تتقصى الباحثة التونسية بشكل منهجي مراوغة عمل الكاتب المغربي محمد شكري (الشطار) للتجنيس الأدبي وتقدم بحصافة توصيفها الدقيق للنص وتجنيسها له.

مراوغة الأجناس الأدبية

في )الشطّار ([1] لمحمد شكري

آمال البجاوي

 

مقدّمة:
يعدّ فنّ السيرة الذّاتية حديث النشأة نسبيّا، حيث يرى جورج ماي أنّه ظهر بعد الرّواية بما يقارب القرن ونصف، ولعلّه ما تزال الدّراسات حول هذا الشكل الأدبي قليلة، وما تزال شروطه المحدّدة غائمة تحتاج إلى مزيد الدقيق، ولئن ظلّ هذا الفنّ يتحسّس خطواته الأولى في مدوّنة الأدب العربي فقد حقق تميّزا في الأدب المغربي على وجه الخصوص، ذلك أنّه سجلّ حضوره فيه بامتياز، فقد شهد المغرب الأقصى أنوية العمل السيرذاتي الذي تطوّر على يد جملة من الكتّاب لعلّ من أبرزهم محمّد شكري، الذي تميّز بخصوصية أعماله الأدبية التي لم تخل من إجمالا من روح ذاتية، حتّى في الأعمال غير السيرذاتية، كما تميّزت أعماله السير ذاتية بطابعها الصّريح ولغتها الفاضحة، وقد كان لكتّاب السيرة الذاتيّة أسباب مختلفة لتدوين سيرهم، ولكنّها تشترك في رغبتهم جميعا في تخليد الذات وصيانتها من قوى الموت والدّمار، فمن الكتّاب من يرى في سيرته تميّزا وتفرّدا يخوّل لها أن تكون موضوعا لعمل أدبي، فهل يرى شكري في سيرته ذلك التميّز لما فيها من ثراء وتنوّع وتشويق حدا به إلى تدوينها؟ ومن الكتّاب من يدوّن سيرته بهدف الاعتذار وتبرئة الذات، فهل كتب شكري سيرته ليطهّر نفسه من خطاياها؟ ثمّ إنّ "الشطّار" لا تبدو سيرة ذاتية محضا، فمتى تنتهي حدود الواقعي ومتى تبدأ آفاق المتخيّل؟ وما هي السّيمات الفنّية التي أخرجت "الشطّار" من بوتقة السيرة الذاتية الصّرف لتدخلها دائرة السيرة الذاتية الروائية؟

إنّ المشكل الأجناسي الذي تنهض عليه "الشطّار" هو الذي سيحدّد مسار بحثنا محاولين محاصرة الأمارات الأجناسية التي حدّدت صياغة الشطّار عملا فنّيا وسيرة إبداعية، ملقين الأضواء على التّقنيات الروائية التي لوّنت سيرة محمّد شكري الذاتية.  

1 ـ إضاءات الأثر:
أ ـ محمّد شكري من الرّجل؟

هو كاتب مغربي نزح عن موطنه "بني شكير" عندما حلّت به المجاعة، وانتقل إلى مدينة طنجة وتطوان، حيث عاش حياة مهمّشة، مارس فيها جميع مظاهر الانحراف، وامتهن شتّى أنواع المهن "الوضيعة" إلى أن بلغ سنّ الرشد، وكان أمّيا يجهل القراءة والكتابة، ولكنّ حبّه للمعرفة وشغفه بالعلم أورثاه عزيمة بالنفس وقرارا في العقل هو ضرورة التعلّم، فكان انتقاله إلى العرائش للدراسة، وبعد نجاحه في اختبار الدخول إلى مدرسة المعلّمين، انتدب معلّما بمدرسة الحي الجديد للبنين والبنات بطنجة. ثم اكتشف محمد شكري حبّه للأدب، وبدا الكتابة الأدبية. ومن آثاره:

المجموعات القصصية: (مجنون الورد)  و(الخيمة)
الروايات: (السوق الداخلي)
المسرحيات: (استارنكوس العظيم أو موت العبقري)
السيرة الذاتية: (الخبز الحافي)، و(الشطار) (زمن الأخطاء)، و(وجوه).  

ب ـ وجه التسمية: الشطّار أم زمن الأخطاء
لئن لم يثر عنوان "الجزء الأول من سيرة محمد شكري الذاتية الروائية" الخبز الحافي جدلا فإنّ عنونة الجزء الثاني من هذه السيرة جاءت غائمة أوقعت بعض النقّاد في الالتباس، ذلك أن محمد شكري "كان قد استكمل هذه السيرة  ـ الخبز الحافي ـ بعد سنوات في جزء ثان نشر مرّتين وكل مرّة تحت اسم مختلف، فمرّة" "زمن الأخطاء" وأخرى "الشطّار"(2) 

إنّ وسم الأثر الواحد بعنوانين هو الذي أوهم القرّاء بأنهم إزاء نصّين اثنين.، فلماذا كانت التّسمية تسميتين، والعنوان عنوانين فكاد الأثر يستحيل أثرين؟  يجيبنا عن هذا السؤال الدكتور محمّد المخزنجي في استطلاع قام به حول طنجة فكان أن التقى بمحمّد شكري ـ باعتباره من أعلام الأدب في المغرب ـ وتحدّث معه عن الأدب ثم عقّب قائلا: رواية الشطار لمحمّد شكري الذي أخبرني أن الاسم الأصلي للرواية هو "زمن الأخطاء" فقلت له إنّه أفضل فهزّ كتفه مومئا إلى رغبة النّاشر المشرقي.(3) 

لقد كان النّاشر إذن سبب هذا التمويه،(4) ويمكننا الآن أن نقول مطمئنّين إن "الشطّار" تأبى أن تسلّمنا نفسها من أوّل مرّة، فتصدمنا بتمنّعها وعشقها للمراوغة فعلى الغلاف نقرأ: الشطّار "رواية". إنّه ميثاق روائي "طوبوغرافي" ويخزنا السؤال: الشطّار رواية أم سيرة ذاتية؟ وإلى متى ستظلّ "هذه الشطّار" منفلتة عن كلّ وقيد توهمنا بالشيء وضدّه؟ ويبدأ البحث من جديد. 

2 الشطّار «زيتونة جذورها في الأرض وفرعها في السماء» أو النصّ بين جاذبية الواقع وتهويمات المتخيّل:
أ- الميثاق السيرذاتي: مراوغة الحضور، فتنة الغياب. 
جدال في أنّ "الخبز الحافي" سيرة ذاتية بدليل الميثاق السيرذاتي الذي التزمه محمّد شكري في بداية نصّه، ولكنّه عدل عن ذلك في بداية "الشطّار" فهل هذا يعني إقصاء الشطار من سيرة شكري الذاتية؟ إنّ النقّاد يؤكّدون لنا أن الشطّار سيرة ذاتية روائية مثل "الخبز الحافي" باعتبارها الشطار - الجزء الثاني لها، وهما معا يكوّمان نصّا واحدا، ولكنّنا لن نصغي لصوت هذا الناقد ولا ذاك، إنّ شكري وحده مطالب بالإجابة: يطلّ علينا وجه شكري في غضون "الشطّار" قائلا: "أكتب بعض الفصول من هذه السيرة الذاتية عام تسعين" (ص94 ) فهو يعترف إذن بأنّها سيرة ذاتية لا رواية، هي لعبة التجلي والتخفّي ستظلّ تلعبها معنا الشطّار حتّى منتهاها، ولكن المعترض يمكن أن يجابهنا بقوله: قد يعزى هذا الاعتراف إلى السارد لا إلى الكاتب/ المؤلف وعندئذ ينتفي الدليل على وجود الميثاق السير ذاتي. إن شكري بنفسه هو الذي يدحض هذا الاعتراف، ليس فقط لأن السارد والمؤلف والشخصية شخص واحد بدليل ورود اسمه في العمل ـ وسنعود إلى ذلك في مكانه ـ وإنّما أيضا لأنه يواصل الحديث قائلا: "زارني الصديق المستشرق الياباني نوتاهارا صحبة زوجته شوكو في طنجة، كان يترجم الخبز الحافي إلى اليابانية" (ص94).

تتوضّح صورة شكري ويزول عنها النقاب، فهو يؤكّد أن هذه السيرة الذاتية تكملة لسيرته "الخبز الحافي" بل إن شكري في حديثه عن ميله للكتابة في المقابر يضع هامشا ـ والهامش صوت المؤلف لا الشخصية ـ يقول فيه: "مازلت أمارس هذه العادة حتّى اليوم، بعض كتاباتي ـ منها الجزء الأول من سيرتي الذاتية الخبز الحافي ـ وهذه التي اكتبها اليوم، كتبت فصولا منها في المقابر اليهودية والنصرانية والإسلامية" (ص28).

يمكننا اعتبار هذه الاعترافات ـ ولا جناح علينا ـ بمثابة ميثاق سيرذاتي راوغنا في حضوره، فجاء طي الثنايا لا متصدّرا الكلم، موهما ايانا بالغياب. فكان حضوره المستتر وايهامه بالغياب فتنة، فهل يؤكّد لنا شكري هذه الفرضية بالضمير الذي استعمله في "شطّاره" ضمير المتكلّم؟

ب ـ ضمير المتكلّم: الشهادة ـ الطعن في الشهادة
يقوم السرد بضمير المتكلّم علامة دالة على انتماء العمل السردي إلى شكل السيرة الذاتية، ذلك أن ضمير المتكلّم المفرد كفيل بصهر كل منن السارد والشخصية والمؤلّف في بوتقة واحدة. فهل يمكن الاطمئنان إلى شهادة المتكلّم على أن العمل سيرة ذاتية؟ إنّ هذه الشهادة وإن بدت للوهلة الأولى مقنعة فإنّها ليست بمنأى عن الطعن: ذلك أن استعمال ضمير المتكلّم ليس تقنية خاصة بالسيرة الذاتية رغم أنّه "قد يذهب ببعضهم" (الظنّ) إلى القول بأنّ الرواية هي التي استعارتها من السيرة الذاتية لا العكس ... وهذه الطريقة يبدو على الأرجح أن كتّاب المذكّرات قد استخدموها قبل كتّاب الرواية «هذه الشهادة مطعون فيها إذن لأنّ السيرة الذاتية استفادت من الرواية في توظيف ضمير المتكلّم وهذه الأخيرة أخذته عن المنبع الأصلي: المذكّرات. السؤال هو: كيف يصبح ضمير المتكلّم حجّة على أن العمل سيرة ذاتية؟

يكتسب حضور المتكلّم هذه الدلالة عندما يصرّح المؤلّف باسمه الأصلي في عمله، وقد ورد اسم محمّد شكري في الشطّار في غير موطن، فهذا التفرسيتي يقدّم البطل إلى أخته أرحيمو قائلا "هذا أخوك محمد" (ص77) ثم هاهو صوت صديقه المختار يناديه "شكري أنا أبحث عنك" (ص59) إنّ عملية تأليفية بسيطة بين الاسم الوارد في الشاهد الأول والاسم الوارد في الشاهد الثاني تجعلنا نتحصّل على اسم السارد والبطل: محمد شكري. أليس هو اسم المؤلّف أيضا؟ إن ضمير المتكلّم إذن أمارة دالة على أن "الشطار" سيرة ذاتية، كما أضفى حضور الاسم الأصلي لصاحبها شرعية على هذه الفرضية. أليس شكري هو من قال: "لقد استعملت ضمير المتكلّم لأنّني اكتب عن نفسي"(5) فهل يمكن أن نعتبر أن هذه القضيّة الاجناسية قد حلت وأننا قد وضعنا "الشطار" في خانة السيرة الذاتية؟ لعلّ الوقت لم يحن بعد للفصل في هذه المسألة، فلئن توفّر العمل على شرطين أساسيين هما الميثاق السيرذاتي والسرد بضمير المتكلّم، فإنّ هناك تقنية أخرى لها أهمية خطيرة في مدى اعتبار العمل سيرة ذاتية وهي التقنية الاسترجاعية، فهل وقّعت هذه التقنية على حضورها في "الشطّار"؟

ج ـ تقنية الاسترجاع وفوضى الأزمنة
لئن اهتمّ "الخبز الحافي" بسيرة محمد شكري مذ كان في السابعة من عمره وحتى بلوغه سنّ الرشد، فإنّ "الشطّار" جاءت مواصلة لهذه السيرة أي انطلاقا من سنّ الرشد واتخاذه قرار الدراسة، فهي لذلك: "تتّخذ وجهة نظر استرجاعية"(6) أي أن السارد سيلوذ بالذّاكرة باحثا فيها منقّبا عن ذكريات تسعفه لكتابة سيرته، فهل تخلص الذّاكرة وتمدّه بكل تفاصيل التجربة المعيشة؟ "إنّ الذاكرة قلّب خؤون"(7) بهذا يجيبنا جورج ماي، فلماذا هي الذاكرة عصيّة خؤون؟ يقدم ماي خمسة أسباب هي في نظره مسؤولة عن خيانة الذّاكرة للعمل السيرذاتي هي: النسيان المتعمّد والرقابة الذاتية ثمّ "أن يعيد الإنسان بعد مدّة بناء علاقة بين الأحداث سببية لم يكن لها وجود"(8). إن العمل السيرذاتي إذن في محاولة سرده للوقائع الماضية لا يلتزم الدقّة والتفصيل وغنّما يخضع هذا الاسترجاع إلى التسلسل الزمني الذي يفضح الثغرات الحديثة التي غيّبها السرد، أم أنّه لجأ إلى تداخل في الأزمنة وتشويش يخفي عبره "فضيحة" الانتقاء وكذبة الوفاء للوقائع؟ لقد جاء السرد في "الشطار" عابثا بالأزمنة، مشكّلا من فوضاها صياغة للحياة جديدة "وأصبح استخدام النصّ للزمن يخضع لسيطرة الراوي على مادته، وأولويّات تراتبها أكثر ممّا يخضع للتسلسل الزّمني نفسه"(9) فهو لئن كان يتحدّث عن الماضي، فإنّه يفاجئنا أحيانا باستباق للأحداث قبل وقوعها، فيصدم تلقّينا باعتبارنا قرّاء، ويخمد فضولنا. فإذا الحدث حين يحين أوانه، وقد نزع السارد عنه المفاجأة، يصبح باهتا لا روح فيه وألق: وأكثر استعمال هذه التقنية في النصّ حين يتعلّق الأمر بالموت مثل موت الأب أو الأم أو صديقه المختار. "وهذا الاستباق المتعمّد للموت ينفي أثره الفاجع عند حدوثه، ويقلّل من تأثيره السّلبي على عالم النصّ"(10) إلاّ أن هذا الاستباق لم يكن حكرا على مسألة الموت، بل يستعمله السّارد أحيانا عندما يتحدّث عن شخصيّة معيّنة ويتذكّر معلومة تتعلّق بها يعرفها بعد زمن من ذاك الذي هو بصدد استرجاعه. فيذكرها قبل أن يصل بالسرد إلى الزمن الذي وقعت فيه تلك الحادثة أو حصلت به هذه المعلومة في الواقع، إنّها لعبة الزمن حيث السارد سيّد عليه لا مسود وفاعل فيه لا منفعل.

ولم يكتف شكري بتقنيتي الاسترجاع والاستباق، بل يعمد أحيانا إلى لعبة الحضور والغياب، فإذا به يطلّ علينا من نافذة "الشطّار" بوجهه وصوته هو المؤلّف محمد شكري الآن وهو يكتب "مذكّراته"، وإذا "بعملية التقريب بين ماضي الذكرى وحاضر الكتابة أو المجابهة بينهما"(11) تذيب الحواجز بين شكري والقارئ، فيعود القارئ مع السارد إلى ذلك الزمن الذي يسجّل فيه أحداثه أو "مذكّراته" إنّها عمليّة ترهين للوقائع، من خلالها "يوهم السارد قرّاءه بأنّه يسجّل ملاحظاته وخواطره آنيا وليس استرجاعيا"(12). إن فوضى الأزمنة في الشطّار هي التي جعلته نصّا هجينا مزيجا من السيرة الذاتية ـ لقيامه على الاسترجاع وللأسباب المذكورة آنفا ـ والرّواية التي عرفت في طورها الأخير هذا التلاعب بالأزمنة الذي يضفي على النصّ طابعا تجريبيا حداثيّا فهل أن استفادة الشطّار من بعض تقنيات الرّواية جعل الحقيقة ـ باعتبارها مطلبا في السيرة الذاتية، غائمة تنزع إلى معانقة المتخيّل من الحلم والخادع من الوهم؟

د ـ الحقيقة: الوهم اللّذيذ
يتعامل القارئ مع الميثاق السيرذاتي باعتباره شرط قيام السيرة الذاتية بوصفه وعدا ضمنيا من المؤلّف بقول الحقيقة أو جملة الحقائق المكوّنة لتجربة حياته، ولذلك ينتظر منه الوفاء بالوعد رغم ان هذا الإعتقاد من القارئ هو محض خداع للنفس لان السيرة الذاتية من حيث ماهيتها المفترضة ليست التزاما بقول الحقيقة لأنّ "قضيّة الحقيقة في السيرة الذاتية هي على الأرجح قضيّة زائفة، إذ أن السيرة الذاتية من حيث هي سيرة ذاتية مجافية للحقيقة"(13). 

إنّ السيرة الذاتية من حيث قيامها على انتقاء الحوادث أسلوبا وعلى التخيّل صياغة، وهما مستفادان من الرواية، إنّما تعلن عدم تقيّدها بالحقيقة الواقعيّة، إذ الحقيقة وفق نظرة فلسفية لا تعني بالضرورة الوقائع كما حدثت بل هي تكتسب مفهومها وفق نظرة الإنسان إليها، فالحقيقة يمكن ان تكون المنشود، كما يمكن أن تكون الموجود، وهي يمكن أن تعبّر عن الوقائع كما يمكن أن تعبّر عن المتصوّرات الذهنية المجرّدة فهل أن عدم قول المؤلّف الحقيقة في سيرته يعني أنه كاذب غير صادق؟ وإذا ما اعترف الكاتب بأنّه ليس صادقا في تدوينه لسيرته هل يظلّ متّهما بالكذب "أفلا يكون أصدق كتاب السيرة الذاتية أولئك الذين يعترفون هم أنفسهم بعدم صدقهم"(14) لئن كان اعتراف بعض الكتاب بعدم التزامهم الصدق في كتابة سيرتهم يجعلهم بمنآى عن سهام النقد فإن المتكتّمين عن مسألة الصدق، أو الذين يوهمون القارئ بصدقهم. مع انّها مسألة مغلوطة. يظلّون أكثر عرضة لانتقاد المنتقدين رغم أنّ مطلب الصدق كمطلب الحقيقة كلاهما مثالي يروم التحقّق دون أن يتحقّق لأن كتابة السيرة عمل أدبي بالأساس لا تاريخي،و هو لذلك لا يمكن أن يعد بالصّدق في قول الحقيقة وهي بوصفها عملا ابداعيا "لا يمكنها على الاطلاق أن تكون إعادة امينة لمجمل تفاصيل صاحبها، وغنّما تعبّر عن توق دائم للاحتفاظ بوجود مستمرّ، إنّها تجديد ودفع آخر لمراحل الحياة الماضية"(15) عن السيرة الذاتية إذن إعادة انتاج للحياة وصوغ فنّي لها وليست نسخا باهتا وتكرارا لا إضافة فيه لحياة إنسانية، خالية من ألق الإبداع، ولكنّ الفضول أبدا سمة القارئ يبحث دائما عن حقائق الأشياء حتّى أنه يخترعها في روايات الكتّاب. فيحكم على هذه الرواية أو تلك بأنّها ترسم حقيقة الكاتب حتّى وإن نفى الكاتب نفسه ذلك، ولعلّنا بعد الخوض في مسألة الحقيقة والصدق والكذب، نتوق لمعرفة موقف محمد شكري الذي يعنينا - من هذه المسألة يقول: "أنا لا يهمني الصدق والكذب، كل ما أفكّر فيه وكل ما أكتبه حقيقي حتّى ولو لم أعشه"(16) إن مفهوم شكري للحقيقة يوسّع من المفهوم التقليدي الذي يخنق انفاس السيرة الذاتية، ويطالبها بقول الحقيقة، وكأنها متّهم يحاكمونه ويعطي مجالا اكبر للكاتب في تدوينه لسيرته الذاتية تدوينا تلقائيا ليس محكوما بالقرارات والاستجوابات، فإنّ كانت الحقيقة في السيرة حقائق فهل يعني هذا نزوع الواحد إلى المتعدد وملابسة المتخيّل للواقعي في جميع مشكّلات السرد السيرذاتي؟ أي هل المكان في "الشطّار" مكان حقيقي؟ ام هو إحدى بدع المؤلّف؟  

3 ـ الفضاء: الأصل الباهت وألق التعبير
عرف المكان في العمل السردي تطوّرات هامّة وفق وجهة نظر النقّاد إليه وتبويئهم إياه المكانة العليا او الدنيا فهو يكاد ينفرد بسلطة مطلقة في بعض الاعمال ويكاد يغيّب في اعمال اخرى، أمّا كاتبنا - محمد شكري - فيعرب عن شدّة تعلّقه بالمكان: "لي ارتباط جدّا بالمكان، أنا أقدّر ما يسمّى بجمالية المكان في القصة او الرواية رغم انّه مذهب كلاسيكي واقعي"(17) ولقد تعدّد المكان في الشطّار وتنوّع ما بين ثابت وعابر، وسنحصر أهمّ هذه الأمكنة.

أ ـ طنجة: "عروس المدائن"
طنجة.. هي القطب في "الشطار" منها المنطلق وإليها العود، فالسّارد يعود إلى طنجة مهما ابتعد عنها، ولها في نفسه مكانة أثيرة فطنجة هي "مركز العالم بالنسبة لهذه السيرة الذاتية، والفتها والسيطرة عليها هي غايتها"(18) وقد كانت طنجة مهدا لبداية تعلّم القراءة والكتابة بالنسبة للسارد كما أنّها احتضنت لياليه في الحانات والخمّارات، ولعلّ المقهى ودور الدعارة هي أهم أماكن طنجة المحبّذة عند السارد، ورغم انه كان من المفترض أن تكون هذه الأماكن عابرة إلاّ أن ما حدث هو "تحوّل أماكن الانتقال في السيرة إلى أماكن إقامة" على عكس البيت الذي كان يفترض أن يكون دالا على الإقامة فإذا به أصبح في الواقع "مكانا انتقاليا بالنسبة إلى السّارد"(19).

إنّ هذا الانقلاب في دلالة المكان على السيرورة أو السكون يعدّ انقلابا هامّا ولكنّه ليس غريبا إذا ما أعدناه إلى أصله: سيرة محمد شكري، فهذا شكري ظلّ منتقلا من مكان إلى مكان لا يهدأ ولا يستقرّ، متردّدا أبدا على المقاهي والحانات فكيف لا تصبح هذه هي الأصل وما عداها فرع لا مستقرّ؟

أمّا المقهى فقد كان متنفّس السارد الذي يشعر فيه بالرّاحة والاستمتاع رغم أنّه كان محتضنا للرّديء من القيم "كتداول أصناف المخدّرات، الكيف والحشيش"(20) ولكنه رغم ذلك يحلو للسارد التردّد عليه: "أبقى في القهوة حتى تغلق" (ص33). إن المقهى لم يكن فضاء الممارسات المشبوهة فقط بل كان أيضا الفضاء الذي يكتب فيه السارد أحيانا بعض مذكّراته، أو يطالع بعض الكتب، يقول متحدّثا عن صديقه المختار: "حين عرف أني ارس أخرج من جلبابه الصوفي كتاب" مدامع العشاق الثلاثة "لزكي مبارك، عرض علي أن نفطر معا على حسابه في مقهى سنترال ونقرأه" (ص34).

إنّ المقهى هو الفضاء الذي يحقّق للسارد الإستقلال دون انغلاق، ففيه يمارس هواياته وفيه يلقى أصدقاءه، وفيه يتعامل مع الآخرين بوصفه كائنا اجتماعيا لكن دون أن يخسر استقلاليته وإذا المقهى "تعويض على الذات الفردية الممزّقة"(21) اما دور الدعارة، فقد كان يلبي فيه السارد نداء الجسد دون تردد او تفكير "لان مسّه الغلاّب كان انحلال روحه في جسده"(22) ولم يكن الجنس بالنسبة إليه مسألة عابره، بل كان همّه الاول والأخير، وكان خيطا يشدّ كل سيرته الذاتية ويصنع منها سمفونية موقّعة على أوتار الجسد، هذا الجسد الذي يحتفي به شكري احتفاء كبيرا بطقوسه بنشوة ثملة إلى درجة أنه غدا مصابا بهوس اللذّة الجنوني(23) "لقد أحب شكري طنجة بشوارعها ومقاهيها وحاناتها ولعلّ هذا ما حدا بمحمّد برادة ليسأله": "هل أجازف فأقول بأنّك عوّضت حب المرأة بحبّ طنجة"(24).

ب ـ العرائش: موطن الشعور
لقد كانت العرائش محطة هامة في حياة شكري بل كانت موطن مولده الجديد ففي العرائش بدا رحلته مع العلم الذي ملأ عليه فضاء قلبه والذي يرى أن مصيره الجنون ان لم يحصل عليه، وفي العرائش عرف شكري لذة أخرى غير لذّة العقل ينير له العلم دروبه، وفي العرائش عرف مشاعر الأبوّة دون ان يكون ابا من خلال " عاطفته الأبوية نحوى سلوى طفلة فطيمة " (ص94) هذه الطفلة التي اراد بعطفه عليها ان يعوّض نفسه عن طفولته البائسة القاسية مع والده المتوحّش فكان يلعب معها دور الأب آخذا إياها في نزهة او مراجعا لها دروسها، كما عرف في العرائش الخوف على أمذه المريضة "فقرر أن يعودها في تطوان"(25). 

ج ـ المقابر. ميلاد كلمة:
إنه ليبدو غريبا من رجل يملأ الضّجيج حياته والنّاس، وما ينفكّ ينتقل من زحمة الشوارع إلى اكتضاض المقاهي وامتلاء الحانات، ليبدو غريبا منه أن يحبذ المقابر وهي الهدوء والسكون، هذا الرجل الذي خبر الحياة وخبرته وتمرّس بها وتمرّست به حتّى أضحى شعلة من حياة، كيف يطيب له المقام مع الأموات وهو القائل "أحيانا لا أعرف كيف أكتب حتى أكون جالسا في مكان معيّن".(26) لقد راقت له المقابر مكانا يستوحي منه الجزء الاول من سيرته الذاتية وكذلك بعض الفصول من الجزء الثاني لسيرته باعترافه هو نفسه فهل "يدلّ (هذا) على مزاج منحرف غريب أفرزته وقائع منحرفة غريبة؟"(27) إن شكري يستلهم من فضاء الموت معنى الخلود فحيث يقبر الإنسان تولد الكلمة لتظلّ حيّة ولو بعد آلاف السنين، فللمقابر رهبة تملأ مرتاديها خشوعا واحساسا بعظمة الحياة وثقة في زوالها امام عظمة الموت الخالدة التي لا يمكن أن تقف في وجهها إلا عظمة الكلمة، ولكن السؤال الذي لا يمكن أن تجاوزه هو: هل جاء المكان في "الشطار" نقلا امينا لصورته في الواقع أم أنه استفاد من الجمالية التي يضفيها السرد الروائي على فضاءاته؟ يجيبنا شكري بنفسه عن هذا التساؤل عندما يورد لقاءه بنوتاهارا الذي ترجم له "الخبز الحافي" إلى اليابانية وقد أراد أن يرى الاماكن رؤية العين لتكون الترجمة أفضل فرأى صهريجا كان قد وصفه شكري في سيرته فاستغرب من وصف شكري له بأنّه جميل رغم أنّه ليس كذلك فأجاب بأنّ "هذه مهنة الفنّ، أن نجمّل الحياة حتى في أقبح صورها، إن هذا الصهريج انطبع في ذهن طفولتي جميلا، ولا بدّ لي أن أستعيده بنفس الانطباع حتّى ولو كان بركة من الوحل" (ص 94)، وهكذا يرى شكري أن سيرته الذاتية عمل فنّي وليست مجرّد عملية تأريخية للأماكن والوقائع، وهو في ذلك يستفيد من التقنية الروائية التي تخلع على الأماكن ايحاء وتعابير وتجعلها بعيدة عن الحياد وغياب الدلالة، فإذا هي أعمق في النفس وأوغل.  

4 ـ الشخصيات: صوت الواقع، سحر المتخيّل:
يشكّل مجموع الشخصيات المتنوّعة عالم "الشطار" السردي، ويؤثّثه ولكن قبل البحث في سيمات هذه الشخصيات يرغمنا الذّهن على العود إلى البدايات: إلى عنوان الأثر: "الشطّار" من هم الشطّار؟ وما هو ادب الشطّار؟ إنّنا في تعريفنا للشطّار لا بدّ عائدون إلى الآثار التي عنيت بأوّل ظهور لهم في الدولة العبّاسية، إذ يورد الأستاذ مصطفى التواتي تعريفا لهم كان أخده عن كتاب "تاريخ التمدّن الاسلامي" لجرجي زيدان: "الشطّار هم أكثر انتشارا من العيارين وهم يشتغلون باللصوصية وقطع الطرق والتحيّل والشعوذة. وهناك طوائف اخرى من العامة كالصعاليك والحرافيش"(28) وإذا كان هؤلاء هم الشطذار فلا عجب في ان يعكس أدبهم نمط عيشهم، والشخصيات الفريدة التي يتمحور حولها ذلك الأدب بوصفه أدب المهمّشين، وهو لا شكّ يرسم نوعا محدّدا من طرائق السلوك الإجتماعي والمنظومة القيمية " لكنّ علاقة سيرة محمد شكري الذاتية ( التي وسمها بالشطارية ) بأدب الشطار العربي القديم لا تنهض على محاكاته بقدر ما تقوم على استقطار روحه وتشرّب مختلف أبعاده، ثم إعادة انتاجه في هذه الصيغة الروائية الجديدة(29). فعلام نهض بناء الشخصيات الشطّارية او المهمّشة في "الشطّار"؟ قبل الولوج إلى دخائل شخصيات "الشطار" لا بد من النظر في علاقة السارد بهم اجمالا، وإذا ما كان قد حجب عنّا النّظر إليهم أم كشف لنا بنفسه عن صورهم، وهل يمكن الفصل بينه وبينهم باعتبارهم ذواتا مستقلّة؟

"تتجلّى شخصية السارد في السيرة الذاتية من خلال هيمنتها الكلية على الحكي والمحكي واستقطابها لسائر الاحداث والوقائع عن طريق علائق تربطها بالشخصيات التي تشتغل وظيفيا للتعريف بمختلف جوانب شخصية السارد"(30) إنّ الشخصيات إذن صور من السارد موجبه او سالبة ولكنّ وظيفتها هي اضاءة السّارد، فهي بأحجامها المتباينة وأشكالها المختلفة إنّما ترمي إلى نحت صورة السارد في مختلف أبعادها.

و لئن اهتمّ شكري بطفولة المهمّشين في الجزء الاول من سيرته الذاتية "الخبز الحافي"، فإنّه في هذا الجزء الثاني يواصل رحلته معهم ليصف الشباب المهمّش وحتى الكهولة والشيخوخة المهمشة وهي اقسى انواع التهميش.فأما الطفولة التي ودّعها شكري في "الخبز الحافي" فيجد صورتها ماثلة امامه في "الشطار"، ومنذ الصفحة الاولى، هي صورة بائسة لطفل صفعت السارد بالماضي الأليم والذكرى المريرة عندما رأى "صورة ماضيه المتمثّل في هذا الطفل المتّسخ الذي كانه ولكن انفصل الآن عنه بطريقة تسمح له بالكتابة عنه من مسافة محايدة ولكنها حانية"(31) ولكنّ السارد يحاول نسيان هذه الطفولة البائسة يحدوه الأمل في تحصيل العلم واتّخاذ مكانة مرموقة في سلّم المجتمع، إلاّ أنّه خلال فترة دراسته يعيش حياة الصّعلكة التي عاشها طفلا، ولا تخفّ وطأة هذه الصعلكة إلاّ عندما يستقرّ السّارد في عمله ويصبح له راتب شهري، أمّا قبل ذلك فقد كان طالبا بائس الحال: "ثيابي تتسخ وتبلى وتفوح منها روائح جسدي، والقمل يعشّش فيها، حذائي يسوّد إليه الماء، شعري يقزّز ويتدبق وسخا" (ص 32)، كان شكري يعيش هذا الوضع وقد جاوز سنّ العشرين، وكان يجد في الدراسة خير معوّض له عن الحالة الرّاهنة، ويرى عادل فريجات(32) أن من مظاهر صعلكته واضطرابه وضياعه أنّه لم يكن يعرف أفراد أسرته، ولئن طغى وصف السّارد لمظاهر بؤسه فإنّه لم يغفل الإشارة إلى الحياة المهمّشة لأصدقائه في الدّراسة، وإلى "شخصيات القاع الاجتماعي التي عرفها في حياته السابقة"(33)، لكنّ تميّز شكري عن رفاقه بحبّه للعلم وحرصه على الدراسة جعله يشعر بالفخر وبأنّه في موقع قوّة، وتظلّ علاقة شكري بالبغايا إحدى علامات صعلكته وعدم استقراره، ولكنّ معاملته لهنّ لم تكن تخلو من مواقف إنسانية مثل علاقته بفطيمة أم سلوى التي كان يحترمها ويعطف على ابنتها، إضافة إلى تعاطفه مع الاخريات، فهو لا ينظر إليهن نظرة النّاقد المستهجن أو النافر المحتقر، بل يبرز باختراقه "لهذه الفضاءات الممنوعة، بيوت الدّعارة ان شخوصها المؤنّثة ضحايا ظروف القهر المادي والمعنوي الذي مارسه المجتمع عليهن ودفع بهنّ إلى عالم البغي والفساد"(34)، وتظلّ علاقة السارد بأمّه وابيه علاقة مميزة تستوجب الوقوف عندها: إنّ الأم والأب في "الشطار" وجهان لا يلتقيان، فبينما كانت الأم الوجه الملائكي في السيرة الذاتية، الوجه الحنون الذي يمثّل مرفأ الأمان للسارد، جاءت صورة الأب "الوحش" "الحيوان" عنيفة، مشوّهة مرعبة، دالّة على الكراهيّة والعنف والموت في ابشع صوره، ذلك أن الأب كان هو من قتل إبنه الصغير، أخ السّارد، كما ورد في "الخبز الحافي"، فانطبعت صورة الأب في ذهن إبنه صورة دمويّة وهو أيضا الذي كان يستغلّ إبنه/ السارد، بأخذ أجره الذي يتقاضاه عن عمله، ويشتم زوجته باستمرار، إنّه الوجه/ المسخ، في حين كانت الأمّ على عكس ذلك رمزا للمحبّة والتضحية بخروجها للعمل إثر سجن زوجها، رغم منافاة ذلك للتقاليد الريفيّة، وقد اختصر السّارد جميع المشاعر الجميلة ليتّجه بها نحو أمّه، أو لم يقل إثر فجيعته فيها "لم استمر يوما من حياتي كما استمررت هذا اليوم، بموت أمّي تموت كل أسرتي" (ص202)

أما الوالد على العكس من ذلك، فقد كان يقتله السارد في خيالاته عديد المرّات، ويتمنّى بجدع الأنف لو يقتله حقيقة، ألم يعترف في "الخبز الحافي" في الخيال لا أذكر كم مرّة قتلته،لم يبق لي إلاّ أن أقتله في الواقع (ص89). إنّ تمنّي الموت للأب الذي أصبح رامزا للجريمة إنّما هو الحلم باجتثاث الذكرى. الفاجعة، التي يحملها من الأب والتي لازمت السّارد عمره إنّها أمينة مشروعة لمّا تجاوزت أن تكون مجرّد كراهية لشخص لتستحيل نفورا وتقزّزا من جملة السّلوكات الشائنة، والقيم الرديئة والأنانية المؤذية التي أصبحت دوالا لمدلول واحد هو الأب، كما صوّرت لنا "الشطّار" نماذج أخرى لشخصيات أجنبية مثل شخصية "لوشوفاليي"، هذا الذي قرّر في لحظة أن ينسف على الشاطئ كل القصص التي كتبها فإذا "ذكريات أكثر من ستين عاما تتلاشى دون رحمة أو ندم" (ص169).

إنّ الفصل الذي اهتم بوصف الحالة المأساوية للشوفاليي يذكّرنا بالتراجيديا اليونانية التي ترسم صراع الموت والحياة والحاضر والماضي، لكأن لوشوفاليي شخصية تراجيدية، والقارئ لهذا الفصل يلاحظ عمق تأثيره في السارد، وتنتقل عدوى مشاعر القلق والتهيّب إلى نفوس القرّاء، هو ما جعل محمّد برادة يتوجّه إلى محمد شكري قائلا له عن شخصية لوشوفاليي "تتحدث عنه وفي الآن نفسه تتحدّث عن نفسك لأنّك تجعله مرآة محتملة لشيخوخة بئيسة، يموت خلالها الكاتب المبدع الحالم، بالتقسيط"(35). رغم أن السارد لم يكن معجبا بكتابات لوشوفاليي، ولكنه كان يحيّ فيه هذا الوعي بالزّمن وبالعالم، وكان يعجب بصداقة لوشوفاليي لجورج رغم أن "الأول ملحد والثاني متديّن" وبما أن "كائنات الورق تكون دائما كما عرّفها بول فاليري شخصيات لأحياء بدون أحشاء، أما الشخصيات التي لها أحشاء فلا وجود لها في السيرة الذاتية"(36) فإن شخصية لوشوفاليي بوصفها كائنا حيّا حقيقيا حتى وإن أضفى عليها المتخيّل بعدا أكثر أيحاء- يكون تأثيرها في النفس أعمق وأقوى، فهي رمز للشخصية الإنسانية في كل مكان وزمان حين يعصف بها الألم ويجرفها تيّار العمر نحو مرافئ النّهايات والإنسان هو "كيف ينتهي وليس كيف يبدأ" (ص172) على حد عبارة لوشوفاليي.

لئن التبس المتخيل بالواقع في رسم ملامح هذه الشخصيات، فإنّ هذا المتخيّل ليرتسم لنا بصورة فاضحة في الفصل المعنون بـ "المنسيّون" الذين دارت أحداثه في مستشفى المختلّين عقليّا، هؤلاء الذين أنطقهم السارد بحديث رامز لا يقبل المنطق أن يكون صادرا عنهم، هؤلاء الذين يجدر بهم ألاّ يعرفوا بسيط الأمور فإذا بهم يطالعوننا حكماء يتناقشون حول الموت والحق والإنسان، والزمن والعقل والجنون والحب، مثل قول عمر معبّرا عن حاجة الإنسان للتفكير في واقعه أكثر من تفكيره في غيبيّات المسائل "كفانا من أخبار الأولين والترّهات، هاتوا الخبز والماء والسجائر" (ص142). ألم ينطقه محمد شكري بما أراد أن يقوله هو، ألا ينقد من خلال هذا القول الخطباء والزعماء الذين يملؤون أسماع الفقراء بأحاديث لا صلة لها بواقعهم المأزوم وتدخّل منصور "ليس سهلا أن يجنّ الإنسان وصعب أن يعقل حتى لا يجنّ"(ص143) ماذا يقصد منصور بيعقل؟ إنها قابلة لقراءتين، إذا كانت يعقل مع ضمير الغائب المفرد أي من العقل فيعني أن محافظة الإنسان على عقله أكثر صعوبة من الجنون، وان كانت يعقل في صيغة المبني للمجهول من العقال، فالمقصود هو أنّه اذا كان الجنون صعبا فانّ الأصعب منه هو مصادرة كلمة الإنسان أو حركته أو حريّته، انّه نقد للقائمين على مصادرة الأموال والأرواح، أليس حديث هؤلاء المجانين متخيّل الاّ أقلّه؟ أنّى للمجانين كلّ هذا الوعي بالواقع وبالعالم؟ ألا يرمز شكري من خلال ذلك الى أنّ العقلاء في المستشفى والمجانين خارجه؟ ألا يقصد شكري أنّ الأصحّاء محجوزون وأنّ المرض متفشّ في خلايا جسد الواقع المعلول؟ انّ الشخصيات في "الشطّار" ما بين منحوتة من صميم الواقع وأخرى أبدعها المتخيّل.

لقد أفسح السّارد في "الشطّار" للشخصيات حتّى تعبر عن نفسها غير مرّة، فهل يعني ذلك أنّه محايد لا يفرض سيطرته على أحد أم هي "كاريزما" السّارد توهم بالحياد ولا حياد؟

أ ـ كاريزما السّارد ووهم الحياد:
إنّ "السيرة قصّة انسان فذ أو متميّز بكلّ ما ينبض به قلب هذا الإنسان من أحاسيس وعواطف وما اعتور عقله من فلتات الذكاء الفذّ والخيال الجامح"(37). فهل يعني هذا أنّ السّارد يمارس سلطة على ذاته فيضخّمها ويجعلها مبتدأ العمل ومنتهاه، فيقوم بتغييب كلّ ما عداها؟

انّ الحضور القوي والرئيسي لذات السارد في السيرة الذاتية بوصفها سيرته بالأساس لا يمنع محاولته التزام الموضوعية فيما يسرد قدر الإمكان لأنّ "النصوص الأدبية الحديثة التي تنتمي الى السيرة الذاتية زاوجت بين الوصف الذاتي والوصف الخارجي"(38) وكانت "الشطّار" احدى هذه السير التي اتخذت هذا المنحى، فقد استفادت سيرة شكري من فن المذكرات في اهتمامها بالحوادث العامة والوقائع الخارجية فكانت ترسم ملامح الآخرين كما ترسم ملامح "الأنا" وتجهد لإضهار الحياد ولكنها مهما ادّعت هذا الحياد، فانه حياد مجروح، ذلك أنّ السيرة الذاتية بوصفها سيرة فرد لا تستطيع التخلص من طغيان الذات لأنه في "جميع روايات السيرة الذاتية تنقسم الذات على نفسها لأنها هي التي تكتب وهي التي تكون موضوع الكتابة"(39). وهذا الإنقسام للذات ما بين ذات وموضوع هو الذي يكثف حضورها في السيرة الذاتية، فهي الحامل والمحمول في آن لأن السارد ينصّب نفسه حكما بين الشخصيات يحكم لصالح هذا وضدّ ذاك، ويلقي أضواءه على الجوانب التي يريد إضاءتها من هذه الشخصيات.و شكري في سيرته يخلع على نفسه كاريزما الصوت الواحد حين يعلو صوته على أصوات الجميع حتّى لتكاد تستحيل هذه الأصوات همسا وكأنه ينظر إلى هذه الشخصيات من فوق مراقبا وناقدا وشاعرا بامتيازه عليها. وليس غريبا أن يختلف حضور السارد في الأجناس الأخرى التي تسعى الى جعله محايدا عن حضوره في السيرة الذاتية التي لا تؤمن بحياده وان أوهمت به، لأن الأجناس الأخرى تبني عالمها من الداخل لا من خارج هذا العالم "أما كاتب السيرة الذاتية فمدار عمله على موادّ ذاتية اساسا وهي ذكرياته الخاصة"(40)، فلاغرو أن تكون خصوصية السيرة الذاتية طاغية علي موضوعاتها الجانبية، فهل يعني هذا أن النص السيرذاتي يرشّح الذات وينفي الجماعة؟

ب ـ النص بين أوجاع الذات وهموم الجماعة:
إن الحياة الإنسانية حياة صراع لا يني، صراع بين الخير والشر، وبين الحلم والواقع وبين الفرح والألم، ولكل إنسان رؤية في الحياة وموقف منها، أمّا شكري فيعتبر السعادة لحظات هاربة معترفا بذلك في "الشطار"، فإذا الوجع عنده هو الجوهر الدائم. ولأن القوى غير متكافئة بين الإنسان وقوى الدّمار والحزن التي يصارعها، فمن المرجّح أن ينتهي الصراع بفشل الإنسان. وحينئذ تبدؤه نار السؤال: هل لحياته معنى؟ فلا يظفر بالمعنى إلاّ إذا كتب سيرته الذاتية إذ "ما كتابة سيرة من السير الذاتية إلاّ بهدف أن يخلع الكاتب على حياته معنى، لذلك ينسب كثير من الناس إلى الألم دورا هاما في حياتهم"(41) فعسى تدوين السيرة الذاتية أن يخفف عنهم بعض أوجاعهم، فالهدف الأوّل من كتابة السيرة الذاتية يبقى ذاتيا، ولكنّ العمل لا يظل رهين الذات وحدها بل يتجاوزها ليعبّر عن هموم الجماعة لأنّ "كاتب السيرة حينما يلجأ إلى البوح بخواطر فردية محضة فان هذه النزعة عنده تستند إلى وعي اجتماعي خاص، وثورة على التقاليد يريد أن يمحوها بهذه الإعترافات"(42)، فشكري إذ يدوّن سيرته الذاتية وبؤسه وعداوته لوالده الذي يعتبره المسؤول الأوّل عن معاناته، فهو أيضا يدوّن حياة "الشطّار" رفاق الصعلكة، رفاق أمسه وحاضره، هؤلاء الذين جار عليهم المجتمع فأقصاهم من دائرته، فإذا هم يكوّنون مجتمعا داخل المجتمع، ولا يمكن لشكري أن ينسلخ عن جماعته ولا أن يتجاهل صراعه مع الجماعة المهاجمة لأنّ "السيرة الذاتية تصحيح لمسار الحياة"، وكل كاتب سيرة يقدّم البديل الذي يرتئيه لهذا التصحيح إلاّ "أنّ البديل الذي يطرحه الكاتب لتصحيح مسار حياته غالبا ما يربطه بالقيم الاجتماعية والأهداف التي تشكّل وعي الجماعة التي ينتمي إليها أو يعبّر عنها"(43)، ولذلك يوجّه شكري نقده بطريقة ضمنية إلى الظلم الذي يمارسه المجتمع على البؤساء ممّا أوصلهم إلى مصير التشرد والضياع، وعلى الفتيات منهم فأوصلهنّ إلى دور الدّعارة حيث الانتكاس لا يعرف طريق النّهوض، وهو يستغرب من هؤلاء الذين ثاروا على كتاباته لما فيها من أبعاد جنسية ولم يحاولوا تطهير المجتمع ذاته من أدران الفساد، إنه ينقد العقد النفسية التي يعانيها المجتمع الشرقي عموما والمغربي خصوصا: "نحن نسمح للدّعارة أن تكون في الشارع ولا نسمح لشخصية روائية أن تتعهّر"(44)، وهذا جزء من العلل التي تنخر المجتمع المكبوت الذي لا يحبّ مواجهة نفسه بأمراضه وعقده بحثا لها عن حلّ، وإنّما يفضّل الكتمان والمواربة، كما يقدّم لنا شكري دكتاتور اسبانيا "فرانكو" في صورة بشعة تبرز لنا موقفه منه.

إنّ السيرة الذاتية تنطلق من الذات، وتعود إليها تنطلق باحثة عن أسئلة الوجود، عائدة بأجوبة أو بعض أجوبة، ولكنّها في انطلاقها وعودها لابدّ مارّة بالجماعة، مسائلة همومها وعللها، محاولة طرح رؤية أو رؤى جديدة، وهي بذلك تؤكد لنا أن معرفة "الأنا" لابدّ ضرورة أن تمرّ عبر الآخر، لا غرابة في ذلك ولا تناقض، بل هو أمر طبيعي، ذلك أنّ "السيرة الذاتية تقوم على ضرب من التوثيق مختلف عن اليوميات الخاصّة، هو التوثيق الذي ينبع من الذكريات"(45).

إن هذه السيرة الذاتية التي لها من الحياة موقف مخصوص لاشكّ أنّها تنظر إلى الموت أيضا من زاوية محدّدة، فكيف نظرت السيرة الذاتية عموما إلى الموت؟ وكيف رسم محمد شكري الموت في سيرته الذاتية؟ 

5 ـ السّيرة الذاتية: إماتة الموت والبعث الجديد:
لقد بحث جورج ماي في أوجه الإختلاف والإئتلاف بين جنسي السيرة والسيرة الذاتية معتبرا أن الموت هو أحد العلامات الفارقة بين الجنسين، فبينما يرد تصوير المشاهد المؤثّرة والمتعلقة بالموت في السيرة: موت الشخصية "البطلة"، لا نجد ذكرا لموت الشخصية في السيرة الذاتية لأنّ العمل السردي ينتهي دون أن تموت الشخصية، فالسارد يهدف من خلال تدوين سيرته إلى تحدّي الموت وهزمه "ولعلّ التقابل بين اليقين الذي يملأ على كاتب السيرة نفسه وبين الشك المحتوم الذي يلازم كاتب السيرة الذاتية، يتميز عن سائر الإعتبارات بأنه ببرز ما ينطوي عليه المشروع السيرذاتي في جوهره من طابع مأسوي"(46)، وكما كان الموت قد سجّل حضوره في "الخبز الحافي" بموت أخ السارد منذ الصفحات الأولى بطريقة وحشية على يد الوالدن فقد سجّل الموت حضوره أيضا في "الشطّار" إن على مستوى الأحداث(موت الأم وموت الأب) أو على مستوى القول عند استباق السارد لموت صديقه مختار واستباق موت الأب والأم، بل إنّ "الهرب خارج البيت، الهرب من العنف، من الأب ومن الموت هو موضوع السيرة كلّه"(47). كما يحضر الموت بكثافة من خلال الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالسارد مثل الشاب الذي انتحر فوق صخور ميناء طنجة، بل إن علاقة السيرة الذاتية لشكري بالموت انطلقت منذ الفصل الثاني "حين يفرّ السّادة يموت العبيد" حيث مات عبد الباشا. ولكنّ ما يشد الإنتباه هو أن السارد يحب الموت رغم قسوته وما يبعثه في النفس من ألم ورهبة، فهو يتساءل "لا أعرف ما يحفّزني دائما إلى التجوّل في المقابر؟ أهو سلامها أم هي عادتي أيّام نومي فيها أم حبّا في الموت؟"(ص 28). وهو يفضل مقابر القرن التاسع عشر لأنه يحب "الموت القديم" كما يقول.

ينهض الموت في "الشطّار" خيطا رفيعا ينتظم السيرة الذاتية، فيتجلى آنا ويختفي آونة، غير أنه يشدّ السيرة إلى بعضها كما يشدّها إلى جزئها الأوّل "الخبز الحافي"، ولكن السيرةالذاتية تحاول إعادة صياغة الحياة وتخليد الذات عبر الحرف، ولهذا نحن نتساءل: هل يحبّ شكري الموت حقا؟؟ فلم يهابه ويخشاه لو صحّ هذا؟ ولم يرى في شيخوخة "لوشوفاليي" البائسة صورة لنهايته المحتملة؟

أليست السيرة الذاتية بوصفها محاولة لإحياء الذات من جديد إحياء لا يصله الموت هي محاولة لهزمه والإجهاز عليه؟ أليست السيرة الذاتية هي السبيل الوحيد لإماتة الموت؟ 

6 ـ اللغة: وخز العراء، نعومة الترميز:
إن الكتابة السيرة الذاتية هي إعادة صياغة العالم بالكلمات، ولهذا تحتلّ اللغة أهمية بالغة في العمل السيرذاتي، لأنها ترسم عالما توهم بمطابقته للواقع، والقارئ كذلك يتعامل معه على هذا الأساس، فيحاسب المؤلف على مدى تطابق سيرته المكتوبة مع سيرته المعيشة، ولكنّ المؤلف لا يريد نسخ الواقع في عمله فهو "كائن يريد أن يحقق وجوده، ولن يتمّ له ذلك إلاّ بواسطة اللغة، إنه يتجاوز الرموز إلى خلق أنماط خيالية انطلاقا من شبكة الرموز ذاتها تلك التي تستقرّ في لا شعوره"(48)، أمّا لغة شكري فقد تميزت عن لغة كتّاب السيرة الذاتية في المشرق والمغرب بسفورها رغبة منها في تجاوز المكبوتات وتسمية الأشياء بمسمّياتها دون تورية أو مغالطة، إنها محاولة حقيقية لمواجهة الذات بعيوبها وتشوّهاتها "فاستطاع ( شكري) من خلال الاعتماد الكلي على الحسي مع أقل القليل من الاستقصاءات التأملية أو التعليقات الفكرية أو الفلسفية أن يقدّم لنا ما يعجز اللجوء إلى العقلي عن الإتيان به"(49)، فقد جعل شكري من "الشطّار" مسرحا للأجساد تعبر عن نفسها بنفسها دون تزويق أو تلميع للصورة فكان يحاول الاقتراب من لغة الصعاليك الذين يرسم حيواتهم، وقد وظف في عمله اللغة الإسبانية باعتباره تجاوز جهل الطفل الذي كأنه في "الخبز الحافي" ليصبح شابا مثقفا، ولكن هل حقا كانت لغة شكري عارية العبارة سافرة الدلالة؟

إن الذات التي تتحدث أثناء كتابة السيرة الذاتية ليست هي تلك التي عاشت في الماضي ولكنها ذات "المؤلف الراهنة"(50). إن هذا الفاصل الزمني بين الذات الموضوع والذات الكاتبة يجعل لغتها أكثر كثافة وبعدا عن المباشرتية، فلئن حاول شكري أن تكون لغته جارحة في صراحتها، مذهلة في بساطتها، تحاور الجسد أكثر ممّا تخاطب العقل، فإنها كانت في الآن نفسه ترسم انطباعاتها عن الوجود أو تأمّلاتها المنفلتة بين الحين والحين في لغة شاعرية آنا، حكمية آونة، تنأى عن الخطاب الطاغي، خطاب السفور، فيتجلى لنا شكري رومانسيا في قوله: "إن الحبّ مثلا لا يسحرني إلاّ إذا كان أسطوريا أتحدث عنه دون أن ألمسه أو أعانقه" (ص 172)، ويقول مرتديا قبعة الحكيم: "لقد بحثت عن لعبة الحياة ورمزها، لا عن حقيقتها؛ عن الغامض واللغز لا الواضح والبسيط، عن المجهول لا المعلوم" (ص 173). إنها لغة كثيفة وموحية هي أقرب إلى لغة الشعراء والحكماء، بعيدة عن لغة الشطّار والصّعاليك.

إن مراوحة لغة شكري وتردّدها بين البسيط المباشر، والرمزي الكثيف هو ما حقق لها التماسك والقوة، إنها في قوة الحياة ؛ بسيطة ولكنها لا تهبك نفسها من الوهلة الأولى، ساذجة ولكنها تحفر في أعماق ذاكرة القارئ، فتكون ميثاقا جديدا بين المؤلف والقارئ هو الميثاق الإبداعي المستفاد من الفن الروائي لا الميثاق السيرذاتي.: إنه اعتراف القارئ بعبقرية الكاتب.

7 ـ الشطّار سيرة ذاتية روائية:
إننا نجد أنفسنا ونحن على أعتاب النهايات- مضطرين إلى العودة إلى البدايات لنتساءل عن الجنس الأدبي للشطّار في ضوء كل ما تقدّم.

سنترك في البدء محمد شكري يقدم رأيه في عمله بنفسه، يقول في مفهومي للسيرة الذاتية الشطّارية: "إنها سيرة ذاتية روائية شطّارية"(51)، ويقول في موضع آخر: "هي سيرة ذاتية مروّاة أو سيرة ذاتية بشكل روائي"(52). إن محمد شكري يقر بأن عمله مزج بين السيرة الذاتية والرّواية، وقد رأينا من خلال بحثنا كيف خضعت "الشطار" لشروط السيرة الذاتية من ميثاق سيرذاتي وتطابق بين المؤلف والسّارد والشخصية وواقعية الأحداث إجمالا كما لاحظنا أيضا استفادة هذه السيرة الذاتية من الرواية من خلال التخييل الذي لوّن الوقائع والشخصيات وحتى الأمكنة وأحدث فوضى الأزمنة، وكذلك الحوار الذي كان حاضرا على امتداد السيرة الذاتية، ذلك أن السيرة الذاتية سليلة الرواية كما يرى جورج ماي فهي مستفيدة من التقنيات الروائية ومن بينها ذلك المزج بين النثر والشعر في "الشطار" والذي أضفى عليها صبغة روائية، ولذلك وسمها شكري بسيرة ذاتية روائية كما تركت المذكّرات بصماتها في هذا العمل باعتبارها الجنس الأقرب إلى جنس السيرة الذاتية، ويرى محمد الباردي أن اعتماد "الشطار" على شكل المذكرات كان كبيرا لدرجة أنه يعتقد عدم تفريق محمد شكري بين السيرة الذاتية والمذكرات فيخلط بينهما، إن استعمال صيغة المذكّرات في العمل السيرذاتي استعمالا متواترا "ولكن المسألة تبدو لنا أعمق في زمن الأخطاء (أي الشطار) إذ تتعلّق بطبيعة النص المكتوب، ذلك أن فصول الكتاب أشبه بالمذكرات المستقلة إذ أحيانا ينقطع التتابع الحدثي بينها"(53).  

إن الباردي يرى المزج كبيرا بين السيرة الذاتية والمذكرات في "الشطار" وهو ما جعله يعزو ذلك إلى لاوعي الكاتب وعدم وضوح الفرق في ذهنه أكثر ممّا يعتبره أمرا مقصودا مستندا في رأيه هذا إلى قول محمد شكري مثلا "أكتب الآن هذه المذكرات على نشيد السعادة في السمفونية التاسعة" (ص167) وهو يورد هذه العبارة المذكرات- عديد المرات في "الشطار" ولكن يبقى موقف الباردي مجرّد احتمال ذلك أن شكري بإيراده للفظة "مذكرات" واستعماله لصيغة المضارع إنّما يحاول ترهين المسائل والعودة بالقارئ إلى زمن الكتابة وليس في ذلك ما يؤكّد خلط شكري بين المذكرات والسيرة الذاتية، ولكن الأرجح هو أن استفادة شكري من الرواية هي التي جعلته يوظف شكل المذكّرات باعتبار السيرة الذاتية قد أخذت عن الرواية استيعابها الأجناس الأدبية الأخرى "فالسيرة الذاتية جعلت ما استعارته (من الأجناس الأخرى ) أمرا مختصّا بها من جميع الوجوه: إذ أنّها احتفظت به وكيّفته مع احتياجاتها"(54) .

إن امتزاج الأشكال الأدبية المختلفة داخل السيرة الذاتية هو ما حقق لها الثراء أسلوبا ودلالة وهو الذي حدا ببعضهم إلى اعتبار أنّه "لا سبيل للحديث عن نقاوة هذا الجنس الحديث وعن نمذجته"(55) ولكن هذا لا يضعف من قيمة العمل السيرذاتي، إضافة إلى أنّه لمّا كانت السيرة الذاتية سيرة لحيوات أشخاص لا سبيل إلى تشابهها كان لزاما أن يسم الاختلاف السيرة الذاتية وأن تكون لكلّ سيرة مياسمها الخاصّة وعلاماتها الفارقة. 

خاتمة:
لئن كانت مشكلة التجنيس قائمة بالنسبة للسيرة الذاتية لحداثتها فنا أدبيا ولقلّة تناولها بالبحث والمدارسة، فإنّ هذا المشكل التجنيس- يظلّ ماثلا في أعمال أدبية أخرى غير السيرة الذاتية لعلّ الأعمال الروائية أبرزها، وذلك راجع لانفتاح هذه الأعمال الروائية، والسيرة الذاتية باعتبارها سليلة لها. على أشكال أدبية متعددة واحتضانها لفنون مختلفة وهو ما يتطلّب مرونة في التعامل مع هذه الأعمال لشفافية حضور الأمارات الأجناسية وتشابكها وهو ما يستبعد الحسم والقطع أثناء التجنيس، ولكن هذا لا ينفي استقصاء العلامات الاجناسية في عمل ما لمعرفة المفيد من سماته والمحدّد من شروطه وهو ما حاولنا القيام به أثناء البحث في "الشطار" بوصفها عملا سيرذاتيا روائيا مزج بين تقنيات هذا وذاك فنهض عملا مخصوصا دالا على خصوصية صاحبه الإبداعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
1- شكري محمد- الشطّار , دار الساقي , ط 6 بيروت , لبنان 200  
2- الربيعي , عبد الرحمان مجيد , من سومر إلى قرطاج , دار المعارف للطباعة والنشر , سوسة , تونس , جانفي 1997 ص 82  
3- المخزنجي ,محمد , المغرب ...عناق البرّ والبحر , مجلة العربي , الكويت , نوفمبر 1995 ص 50  
4- يود محرر (الكلمة) أن يضيف هنا هامشا يساهم في ربع بعض هذا اللبس: فقد كنت في زيارة للمغرب عام 1991 وذهبت لطنجة حيث التقيت محمد شكري الذي أخبرني بأنه انتهى من كتابة الجزء الثاني من سيرته الذاتية، وقدم لي المخطوطة كي آخذها إلى لندن لتنشرها دار الساقي، وطلب مني أيضا أن أكتب لها مقدمة. وقدمت المخطوطة عند عودتي للناشر الذي دفع بها على الفور للطباعة، ولما تأخرت في إنجاز المقدمة اعتذر عن إدراجها في بداية الكتاب، لأنه بدأ فعلا في طبع ملازمه الأولى واقترح أن يدرجها في نهايته، وهذا ما كان. كان النص الأول الذي دفع به محمد شكري للنشر بعنوان الشطار الذي صدرت به طبعة لندن. بعد ذلك، وحينما اراد شكري إصدار طبعة مغربية للشطار اقترح عليه صديقه، وصديقي أيضا محمد برادة أن يغير العنوان لزمن الأخطاء، فوافق شكري على ذلك، وهكذا صدرت الطبعة الثانية بعنوان مغاير، وربما تكون هذه هي جناية محمد برادة على هذا النص، حيث تصور أن زمن الأخطاء كعنوان أفضل من الشطار باستدعاءاتها التراثية، بينما كان زمن الأخطاء حقا هو زمن الجزء الأول من السيرة (الخبز الحافي) أما الجزء الثاني (الشطار) ففيه تصحيح مسار حفل من قبل بالأخطاء. أما كتابة رواية على صفحة الغلاف الأولى فهذا اجتهاد من الناشر، لو كان النشر عندنا يعتمد الدقة والصرامة لأغنانا عنه. هذا مجرد توضيح من كاتب مقدمة الطبعة الأولى أو بالأحرى تذييلها. (صبري حافظ)
5- شكري محمد , مفهومي للسيرة الذاتية الشطارية ,, ضمن كتاب الرواية العربية واقع وآفاق , دار ابن رشد , بيروت 1981 ص 241 
6- ماي , جورج , السيرة الذاتية ص 225  
7- المرجع نفسه ص 83  
8- المرجع نفسه ص 84  
9- حافظ , صبري , البنية النصّية لسيرة التحرّر من القهر, ملحق ضمن كتاب " الشطار" لمحمد شكري ص 241  
10- المرجع نفسه , ص 242  
11- ماي , جورج , السيرة الذاتية , ص 85 
12- باردي , محمد , السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث , حدود الجنس وأشكاله , مجلّة فصول , مجلّد 16 , عدد3 , شتاء 1998 ص 73
13- ماي , جورج , السيرة الذاتية , ص 94 
14- المرجع نفسه , ص 96 
15- لحميداني , حميد , في التنظير والممارسة , منشورات عيون , الدار البيضاء , 1986 ص 205 
16- فاضل , جهاد , أسئلة الرواية , حوار مع محمد شكري , الدار العربية للكتاب , د ت ص 205  
17- فريجات . عادل , الروائي المغربي محمد شكري وسيرته الذاتية الروائية , مجلة علامات , ديسمبر 1998 ص 79  
18- حافظ , صبري , البنية النصّية لسيرة التحرّر من القهر, ملحق ضمن كتاب " الشطار" لمحمد شكري ص 240 
19- بن جمعة بو شوشة , اتجاهات الرواية في المغرب العربي , المغاربية للطباعة والنشر والإشهار , تونس 1999 ص 152  
20- المرجع نفسه ص 154 
21- بحراوي , حسن , بنية الشكل الروائي , المركز الثقافي العربي , الدار البيضاء , ص 93 
22- فريجات . عادل , الروائي المغربي محمد شكري وسيرته الذاتية الروائية , مجلة علامات ص76  
23- لحميداني , حميد , في التنظير والممارسة , ص70 
24- أنظر برادة , محمد , من مقدمة الطبعة المغربية للشطار تحت اسم "زمن الأخطاء" سنة 1992 
25 - حافظ , صبري , البنية النصّية لسيرة التحرّر من القهر, ملحق ضمن كتاب " الشطار" لمحمد شكري ص238  
26- أنظر حواره مع جهاد فاضل ضمن كتاب أسئلة الرواية ص 203  
27- فريجات . عادل , الروائي المغربي محمد شكري وسيرته الذاتية الروائية , مجلة علامات ص 73 
28- تواتي مصطفى , المثقفون والسلطة في الحضارة العربية (الدولة البويهية نموذجا) , منشورات المعهد العالي للغات , ج 2 تونس 1999 ص 152
29 - حافظ , صبري , البنية النصّية لسيرة التحرّر من القهر ....ص 221 
30 - بن جمعة بو شوشة , اتجاهات الرواية في المغرب العربي ....ص 165
31- حافظ , صبري , البنية النصّية لسيرة التحرّر من القهر ....ص 235  
32- انظر عادل فريجات, الروائي المغربي محمد شكري وسيرته الذاتية الروائية , مجلة علامات ص74  
33- حافظ , صبري , البنية النصّية لسيرة التحرّر من القهر ....ص 237 
34 - بن جمعة بو شوشة , اتجاهات الرواية في المغرب العربي ....ص155
35- أنظر برادة , محمد , من مقدمة الطبعة المغربية للشطار تحت اسم "زمن الأخطاء" 
36- التازي , عزالدين , شجرة الرواية في معنى الكتابة وفضاءات التجربة , ضمن كتاب ملتقى الروائيين العرب الاوّل , مهرجان قابس دار الحوار , سورية 1983 ص 78  
37- شرف ( عبد العزيز) ، أدب السّيرة الذاتية ، ط1، مكتبة لبنان، الشّركة المصريّة العالمية للنشر،لونجمان 1992. ص 5   .
38- الباردي (محمد) ، السيرة الذاتبة في الأدب العربي الحديث، حدود الجنس واشكالاته، مجلة فصول ، مجلد16، عدد3، شتاء 1998،ص 76. 
39 - فريجات(عادل)، الروائي المغربي محمد شكري وسيرته الذاتية الروائية، مجلة علامات،ديسمبر 1998، ص67.  
40 - ماي(جورج)، السيرة الذاتية، ص 176. 
41- شرف( عبد العزيز)، أدب السيرة الذاتية، ص 17. 
42-المرجع نفسه ، ص 23.  
43- لحميداني (حميد) ، في التنظير والممارسة ، ص61.  
44 -شكري (محمد) ، مفهومي للسيرة الشطّارية، ص 323.  
45- ماي (جورج) ، السيرة الذاتية، ص 86.  
46- المرجع نفسه، ص 174.  
47- حافظ(صبري) ، البنية النصية لسيرة التحرّر من القهر، ص 229.  
48- لحميداني(حميد) ، في التنظير والممارسة، ص 64.  
49 - حافظ(صبري) ، البنية النصية لسيرة التحرر من القهر، ص 226 .
50- لحميداني(حميد)، في التنظير والممارسة، ص 67.  
51- شكري(محمد) ، مفهومي للسيرة الذاتية الشطّارية ، ص 321.  
52- فاضل (جهاد)، أسئلة الرواية، ص203.  
53- الباردي (محمد) ، السيرة الذاتبة في الأدب العربي الحديث، حدود الجنس واشكالاته، مجلة فصول ، مجلد16، عدد3، شتاء 1998،ص 73 
54- ماي(جورج)، السيرة الذاتية، ص 210 
55- الباردي (محمد) ، السيرة الذاتبة في الأدب العربي الحديث، حدود الجنس واشكالاته، مجلة فصول ، مجلد16، عدد3، شتاء 1998،ص78