رسالة ألمانيا

مهرجان فيلم المرأة العربية وجائزة ابن رشد لنوري بوزيد

سلمى حربة

فيلم المرأة العربية في مدينة توبينكن
أقيم في مدينة توبينكن ـ وهي مدينة صغيرة تقع في جنوب غرب المانيا الى الجنوب من مدينة شتوتكارت ليس بعيدا عن الحدود السويسرية ـ مهرجان (فيلم المرأة العربية) في نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من هذا العام، والمقصود الفلم الذي صنعته المرأة مخرجة أو كاتبة سيناريو أو مصورة ويتناول قضية المرأة، وقد أقيم المهرجان ليثبت، بالرغم من قلة الأفلام المشاركة، ان الصورة الإعلامية لدى الغرب عن تخلف المرأة العربية وقمعها وكيف أنها لا تنجو الا بصعوبة من العنف السائد بكل المستويات هي صورة ناقصة ولا تمثل كل الواقع، على الأقل ان المرأة العربية أيضا هي صاحبة هذا الإنجاز السينمائي الذي يعرض على الشاشة أمامهم. عرض المهرجان خمسة أفلام أحداثها تدور كلها حول المرأة، وقد عرضت بالفعل صورة ـ على الأقل غير نمطية ـ لحياة المرأة التي تسعى لأن تحقق طموحها وتتغلب على مصاعب الحياة، كان من أهداف المهرجان أن يقدم صورة سينمائية لم تألفها السينما العربية أيضا، عن نساء يناضلن من اجل تحررهن واستقلالهن، نشيطات في مجال عملهن، ولديهن إمكانية لشق طريقهن في المجتمع، لكن هل نجح في ذلك؟

على مدى ستة أيام من 23 28 نوفمبر 2007  وفي سينما أرسنال في (توبينكن) وبمتابعة إعلامية باهتة عرضت خمسة أفلام هي:

(سَلطة بلدي) لنادية عمر ـ مصر.
(بعد السماء الأخيرة) لعلياء أرصغلي ـ فلسطين.
(دنيا)، أو (Kiss me not on the eyes) لجوسلين صعب ـ فرنسي لبناني مصري.
(كوسكوس) لسعيدة جواد ـ فرنسي مغربي.
(سكر نبات) أو (كراميل) لنادين لبكي، أخرجته وكتبته ومثلت فيه دورا هاما ـ لبناني.

لنلقي الضوء على أهم هذه الأفلام وهو« سكر نبات» رغم أن الإعلان الدعائي للمهرجان كان يحمل صورة من فيلم "دنيا"، «سكر نبات»: يقوم على كوميديا من النوع الشفاف والتي تحزننا أحيانا، لماذا؟ ربما لأن الشخصيات قدمت على قدر كبير من التلقائية والعفوية، قدمها أيضا من دون أن يحملها أعباء ستدفع بها الى أن تكون في الواجهة، مجموعة نساء من مختلف الأديان والبيئات الاجتماعية، ليس هناك حكم مع أو ضد أي منهن بل صورهن الفيلم كما في الحياة حيث يعملن معا في احدى صالونات التجميل بمدينة بيروت، لا تقوم حبكة الفيلم على نوع من المشاكل بينهن تنتهي مثلا الى تصالح بعد خلافات جانبية، بالعكس كن طوال الفيلم أكثر من مجرد زميلات عمل، تعرف الواحدة منهن الأخرى جيدا، وعلاقاتهن مع بعض لا غبار عليها، وقد كان التركيز على مشاكل كل منهن الحياتية والعاطفية خارج حدود محل عملهن. كل التفاصيل في صالون التجميل ذاك يدور أمام أعيننا كمشاهدين وكأنها تفاصيل يومية كانت قد تكررت أمس وستتكرر نفسها غدا وبعد غد ولكن بإيقاع مختلف قليلا، في الظروف الحالكة لا ينزلن على ما آل اليه سوء حظهن غير دمعة صغيرة، لأنهن يؤمنّ أن كل شئ في الحياة عابر كما هي الحياة نفسها. (ليال) تلتقي سرا برجل متزوج، و(نسرين) ستزف الى عريسها في القريب العاجل وعليها أن تسترجع ما فقدته مع رجل آخر  ـ عليها ان تجري عملية يجب أن تبقى في جو من الكتمان، فالعريس محافظ، ولا يعرف انها فقدت أعز ما تملكه الفتاة في المجتمع الشرقي. أما (ريما) فهي فتاة مختلفة من ناحية ميولها العاطفية لمثيلاتها من النساء، وربما هي الوحيدة بينهن منغلقة قليلا على ذاتها، و(جمال) الزبونة الدائمة للصالون المتلهفة لتحقيق طموحها في أن تكون ممثلة ذات يوم، مشكلتها انها لم تعد تلك الشابة التي تستطيع أن تقتحم هذا الباب بشبابها، لكنها مع أنها في سن اليأس لن تنهزم حتى لو اضطرت الى إخفاء عمرها المتقدم بألاعيبها التي فيها قدر كبير من الفكاهة كما عرضها الفيلم، حتى مع فشلها في تجارب التمثيل التي خاضتها واحدة بعد الأخرى. بينما يتوجب على (روز) الخياطة التي تعمل في محل بالقرب من الصالون والتي في الستين المغرمة برجل مثلها في العمر لكنها تكتشف انها كبرت على مثل تلك المشاعر.

لم تحوّل نادين لبكي هذا الذي يجري أمامنا الى مجرد دراما فاقعة الألوان، حتى قصة الحب التي تعيشها (ليال) مع رجلها في السر، ستنتهي بهدوء بعد انتقام من زوجة ذلك الرجل بعدما عرفت، انتهت القصة هذه لتستبدلها بقصة حب أخرى مع شرطي ما توقف قط عن مغازلتها. مرح عالم (سكر نبات) في الظاهر وقاس في الباطن ولكن لا يصل الى حد الفجيعة.

تتباين مشكلات أولئك النساء في خلفياتهن العقائدية والطائفية والثقافية عندما يكن خارج الصالون، وبشكل خاص وسط محيطهن العائلي وبالتأكيد لكل منهن طريقتها الخاصة في التعامل مع مشكلتها الشخصية. لكن عندما يلتقين معا تذوب تلك الفوارق ويصبحن مجموعة نسائية واحدة في مواجهة الواقع والحياة بشكل عام. لقد وقفن مع نسرين لحل مشكلتها لتنتهي عندما ذهبن بها الى عيادة تجري مثل تلك العمليات سرا، وقد حضرن جميعا حفلة عرسها التي كانت ناجحة بكل المقاييس. لقد خاضت الشخصيات واقع الحياة فعبرت عن جانب لم تخضه المرأة في أفلام عربية أخرى، وكان الحوار عبارة عن اختصار حقيقي واقعي للحياة اليومية، الناس جميعا كانوا يتكلمون بلا قوالب جاهزة، حوار حقيقي لا تنتظر الشخصية أن يكمل الذي معها أن ينهي عبارته لتدخل هي، وانما يمكن أن يتحدثا معا في آن واحد، ومع أن ذلك لم يحدث كثيرا لكنه حدث بالفعل، وبهذا يتجاهل الفيلم بعض الصور النمطية للحوار السائد في السينما العربية.

وبالمناسبة حصل هذا الفيلم على جائزة الجمهور في مهرجان كان الأخير. نعم هو فيلم عن المرأة، لكن ما هو أكثر من هذا، انه فيلم حققته امرأة أرادت من شخصياتها أن لا يكسر اليأس عودهن، لقد نجح الفيلم بكل المقاييس، وأعود فأقول أن قصته البسيطة في الظاهر تروي أمورا عميقة وهامة، لذلك كان أهم فيلم في هذا المهرجان.

أما الفيلم الآخر فهو (دنيا) من إخراج جوسلين صعب المخرجة اللبنانية الأصل والمقيمة بفرنسا، اسم له مكانته في إطار السينما العربية بما قدمته من أفلام تسجيلية وروائية تتلمس الهموم و الآلام التي يعاني منها المواطن العربي رجلا كان أم امرأة، تحركت بكاميرتها الى المواقع أينما تكون لتقدم شهادة على واقع كانت المرأة والرجل قد ظلما فيه، طرحت جوسلين صعب في هذا الفيلم مشكلة الختان في مصر لتنهيه كما عرض في مهرجان القاهرة السينمائي عام 2005 بجملتها الشائكة التي ثبتتها على الشاشة معلنة نهاية الفيلم من «أن 97% من نساء مصر خضعن للختان»، وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يتصدى بها فيلم عربي لهذا الموضوع المتجذر، علما أن هناك فيلم آخر بعنوان (أصوات) مدته 22 دقيقة عرض في المهرجان الأول لأفلام المرأة في القاهرة عام 2006 أخرجه أسامة أبو العطا مقتبسا من رواية الكاتب سليمان فياض التي لها العنوان نفسه، ويدور حول مهاجر مصري الى أوربا يعود الى قريته بعد ثلاثين سنة بصحبة زوجته الفرنسية، لكن الذي حصل هو أن قامت بعض نساء الأسرة بعملية ختان قسرية لها، وهو غائب عن المنزل، فأودى ذلك بحياتها.

وقد استقبل فيلم جوسلين وقتها في مهرجان القاهرة بردود أفعال عاطفية قاسية من الصحافة ومن الجمهور، فقد انبرى بعد عرضه الأول من رفعوا أسلحة الشعارات المتعارف عليها وهم ينددون بالفيلم وصانعيه، علما أن جوسلين صعب تنازلت عن تلك الجملة ورفعتها من آخر الفيلم لاحقا عندما عرض في مهرجانات أخرى ومنها هذا المهرجان. تناول في فيلم (دنيا) بشكل شاعري وحسي الحياة في القاهرة من خلال جولات الكاميرا في أحيائها ومن خلال العلاقة بين الرجل والمرأة، ربما جسدت ذلك دنيا الذي يحمل الفيلم اسمها (لعبت الدور حنان الترك) وهي فتاة ذات أصل صعيدي كان أبوها قد طلق أمها بعد ولادتها، بعدما نقم عليه أفراد عائلته اذ اعتبروا زواجه من راقصة عارا عليهمً، بعد ذلك قرر الاب أخذ دنيا من والدتها الى عمتها في القاهرة كي تتولى تربيتها. بعدها أرادت بعدما كبرت ودخلت الجامعة أن تعثر على طريقها الخاص في الحياة فسكنت لوحدها في أحد أحياء القاهرة الشعبية ولم يفارقها طموحها في أن تصبح راقصة محترفة على غرار ما كانت عليه والدتها المتوفاة التي أورثتها حب الرقص، لكن موضوع رسالتها التي كانت تعده لنيل شهادة الماجستير (الحب في الشعر العربي) أجل من ذلك، ولم يمنع أنها كانت حينها قد مثلت أمام لجنة اختبار مسابقة للرقص الإيقاعي فاجتازتها فسهل عليها نجاحها هذا أن تأخذ دروسا في الرقص تلقتها على يد مدرب (وليد عوني) رأى فيها استعدادا و قدرة، وهو الذي يريد أن يكون الرقص والتحليق في فضاء الروح أداة لتحقيق الحرية. ربما لذلك تكثر لقطات دنيا مطلة برأسها من بين دفتي باب موارب أو من نافذة مفتوحة تلك الإطلالة المرافقة أحيانا للاكتشاف في عالم ملئ بالغموض.

ترتبط دنيا بعد ذلك بزواج قدر له أن لا يدوم عاطفيا لارتباطه بموضوع الختان التي تعرضت له وهي صغيرة، أما تحركاتها بعيدا عن أجوائها التي ذكرناها، فكانت تقتصر على علاقتها مع الأستاذة الجامعية (لعبت الدور سوسن بدر) التي تشرف على رسالتها، والتي تتعرف على سائقة التاكسي (عايدة رياض) من خلال دنيا، العلاقات هذه تبدو غير واضحة المعالم، ربما ارتبطن معا بدافع ما تعرضن له وهن صغيرات على يد عائلاتهن، وعدا موضوع الختان هذا لا تقدم العلاقة تلك دعما لقصة الفيلم، أو ربما لأن الفيلم أراد أن يعرض ابنة سائقة التاكسي الطفلة التي قرر لها أن تختن، فتحاول أمها وأستاذة الجامعة ودنيا إنقاذها، لكنهن يفشلن في احباط ما كانت تريده الجدة من الطفلة. ومن خلال الأستاذة الجامعية تتعرف دنيا على الدكتور بشير، الليبرالي الذي يدافع عن حرية الرأي والعقيدة بقلمه والذي يفقد بصره نتيجة لآرائه الجريئة في الدفاع عن طبعة بولاق من ألف ليلة وليلة، بعد أن اعتدت عليه مجموعة متطرفة بالضرب لأنه كان يجاهر برفضه حرق نسخة طبعة بولاق. وكان يدعو لإعادة طبعها حتى يتمكن الناس من قراءتها (هذه حادثة قد وقعت فعلا 1985) والذي وجد في كتب التراث العربي القديم تحررا أقوى و اكثر فعلا من الواقع الحاضر. تجد دنيا لديه ما يشبع عواطفها خاصة وأن علاقتها بزوجها قد وصلت الى أدنى مستوياتها، هنا يتقدم مدرب الرقص لكي يساعده على مواصلة الحياة بلا عينين عن طريق الاهتداء بالحواس الأخرى، وقد كان محمد منير مغنيا في هذا الدور أكثر منه ممثلا، وكانت الأغاني تعبيراٌ حسّيا شفّافا عن قوة الوجع والانكسار، في مجتمع يغرق في الجهل. تدرب أن يتجاهل الظلمة وكيف يكثف تركيزه على الضوء الذي يشع في داخلة، في إشارة رمزية الى أن المعركة مستقبلا ستكون من نوع أخر، وستكسب لأن الفن من أدواتها.

دنيا جوسلين صعب

احتوى الفيلم على أفكار كثيرة: العشق المبتور، الرقابة الاجتماعية، الختان وآثاره السلبية ً، حرية التعبير، موقع التراث العربي القديم في اللحظة الآنيّة، ضياع الشباب. لا شكّ في أن الفيلم سعى إلى بلورة هذه العناوين كلّها في فيلم واحد قد لا يحتمل طرحها دفعة واحدة: ما الداعي إلى الإكثار من العناوين المختلفة اذا كانت ستضيع منها الفكرة الأساسية؟ على كل حال أراد الفيلم أن يتخذ من مشكلات المرأة محورا له، علما أن تلك المشكلات يجب أن يكون لها موقعا بارزا في السينما العربية بشكل عام، وليس أن يكون لها نوعا خاصا بها، فلا مناص من أن تقتحم مخرجات أو مخرجين الساحة لكي يعرضوا على الشاشة الزاوية التي تنظر منها المرأة للأمور فهي زاوية مهم أن يراها الرجال و النساء معا.

هناك فيلمان و ثائقيان في المهرجان ركزا على تجاوز الحدود حيث تابعت علياء أرصغلي في فيلمها الذي يحمل عنوان (بعد السماء الأخيرة) النشاط السلمي للفلسطينية ناهدة التي دمر الجيش الإسرائيلي قريتها عام 1948 تلتقي ناهدة بإمرتين إسرائيليتين تعيشان اليوم في قريتها و تعملان معا على معالجة الماضي أما في (سلطة بلدي) فيلم تسجيلي آخر تروي فيه نادية كامل مخرجة الفيلم حكاية جدتها الإيطالية الكاثوليكية التي اعتنقت الاسلام بعد زواجها من كاتب مصري معروف تقوم المخرجة بإعادة تركيب عائلتها على مدى مائة عام و تجعل بهذا الفيلم دعوة للتسامح و التنوع. 

نوري بوزيد يحصل على جائزة ابن رشد
لم يمض عليها وقت طويل لكي تصبح (ابن رشد للفكر الحر) والتي تتخذ من العاصمة الألمانية برلين مقرا لها، مؤسسة معروفة على نطاق واسع داخل وخارج ألمانيا، أقصد في الوطن العربي. أنشئت المؤسسة قبل ثمانية أعوام في الذكرى الثمانمائة لوفاة الفيلسوف العربي المعروف بنزعته النقدية ابن رشد 1126-1198 والذي استعمل العقل والنقد وجاء بالحقيقتين، الدينية والفلسفية. وقد أصبحت الجائزة الرمزية التي تقدمها المؤسسة سنويا معروفة، فوفقا لمبادئها يتم سنويا تكريم إحدى الشخصيات العربية المعروفة، ففي كل عام وفي شهر كانون الأول/ ديسمبر تقوم بالإعلان عن فائز أو فائزة والتي تشكل أفكارها ونشاطاتها فناراً يسترشد به أبناء المجتمعات العربية بجائزتها الرمزية لدعم الصحافة والاعلام وتحرر المرأة والفكر النقدي والديمقراطية والفلسفة والادب والإصلاح الديني وحقوق الانسان والسينما في العالم العربي. من اجل دعم عجلة الإصلاح والتغيير فيه، كما أنه في كل عام تشكل لجنة تحكيم جديدة مستقلة تختار الفائز من ضمن الأسماء المرشحة، أعضاءها شخصيات معروفة على نطاق واسع.

أما جوائزها فقد توزعت منذ عام 1999 على ما يلي:

محطة تلفزيون الجزيرة عام 1999 للصحافة و الاعلام في العالم العربي.

السيدة عصام عبد الهادي عام 2000 تقديرا لدورها من أجل حقوق المرأة الذي ارتبط بكفاحها الفلسطيني.

محمود أمين العالم عام 2001 تقديرا لدوره في تأصيل الديمقراطية ومجهوده في النقد والإبداع وكفاحه السياسي.

د. عزمي بشارة عام 2002 لدوره في توطيد الديمقراطية ونظام التعددية في المجتمع العربي.

محمد أركون عام 2003 لإسهاماته القيمة في مجال التنوير.

صنع الله إبراهيم الكاتب الذي أثرى الرواية العربية بإنجازاته القيمة.

نصر حامد أبو زيد 2005 لجهوده المتواصلة في الدعوة الى الإصلاح الديني.

السيدة فاطمة أحمد إبراهيم 2006 لدورها من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية في السودان.

أما في عام 2007 من بين 32 مخرج عربي، اختارت لجنة التحكيم المخرج التونسي نوري بو زيد لينال جائزة المؤسسة التاسعة عن فيلمه "آخر فيلم" أو Making off، الذي تطرق بكل جرأة إلى مواضيع حساسة في المجتمع العربي، قلما عالجها مخرجون آخرون. وأيضا لمساهمته المتميزة بأعماله السينمائية في التوعية ومقاومة الظلم في المجتمعات العربية وأعماله تجاوزت المحظور الاجتماعي أو السياسي وسلطت ضوءا ناقدا على ظواهر أو ممارسات تشهدها المجتمعات العربية. وفي يوم 30/11/2007 في احتفالية تقديم الجائزة وفي صالة المحاضرات بمعهد كوته في برلين ألقى المحتفى به كلمة أستهلها بقوله أنه خلال أكثر من عشرين سنة بذل قصارى جهده لكي يقترب من الشخصيات التي يرسمها. وذهب به الحال إلى الالتجاء إلى عالم داخلي واختيار العزلة لكي يلتقي بهم ويسكن داخلهم. وأردف بأنه أصبح واحداً منهم وأصبحوا جزءاً منه وبأنه كان يتوقع دون عناء إن مصيره سيكون شبيهاً بمصيرهم الذي رسمه. «مصير شخصياتي هو الفشل والانهيار والهزيمة لأنها لا تملك لها سوى تمردها الخفي وانطلاقتها نحو المجهول. وأعتبر بوزيد بأنه خلافا لكل شخصياته... ها أنذا أُتوَّج».

«كنت ممن عاشوا شبابهم في هزيمة حزيران/ يونيو 67 بألم لا مثيل له، قهر كاد يرمي بي في فراغ بلا قرار. إذ أفقنا أيتاماً خائبين مخدوعين، قاصرين، وغير قادرين على العيش تحت سلطة الأب ولا دونه.. صبيةً جاهلين النضج، رجالاً من رماد حرقوا قرباناً على عتبة الصمت القاتل».

وتابع بأنه مر وهو في غَمرة تمردِ المراهقة بتجربةٍ عميقة علمته ما لا يمكن أن يتعلمه دونها: أكثرَ من 5 سنواتٍ سجناً من أجل حرية الفكر. تعلم أثناءها الكلام بحرية. وبسرعةٍ مذهلة وجد نفسه يؤسس عالماً داخلياً خاصاً وشخصياً كملجأ وحيد ليتفرغ فيه لبناء شخصياته الخيالية، حاملةً هموماً صعبة التأسيس وسهلةَ التشخيص. ومنذ ذلك الحين لم يقدر على التخلص من هذا العالم الداخلي، وأصبح يسخر له وقتاً طويلاً على حساب أشياء أخرى. واستطرد بأنه كان علية أن يخلقَ حياء جديداً في إحساس مرهف حتى يتمكن من الحديث عن كل شيء،عن أشياء لم نعتد الحديث عنها. وأردف بأنه وجد نفسه من حيثُ لا يشعر في حالةٍ ثانيةٍ، وكأنه في عالم آخر. وبدأ تمرده يكشف حالته الذاتية، واضعاً تحت المجهر عيوبه وجروحه وآلامه المباشرة أو غير المباشرة، هذا التمزق المشحون بلغ جلَّ أفلامه فأتت ساخنة، حارة، مسكونة بالهواجس العنيفة نفسيا. وقال بأن أفلامه نعتت بسينما العراء والتعرية. وبأنه كان مبتهجاً لسببين: الأول هو أن في ذلك محاربةً للرقابة في حضارةٍ عرفت ألفَ ليلةٍ وليلة. والسبب الثاني أنه فهم من التعرية تعريةَ الواقع، والمجتمع، والمخفيّ أو المسكوتَ عنه.

وتابع بأنه تعلم أن لا ينسى، وأن السينما أداةٌ عجيبةٌ لتسجيل الذاكرة التي نحتاج إليها في كل لحظةٍ، حتى ولو كانت علاقته بهذه الذاكرة علاقةَ عنفٍ ومحاسبةٍ ومراجعةٍ وصراع، حتميةٍ قاتلةٍ تجعل منه صغيراً آخذاً من صغره شيئاً من العظمة.. وختم كلمته بالعودة إلى السينما وليقول إن علينا أن نبنيَ في كل أعمالنا إحساساً جديداً، وأن نتجاوزَ البكاء على القيم الإقطاعيةِ البالية.. علينا أن نخلُق حياءً جديداً يؤسس لعلاقات جديدة بين الرجل والمرأة منذ الطفولة، ويعطي للجميع حقَّهم في الإحساس، والمهمّشين منهم خاصة، حتى لا يصبح كل المجتمع مهمّشا. وهذا يتطلّب حريةَ تعبيرٍ كاملةً وشاملةً بلا حدود.

نوري أبو زيد من مواليد 1945 في مدينة صفاقص ونشأ فيها، التحق عام 1968 بالمعهد العالي للتمثيل والإخراج السينمائي في بروكسل حيث تخرج فيه عام 1972 وكان (فيلمه (المبارزة) مشروع تخرجه مدته 27 دقيقة، وفيه عالج ظاهرة الاغتراب ومشاكل المهاجرين التي عايشها عن كثب في بلجيكا. سجن لأسباب سياسية أيام بورقيبه من سنة 1973 الى 1979 وترك تعرضه للذل والتعذيب النفسي والجسدي أثرا يميز أعماله السينمائية اللاحقة. ورغم قلة أعماله إلا أنها تُدرج بين الأعمال المتميزة التي تركت بصماتها بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم الفكر الحر والتنوير في المجتمع العربي، فقد اتسمت بالجرأة وبملامسة الواقع بمصداقية؛ ذلك أن مصير شخصياتها ينسجم بشكل كامل مع مصير شريحة واسعة من الشباب في المجتمع العربي المتمثل في "الفشل والانهيار والهزيمة" وهي لا تملك سوى تمردها الخفي وانطلاقتها نحو المجهول. وليست هذه هي الجائزة الأولى التي نالها بوزيد فقد حصل على جوائز عربية ودولية قبلها أبرزها جائزة النقاد العرب في "كان" بفرنسا،عام 1986 والجائزة السنوية للسينما بمناسبة اليوم الوطني للثقافة في تونس عام 1989 وعلى وسام "الفارس" للفنون والآداب في فرنسا عام 1992 وغيرها. 

ماذا عن فيلم "آخر فيلم" أو Making off؟
يحاول بوزيد في هذا الفيلم ككاتب للسيناريو وكمخرج الذي نال به جائزة ابن رشد والذي حاز على جائزة مهرجان قرطاج عام 2006 وعلى جائزة "هكار" الذهبية في الجزائر هذا العام، في هذا الفيلم معالجة قضية الإرهاب وأسباب استعداد الشباب لقتل أنفسهم في عمليات يعتبرونها استشهادية، انه حاول الإجابة على سؤال هو: ما الدافع وراء الإرهاب؟ الجواب وجده في شخصية بطل الفيلم الشاب بطحا، الذي أراد الخروج من جلباب العائلة الأبوية والقيم الإقطاعية البالية. وكان طموحه أن يصبح راقصاً متمتعاً بخصوصيته في المجتمع، الشيء الذي ما تزال ترفضه المجتمعات العربية وتعتبره خروجاً عن المألوف. إلا أن الإحباط الذي نال من بهت والغربة والضياع على الصعيد الفكري واليأس على الصعيد المادي، اليأس من تحقيق الاحلام مهما كانت صغيرة، والفشل واستحالة السفر الى الخارج، وأسباب خارجية مثل وجود أمريكا في العراق ومشكلة فلسطين التي لا تنتهي، كل ذلك استغلته إحدى الجماعات الأصولية المتطرفة، التي حاولت بدورها استغلاله وتجنيده لتحقيق مآربها. بهته الذي يفشل في البكالوريا، والذي لا يخشى السلطة، وينصرف الى عمليات النشل مع عصابته من الراقصين. يريد أن يصبح رجلاً، وأن ينجح في حب سعاد. لكن الشرطة و الفشل له بالمرصاد، فضاقت به الأمكنة، ومهرّب المهاجرين السريين أخذ من الفلوس التي سرقها من جدّه، ولم يأخذه الى إيطاليا بسبب ما لحق العالم من دمار حرب العراق!.

يأتي القهر السياسي والقومي، ليعطي الفيلم الزخم الدرامي الذي يحتاجه! يقع بهته بين براثن مجموعة متطرفة تؤمن له الحماية من الشرطة وتعطيه المال لتبدأ عمليّة غسل الدماغ والتحوّل في اللغة والسلوك، كما تبدأ عمليّة المواجهة بين الشاب النزق والخطاب التعبوي المتطرّف. وهنا تطالعنا كل المقولات الرائجة لدى تصوير هذه الجماعات: الجنة والنار والصراط المستقيم والحرام وعذاب القبر والتطهر والتوبة والانتقام من المارقين.أخيرا يقتنع بهته بخوض المغامرة حتى النهاية. سيمضي في تطرفه الانتحاري اليائس حتّى الذروة. يركض بحزامه الناسف في الشوارع، محاولاً الانتقام من الذين ورّطوه في هذه اللعبة. الشرطة تطارده، حبيبته سعاد ورفاقه وأخوه الأصغر يبحثون عنه لإعادته الى رشده. يدخل بهته في أحد المخازن في المرفأ ويفجّر نفسه.

أفلامه الطويلة:
* "ريح السد" (1986) وهو أول أعماله الطويلة، عالج فيه عددا من العلاقات العاطفية الشائكة في المجتمع التونسي.

* "صفائح الذهب" (1989) الذي عالج فيه ظاهرة التعذيب انطلاقا من تجربته الشخصية بجرأة ووضوح.

* "وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح". عام 1992 وهو فيلم قصير عبر فيه عن موقفه السياسي من حرب الخليج التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق.

* "بيزناس" عام 1992 وفيه عالج ظاهرة السياحة الاوربية بحثا عن ملذاتها على شواطئ البلدان النامية، وما يرافق ذلك من صدام مع العادات والتقاليد السائدة في تلك المجتمعات.

* "بنت فاميليا" عالج فيه مشاكل المرأة وأوضاعها المهينة.

* "عرائس الطين" موضوع اجتماعي حساس عن الخدم والخادمات من الأطفال أولئك الذين يأتون من القرى الفقيرة للعمل لدى العائلات الموسرة في العاصمة.

* "آخر فيلم".

كل تلك الأفلام وأفلام أخرى كتب لها السيناريو تحدثت وبصوت جريء منتقدة البنى الأبوية الصارمة أو السجن السياسي أو الدعارة أو حرب الخليج أو تشغيل الأطفال.