أن الجميع مستعجل لذلك، من أجل مصلحة والدتنا قبل كل شيء، كي تجد العناية الكافية في مستشفيات عمّان إذا ما تعرضت حالتها الصحية لانتكاسة أخرى…

 الحنون، الآن تذَكر حالة والدته الصحية واحتمال أن تتعرض لانتكاسة، بعد استقرار الأوضاع نسبيًا في البلاد وهدوء زوابع القصف والانفجارات التي كانت تحاصرنا فيمكن أن تمنعني حتى من الخروج والبحث عن دواء في بعض الأحيان، وأنا أتوقع أن أجدها لدى عودتي محترقةً بنيران الحرب المترامية في كل مكان.

 قررَ وأخواه ألا يتركونا بعد الآن وحدنا، وألا يسمحوا لي بالمماطلة حتى تضيع مني فرصة الزوج المناسب وأنا أخطو نحو سن العنوسة، خاصة وأن هذه الفرصة لا يمكن تعويضها بأي حال من الأحوال، فأنا لست ملكة جمال ولا ثرية إلى حد أن أكون مطمع الرجال، ولا أحد أقاربي صاحب نفوذ في مجالس المعَممين كي أغري أحد متسلقي السلطة بأن يكون تحت أمرتي، لأني دومًا ذات شخصية متمردة تأبى أن تبقى تحت سيطرة أحد، وهذا ربما هو السبب الأهم لعدم زواجي لحد الآن...

ثم قال في ذات نبرة زعيقه التي تشبه النهيق: خالد ليس متيمًا بك كما تظنين وأقسم إن لم يتزوج حضرتك فلن يتزوج من أخرى، ليمضي حياته مكتئبًا يتحسر غيابك. أنتِ لا تعرفين وضعه وما له من مكانة هنا، ولا مدى ثرائه المتزايد...

 ثروة اصطادها من بلاد الغربة، ثم تحولت إلى طُعمٍ كي يصطادني هنا في سنوات تبحث فيه كل بلادنا عن فرص صيدٍ جديدة لم تُستغل ويتم استهلاكها من قبل، مثله مثل سادة السلطة في المنطقة الخضراء، وذات الحال بالنسبة لإبراهيم لدى استغلاله فرصة بيع الدار، ولو دفع أضعاف سعره ربما، كي لا تفوته فرصة استعراض هويته الجديدة أمامي وأنا على أعتاب الرحيل، كما يخطط الجميع سوايّ.

 فأنا لحد الآن لا أدري ما الذي اريده بالضبط، رغم أني صرت أرتاح إلى وجود خالد في حياتي، وإلى عرض الزواج العابر للقارات الذي يمكن أن يخلق لي شخصية مختلفة عما أنا عليه الآن، بعيدًا عن كل ما عشت وعايشت من أصدقاء وأناس رسموا لي في مخيلاتهم صورة ترتهن دومًا بما يستنزف أذهانهم من أخيلة وانطباعات لعلها تعكس ما يكمُن في دواخلهم عبر الآخرين كي ينتقدوا أنفسهم من خلالهم كما شاؤوا، مستغلين كل فرصة تواتيهم للتنفيس عن شعور الخيبة لديهم ويسعون إلى مداراته عن العيون قدر الإمكان، عسى أن ينجحوا بتسديد سهام لؤمهم ولو لأقرب الناس إليهم، قبل أن يستعينوا بقناعٍ آخر يتخذونه درعًا لمجابهة جديدة تمدهم بنوع من الحصانة يحجب ما يمرون به من حالات ضعف تستلزم المزيد من الأقنعة لتسر عيوبهم، أقنعة تتجاوز بكثير أغطية الرأس والأثواب الفضفاضة التي أستعين بها لحجب مكامن أنوثتي عن نظرات الشبق الجامحة مثل ذئاب البرية، والمستترة بدورها عن العيون.

 لا تستغرب، فقد أخبرتك منذ البداية أني أكثر بكثير مما أبدو عليه، أو حتى مما توحي به شخصيتي، وليس الكتّاب وعلماء النفس والذين يتباهون بثقافاتهم الموسوعية فقط مَن يمتلكون القدرة على التحليل النفسي واستقراء شخصيات الآخرين.

 سَلَطتُ ما لدي من مَلَكة الاستقراء تلك في محاولة سبر أغوار هيئة إبراهيم الجديدة، والتي بدت لي في أحسن حال، كي أستطيع معرفة الكامن من تلك الشخصية وما تخبئه لي من مفاجآت.

 صدقَ حدَسي بما وجدته لديه من حب استعراض، ولو من خلال تعابير وجهه المبتسم في تفاخر طيلة الوقت، وكذلك أبسط التفاصيل، مثل الساعة الغالية التي يُحركها كل قليل وكأنه يثَبتها حول معصمه خشية وقوعها، ولعلها تكون من ضمن حركاته العصبية التي تعكس انفعالاته أمامي، بعد أن أعدَ نفسه لرؤيتي طويلًا، ربما منذ زمنٍ سبقَ الاحتلال بسنوات، كما راح يستعرض مكانته المهمة في أحد الأحزاب الكبرى في البلاد، وأنه صار من ضمن مستشاريه وممن يقررون ترشيح هذا وحجب الآخر عن عضوية البرلمان.

 مباهاة اصطنعَها بأسلوبٍ طفولي يثير الضحك والسُخط على هزلية الواقع الذي وصلنا إليه في آنٍ واحد، فيما عيناه تواصلان تلصصهما على ثنايا جسدي، حتى راحتا تغرياني بفك أزرار ثوبي كي أبصر جدحات الإثارة في حدقتيْن تعيدان إليّ ذكرى ذلك الانكسار الذليل الذي رافقه لدى نهوضه من الأرض بعد أن سددَ له فراس لكمات متواصلة وسريعة أفقدته كل قوة للمهاجمة أو حتى الدفاع عن نفسه، عندها بحثتْ عني عيناه بين الواقفين، أو هكذا ظننت، كي يرمقني بنظرات متألمة ومعاتبة ومتوَسلة في آنٍ واحد، قبل اختفائه عن ناظريّ رويدًا رويدا.

 كل مرة يتجسد ذات المشهد في ذاكرتي بتفاصيل مختلفة، إلا أنها هذه المرة تكتسب دقتها الشديدة من حضوره أمامي، جلوسه على كرسيٍ قريب مني، وفي بيتنا، كما لو أنه جاء بعد كل هذه السنوات لخطبتي، ويُفترض بي الجلوس في خجل وحبور بانتظار زفافنا لأصير له كما استفزته شهوته كلما هوَت نظراته نحوي من قبل أن يتوارى عنه تكور نهديّ بالثوب الفضفاض.

 شعرتُ أنه يمقت ما أرتدي أكثر من أي وقتٍ آخر لما يستلب من زهو انتصار وصوله إليّ، ولو من خلال شرائه الدار الذي كاد ينسى أنه سبب مجيئه، كما لو أنه كان أمرًا منتهيًا بالنسبة له ولا بد من امتلاكه بأي ثمنٍ كان.

 كدتُ أتمادى في لعبة التحدي المطلة من عيوننا بأن أغالي في السعر حتى أوصله إلى ضعف ما أخبَره به الدلّال لأرى إلى أي حد يمكن أن تبلغ به رغبة الانتقام من مهانة الماضي، ومن ناحية أخرى وددتُ لو نكون بمفردنا، أنا وهو فقط، دون وجود الدلّال وأمي المستبشرة بسرعة البيع خيرًا، ما دام فرسانها الثلاثة قد أمروا باستعجال الرحيل.

 وددتُ لو استطعنا كشف كل الأوراق القديمة فيما بيننا، وتقليبها ومن ثم التمعن بها واحدةً تلو الأخرى، بل أني فكرتُ أن أتفق معه على موعد خفيّ يجمعنا، في شقتي وغزوان دون أي مكانٍ آخر.

 جنون، أدركُ هذا جيدًا، وقد يكون أشبه بهذيان حلم لن يسعني تفسيره، ولا بعد حينٍ ربما، لكنني أيضًا لن أهمل فرصة نهَمه القديم، والمتجدد، الذي لن يرتوي مهما بلغ سلطانه ومدى نفوذه، دون أن استغلها لمحاولة تحرير غزوان من أسره كي أحصل على حريتي، قبل أن أقرر اتخاذ أي خطوة صوب خالد.

 ومضتْ الفكرة في رأسي وحثني عليها سؤاله المتطفل إن كنتُ قد تزوجت، مع شبه يقيني أنه على معرفة تامة بالإجابة التي يعلمها كافة أهلي عني، بل داخلني الشك أنه يعرف كذلك بزواجي السري ويود أن يرى إن كانت لدي الشجاعة لإخباره بذلك، وعلى مَسمع من والدتي، أم لا، إلا أني سرعان ما نبذتُ ذلك الهاجس عن ذهني كي أستطيع استجماع شجاعتي وأسأله عن إمكانية التدخل من أجل الإفراج عن شقيق صديقتي المنتحبة، وكل أهلها، طيلة الوقت لغيابه، دون أن يعرفوا شيئًا عن مصيره، ربما من أجل هذا عرضتُ عليه التجوال معه بين غرف الدار التي جاء لشرائها، فوافقَ مبتهجًا وكأني أشير له أن نختلي معًا في غرفتي ما شاءت شهوة سيادته من الوقت.

 وقفتُ وإياه عند عتبة باب الغرفة كي يلقي نظرة عليها، فشعرتُ أنه يكشف عن كل خصوصياتي ويعَريني بناظريه من قبل أن نخطو خطوة واحدة نحو الداخل، وقد هجستُ لوهلة أنه يمكن أن يدفعني قويًا ثم يوصد الباب كي يثأر لكل ما قاسى في حياته، وليس فقط اشمئزازي من مجرد طريقة تفكيره نحوي حتى بعد ارتدائي الحجاب، وربما الحجاب ذاته هو ما أغواه بالإفصاح عن رغبته فيّ ولو لفترة محددة، ربما علينا ألا نصَرح بمداها كي نقنع أنفسنا أن زواجنا زواج حقيقي مكتمل الأركان.

 أغلقتُ باب الغرفة بسرعة مرتبكة دون ولوجها، فهجسَ بما انتابني من ذعر مخيلتي، ثم ظل ينظر نحوي في ابتسامة احترتُ في سبر أغوارها، ولم أننبه إلى مدى قربه مني.

 اقترب أكثر وكأنه يهمُ باحتضاني، حدقتْ به نظراتي قويًا تحت وهج نور الطرقة كي لا يتمادى في ثنايا حلمه القديم دون جدوى، ولمّا كاد يحوط خصري ويلامس صدره نهديّ استجمعتُ كل ما لديّ من عزم كي ألزمه حده، لكن دون إثارة فضيحة، والأهم من هذا دون أن ألهب جنون غضبه فتضيع مني فرصة إنقاذ غزوان.

دفعته عني في رفق، مع حزم النظرات، وقلت في شيء من الدلال: كل هذه السنوات ولم تتعقل؟ حتى بعد أن تغيرت كل حياتك وصرتَ صاحب سطوة ومال يمَكنك من شراء دارنا.

صمتُ بينما لم تفلت عينايّ نظراته المسترسلة نحو شفتي اللتين امتنعتا عن عناقه، فما نالهما إلا وخز لحيته رغم تشذيبها بعناية، وأردفت: لكني لست من ضمن ما تشتري.

أجاب: سوف تبقين بالنسبة لي أغلى من كل ما أريد شراءه، هنا أو في أي مكان في العالم.

انتبهتُ لإشارته حول مدى ثرائه داخل وخارج الوطن المدَمر، فقلتُ ضاحكة: لا أستغرب ذلك في زمن الصفقات والفتاوى المبيحة كل شيء. بالمناسبة، ما أخبار شيخك المبارِك أوراق زيجاتك العرفية.

على عكس خشيتي من امتعاضه ضحك بصلافة، وقال: جعلتِها زيجات، كل ما أردته أن أتزوجك أنتِ، وأنتِ تعرفين ما حدث بعد ذلك.

فررتُ من نظرات العتاب والشكوى، وربما الحقد اللئيم، المطلة من عينيه، وقلت بغنج أوحته لي كلماته التي شعرت وكأنها أمطار من غزل تقتُ إليه منذ زمنٍ طويل ولم أدركه حتى مع غزوان وأنا أستلقي عاريةً بين ذراعيه: تريد أن تقول أنك لم تجرب حظك مع أخرى لحد الآن؟

قال وكأنه يسعى لإغاظتي: بالتأكيد تزوجتُ، بدَل الواحدة كثيرات.

ضحكتُ مرةً أخرى، وقلت: كثيرات! لا تبالغ يا سلطان عصرك.

قال وكأنه يكمل كلامًا استعد لقوله من قبل دخوله الدار، بكل خبث ظل يسترسل داخله مع مضي السنوات: لكني استغربتُ أنكِ لم تتزوجي، أم أنكِ لحد الآن متَيمة بزوج صديقتك فراس ولا تستطيعين أن تكوني مع أي رجل آخر غيره؟

امتقعَ وجهي تحت وقع شراسة كلماته، وكدتُ أصرخ لولا تداركي لوجود والدتي التي تركناها تتبادل الحديث مع الدلّال في الصالة: ماذا تقول يا متخلف! انتظرتَ كل هذا كي تأتي وتلدغني، إن لم تستطع بشهواتك فبثرثرة النساء وخيالات المراهقين، أهكذا تديرون مجالس الحكم في البلاد، لا عجب إذًا لما أدركناه من جنون.

 كأني أكدتُ صدق كلامه عبر عصبية سرَت داخلي مثل تيار من الرجفة أنهكتْ وقوفي أمامه.

قال ببرود يستمتع بما أدركه بعد طول انتظار: ورغم هذا طلبتُ منكِ الزواج، وظننتُ أنكِ ستوافقين، على الأقل كي تتخلصي من لعنة حبك الأخرس له، بينما هو يهيم بصديقتك وكأنكِ غير موجودة. كنتُ أراقبك وأنتِ ترقبين كل حركاته وكأنكِ تريدين أن تحتضنيه بقوة وتنسي كل شيء من حولكما، فتثيريني نحوكِ أكثر وأكثر.

ـ أنت مريض ومعقد ومهووس.

ـ لو كنتُ كذلك لعرفت كيف أنتقم منكِ ومنه ولو بعد سفره وفاتن وحرمانك من مجرد رؤيته، خاصةً لمّا زالَ حاجز الخوف والرهبة الذي ظل يسيطر عليّ بعد اعتقالي إثر تقرير كُتب عني من داخل الكلية.

ظل ينظر نحوي وكأنه يحَملني إثم كل ما عانى، ثم أكمل كما لو كان يخشى أن ينسى كلمة مما حفط: لكني وجدته أقل من أن أنشغل به، فقد عرفت أنه يعيش مثل أي لاجئ مهَمش في البلاد البعيدة، يعمل طوال الوقت ليتدبر اموره، رغم حصولة على جنسية أجنبية، حتى زواجه بفاتنته التي فضَّلها عليكِ انتهى بالطلاق، بينما أنا هنا أملك كل شيء.

سألته مستغربة: ماذا تقول؟ فراس وفاتن تطلقا!

ردَ على استغرابي بدهشة شامتة، وقال: واضح أن علاقتكما انقطعت بعد كل هذا الحب، أقصد الصداقة.

ضحك بسخريةٍ خبيثة، وأردف: حبيبكِ الفارس الذي لم يحتمل جرأتي لمّا عرضت الزواج على جنابك يعيش الآن مع واحدة لا تفرق كثيرًا عن فتيات الخمارات ممن يتمنينَ رفقتي، مع أن صديقتك الجميلة ما تزال اسمًا على مسمى.

قلتُ في ذات نبرة الاستغراب التي علَت قسمات وجهي: حتى هي لم تفلت من مطاردتك!

ـ ولو أردتُ لتزوجتها، أو حتى جعلتها ترضى أن تكون رفيقتي مقابل أن أتحمل مسؤوليتها وأولادها لأنها الآن المسؤولة عنهم بالكامل، كما وصلتني الأخبار.

ـ أخبار، أية أخبار! هل توظف رجالك هنا وهناك ليجمعوا لك أخبار كل من كنتَ تعرف وترغب بتصفية حسابك معه؟

ـ قلتُ لكِ أن مسلسلات الانتقام لم تعد تشغلني، والدليل أني لم أحاول التعرُض لكِ بأي شكل رغم أنكِ لم تغادري البلاد.

ـ لكنك بالتأكيد جمعتَ عني الكثير من المعلومات، كما تتباهى بأنك فعلتَ بشأن كل ما يخص فاتن وفراس، كأنك تحكي لي عن أحداث فيلم مستمر العرض منذ سنوات.

 اضطربت نبضات قلبي توجسًا مما قد يعرف عني وعن سر علاقتي بغزوان، إن ذكرَ شيئًا عن ذلك فسوف أسارع بإخباره أننا متزوجان كي لا أسمح له بالتمادي أكثر وأنا أبدو أمامه مثالًا للعاهرة المتخفية تحت ستر الحجاب.

 كدتُ أصرخ بالخالة نجاح لدى إقبالها نحو وقفتنا المتقاربة على بعد خطوتين من باب غرفتي كي تخبرني أن والدتي انتابها القلق بسبب تأخرنا في مشاهدته غرف البيت الذي ينوي شراءه، بينما ساورَني الشك أن كل ذلك كان حجة تسمح له بالظهور، هنا دون أي مكانٍ آخر، فقط كي يكشف لي عما ظل يخبئ ويختزن داخله على مر الأحداث والسنين بتفاخر الأطفال، وأن كل ما دارَ بيننا كان بمثابة تمهيد لما خططَ له بشأني، فأنا في النهاية فريسته المطارَدة من قبل أن ينهي حياته الدراسية بفضيحة أمام جمهرة من الطلاب، وهو الآن من الذين يعرفون جيدًا كيفية التعامل مع كل مظاهرة أو تجمهر على مدى بلدٍ بأسره، لا أمام باب الكلية فحسب.

 وإن قرر إهمال فراس من دائرة عقابه، إذا ما افترضتُ صدق كل ما قال وثرثرَ به، فلا أظن أن مجيئه إلى هنا بمثابة مروق شبح من الماضي، لا يلبث أن يختفي سريعًا كما لو أنه لم يلُح لي ولو عبر صدفة لا معنى حقيقي لها غير جذبنا إلى حلقات مفرغة من الذكريات، والخيبات، ظننا أننا استطعنا مغادرة أفقها منذ زمن.

 

ـ 11 ـ

 طلبتُ منه إعطائي مهلة للتفكير قبل الموافقة على البيع، امتعضت والدتي جراء طلبي المتبطل بينما تنتظر أن تتصل بأخوتي كي تطمئنهم أن كل شيء قد تم على خير ما يرام، بدوره أجابني بابتسامة مستفزة من شدة ما يمتلك من ثقة وقال أنه ينتظر موافقتي في أقرب وقت، ثم طلب مني تخزين رقم هاتفه في هاتفي، مشيرًا للدلّال ألا يقلق، لأن تواصلنا المباشر لن ينقص من عمولته شيئًا، وأيضًا طلب رقم هاتفي فلم أجد حجة كي لا أعطيه إياه، خاصةً وأنه استعرض أمامي معرفته بأكثر خفايا حياتي خصوصية.

 لهذه الدرجة كنتُ مفضوحة أمام الجميع! كما لو كنتُ مسرحًا دائم العرض، وما كان حجابي إلا وسيلة للتعري المثير مثلما تفعل أي راقصة (ستربتيز) حتى أنه اشتهاني بدل المرة مرات بمجرد تلصصه على نظراتي نحو فراس ووقفتي معه ومع فاتن التي كانت تعي بدَورها مدى شغفي بحبيبها دون أن تلَمِح بإشارة أو تعبير من وجهها، كما لو أنها تستمتع بذلك العرض أيضًا، بل ربما كانت تُستثار من خلالي نحوه، بما يتناسب مع حيائها حتى ونحن نجلس سويةً ونتكلم عن أدق خصوصيات الفتيات في مثل عمرنا، فتحمر وجنتاها خجلًا وتخبرني أن الحجاب لم يستطع أن يغير فيّ شيئًا ثم تستغرق في الضحك متكتمة عما تود قوله أكثر.

 عندئذٍ أتكتمُ من ناحيتي على غيظٍ قد يستمر لساعات، وربما يحرمني من النوم، وأنا أتذكر كل لحظة ما قالت، وإن جاء في سياق سخرية مازحة المفترض ألا تعلق في الأذنين طويلًا، وكأنها قبضت عليّ بالجرم المشهود أني فتاة بذيئة لا تستحق أن تستر شعرها أو أي جزء من جسدها الشهواني، بل كما لو أنها تتلصص على شيء من أطياف تلك الأخيلة والأحلام المسترسلة في فراشي حتى تصل بي إلى الذروة دون أن أفقد بكارتي مثلما قد يحصل لها في لوثة عشق تجمعها وحبيبها في أي مكان يقرران الانزواء فيه عن العيون، رغم أني أعرف جيدًا مدى تخوفها وتحصنها من أي موقف قد يقود إلى شيء من التمادي من قبَله، كأن يقفان في ركن منزوٍ عن العيون، أو حتى يمسك يدها ولو بصورة تبدو عفوية، بينما كنتُ أخلع ثيابي في سوح طيفه واتركه يغترف من أنوثتي ما يشاء لي الخيال دون رقيب ولا تحفظ ولا شعور بالإثم.

 وفي النهاية انفصلا، بعد كل هذا الحب والاصطبار على مختلف المحن التي خبراها معًا!

 كنتُ أعرف أن علاقتهما لم تعد كالسابق، وأن كلًا منهما يعيش بمنأى عن الآخر في جلِّ الأمور، لم تخبرني بصورة مباشرة عبر تواصلنا المتَقطع، إلا أنني استشعرتُ ذلك، وقد صدقَ حَدسي من خلال صداقتي الحميمة بها خلال سنوات الكلية وما بعدها، لكن أن يتخلى عنها تمامًا وينساق نحو واحدة كالتي وصفها إبراهيم، فهذا كان بالنسبة لي أبعد من كل خيال يمكنني الجنوح إليه.

 لم أجد في صفحتها أو صفحته على الفيسبوك ما يشير إلى شيء مما حدَثني عنه إبراهيم، كما لو أنه يترصد تحركات كل منهما منذ سنوات، إن لم يكن بغرض الانتقام فلأي سبب أذًا!

 ثم رمى كلمة تتغزل في فتنتها التي لا تزول، وكأنه ودَّ أن يلَمح إلى رغبةٍ واتته ذات يوم من أجل الحصول عليها، مثل أي سلعة يرغب بشرائها مهما كان الثمن، بزواج أو من دونه، نكايةً بفارس القديم الذي أذلَه أمامنا فيما مضى، أما أنا فقد أهملني للنهاية كي يقوم بالتفاخر أمامي بما بلغه من ثراء وسطوة بعد طول تهميش وخوف منعه من محاولة الأخذ بثأره من الدنيا بأسرها لو استطاع.

 لا أدري كم طالت الفترة التي قضاها في غياهب المعتقل، وبأي هيئة غادره، وما كان يكتنفه من مشاعر ظلم وحقد وسعي للانتقام لولا حاجز الخوف الذي أشارَ إليه وأبقاه مختبئًا في ظلاله كالفأر في الجحور، في زمن الصوت الجهوري الواحد، قبل أن تتناثر الأصوات في كل مكان.

 ومن بقايا ثأره مما مضى أنه أراد ضمي إليه بلهفة الحبيب المشتاق إلى حبيبته بعد طول غياب، وأن ينزوي وجهه بين نهديّ المحافظين على ذات جاذبيتهما من قبل ارتدائي الحجاب، عندما كان وآخرون يتلصصون عليهما، دون أن تسلب السنوات من فورانهما شيئًا.

 شفتا غزوان كانتا تؤكدان لي ذلك عند كل لقاء جمعني وإياه، في حينها لم أكن أتوقع أني سوف أفقده بهذه الطريقة وأظل معلقة بكلمة منه، متوارية وإياه خلف جدران أحد معتقلات البلاد الكثيرة.

 قد يعرف إبراهيم بهذا أيضًا، لكنه احتفظ بهذه المعلومة للحلقة القادمة من سلسلة مفاجآته الأكثر غرابة من كل ما قد يسرح به الخيال.

 عاودتُ محاولة الاتصال بفاتن، عبر الهاتف ثم الماسنجر، إلا أنها لم ترد، كما لو أنها قررت نبذي من حياتها للأبد، وربما يكون هذا أفضل، فحتى لو أنها ردت لَما عرفتُ كيف أصوغ أسئلتي المتراكمة، أثقلني بها إبراهيم، ومن قبله سوسن، وإن كانت سوف ترد أم ستبدأ في سلسلة من الإهانات التي ادخرتها لي منذ أن كنا أقرب صديقتين بسبب هيامي بحبيبها، ومن ثم زوجها الذي تركها من أجل معاشرة واحدة أخرى.

 قد تحَمِلني إثمَ ما حدث، لأنني بالتأكيد لم أنسَ عشقي له كي يصل الحسد الذي أكُنه لها إلى آخر أصقاع الدنيا، ولو كنتُ أقيم في ذات المدينة لكنتُ أول واحدة تعاشره وتسلبها إياه، بعد أن أكون قد تخليتُ عن الحجاب الذي أحاول أن أداري به فجوري قبل نهديّ العامرين اللذين كانا يسببان لي الضيق من تلصص النظرات المتسللة نحوهما.

 أتذكر أني فضفضتُ معها بمثل هذا ذات مرة، قبل أن يأخذني الندم على ما كشفتُ عن دواخلي ولو أمام من كنتُ أعدها بمثابة أختٍ لي...

 أي هذيان يتلاعب بأفكاري ووساوس تقرع رأسي، فيما تحوطني عيناه من كل صوب، متنقلة معي ما بين الحمام، الذي استغرقتُ فيه وقتًا طويلًا، وغرفة النوم التي ربما تمَنى ولوجها معي، ومنذ زمن سبقَ زمن سعيه لامتلاك كل المفاتيح بين يديه، وليس فقط مفتاح الدار الذي قد يجعله سكنًا لإحدى زوجاته، أو عشيقاته.

 ربما يستقدمها من أرض اللجوء، كما يريد خالد أن يرَحِلني إليها، وقد تكون تلك العشيقة فاتن دون سواها، وبهذا يكون قد وجهَ الضربة القاضية إلى فراس، رغم انفصاله عن زوجته.

 استلقيتُ وسط الفراش شبه عارية، كما لو كنتُ أستنشق لفح أنفاسه، إلا أني سرعان ما اشمأززتُ من ذلك الخاطر الذي صوَرني من جديد مثل أي عاهرة متخفية بالحجاب والثياب التي لا تكشف عن ثنايا جسد يمتلك من الإثارة ما لا تمتلكه أجمل نساء العالم.

 لستُ مغرورة ولا أبالغ، كما تحسبُني، لكني أدرك ما لديّ جيدًا، ولهذا توقعت اتصاله بي في تلك اللحظات بالتحديد، في لهفة عارمة تحمل نبرة شوق سلبَ عقله ما أن رآني بعد مرور كل سنواته العجاف، عن قرب كاد يتلاشى لو أني لم أصده عني، مما قد يكون أثاره نحوي أكثر، فانصرفَ إلى التباهي بما بلغه من نفوذ وسلطة من ناحية، ووصلنا إليه نحن الثلاثة من ناحية أخرى، مطَلقان وعانس قد يظن أنه لو أشار إليها لهرعتْ نحوه دون تردد، ولو بزواج عرفي كالذي عرضه عليها فيما مضى فقامت الدنيا من حوله ولم تقعد إلا بهزيمته النكراء العصية على المحو من الأذهان، رغم ما أخبرته في حزم منتفض على علياء مكانته بين صفوة أحزاب حكم ما بعد الاحتلال أني لستُ للبيع مثل الدار التي جاء لشرائها، ولو أني طلبتُ أضعاف الثمن المتفق عليه لوافق، شرطَ أن أكون من ضمن مقتنياته التي يعتزم امتلاكها أيضًا.

 انتظرتُ ذلك الاتصال المثرثِر بشهوته القديمة نحوي دون جدوى، كي أستمتع بتمرد الرفض مجددًا، وكذلك أعرف مدى معرفته بعلاقتي بغزوان، في حال كنتُ من ضمن دائرة مراقبته داخل وخارج البلاد، دون أن أدري من تضم أيضًا من زملائه وأساتذته، أو حتى أقاربه وأصدقائه القدامى ممن نبذوه عن حياتهم أو تفرقت بهم السُبل لهذا السبب أو ذاك.

 كدتُ أتصل أنا، بحجة الاستفسار عن شيء يخص عملية البيع، لعلي أحصل منه على إجابة لتساؤلاتي عما يريده مني بالتحديد، وما ينوي فعله بشأن زواجي السري وزوجي المعتقل، ربما بأمره دون سواه من رجال الأحزاب والمليشيات المتنفذة في عموم البلاد، لكنه على الأغلب سوف يراوغ ويخاتل كي يستمتع أكثر بتجمُر أعصابي على نار غروره الذي اكتسبه من ترف ومباهج دنيا بعيدة كل البعد عن حرائق وحطام ما حدث من نكبات وحروب وانفجارات طائفية بددت ما تبقى لنا من أحلام، وغيرت كل شيء فينا.

 إن واجهني باعتقال زوجي، ربما لديه بالتحديد، واسترسل في ذكر معلومات تؤكد وقت ذهاب كل منا إلى شقتنا الخاصة، ووقت خروجنا منها تباعًا، فلا أدري كيف سوف أستطيع الإجابة وأواري عريي أمامه من جديد، بعد أن شعرتُ أن كلامه عن عشقي لفراس أخذ يعَريني بالكامل، تمامًا كما كان يتلصص على نظراتي التي لم تكن تبالي لوجوده إلا كوجه من ضمن وجوهٍ كثيرة اعتدتُ رؤيتها في سَوح الكلية.

 على الأغلب أنه الآن ينتظر الخطوة القادمة مني، ليس بشأن بيع البيت، إنما لِما يطمح إليه بالتحديد، أن أكون له، ربما مجرد شهوة لا تستحق حتى الورقة العرفية التي أراد أن تجمعنا في فراش بين أربعة جدران، ربما بالكاد يستطيع سداد مبلغ إيجارها، كأن تكون شقة صغيرة في بناية خَربة، تبدو أنها آيلة للسقوط، داخل زقاق من أزقة الأحياء الشعبية، أو أنه قد يعاشرني كل مرة في مكانٍ لا بد لنا من لملمة شهواتنا داخله قبل أن يأتي أهله الذين يستطيعون اقتحام خلوتنا الشَبقية في أي وقتٍ شاؤوا، وربما يشتهيني أحد رفاقه (الصالحين) فيتفق معه أن ينالني بعد الطلاق وانتهاء فترة العدة، كي يكون كل شيء حسب الشرع وعلى بركة الله...

 صورٌ كثيرة اجتاحتني وزادتني اختناقًا وحيرة، ولوعة وإثارة أيضًا، استدعت شحنة قوية من البكاء انهمرت بغزارة شعرتُ أنها تُفقدني الوعي، وفعلًا تسللَ إليّ النعاس سريعًا كي أستسلم للنوم دون أن توقظني أي من محاولات اتصال خالد بي، أعقبها برسالة أنه ملَّ الانتظار، وأنه قرر أن يأتي إلى بغداد كي نعقد القران ومن ثم يبدأ بإجراءات سفري إليه، أما والدتي فسوف يرتب أمر لحاقها بنا في أقرب وقت، دون انتظار انتهاء إجراءات معاملة لم الشمل التي بدأ أخي الأكبر المضي فيها، وقد اتفق معه على كافة التفاصيل، بدأً من إتمام صفقة بيع البيت وتصفية كافة متعلقاتنا هنا.

 

ـ 12 ـ

جرت الأحداث بعد ذلك بسرعة غريبة، كما لو كانت من أطياف حلم لا أدري كيف لي أن أصحو منه، بدأت من انتكاس صحة والدتي ودخولها المستشفى مرةً أخرى في ليلة اخترقت سيارتي خلالها الشوارع مثل رصاصة أُطلِقت من مجهول وتسعى إلى مبتغاها في جوف الظلام.

 رقدتْ في غرفة العناية المركزة لأكثر من أسبوع، مضى كما لو كان أعوامًا، وإبراهيم يكاد لا يفوِت يومًا دون أن يكون بجانبي كأنه أحد أقاربي أو حتى زوجي.

أنا من أخبرته وكأني استنجد به، عندما اتصل بي بحجة سؤاله عن قراري بشأن بيع الدار، وربما هذا ما أردتُ تأكيده لنفسي كي أفرح باهتمامه بي، أو ملاحقته لي، بعد أن أمضيتُ ساعات عصبية في شبه غيبوبة، مستغرقة في وحدة خانقة لم أشعر بمثلها من قبل، فلم أدرك أني بعيدة كل هذا البعد عن كل من أعرف، من أقارب وصديقات وجيران، وما من علاقةٍ تربطني بأخوتي أكثر من اتصالات سريعة تزيدني توترًا ومهابة من ترقب القادم وكلٌ منهم يلقي باللوم فوق كاهلي لأني تباطأت في اتخاذ قرار الموافقة على زواجي بخالد ومن ثم الرحيل من هنا، أرضهم التي يستصعبون العودة إليها، وكأنهم يتخوفون من تهمة تنتظرهم أول وصولهم المطار، وذات الأمر بالنسبة إلى خالد رغم أنه قرر أخيرًا الحضور من أجل استعجالي، هو الآخر، كي يحصل مني على حلمه الذي تحول إلى وسواس، مثل من تقبض عليه أولى شهوات المراهقة.

 لا أستطيع أن أنبذُ عن نفسي مثل هذا الهذيان حتى وأنا أقف جامدة على مقربة من باب العناية المركزة، حيث ترقد والدتي، وأطياف الموت تحوم من حولها، تكاد تتخطف أنفاسها وأنفاسي معها، وإبراهيم يقف جواري، يرمق تعابير وجهي المتجهمة كما لو أنه يتنصت على أفكاري، فيما أترقب اقترابه مني أكثر، احتضانه لي، ومن ثم إسناد رأسي إلى صدره، وكأني أترجى منه، دون أي رجل آخر، الأمان الذي غابَ عني مع كل من فقدتُ وافتقدت.

 ابتعدتُ عنه عدة خطوات، متهيبة نسيان مكان وقوفنا، وعلى الأغلب أنه فطنَ إلى ذلك، دون أن يستطيع مغالبة نشوة رغبته، بكل ما ينتابها من نزعات تسلُط تحرص أن تسَلمني إلى أحضانه مهما تمنعتُ وقاومت احتقان هوسه بامتلاكي، خاصةً وأنه يعلم جيدًا مدى ضعفي أمامه، بدليل وقوفي وقريبتنا المسكينة بمفردنا أمام غرفة العناية المركزة، دون وجود أحد سواه يقدِم لي يد العون ولو عن بعد، عدا الحوالات المرسَلة بصورة منتظمة من الخارج، وكأن أرض الغربة الفسيحة قد حجبت الجميع في أغوارها، حتى من لم يغادر البلاد.

 كان الوحيد القادر أن يفعل حتى ما لم أطلبه منه، فقد عرضَ أن يسَفر أمي في طائرة خاصة إلى أي مكان في العالم، بوثيقة سفر دبلوماسية تغنيها عن كل إجراءات طلب اللجوء وطرق التسلل غير الشرعية عبر الحدود.

 عندها، وعلى غير المتوقع منه، صرختُ فيه منتفضة، وأنا أسأله إن كان يريدني أن أذهب معه أولًا إلى بيتنا لأكون له الوقت الذي يريد قبل تفضُله بإعطاء الأوامر السيادية من أجل إنقاذ حياة والدتي قبل أن يقتنص أنفاسها مَلَك الموت...

 لم يرُد عليّ بكلمة، فقط رمقني بنظرة سلطت نيران حنقه وغضبه على هذر كلامي المتمرد على رغباته من ناحية وحجابي وحشمتي المصطَنعة من ناحية أخرى، ثم ذهب بكل بساطة، كما لو أنه قرر نبذي من مرامِ أهوائه فجأة.

 تركني وحدي ودهشة الخالة نجاح مما حدث على مرأى من عينيها، ما بين كلامه منخفض الصوت، كما لو كان يهامس حبيبته، وما قلت في عصبية حادة أفقدتني السيطرة على أعصابي، رغم شدة احتياجي إليه وأنا أتوقع وفاة والدتي في أي لحظة.

 يغامرني حَدس شبه أكيد أن هذه المرة لن تكون مثل سابقاتها، وأني على موعد مع فقدان جديد، سوف أُلقى من بعده في هاوية سحيقة لن يهتم لأمري في ظلماتها أحد، فقط ربما بالنسبة لخالد المتعجل معاشرتي من أجل الحصول على وريث، ربما بعد ذلك يتم إهمالي تمامًا من قبَله أيضًا، لأكون زوجة مع وقف التنفيذ مع رجل ينشغل عني باِبنه الحبيب، فلا أعدو بالنسبة له أكثر من مربية يطمئن على فلذة كبده معها، وخليلة فراش لدى احتقان بقايا فحولته التي لا يريد أن تؤثر عليه وهو على أعتاب الشيخوخة المقبلة كي يبقى الأب المتماسك أمام ولده أطول عمر ممكن، ومن أجل أن يستمتع بتلك المشاعر التي افتقدها طويلًا، على الأقل حتى يشِب الغلام ويستطيع الاعتناء به في كهولته.

 حلم تقليدي يريد تطويع جسدي، وكل حياتي، لتحقيقه بزواجٍ يتجاوز كل العوائق، حتى لو كنت في ثياب الحداد على والدتي، التي لم تتوفَ بعد.

 دارتْ الأفكار في رأسي في ارتباك كاد يقودني تخبط هذيانه إلى الإغماء، فجلستُ على أحد كراسي الانتظار، انتظار انقاذ حياة أو فقدان حياة.

 بكيتُ، بكيت بغزارة وبحرقة لم أخبرها من قبل، وكأني أندب كل ما ضاع مني، دون أن تكون لي القدرة على تعويضه، وأن الدنيا، بكل شراستها، تتأهب لالتهامي شيئًا فشيئا.

 كدتُ أتصل به، أتوَسله العودة، كما لو كنت زوجته المهجورة التي ملَّ منها ومن تقلب مزاجها وحدة هيجانها وقررَ إقصاءها من حياته والانشغال بأخرى، ولعلي أبالغ في غنج الأنوثة كي أضمن مدى تأثيري عليه، فأقنعه أني امرأته الوحيدة، وأنه لن يجد في كل نساء الأرض من يمكن أن تهبه ما لدي من جاذبية وإثارة تجعله نشوانًا طول الوقت...

 لم أفعل، فقط اشتطَ بي الخيال من هذيانٍ لآخر كمحاولة للتغاضي عن حدة صرخات النحيب التي أطلقتها الخالة نجاح على مقربة من جلستي المنهارة، حتى كادت تصمُ أذنيّ، لدى إخبارنا بنبأ وفاة والدتي، فيما أخذ هاتفي يواصل الرنين.

***

أخبرتُ شقيقي بصوت لا أدري كيف تسنى له الخروج من حنجرتي المبحوحة بأني سوف أتولى عملية الدفن قبل وصوله أو أحد شقيقيه، كما توليتُ العناية بالمرحومة نيابةً عنهم طيلة السنوات الماضية، ومن ثم يأتي كلٌ منهم على مهل، دون أن يعَطلوا أيًا من أعمالهم ومشاغلهم من أجل والدتهم المتوفاة، والتي لن تشعر بذرف دموعهم ولا نحيبهم ولا وقوفهم في مجلس العزاء، وبالتأكيد ليس لأجل أختهم التي اعتادت أن تبقى وحيدة حتى في وجودهم.

 في مساء ذلك اليوم جلستُ في الدار الموحشة بمفردي، حتى الخالة نجاح طلبتُ منها البقاء في غرفتها لكي تنعزل عني بنحيبها الأشبه بنعيق الغراب، كما لم أرضَ استقبال أي من المعزين إلا في اليوم التالي، فقط أردتُ أن أستنشق من سكون الصمت قدر استطاعتي، قبل أن يتوافد نحوي الجميع بأقنعة الحزن الكئيبة، بينما لم يكن يهتم أحد لأمر (المرحومة) وهي على قيد الحياة سوايّ، وحتى خبر موتها لن يكون أكثر من خبر يتناقلونه هنا وهناك من أجل تقديم واجب العزاء، ثم يمر مثل هبة ريحٍ عابرة لا تخَلف أي أثر لدى أحد، لكني سوف أبقى أكثر وحشةً وضعفًا من دونها، رغم أنني في بعض الأحيان كنت أتثاقل من عبء تحمل مسؤوليتها بمفردي، ذلك القيد الذي يربطني بأخوتي أكثر من أي شيء آخر ويجعلني منقادة لأوامرهم بشأنها، حتى مهزلة زواجي بخالد تم التخطيط لها من أجلها في المقام الأول، فما أنا بالنسبة لديهم أكثر من وسيلة سفر كان يمكن أن تنتقل والدتهم من خلالها إلى الجانب الآخر من العالم، كي أستمر في الاعتناء بها بمنأى عن تحكم زوجاتهم وحياتهم التي خططوا لها، بلا أن يكون أحدهم على استعداد لاحتمال العناية طوال الوقت بامرأة مسنة قد تعجز عن الوصول إلى الحمام بمفردها.

 ظللتُ تابعًا لها، متقيدة بآهاتها وسكونها، بتقلب مزاجها، بمواعيد أدويتها، بما تحب وتكره وتشتهي من طعام، ولا أبالغ إن قلت بأوقات عرض المسلسلات التي ترغب بمشاهدتها.

 من ناحيتها كانت دومًا تنتظر مني تقديم المزيد، وفي ذات الوقت الخروج من قوقعة العنوسة التي تجمدتْ داخلها أعوامي كي لا أكون أنا العبء الذي يثقل كاهلها حتى الممات، وها هي ماتت وخلَفتني منكمشة على ذاتي مثل طفل لا يحسن أن يفعل شيئًا من دون أحد والديه كي يتولى عنه مسؤولية الاهتمام بكل ما يخصه.

 مشاعر مضطربة وشديدة التعقيد يصعب حَل طلاسمها الآن، ربما بعد حين، عندما تجف الدموع فوق خديّ، وينسحب من أذنيّ صوت أنينها من شدة ما تعاني من إعياء، أو مناداتها لي دون حاجة في بعض الأحيان، ربما فقط كي تتأكد من وجودي إلى جانبها عندما تحتاجني، وأني لم أتركها وأرحل كما فعل أبناؤها الثلاثة، خاصةً لمّا يحتدم الشجار بيننا، كما صار يحدث بوتيرة متصاعدة في الآونة الأخيرة، مع أني كنتُ أعرف أني قد أفقدها في أي لحظة انفعال أو مرارة خيبة تثقل كاهلها الذي لم يعد قادرًا على الاحتمال أكثر.

 حتى وقتي الذي اعتدتُ أن أمضيه مع غزوان كنتُ أشعر احيانًا أنها تتلصص على دقائقه وأنات شهقاته كي تضمن عودتي إليها بمزاج رائق ولو بعض الشيء، وقد أزحتُ عني عبء الحرمان وفيض الأنوثة المقيَدة ضمن إطار الحجاب والالتزام الديني الذي كانت تظن، مستغفرةً الله، أنه من ضمن ما كبلتُ به نفسي حتى أنعزل أكثر عن الناس وأواري به غيرتي من الأخريات.

 قالت ذلك ذات مرة، فكانت سبب أطول قطيعة بيننا، رغم حرصي على العناية بها، لكن بأقل عدد من الكلمات، ومهما أهدتني من تلك الابتسامة الواهنة التي تسكن شفتيها علامة الابتئاس والاستسلام لكل شيء في آنٍ واحد، في محاولةٍ لاسترضاء حنقي منها ومن الدنيا، إلا أني أظل شديدة العناد، في الزعل خاصةً، وكلما توددتْ لي أكثر ازددتُ فظاظة وإصرارًا على الإمعان في خصامها، حتى أعلنت بدَورها الإضراب عن تناول الطعام والأدوية، وصارت تتصرف مثل الأطفال تمامًا في حنقهم ورغبتهم في التمرد على أوامر ذويهم، وهي تدعو الله أن تموت كي تريحني من وجودها في حياتي، وكي لا تبقى عالةً عليّ أتحكم بها كما أشاء بعد أن فقدت صحتها بالكامل وصارت لا تقدر أن تفعل شيئًا بمفردها من دوني، فقد سأمت من إذلال الدنيا لها بلا أن تطلق سراحها كي تُريح وتستريح في حين يحصد الموت أرواح الكثيرين في كل حرب ومع كل دويّ انفجار، عندها أسندتُ رأسها إلى صدري كما لو كانت طفلتي التي لا أستطيع إغضابها أبدًا مهما تبدت في قسمات وجهي من صرامة تتوعد المزيد من قسوة الجفاء.

 استلقيتُ فوق فراشها، أشمُ رائحتها الممتزجة برائحة الأدوية التي كانت تتناولها حتى استغرقتُ في النوم، وقد أغلقتُ الهاتف الذي استمر في الرنين طويلًا.

 أغلب الاتصالات الواردة كانت من خالد، فلم يكتفِ بكلمات المواساة التي كتبها ضمن رسائل نصية وأجبتُ عليها باختصار شديد، دون أن تكون لي القدرة ولا الرغبة بالكلام، معه تحديدًا، آخر مخَططات أمي وأخوتي بشأني، وكأن طلبه الزواج المتلهف للإنجاب استعجل انتهاء كل شيء، لا حياة والدتي فحسب، فمنذ الآن وصاعدًا لا بد لي من إيجاد سبل اتخاذ قراري بمفردي، دون أدنى تدخل من أيٍ كان، ما أن أحصل على حقي في التعويض من دنيا استمرت في استلاب أحلامي وكل ما منَيتُ به نفسي شيئًا فشيئا.

 

ـ 13 ـ

رسالة إلى خالد.

"من الجيد أنك لم تأتِ كما أبلغتني، يدفعك الحماس لأن تكون إلى جانبي في أصعب الظروف التي يمكن أن يواجهها إنسان، بصراحة لم أكن أعي مدى تعلقي بوالدتي وعمق العلاقة التي تربطني وإياها إلا بعد رحيلها واختفاء أنفاسها من جنبات الدار.

 العمل الطارئ الذي أبقاك بعيدًا عني رغمًا عنك جاء لصالحي حقًا، فلم أعتب عليك كما ظننتَ، وبالتأكيد لم أشعر بالخيبة جراء تخليك عني وأنا رهينة وحدة لم أعهد مثل قسوتها يومًا، فلم يكن بيننا ما يجعلك تقطع المسافة بين قارتين لمواساتي، ولم يحدث أنك رأيتني ألا من خلال شاشة تبقى صغيرة مهما بلغَ حجمها، مع ذلك فقد وصلتني عبرها شهوتك الجامحة نحوي، إياك أن تنكر وإلا شككتُ بمدى صدق حدَس الأنثى لديّ، وهذا ما لا أقبله بأي حالٍ من الأحوال، بل وأراهن أنك أردتني أن أكون بين ذراعيك، مستلقية في فراشك، بدَل المرة مرات، وأنك فاجأتَ نفسك بما تمتلك من فحولة نشطة لحد الآن، وهذا ما أكدَ لك سرعة تحقيق حلمك المتجدد مع سنين الغربة بالإنجاب.

 أعرف ما قد تقوله وتصدره عني من أحكام، وقد تتفاجأ أن مثل هذا الأسلوب المنحط يمكن أن تصدر من إمرأة محافظة لا بنت شوارع يمكن أن تفعل ما ترغب به في أي وقت دون أن يعصمها قيد من أي نوع، تصدِقني لو أخبرتك أني في أحيان كثيرة كنت أتمنى أن أكون كذلك؟ متحررة من كل ضغط فرضته على نفسي وكل ما جردني حق اتخاذ أي قرار يخصني بمنأى عن الجميع وكل وازع أو اعتبار.

 نعم أنا محجبة، وبمحض إرادتي، دون أدنى تدخل من أحد، لكن… لكن تلك قصة أخرى، لا أظن أنها تعنيك بشيء، كما لن تؤثر على مستقبل علاقتنا أبدًا، أقصد علاقة الصداقة، لا شيء أكثر من ذلك؛ أما مشروع الزواج من أجل الإنجاب فالأفضل نسيانه تمامًا، لأنني بعد وفاة والدتي لم أعد كما كنتُ، وكأن وفاتها قد نزع عني آخر ورقة توت تلفعتُ بها لأستطيع المضي في حياتي كما أريد.

 ومن ناحية أخرى، أنت أيضًا لا بد أن تفيق من حلمك الذي دحرجَ أمانيك صَوبي، أن تحيا حياتك كما هي، دون أن تجعلها رهينة أمل قد يتحقق في غير أوانه، فحتى الأحلام كثيرًا ما تفقد معناها إن تحققت في غير أوانها، أو من خلال الزوجة غير المناسبة، سواء كنتُ أنا أم أخرى تكاد لا تعرف عنها شيئًا أكثر من أنها جاهزة لأن تكون حبلى منك في أسرع وقت، بينما قد تفَوِت على نفسك آخر فرصة للسعادة مع من يمكنها تعويضك عن سنوات الاغتراب داخل وخارج بلاد لم تعد ترى فيها غير رحم مؤهل لاحتواء نطفتك كي لا يزداد المولود اغترابًا مع مرور السنين، وكأنك لم تعِ لحد الآن أن الغربة لا يمكن أن يحدُها مكان أو زمان، ولا حتى عمر، فقد تعشق شابة تصغرك بنحو ثلاثين عامًا لكنها تكون دنياك الجديدة التي تحيي ما خلفتَ وراءك في آتون الحرب، وفي بلدنا سعيد من يحظى بفرصة تنقذه من وهج النيران المتجددة كل حين، ولا تقل أنك نجوتَ منها منذ زمن، لأن من الواضح أنها تلتهب داخلك لحد الآن وتظن أنك تستطيع إخمادها بضحكة طفل تعيد إليك الماضي الذي فقدته، مثل أغنية قديمة قد نستمتع بما تهبنا من حنين يعيد إلينا دفق ماضٍ جميل عشناه، لكن ما أن تنتهي نغماتها حتى نستفيق على واقع ما نحن فيه، وشعور متفاقم بالألم على ما ضاعَ منا ولن نستطيع استعادة شيء منه.

 ربما أكون قد بالغتُ، وربما تكون كلماتي بالنسبة لك أشبه بهلوسة لا تعنيك بشيء، ففي النهاية كل شخص أدرى بحاله وما يكابد، إلا أني أشعر أنك صرتَ قريبًا مني بشكل من الأشكال، على الأقل أقرب من اشقائي المزدادين بعدًا عني من قبل أن يدركوا عتبات السفر، لذا سوف أحرص على التواصل معك كل حين، لكني أيضًا لن أخبرك عن مكاني، لئلا تخبر أيًا منهم، فقد قررتُ أن أعزل حياتي عن الجميع، لأني كما ذكرت سابقًا لم أعد كما كنتُ، وما تبقى من حياتي من حقي وحدي، أتصرف به كما أشاء، غير معلقة بأحد ولا مسؤولة عن أحد، أعيش كما يحلو لي، ولن أضع نقطة أمام تخيلك لما تعنيه هذه الجملة، وليس لك أن تسألني، ولو بدافع الفضول، فلتكتفِ بما أكتبه وما تسمح به ثرثرتي بعيدًا عن حرص يحبذ المزيد من الكتمان، فلا شيء أثقل على الصدر من ذلك الصمت الكئيب والمستتر على الكثير من مرارة اليأس.

 يأس من عدم تحقيق ما نصبو إليه، أو ما لم نستطع قوله أو فعله، جهرًا دون خوف يفرض علينا وضع المزيد من الأقنعة الموارية لحقيقة ما نكون عليه، وبلا رتوش تجميلية أو ادعاء يحطُ منا أكثر في قرارة أنفسنا، ونكون مثل البلاد التي وُضعت لها الكثير من الوجوه الغريبة عنها لتكون أكثر اغترابًا عنا من أي زمنٍ مضى، أخذ منا ما أخذ ولم يعطِ إلا المزيد من الزيف.

 بالمناسبة، خلعتُ الحجاب وغيرت من هيئتي الكثير، ربما بعد فترة أرسل لك صورتي لأكون في ناظريك أجمل وتشتهيني أكثر فأكثر، مع ذلك لن أستطيع أن أكون لك ولا لأي رجل آخر إلا الذي أختاره أنا، بمحض إرادتي بالكامل، كما حصل في السابق.

 أكيد أن الدهشة صفعتك قويًا، ولو كنا في محادثة هاتفية لعقدت لسانك وما استطعتَ النطق، على كل حال هذا الأمر لا يخصك أو يهمك الآن، بعد أن انتهت مسرحية الزواج الهزلية بيننا، كما أن هذا ليس ما أردتُ الحديث عنه.

 ربما فيما بعد أرغب أن أسرد لك عن تفاصيل لم أبُح بها من قبل، وأنت يمكنك فعل ذات الأمر بشأن كل ما تريد الإسهاب فيه، دون أن يملك أحدنا حق إصدار الأحكام على الآخر.

 هذا معنى الصداقة (المفتَقَد) لديّ، وأظن أن هذا أفضل بكثير من معاشرة بين غريبين لا يستطيعان مصارحة بعضهما بشيء، وبالتالي لن يرتوي أحدهما من الآخر مهما طال وقت رغبات الفراش.

 أعرفُ أنك قد لا تجيبني ولو بكلمة، وقد تجدني مجنونة وثرثارة لا تدرك معنى ما تكتب، ولك كل الحق في مثل هذا الظن، لكن أليس عرضك الزواج عبر المحادثات ومكالمات الفيديو هو الجنون بعينه يا رجل!

 لن أضجرك أكثر بفضفضة قد لا تنتهي، ولن أغضب إن لم ترُد على رسالتي، يكفي أن تهتم وتفكر بما قرأت، عسى أن تستفيد منه مستقبلًا، وفي النهاية هذه حياتك وأنت حر بها، وهذا أهم شيء، الحرية التي ليس لنا العيش دونها، أو حتى قدر ضئيل منها، ولو في أحنك الظروف.

مروة، صديقتك التي لم تعرف الكثير عنها بعد."

 

- 14 -

 ما مدى تصديقك لما قرأتَ لحد الآن؟…

 لا يهم، كما لم يهمني منذ البداية رأيك وحكمك عليّ ولا على تصرفاتي.

 ربما تنعتني بالعاهرة المحتجبة خلف ستار الحشمة والالتزام الديني، لكن إن فكرتَ مليًا بعض الشيء سوف تجدني أنسب شخصية يمكن لك الكتابة عنها، أم أن الواقعية والحرية والصراحة والوضوح من أجل كشف المسكوت عنه في حياتنا مجرد إدعاء من أجل كسب المزيد من القرّاء؟

 منذ فترة طويلة وأنا أتابع ما تنشر، وقد أعجبتني جلَ آرائك في شتى المواضيع، وهذا ما شجعني لأن أكتب إليك دون وجَل، وبأكبر قدر من الجرأة كسبتها من خلال ما مررت به من تجارب، ولك أن تبحث عن المزيد من التفاصيل في أفق خيالك، ويبقى لي الحكم بشأن حجم موهبتك ومدى ما تمتلك من براعة أدبية تمَكنك من سبر غور ما تجاوزته عن عمد أو ما غفلت عنه ولم تظفر به مراجعتي السريعة قبل الإرسال، مع ذلك سوف أكون رفيقة بك وأسمح لك بالاطلاع على الخيوط الرئيسية لما وصلت إليه الأمور، بشأني وشأن الآخرين.

 جمعتني مع أخوتي جلسة غرباء، كما أردتُها أن تكون منذ البداية، من أجل تقاسم الإرث، تفاجأوا من صرامتي المبالَغ بها، لكني أجبرتهم على الخضوع لنزق مزاجي في التعامل معهم، مصرةً على أخذ شيئًا من حصة كل منهم، بالإضافة إلى حصتي مقابل تحملي مسؤولية والدتنا طول سنوات غيابهم، استغربوا من مدى الطمع الذي إلتُ إليه، لكني أصررتُ على مطلبي وإلا لن أوافق على بيع شيء، مطمئنة إلى استعجالهم العودة إلى بلادهم الجديدة دون الولوج إلى سوح المحاكم التي هددوا بها في البداية بعنجهية سرعان ما أخذت تتلاشى، فتحقق لي ما أريد ومن قبل أن أفكر باستغلال هوس إبراهيم القديم بي للضغط عليهم من خلال ما يمتلك من سلطة ونفوذ، رغم صراخي بوجهه في المستشفى قبيل وفاة والدتي، خاصة وأنه اتصل لمواساتي، متعذرًا بما لديه من مشاغل اضطرته إلى السفر خارج البلاد، حجة طفولية تواري حنق الأطفال الذي يتملكه، وكان بمقدوري إذابة الجمود المتحكم بكلماته من خلال نبرة غنج منعزلة عن مصاب فقدان والدتي.

 أجلتُ الحديث عن خططهم المستقبلية بشأني حتى استلمتُ كل إرثي لأفاجئهم باختفائي الذي كنت أعلم أنهم لن يؤخروا سَفرهم لأجله، بل ربما ارتاحوا حتى من محاولة إظهار الاهتمام بأختهم التي خلَفتها والدتنا لتكون عبئًا عليهم.

 لا تتهمني بالتبرؤ من كل ما يربطني بأخوتي، فقط استبقتُ نكرانهم لي، وذلك في النهاية من ضمن واقع الحال الآن في بلد يبحث أهله عن مدن اللجوء منذ عقود، ومن بعد وفاة والدتي كان لا بد من مجابهة كل شيء بمفردي، هم قبل سواهم، كي أستعد للمضي في دروب حياتي المقبلة، متحررة من كل قيد يمكن أن يتسلط عليّ من قبَل أيٍ كان.

 مع ذلك لم أنسَ أني ما زلت متزوجة من غزوان، لكني لم أجرؤ على الاتصال بإبراهيم ومحاولة الطلب منه أن يسأل عنه، وفي أي معتقل يكون، وإن كان باستطاعته التوَسط له كي يخرج ويلغي زواجًا بدأ بكلمة ولا بد أن ينتهي بكلمة، ولو عبر الهاتف أو ضمن رسالة نصية، كي أنعتقُ تمامًا من كل ما يربطني بمرحلة التخفي وراء حجاب.

 لم يطُل الانتظار إلى حد حرماني من فرصة زواج أخرى، فقد عرفتُ بعد عدة أشهر من استقراري خارج البلاد بوفاته داخل معتقل من معتقلات بلدنا المتجددة في كل عهد.

 حزتتُ عليه كثيرًا، بكيتُ وانتحبت، كما لو كنت متزوجة منه منذ زمن، زواج طبيعي، معلَن أمام الناس، لكن من ناحيةٍ أخرى شعرت أن رئتيّ أخذتا بالاتساع وراحتا تتنفسان الهواء من بعد اختناق استمر طويلًا.

 أما إبراهيم فقد بقيتُ أتتبع أخباره واستمرار سطوع نجمه حينًا بعد حين، وأظن أنه يفعل ذات الأمر بالنسبة لي، يتلصص على أدق تفاصيل حياتي عبر عيونه المتفرقة في كل مكان، وقد يفاجئني بظهوره بشكل مباشر كي يؤكد لي أنه لن يتركني أفلت منه أبدًا ويستطيع الوصول إليّ ما إن رغب (جنابه) بذلك.

 من ناحية أخرى صرت أهتم بمتابعة صفحتيّ فاتن وفراس على الفيسبوك، متوقعةً أن أقرأ خبر زواج إبراهيم وفاتن في أي وقت.

 لعلها تكون هلوسة، أو مجموعة هلاوس، أستمتعُ بالتفكير بها بما يشبه هذيان يسوقني دومًا إلى عادتي القديمة باستحضار الشهوة من بين طيات الخيال، بينما يفرض فراس نفسه دومًا ضمن ثنايا تلك الأطياف، دون أن يأخذني الحماس لتقصي أخباره عن طريق هذا وذاك، فقد اعتدتُ بقاءه في ركنٍ خاص ومحدد جدًا من تفكيري ولا سبيل للتمادي أبعد من ذلك، رغم أن لهفتي للقائه والانغماس بين أحضانه دفعتني نحو الرغبة بإيجاد وسيلة تمَكنني من الوصول إليه بعد عبوري نحو بلاد الغرب كزوجةً لخالد الذي أراح نفسه من ثرثرتي المجنونة، وما قد تجر عليه من مشاكل مع أخي إن عرف باستمرار تواصلنا، وربما لأني أيضًا سوف أظل أذَكره بخيبة أخرى لحقت به بعد طول انتظار للعروس المعَدة للحبل، فقام بحَظر اسمي من هاتفه تمامًا، بعد أن أهمل الرد حتى على صور تحايا الصباح والأمنيات السعيدة.

 أنا الآن سيدة نفسي حقًا، تعرفتُ على مجتمع جديد، لم تدمره بشاعة الحروب، فكونتُ الكثير من العلاقات، كما صرت على أتم الاستعداد لخوض مغامرات جديدة، لكن دون أن أضطر إلى التخفي في شقة منزوية عن العيون، فلم يعد يهمني أحد أو أخشى انتقاد أو نظرة اتهام من أيٍ كان.

 مع ذلك لا أطيق الزواج التقليدي وتحكم مزاجية زوج طيلة الوقت، فأكون رهينة شهوته في أية ساعة من ليلٍ أو نهار، كما لم أستطع التنازل عما يتحقق لي من إثارة تخصني وحدي بمنأى عن الحميع.

 واضح أن المداراة صارت من ضمن طبيعتي التي لا أستطيع التخلص منها، خاصة وإن اخترتُ شابًا يصغرني بسنوات، لا أمانع أن أستحوذ عليه لبعض الوقت بما لدى المال من إغراء، لا جسدي فحسب، ففي الحياة دومًا هناك شيء مقابل شيء، ومن ناحية أخرى فأن ذلك يمنحني فرصة التحكم بلجام القيادة، وليس كما كانت الخشية تأخذني من صرامة شخصية غزوان وصراخه إن لم يكن باستطاعتي لقائه في الوقت الذي يحدده، دون أن يعبأ حتى لمسافة الطريق الذي تفصلني عن شقتنا، عندئذٍ أعرف، أو على الأقل أستطيع تخمين، مدى ما يعاني من غضب قد يصل به حد الجنون أو الانتحار.

 طالت مراسلاتي إليك، كتبتُها ضمن ملف خاص، ثم أخذت أرسلها تباعًا على الماسنجر، لا أدري إن كانت سوف تثير اهتمامك وتتفرغ لقراءتها أم أنك سوف تلقي نظرة عابرة ثم تولي ظهرك للغو قارئة من قرائك، لا تستحق أن تأخذ الكثير من وقتك الثمين، لكني أراهنك أن ما قد تقرأه لي أهم مما تقرأ لكثير من الكتّاب، وإن لم يعجبك ما دونتُ، يكفيني ما شعرتُ به من مصداقية وأنا أسَطر نص عمري إليك، وكأني على كرسي اعتراف أو في جلسة علاج نفسي طويلة، أكشف من خلالها عما يثقل صدري وأفصح عن كافة الأسرار التي تراكمت داخلي عمرًا.

 لعلك أيضًا ما أن تنتهي من القراءة حتى تقرر حذفها بتوالي الضغط على زر المحو، أو قد تتحفزُ للشروع بالكتابة سريعًا قبل أن يجف نبع حماسك، فأكون الشخصية البطلة لروايتك الجديدة، وربما تحمل ذات اسمي، وبذات أغلب الأحداث والشخصيات الأخرى التي تضَمنها سردي إليك…

 حتى إن فعلتَ واستخدمت اسم (مروة) وكافة الأسماء الأخرى، فلن أخشى من فضح أسراري أمام أحد، وقد قررتُ إلقاء كل الأقنعة، المهم مواجهة نفسي كما هي، قبل أي شخص لم يعرف عن مروة أكثر مما جنحتْ به الرغبة لمعرفته.

***

 

 

25 - 2 - 2024   

28 - 6 - 2024