تتفصى دراسة الباحث المصري جدل العلاقة بين الشفاهي والمكتوب في الثقافة العربية وتسعى للتعرف على طبيعة القطيعة التي عرفتها الثقافة العربية بسبب هذا الجدل.

الثقافة العربية والسرد

سؤال العلاقة بين الشفاهية والكتابية

سيد ضيف الله

يجدر البدء بالإشارة إلى أنه يصعب الفصل بين مفهومي السرد الكتابي والسرد الشفاهي سواء نظرياً أو تطبيقياً، إذ يستدعي الحديث عن أحدهما الآخر، ليتضح به وتتحدد باختلافاته عنه خصائصه، كما لا يخلو في الغالب السرد الكتابي من أثر لموروثات السرد الشفاهي عليه. فليس ثمة سرد كتابي محض يمكن الحديث عنه نظريا بشكل منفصل ومستقل، كما أنه لم يعد ثمة سرد شفاهي محض لا أثر للكتابة عليه، منذ أن عُرفت الكتابة فضلا عن لواحقها الطباعية. ومن ناحية ثانية، تجدر الإشارة أيضا إلى ضرورة التفرقة بين ثنائية "الشفاهية والكتابية"، وثنائية "اللغة واللهجة". ويلزم لفك هذا الاشتباك بين اللهجة والشفاهية التأكيد على ثلاث ملاحظات:

1 ـ أن الشفاهية ليست مرادفة للهجة، فعند وصف اللهجة نستطيع التغافل عن خصائص اللغة المنطوقة، فملامح الشفاهية لا يجب الخلط بينها وبين العناصر المختلفة للغة المنطوقة.

2 ـ عند تمثيل اللهجة كتابة ليس من الضروري أن نجد فيها الخصائص الشفاهية، فالمؤلف بالعامية يستطيع أن يقدم نصه خاليًا من الإسهاب، وبعيدًا عن الارتجال، ومخططاً بإتقان.

3 ـ أن لغة الكتابة Literacy Language أو اللغة العربية المعيارية المعاصرة Modern Standard Arabic تكشف عن وجود ملامح شفاهية بها(1).  

الشفاهية والكتابية وأشكال متغيرة من العلاقات:
"لم نزعم أن العرب كلها، مُدراً ووبرا، قد عرفوا الكتابة والخط والقراءة، وأبو حّية (النّميريّ الذي لم يعرف الكاف) ـ الكتابة ـ كان أمس، وقد كان قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخط ويقرأ، وكان في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم كاتبون .. أفيكون جهل أبي حية بالكتابة حجة على هؤلاء الأئمة؟"(2). 

هذا قول سديد لابن فارس في مسألة معرفة عرب الجاهلية بالكتابة، يحوز إعجاب ناصر الدين الأسد لتضمنه حجة عقلية على معرفة عرب الجاهلية بالكتابة، لكنه يمكن أن يكشف عند تأمله عن وجه شبه بين حال العرب في الجاهلية وحالهم في بدايات القرن الحادي والعشرين الميلادي، ممثلا في كونهم تجمعا بشريا تكاد نسبة الجاهلين بالكتابة والقراءة فيه تساوي نسبة العارفين لهما، غير أن الفارق بيننا وبين ابن فارس أنه استنكر أن يكون وجود الجاهل حجة على عدم وجود العارف بالكتابة، بينما نحن لا نستطيع أن ننكر وجود العارفين بالكتابة في الوقت الراهن، لكنه وجود يتجاور مع وجود قوي للجاهلين بالكتابة. خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار الحقبة التاريخية الطويلة التي تصل إلى سبعة عشر قرنا تقريبا من الجاهلية حتى الآن. إن مجتمعاً لم تغب الأمية عنه لحظة من لحظات تاريخه الطويل ـ أو على الأقل نجح في حصرها في حيز ضيق ـ كان من الطبيعي أن ينتج آدابه شفاهة وكتابة، بل وأن تستمر إلى اللحظة الراهنة.

وطبيعيٌ كذلك أن تنتج النخبة الثقافية ـ الأدبية فكرها وأدبها وفق علاقتها بـ "الجمهور ـ السلطة ـ النموذج الكتابي في الغرب/ الشمال" ليحدد ناتج هذه العلاقات ملامح النخبة الأدبية والفكرية. ولا شك أن هذه العلاقات تعكس مفهوم الأدب ووظيفته في ذهن النخبة، وبالتالي المتلقي المستهدف الوصول إليه. ويبدو أن ناتج هذه العلاقات، كان في كثير من فترات تاريخ الأدب العربي، يشير إلى وجود معوقات تصد المخيلة العربية أو على الأقل تنحرف بها عن الإبداع. ويمثل الاستبداد العائق الأكبر أمام الأدب، حتى أن جرجي زيدان يميز بين مفهومين للأدب أحدهما عربي والآخر غربي، على أساس مناهضة الاستبداد، فأدب العرب يسعى لمرضاة الخلفاء والأمراء، أما أدب الإفرنجة فيشتمل "على روح انتقادية هي المراد الأصلي من علم الأدب عندهم لا العبارة والأسلوب وهذا نادر في أدباء العرب لانصراف قرائحهم في صدر دولتهم إلى إرضاء الخلفاء أو الأمراء من مدح أو هجاء، على ما كانت تقتضيه الأحزاب السياسية، أو يشبّبون بما يطرب الخليفة أو الأمير لأنه على رضاه يتوقف رزقهم."(3).

إن ملاحظة نسبة الأمية و"وظيفة الأدب" في الثقافة العربية تطرح سؤالا حول طبيعة العلاقة بين الشفاهية والكتابية في الثقافة العربية. وإذا كانت الشفاهية عادة ما يتم النظر إليها باعتبارها ظاهرة طبيعية فطرية(4)،  فإن النظر إلى مفهوم الكتابة لا يمكن أن يكون إلا بوصفه نتاج ثقافة. ومن ثم نحرص هنا على النظر إلى مفهوم الكتابة في إطار الثقافة العربية بشكل أساسي، فمفاهيم الكتابة نتاج ثقافي قد تشترك الثقافات في وجوده، لكن ليس بالضرورة أنها تشترك في كيفياته.

إن المعاني التي يمكن استخراجها من مادة (كَتَبَ) حسب ابن منظور(5) يمكن قراءتها في ضوء تمثيلها لأحد أنماط الكتابة في الثقافة العربية. وهو أن الكتابة هي كتابة لأنها عملية جمع حرف إلى حرف، مثلها مثل أي عملية جمع بين شيئين عرفها العرب (تَكتبت الخيلُ أي تجمعت)، و(يقال: اكْتُبْ بَغْلتَك، وهو أن تضم شفريها بحلقة)، هذا من حيث ماهية الكتابة، أما كيفيات استخدامها في هذا النمط من أنماطها، فنجد أنها:الخطّ (كتّبه: خطّه)، والنسخ (الكِتْبةُ: اكتتابك كتابا تنسخه)، والإملاء (اكْتِبْنِي هذه القصيدة أي أمْلِها عليَّ). وقد كان هذا النمط من الكتابة هو قرين المعرفة والعلم، وقد فسّر ابن منظور ذلك بأن الغالب على من كان يعرف الكتابة، أن عنده العلم والمعرفة، خاصة وأن عدد من يعرفون الكتابة بينهم قليل. وقد استمر هذا الربط بين الكتابة والمعرفة وإن تغير كلا المفهومين عبر تاريخ الثقافة العربية.

لا يريد الباحث أن   يفرض على مفاهيم الكتابة في الثقافة العربية رؤية تأريخية ضيقة بالربط بين مفهوم معين للكتابة وبمرحلة تاريخية محددة (الجاهلية ـ صدر الإسلام ـ العصر الأموي ـ العصر العباسي إلخ)؛ ذلك أن الظواهر الثقافية لا تتبع خط سير الزمن السياسي؛ وعلاقات مفاهيم الكتابة بين بعضها البعض من ناحية وبينها جميعا، وبين مفاهيم الشفاهية لا تنتمي للزمن السياسي الذي يحدد به قيام دولة وسقوط أخرى. كما يعتقد الباحث في أن كل شكل من أشكال الكتابة، وكل شكل من أشكال الشفاهية كان موجودا في لحظة تاريخية مضت، إنما هو موجود كذلك في اللحظة التاريخية الراهنة، غير أن هيمنة شكل من أشكال الكتابة وهيمنة شكل من أشكال الشفاهية هي التي توهم بعدم وجود بقية أشكال الكتابة وبقية أشكال الشفاهية. ومن الطبيعي ألاّ تكون أشكال الكتابة وأشكال الشفاهية، التي عرفها العصر الحديث حاضرة في اللحظة التاريخية، التي مضت من تاريخ الثقافة العربية، لكن من المؤكد أن تشابك أشكال ممكنة من الكتابة وأشكال ممكنة من الشفاهية مع البنيات الاجتماعية والذهنية والثقافية يفضي إلى إنتاج أشكال جديدة لم تكن ممكنة قبل لحظة التشابك وربما أثنائها، وإنما أعلنت عن نفسها نتيجة لهذا التشابك.

إذن، ينبغي تحديد الشكل المهيمن من بين أشكال الكتابة في محطات الثقافة العربية، حتى يمكن تحديد أشكال التأليف الكتابي في الثقافة العربية. ونعتقد أنه يمكن تحديد ثلاث محطات:

1ـ الكتابة باعتبارها مخطوطة. Manuscript.
2ـ الكتابة باعتبارها الممكن طبعه Printable
3ـ الكتابة الرقمية  Digitalباعتبارها من أدوات المعلوماتية Informatics.

تعرف الثقافة العربية الأشكال الثلاثة للتأليف الكتابي في اللحظة الراهنة، لكن الشكل المهيمن هو الشكل الثاني؛ الممكن طبعه Printable. ومن الطبيعي أن يكون لكل شكل من تلك الأشكال خصائصه الأسلوبية، ونموذجه الجمالي، وسمات خاصة لمؤلفه، وقارئه.

إذن، ملاحظة تعدد أشكال التأليف الكتابي وكذلك ملاحظة تعدد أشكال التأليف الشفاهي تدفع لرفض عدد من التصورات المطروحة حول طبيعة العلاقة بين الشفاهية والكتابية في الثقافة العربية. حيث استخدم أدونيس تعبير "الثورة الكتابية الأولى" ليصف لحظة معرفية هامة في تاريخ الثقافة العربية وهى لحظة نزول الوحي، ويذهب إلى أنّ القرآن "نهاية الارتجال والبداهة نهاية البداوة وبدء المدنية، إنه بداية المعاناة والمكابدة و"إجالة الفكر". القرآن إبداع للعالم بالوحي (من حيث أنه تصورٌ جديد للعالم) وتأسيس له بالكتابة"(6). كما يستخدم الطيبي مفهوم القطيعة، والذي يعني أنّ "هذا الطرح القرآني يقلب تمامًا عناصر الوجود الجاهلي أهدافاً وغايات ووسائل"(7)، ويفيض الطيبي في رصد مظاهر هذه القطيعة في شكل ثنائيات؛ فعلى المستوى العقائدي نجد ثنائية (تعدد الآلهة/ التوحيد)، وعلى المستوى الاجتماعي (العصبية القبلية/ الأمة)، وعلى المستوى اللغوي (التعدد اللغوي/ لغة القرآن)، وعلى المستوى العقلي (الفطرة/ التفكير) وعلى المستوى الأدبي (الشعر/ القص).

يبدو أنّ وصف أثر فعل كتابة القرآن بـ"القطيعة"، أو ما شابهها من مفاهيم مثل "الثورة الكتابية"، لا يثبت أمام أي فحص لطبيعة العلاقة بين الشفاهية والكتابية في هذه المرحلة أو في غيرها من المراحل، فالبديهي أنه يستحيل قبول أي حديث عن ثورة كتابية في ظل ما تؤكده المرويات الإخبارية من أن العارفين بالكتابة في مكة في صدر الإسلام لم يتجاوز عددهم بضعة عشر، أكثرهم من الصحابة حتى أن جرجي زيدان يذكر أسماءهم(8)، مما جعل من لقب "القراء" في صدر الإسلام موضع تميز لهم عن سائر المسلمين، فضلا عن أن الخط العربي لم يستكمل شروطه (مثل وضع الرموز التي تدل على الحركات، إضافة النقط إلى رسم المصحف) إلا خلال النصف الثاني من القرن الأول الهجري، فليس بين عشية وضحاها تحدث الثورة الكتابية، وتتحقق القطيعة، كما أنه يستحيل قبول فكرة القطيعة التي أحدثها فعل كتابة القرآن حتى بعد استكمال الخط العربي لشروطه؛ وذلك لأن الكتابة لا أثر لها على الذهنية ما لم تتوفر أهم أدواتها المعينة لها على ذلك؛ ونعني بها الورق، الذي يشترط أن يكون متاحاً بوفرة ورخيص الثمن حتى تحدث الكتابة فعلها في الذهنية عبر انتشار فعل القراءة، ولم يتحقق ذلك إلا بنشوء أول مصنع للورق في بغداد في عهد هارون الرشيد، فقد عرفت بغداد صناعة الورق "نحو عام 794م، وصنع في مصر عام 900م ."(9).

يتضح أنه لم يكن ثمة قطيعة بالمفهوم المتعارف عليه، ولم يكن ثمة انتقال من الشفاهية إلى الكتابية، ولكن ما كان بالضبط هو "مناوشة" Scrimmage الكتابة (باعتبارها أبجدية Alphabet) للسيادة شبه المطلقة للشفاهية (الأصلية/ المطلقة)، وفعل "المناوشة" هذا يعني التعايش Coexistence؛ الذي ينطوي على اعتراف بالطرف الآخر كأمر واقع، وصراع غير ملحوظ في آن. وعندما يرسخ فعل (الكتابة باعتبارها مخطوطة Manuscript) وينتشر؛ وذلك عندما يتم تصنيع الورق ويتوفر بثمن بخس، يتحول فعل "المناوشة" إلى"فعل المنازعة" Dispute، حيث تتخذ العلاقة شكل الصراع الواضح حين تبدأ الكتابة (المخطوطة) في منازعة الشفاهية (الثانوية) في سيادتها؛ وذلك عندما تبدأ في التحول من وضع الأداة (الكتابة المخطوطة) التي تدون نتاجات الذهنية، التي تبلورت في إطار الثقافة الشفاهية (الأصلية والثانوية)، إلى وضع الأداة (الكتابة التي تتشكل من خلالها ثقافة كتابية تربك وتزعزع الذهنية ذات المنظومة المعرفية الشفاهية)، ثم يتم الانتقال من وضع "المنازعة" إلى وضع "السيادة المضادة"، وذلك عندما تزداد الكتابية رسوخًا وانتشارًا بظهور"المطبعة"(10)، فتتمكن "الكتابة" بمساعدة المطبعة من نزع السيادة عن الشفاهية، وتحقيق سيادة مضادة للمنظومة المعرفية الشفاهية ونموذجها الجمالي، وهنا فقط يمكن الحديث عن "ثورة كتابية"، وعن "الكتابة بوصفها قطيعة معرفية" الخ، مع الوضع في الاعتبار أن مفهوم "السيادة المضادة" لا ينفي استمرار حضور الشفاهية، بل يؤكده ويؤكد مفهوم "القطيعة" بين طرفي ثنائية  "الشفاهية والكتابية" في آن؛ إذ يتحدد مفهوم "القطيعة" في تاريخ العلاقة بين الشفاهية والكتابية بأنه "تبادل مواقع"، بأن يقتصر دور الشفاهية على مناوشة السيادة شبه المطلقة لفعل الكتابة، أي أن حضور الشفاهية يتحقق من خلال قيامها بفعل المناوشة، بل يصل إلى المنازعة في نمط الكتابة/ المعلوماتية والذي يتزايد انتشاره في الثقافة العربية، والمدهش في الأمر أن هذا النمط من التأليف الكتابي المعلوماتي له خصائص الشفاهية / المأثورات الشعبية، حتى أن ألن ديندس Alan Dunds يرى في الناسوخ والبريد الإلكتروني ورسائل الهاتف المحمول ولغة البحث عن أي موضوع في الإنترنت "طبيعة فولكلورية"(11)؛ إذ نلاحظ معه أن الجملة الواحدة متعددة بتعدد استخداماتها ومتغيرة في آن في جوانب معينة تسمح لها بالتكيف مع كل استخدام. وبهذا المعنى أيضا ينبغي أن يوضع مفهوم "القطيعة" موضع سؤال.

ولعل ما يدعم هذه الرؤية أن المرويات التاريخية التي تذخر بها كتب التراث حول المنازعة بين الكتابة والمشافهة، إنما هي منازعة الكتابة (المخطوطة) للشفاهية (الأصلية بتعبير أونج، والمشتركة بتعبير زومتور؛ أي التي يشترك فيها جموع الأميين ويكون تأثير الكتابة عليهم محدودا) وقد بدأت مع نهايات القرن الأول الهجري(12) . ولم تنته حتى يوم الناس هذا. وتكون نتيجة هذه المنازعة ليس شطر المجتمع إلى شطرين فحسب، بل شطر الفرد إلى كيانين متنازعين بداخله. فابن يسار الرياشي (ت 210هـ) تجسيد لهذه الحالة من التعايش بين متنازعين، وقد أنشد شعرا يعبّر فيه عن حالته، بل عن حالة مجتمعه في القرن الثاني الهجري. ولم تكن هذه الحالة لتنتهي عند القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)؛ إذ نجد في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) تجربة أبي حيان التوحيدي (ت 414هـ) في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" نموذجًا لعلاقة المنازعة بين الشفاهية والكتابية؛ إذ نجده منشغلا باختلاف بلاغة اللسان عن بلاغة القلم، لدرجة أنه يوجهها مسألة إلى مسكويه في كتابهما "الهوامل والشوامل"،:

"لمَ صارت بلاغة اللسان أعسر من بلاغة القلم؟ وما القلم واللسان إلا آلتان، وما مستقاهما إلا واحد، فلم نر عشرة يكتبون ويجيدون ويبلغون، وثلاثة منهم إذا نطقوا لا يجيدون ولا يبلغون؟ والذي يدلك على قلة بلاغة اللسان إكبار الناس البليغ باللسان أكثر من إكبارهم البليغ بالقلم. 

الجواب
قال أبو علي مسكويه رحمه الله
ذاك لأن البلاغة التي تكون بالقلم تكون مع رويّة وفكرة وزمان متسع للانتقاد، والتخيّر والضّرب، والإلحاق، وإجالة الرّوية، لإبدال الكلمة بالكلمة. ومن تباده بالكلام متى لم يكن لفظه، ومعناه متوافيين عرض له التتعتع والتلجلج وتمضغ الكلام، وهذا هو العيُّ المكروه المستعاذ منه "(13).

والحقيقة أن إجابة مسكويه ليست مجهولة عند التوحيدي، مثل غيرها من المسائل التي طرحها عليه، ولعل شكل السؤال والجواب في تأليف الكتب له دلالته على المنازعة بين الكتابة المخطوطة والشفاهية الأصلية، فبينما نحن بصدد كتابة ومسائل عميقة في الطبيعيات والإلهيات والإنسانيات، فإن شكل التأليف، (السؤال والجواب) والذي جئ به بغرض إثبات عجز مسكويه الفكري، يؤكد على حال المنازعة بينهما في تلك اللحظة الثقافية. وهو ما تأكد للتوحيدي عملياً في "الإمتاع والمؤانسة"، حين طلب منه أبو الوفاء المهندس أن يكتب ما سبق أن قام بحكيه في مجلس وزير من وزراء بني بويه، مشترطاً عليه تطابق المنطوق والمكتوب، وفي نفس الآن إخراج المكتوب على شروط تضمن بلاغته وتتأسس عليه جماليته(14). وبسبب فضل أبي الوفاء المهندس عليه، قِبلَ التوحيدي المهمة، مستندا على نظرة من يرى الكتابة تمثيلا للمنطوق. فيحاول تقريب المنطوق إلى المكتوب، لكنه يكتشف استحالة مهمته؛ لأن "الخوض في الشيء بالقلم مخالف للإفاضة باللسان، لأن القلم أطول عنانا من اللسان وإفضاء اللسان أحرج من إفضاء القلم"(15) ، أي أن التوحيدي خلص من تجربته بأن منطق التأليف الكتابي مخالف لمنطق التأليف الشفاهي، وأن منطق التأليف الكتابي إذا ما طال مادة من مواد التأليف الشفاهي وتعامل معها فإنه لا يقبل إلا أن يفرض عليها قوانينه هو، لتغدو جزءا لا يتجزأ منه. إن تجربة التوحيدي تؤكد أن علاقة المنازعة لم تكن حقيقة قاصرة على حضور كمي لدعاة الشفاهية أو لدعاة الكتابة، وإنما المنازعة في جوهرها هي بين مفاهيم التأليف، إذ لا يكون واردا في ظل علاقة المناوشة (بين الكتابة بوصفها أبجدية والشفاهية الأصلية) أن يكون ثمة منطق مستقل للتأليف الكتابي، وإنما الوارد إلى الذهن أنها مجرد تمثيل للمنطوق. وهذا خلافًا لمرحلة المنازعة (بين الكتابة المخطوطة وبين الشفاهية الأصلية والثانوية)، إذ يتنازع مفهوم التأليف الكتابي بوصفه تمثيلا للتأليف الشفاهي مع مفهوم التأليف الكتابي بوصفه نمطا من التأليف له منطقه الخاص به والمفارق لمنطق التأليف الشفاهي استنادا لاختلاف نمط إنتاج كل منهما.

ولم تحسم المنازعة في القرن الرابع الهجري كما ظن القاضي، استنادًا لما رصده من مرويات(16)، إذ نجدها تمتد إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) استنادا لما يرويه ابن أبي أصيبعة(17) من مناظرة تمت بين ابن بطلان مدافعاً عن الشفاهية، وابن رضوان مدافعاً عن الكتابية، لكن الجدير بالملاحظة هو انحياز ابن أبي أصيبعة لابن بطلان المدافع عن المشافهة، وأن دفاع ابن بطلان عن المشافهة لم يستند على الموروث الديني والاجتماعي، وإنما على خصائص الشفاهية مقارنة بالكتابية، وقد ذكر د. عبد الله إبراهيم هذه الخصائص:

الأولى: اقتران الصوت بالحياة واقتران الحرف بالموت.
الثانية: اشتقاق لفظ "المعلم" من "التعليم".
الثالثة: قدرة الشفاهية على التفسير وانعدامها في الكتابة.
الرابعة: تسويغ الفكر اللغوي القديم للشفاهية.
الخامسة: تناسب الحواس.
السادسة: عيوب الكتابة العربية.

يتضح بذلك أنه يمكن القول أن المنازعة بين الشفاهية والكتابية فى تاريخ الثقافة العربية قد وصلت لذروتها التفاعلية، دون التأكيد - كما فعل د. عبد الله إبراهيم على أن ثمة نظرية عربية تؤسس أو تسّوغ للشفاهية(18)؛ فهذه المناظرة في هجومها القوي والدقيق على الكتابية، ودفاعها المستميت عن الشفاهية، تدل بطريق غير مباشر على أن العلاقة بين الشفاهية (الأصلية والثانوية) والكتابية (المخطوطة) قد وصلت إلى مرحلة منازعة الكتابة (المخطوطة) للشفاهية (الأصلية) في سيادتها، وقدرتها على أن تكون الأداة المناسبة لتناقل المعارف الجديدة، وليس أدل على ذلك من طبيعة النقد الموَّجه للكتابة؛ إذ يكشف عن ممارسة عميقة لها مكنت من تحديد جوانب النقص والقصور فيها، لكن الارتداد للشفاهية لمواجهة جوانب النقص في الكتابة وإن كان يكشف عن استمرار الشفاهية كنمط اتصالي وأداة لنقل بعض المعارف، فإنه يمثل إحدى الإمكانات، التي طرحها تاريخ العلاقة بين الشفاهية والكتابية في وقت الذروة التفاعلية، والتي تتحقق بفعل تقارب الطرفين المتصارعين لدرجة الالتحام، والتحامهما لدرجة التداخل، فثمة إمكانات أخرى لمواجهة بعض جوانب النقص في الكتابة، من وقوع تحريف فيها أو أخطاء النسّاخ، وقد عرفت الثقافة العربية هذه الإمكانات وحرصت على أن تكمل بعضها بعضا؛ نظراً لأن خطورة التحريف والخطأ في الكتابة تكمن في افتراض أنها في حد ذاتها حجة على الصحة، فلما تبين خلاف ذلك أحيانا، لزم وجود إمكانات تصون من الخطأ وتكشف عن التحريف، دون التنكر لفعل الكتابة كلية، فكان أن أصبحت الذاكرة الحية رقيبا على المكتوب، يستمد منها سند صحته، أما الإمكانية الثانية فتتمثل في أن يراقب المكتوب بالمكتوب، وذلك بأن يكتب كل من يحرص ألا تصل يد التحريف والتزييف إلى ما يكتبه، مكتوبا أصلياً ويستودعه عند أهل الأمانة للرجوع إليه إذا احتاج القارئ ذلك، أما الإمكانية الثالثة فتتمثل في التمييز بين المخطوطات بحسب الورّاق الذي كتبها(19).

ويتضح أن الإمكانات الثلاث تشير إلى السمة الأساسية للعلاقة بين الشفاهية والكتابية في هذه المرحلة، وهي التعايش المنطوي على صراع، ويبدو أن الصراع لم يكن ليحسمه الانحياز لأي من الطرفين؛ إذ يحتاج، إلي جانب ذلك إلى أدلة عملية لإثبات أن هذا الطرف الذي يتم الانحياز إليه هو الأقدر على القيام بالوظائف المنوط بها. فانحياز الجاحظ للكتابية الذي دفعه لرفض أن تكون الشفاهية رقيبًا على الكتابية، لم يكن كافيًا على الإطلاق لتحقيق هدفه مادام الحل الذي يطرحه تمنعه معوقات كثيرة من التحقق؛ وذلك لأنه يكاد يكون حلاً مثالياً يتعالى على واقع العلاقة بين الطرفين المتصارعين.

فهذه الطريقة التي يقترحها الجاحظ ـ مراقبة المكتوب بالمكتوب ـ "لا يمكن استخدامها في جميع الأحوال؛ إذ يتعين أن تنعقد لها أسباب منها رغبة المؤلف وقدرته على كتابة نسخ متعددة أو على الأقل تمكنه من مراجعتها، ووجود أهل الأمانة"(20) .

فمراجعة المكتوب بصفة عامة أمر لا يتأتى إلا لذهنية امتلكت القدرة على مساءلة ذاتها، ووضع أفكارها موضع سؤال، والحرص على معرفة ما تجهله، دون خوف من ضياع ما حصّلته من معرفة، خوفاً يمنعها من البحث عما تجهل. هذه الذهنية لا تستعيض عن رؤية الآخر بتضخيم الذات، فتمنح حق الحضور في الكلام لنفسها فحسب، فتغيّب، من ثمَّ، الصوت الآخر عن الكلام، سواء كان هذا الآخر هو المختلف أيديولوجيا في مجالات الفكر المختلفة، أو كان المختلف اجتماعيًا أو كان صوت هذا المختلف صوت آخر في الإبداع الأدبي، كما أن مراجعة الكاتب لما كتبه تنطوي على إقرار منه بإمكانية أن يخطئ عند الكتابة بلغته الأم، مما يستلزم منه المراجعة والتدقيق، وهو ما لم يكن قد تحقق تمامًا في ظل الفكر اللغوي القديم، الذي يدين "اللحن" في اللغة لعامة الناس، إدانة تصل لدرجة التحريم عند أهل الفكر والكتابة والإبداع. فضلاً عن أنّ فعل المراجعة للمكتوب من قبل القارئ يعد درجة من درجات تحقيق الكتاب، تتطلب الرجوع لأكثر من نسخة وتحديد النسخ التي دخلها التحريف والتزييف، وهو توثيق مضنٍ لم يعرفه القارئ العربي وقتئذ لسببين؛ أن بذل هذا المجهود يوجه فقط لأحاديث الرسول، فكان الإسناد بمثابة جهد توثيقي عظيم قامت به العقلية الشفاهية، يأتي بعد ذلك بمراحل، الحرص على الوثوق من الشعر الجاهلي، وذلك لما للماضي من أفضلية على المعاصر في الإبداع عند العقلية الشفاهية، أما أن يطالب الجاحظ هذا القارئ ببذل هذا المجهود لمكتوب ليس له ما للأحاديث النبوية من قداسة، وليس له ما للشعر الجاهلي من وضعية النموذج الجمالي واللغوي، فهذا مستبعدٌ حدوثه. أما السبب الثاني فهو ما يتعلق بمفهوم "التأليف" في هذه المرحلة، والذي لم يكن يعني أي معنى من معاني حقوق الملكية الفكرية للفرد، فالمرويات الشفاهية والأخبار حقٌ مشاعٌ للجميع دون حاجة لأي إشارة للمصدر.

إذن يصعب القول أنه قد تشكلت رؤية كتابية للوجود في الثقافة العربية على الأقل حتى القرن الخامس الهجري، وهذا ما يؤكده د. عبد الله إبراهيم، فالمقصود بالرؤية الكتابية للوجود في الثقافة العربية ـ الإسلامية أن "الكون علامة ركناها القلم واللوح المحفوظ، وأن ديمومة الوجود مقترنة بفعل الكتابة وأنه لا يكتسب صيرورته من كونه واقعاً، إنما من كونه نتاجاً كتابياً أوجده الخطاب الذي لا يمثل في حقيقة الأمر سوى ذاته، إذ هو لا يحيل إلى غيره "(21)، لكن على الرغم من وجود هذه الرؤية على مستوى القرآن الكريم والحديث، والتأويلات التي قدمها المفسرون تأكيدًا لوجود هذه الرؤية(22) إلا أنها لم تكن فاعلة في العقلية العربية وقتئذ على مستوى رؤية العالم إلا في نطاق محدود يمكن أن نعتبره نطاقا نخبوياً، اكتسب نخبويته من اختلاف نظرته للكتابة ومن تعامله معها، عن النظرة التي تدعمها الرؤية الشفاهية للعالم في مرحلة التعايش المنطوي على صراع بين الشفاهية والكتابية؛ حيث لا ينظر للكتابة إلا على أنها "وسيلة لتدوين الألفاظ ولم ينظر إليها أبدا على أنها كيانٌ خاصٌ يحيل على معنى خاص به، ولهذا أُلحقت بالكلام، وحددت وظيفتها في تقييد المنطوق وبذلك لم تدل على ذاتها، بل على غيرها"(23) .

بطبيعة الحال سوف تكون العلاقة بعد رسوخ السيادة المضادة للكتابة الممكن طباعتها أو بالأحرى الكتابة من أجل الطباعة هي شكلٌ آخر من أشكال المنازعة؛ إذ تتبدل المواقع ويبحث نمط التأليف الشفاهي عن مشروعية له، واستقلالية عن معايير التقييم الكتابي وفي مقدمتها مفهوم "الأدبية". خاصة أن انتشار الكتابة فضلا عن الطباعة حوّل التأليف الشفاهي إلى "أدب شعبي".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Madiha Doss :Some Remarks On The Oral Factor In Arabic Linguistics. p52.
(2) ابن فارس ـ أبو الحسين، أحمد بن فارس زكريا ( -356هـ): الصاحبي في فقه اللغة ـ المكتبة السلفية سنة 1910، نقلا عن: ناصر الدين الأسد: "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية". ص47.
(3) جرجي زيدان: "اللغة العربية" المجلد الأول، ص587.
(4) د. محمد لخضر معقال (الشفوي والمكتوب) ص9، ضمن: مجموعة باحثين : "أعمال الملتقى الدولي حول الشفاهيات الإفريقية" 1992
(5) ابن منظور: "لسان العرب" مادة (كتب).
(6)- أدونيس"الثابت والمتحول.. بحث في الإبداع والاتباع عند العرب"ج4، ص19.
(7) د. محمد الطيبي: "الإسلام وإشكالية القراءة" ص44.
(8) جرجي زيدان: "تاريخ آداب اللغة العربية" ص ص197-، 198 حيث يقول: "فجاء الإسلام والكتابة معروفة في الحجاز، ولكنها غير شائعة. فلم يكن يعرف الكتابة في مكة إلا بضعة عشر إنسانا، أكثرهم من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، وعثمان، وأبان ابنا سعيد بن خالد ابن حذيفة، ويزيد بن أبي سفيان، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمي، وأبو سلمة بن عبد الأسهل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحويطب ابن عبد العزى، وأبو سفيان بن حرب وولده معاوية، وجهميم بن الصلت بن مخرمة."
 (9)مانفريد و ماتشيوتي: "ابتكار التكنولوجيا وانتشارها؛ المطبعة كمثال" ترجمة: د. محمد أمين سليمان، ص50.
(10) "اعتبارا من 1821م أخذت مطبعة بولاق تنشر النصوص الكبرى في الأدب العرب" المصدر السابق. ص44.
(11) Alan Dundes;Holy writ as oral lit. The Bible as folklore. P7
(12) يقول ابن يسار الرياشي: 
 أما لو أعي كل  ما أسـمع                            وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما  قد جمـع                          ت لقيل هو العالم المصقع
ولكنّ نفسي  إلى كل نــو                             ع من العلـم تسمعه تنزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمــع                              ت ولا أنا من جمعه أشبـع
وأحصر بالـعي في مجلسـي                         وعلمي في الكتب مستودع
فمن يك في علمه هكــذا                               يكن دهره القهقرى يرجـع
إذا لم تكن حافظا واعــيا                              فجمعك للكتب لا ينفــع
انظر : الجاحظ: "الحيوان"ج1 ص59.  
(13)أبو حيان التوحيدي ومسكويه: "الهوامل والشوامل"نشره: أحمد أمين والسيد أحمد صقر ص285.
(14) د. حمادي صمود: "المشافهة والكتابة :مدخل إلى دراسة منطق التأليف" ص179. 
(15)أبو حيان التوحيدي: "الإمتاع والمؤانسة" ج1، ص201.
(16) د. محمد القاضي: "الخبر في الأدب العرب  "ص160. 
(17)ابن أبي أصيبعة: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" ص- ص 167-169. 
(18)نسب د. عبد الله إبراهيم في كتابه "السردية العربية" ما أسماه "نظرية عربية تسوغ الشفاهية" إلى ابن رضوان ص34، في حين أن ابن أبي أصيبعة كان قد نسبها إلى ابن بطلان ص167.
(19) محمد القاضي: "الخبر في الأدب العربي" ص155.
(20) المصدر السابق. ص156.
(21) د. عبد الله إبراهيم: "السردية العربية" ص25
(22) :مثال ذلك الغزالي (505=111 هـ) في "ٍإحياء علوم الدين" الذي قدم صياغة عرفانية لرؤية الكتابية للوجود، فالله "كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ، ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى بالحس والخيال فإن من ينظر إلى السماء والأرض، ثم يغض بصره، يرى صورة السماء والأرض في خياله، حتى كأنه ينظر إليهما. ولو انعدمت السماء والأرض، وبقى هو نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما، وينظر إليها، ثم يتأدى من خياله إلى القلب، فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال، والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال، والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه، خارجا من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ" 21:3. وأيضا في : د. عبد الله إبراهيم: "السردية العربية" ص24.
(23) المصدر السابق ص26.