يقدم الكاتب الجزائري في هذه المراجعة عرضا للديوان الشعري الأخير للشاعرة الأردنية جمانة مصطفى يكشف فيه عن طبيعة قصيدة النثر عندها.

قصيدة التفاصيل الصغيرة

جمانة مصطفى في (غبطة برية)

حسان الباهي

 

صدرت مؤخرا عن دار الفارابي  بلبنان باكورة جمانة مصطفى الشعريّة تحت عنوان (غبطة برية)، منطوية على قصائدها النثرية ذات الفرادة اللافتة بشتى انزياحاتها وإيحاءاتها المكثّفة في غير بخل. في هذا الدّيوان، تجترح الشّاعرة لحظة عري عاصفة بالدّواخل لتكتب ذاتها الأمّارة بالانفلات من قيد المتوارث والقديم، في جرأة مخمليّة هي المعادل الفنيّ للوضوح. فالكتابة لديها "ليست ثقبا في ثوب المرأة يكشف عورتها، بل لعلها أجمل ما ترتديه الأنثى". وهي من ثمّة تحاول أن"تخرّب" العالم عبر قصيدة التفاصيل الصّغيرة، أساس الحياة للمساهمة من جهتها في بناء ما تقتضيه الحالة الإنسانيّة الرّاهنة، دون لغط أو ضجيج على خلفيّة أنّ شعرها، كما تراه، لا يدعو إلى التمرّد أو إلى الصّراخ بل هو شعر يرى ولا يسمع، جاء بلا أذنين حتى لا يصغي إلى  تحذيرات المجتمع أو اتهاماته".

نقرأ على الغلاف الخلفيّ للدّيوان شاهدة شعريّة تقول:

لو كنتُ بعوضة سأمتص دمك
لو كنتُ بعوضة سأطير الليل في سقفك
لو أنا كنت بعوضة..
هل ستسهر معي أكثر..؟؟

وجمانة مصطفى أردنية من مواليد أيّار 1977. حاصلة على الباكالوريا/ الليسانس في الحقوق. عملت بجريدة الغد الأردنية. وهي تعمل حاليا مراسلة تلفزيونية في قناة الغد الفضائية. وهي بإصدارها الشعريّ هذا، تعضد مسيرة نظرائها في حقل قصيدة النثر في الأردن أمثال نادر هدى، زياد العناني، جهاد هديب وآخرين.

يتكون الديوان من سبعة فصول مع الملاحظة أنّ النصوص خلت من العنونة مع الاكتفاء بتوزيع الومضات الشعرية توزيعا روعيت فيه تقنية التهوئة واستثمار البياض.

تتجلّى في ومضاتها رغبة الخروج عن المألوف، قولا بالعدول، انظر مثلا قولها:

شال مزركش،
يكفي الليلة ويزيد
ولكنه لا يغطي عورة الخيبة
كما تلعب وهي تكتب على المفارقة الساخرة كما في قولها:
وعندما التقينا
وسكبت النادلة القهوة في فنجانك
زادته رشفة عن فنجاني
فقررت قتلها
فابتسمت أنت.

من مناخاتها الشعريّة، نورد مقاطع من فصل "عظام أسمهان تطقطق كلما تنهد الخذلان" حيث تقول:

أرتب كلماتي السوقية على حافة السرير
وكلماتي اللائقة على الحافة الأخرى
وأنام بينهما
فارغة الرأس.
وتقول أيضا:
الفجر
لأولئك الذين يقفلون الحانات مثلكَ
أو يصدّقون أن الصلاة خير من النوم.
وتقول أيضا:
مثل  أمّي
أنصاف البشر مثلي
يكتفون بالظهيرة.
وتقول أيضا:
كيف يصعد الماء إلى السماء
وألتصق أنا بالتراب؟
وتقول كذلك:
أتمغنط مع صندوقي الصيفي
الذكريات المصفرة
توشوشني أني كنت قبلك هنا
وعظام أسمهان في أدنى الصندوق
تطقطق كلما تنهد الخذلان
كما تقول ومضا:
لا تغردي عاليا
قال..
ولا تطيري فوق أحلامهم.
وأيضا تقول:
بجسدي أكتب
لا أكتب عنه
الموروث لي من ألف جدةٍ أمية.
ومن ومضاتها أيضا:
إلى جسدي أسير بخفي حنين
ولا أعود بهما.

حول هذه "الغبطة البرّية" كإصدار شعريّ أوّل، يقول حسين بن حمزة" إنّ جمانة مصطفى تفاجئ القارئ بلغة واثقة تخالف توقعاته الجاهزة والمسبقة عن المستوى الذي يمكن أن تكون عليه مجموعة شعرية أولى. ما تكتبه الشاعرة أنضج من البواكير الاعتيادية. لا يجد القارئ صوتاً ذا نبرة خاصة، لكنّه يلمس نضجاً قد يكون متأتياً من قدرة الشاعرة على فرز ما هو جيد والتقاطه بذكاء، ثم استثماره في منجز شعري شخصي يدين في نضجه لموهبة ذاتية ورغبة في مزج التجربة مع المعجم اللغوي" ليضيف:" لعل السمة الواثقة في هذه الكتابة مصنوعة من هذا المزيج: معجم لغوي قوي، وذات فخور بتجربتها الحياتية. والنتيجة قصائد ومقاطع يميل معظمها إلى القصر والكثافة. الاقتضاب، على أي حال، هو الاستراتيجية الأهم في كتابة هذا النوع من القصائد القصيرة التي تكتفي أحياناً بصورة شعرية واحدة، مثلما هي الحال حين تقول:

كلما بيَّضتُ قصيدةً
احمرّ وجهي.

الصورة الواحدة تصبح، بدورها، استراتيجية أخرى، بحيث تتألف القصائد الأطول من مجموعة صور مكثفة ومتتالية".

ويذكر أنّ الشاعرة وقّعت "غبطتها البرية" هذه في حفل أقيم، أيّام مهرجان جرش، في دار الأندى بعمّان كما تمّ الاحتفاء بها مؤخرا وتقديمها إلى الجمهور التونسي في صالون الأربعاء الأدبي بتونس المدينة. 


كاتب من الجزائر