تستخدم استقصاءات هذه الرواية الشيقة للكاتب اليمني مزيجا من السرد الواقعي الذي يتناول حاضر يمني وعمانية في أوروبا وتقنيات رواية الخيال العلمي وعوالمها الفريدة.

عرق الآلهة

رواية

حبيب عبدالرب سروري


لنادية الكوكباني

الفصل الأول

فردوس وحنايا

(1)

فردوس ترتدي فستاناً حريريّاً يسيلُ على جسدِها، يتناغمُ ومُنحنياتِه. ترمقني بِتفحُّصٍ غير أليف وأنا أُنظِّمُ (باهتمامٍ غير عاديٍّ وسعادةٍ خفيّة) حقيبةَ السفر لِمغادرة المنزل في فجر الغد.

تقول بِصوتٍ كريستاليٍّ رقيق لا يعرف الصراخ:

ـ صرتَ غريب السلوك هذه الأيام! لم تعد تبدو عليك الحسرة عندما تغادر المنزل مثلما كنتَ من قبل!

تُوجِّهُ لي أسئلةً دقيقة حول تفاصيل برنامج الشهر الذي سأغيب فيه، هدف هذه «المهمّة العلميّة»، مواعيد العمل واللقاءات، زملاء العمل لاسيّما إناثهم، ميولهم، آرائي حولهم . لم يراودها الشكُّ من سلوكي قبل ذلك من قريبٍ أو بعيد. تعرفُ جيّداً أنه إذا كانت لي في الحياة ميزةٌ حقيقيّةٌ واحدة فهي كوني صادقٌ بلُّوريٌّ في كلِّ شيء، لاسيما في التفاني في عشقها والإعجاب بها والإخلاص لها. مثلما أعرفُ جيّداً أنه إذا كان لها عيبٌ واحدٌ فقط فهو أنها تمثالٌ لا يتزحزح: من يعشقُ فردوس يصعبُ أن تَخترِقَهُ فتاةٌ أخرى، لأنها نادرةٌ مذهلةٌ نموذجيّةٌ في كلِّ شيء .

كلانا مخطئٌ حقّاً في قناعاته: هاأنذا أكذب اليوم لأني سأستقبل غداً من اخترَقَتْ فردوس لِتَسكُنَ حناياي، حنايا! . ستصلُ حناياي بعد يومين، من سَكَنِها في لندن، لقضاء شهرٍ في فرع مختبرها العلمي في ضواحي باريس. شهرٌ جديدٌ رتَّبنا كلّ تفاصيله ولقاءاته الحميمية اليومية الطويلة، منذ أسابيع، كعادتنا، بعشقٍ وِدقَّةٍ وسريَّة. نظَّمتُ مواعيدي لأكون، في نفس الشهر، في رحلةِ عمل في مختبرِ أبحاثٍ في علوم الكمبيوتر (متخصِّصٍ بِ«العوالم الافتراضية الموسَّعة»)، يقع قريباً من مختبرها!

*   *   *

لم أكن هادئاً واثقاً من نفسي في الردِّ على فردوس، لأني لستُ فطحولاً في التلفيق. لكني أظنُّ أنها صدَّقتْ كلَّ ما سردْتُه. لأنها لن تجد فيما مضى من العمر لحظةً واحدة لم أكن فيها شفّافاً نقيّاً متطرِّفاً في الصدق والإخلاص . ما مضى من العُمر بدأ وهي في الثامنة عشرة وأنا في العشرين من العمر، في ميونيخ، في حفلة مدرسيّة أثناء رحلة صيفية نظَّمَتْها جامعتي في مرسيليا . كنت في تلك الحفلة ألفُّ وأدور مثل الخذروف حول شابّة إيرانية ٍـ ألمانيةٍ ذات جَمالٍ مذهل. الشرق والغرب يخفقان في قسماتها بِتناغمٍ وجمالٍ وقوّة. لُغتُها ينبوعٌ رقراقٌ من الكلمات الجميلة المختارة بذوقٍ وإلهامٍ وذكاء. في لمعان عينيها مزيجٌ من الدقَّة الصارمة والفرح الدائم. تتكلّمُ بطلاقة الفارسيةَ والألمانيةَ والإنجليزية والعربية، وتجيد الفرنسية بما فيه الكفاية! . تَحدَّثْنا في إحدى زوايا قاعة الحفل حول كلّ شيء ولا شيء: ميونيخ، مرسيليا، فارس، عدَن، الصيف والشتاء، الشرق والغرب، الرياضيات والشِّعر . لاسيما الشِّعر الذي تعشقه فردوس عشقاً .

تبادَلْنا بعد ذلك زيارات «خالدة»، حسب تعبيرنا، لمرسيليا وميونيخ. بعد عودتي الأولى من ميونيخ. انهمكنا برسائل شبه يومية أذكَتْ إعجابي وتعلُّقي بها يوماً بعد يوم. لرؤية كيف آل تعلُّقنا ببعضنا إلى ما آل إليه، يكفي قراءةُ رفوف ملفات تلك الرسائل اليومية التي نحتفظ بها بعنايةٍ مقدَّسة. يكفي متابعةُ تطَوُّرِ مواضيعها وأبعادها، خلجاتها ونغماتها، نداءاتها ومناجاتها، عناق وتلاحم أحرفِها. بل يكفي قراءة تحيّةِ السطر الأول من تلك الرسائل فقط!: بعد مرحلة «صباح الورَدْ»، بدأت مرحلة الشخْصَنة: «صباحك وَرْد»، ثم مرحلة التملُّك: «صباحك، وردِيْ، ورد». ثمّ بدأ عصر عناق والتحام هذه الكلمات الثلاث واختفاء الفواصل والمسافات فيها ومن حياتنا أيضاً: «صباحكَوَرْدِيوَرْد»، قبل أن يتحوّل الورد إلى حب: «صباحكحُبِّيوَرْد»، ثمَّ «صباحكحُبِّيحُب»، ثمَّ «صباحكعِشْقِيعِشْق»، وهلُمّ عشقاً .

يكفي أيضاً اللهثُ وراء منحنى الرسم البياني لعدد «كافات» توقيعات تلك الرسائل: تحوّلَ توقيعُها «فردوس» إلى «فردوسك» ثمّ إلى «فردوسكك»، «فردوسككك»، «فردوسكككك» . لأننا قرّرنا ذات يوم أن يساوي عددُ الكافاتِ في توقيعَينا مجموعَ عددِ الليالي التي يُطِلُّ فيها أحدُنا في حلم الآخر! قالت فردوس ذات يوم في إحدى الرسائل: «كان هاملت يخشى ويكرَهُ الأحلام، أما أنا فأدعو قبل النوم أن تتكاثر وتتبارك!». كنا نحلم ببعضنا كثيراً قبل حياتنا المشتركة. لذلك أضحى توقيعُ كلٍّ منا يُجرجرُ شريطاً طويلاً من الكافات التي نأخذُ الوقتَ اللازم لِحسابِها بكلِّ تلذُّذ. يأمل كلُّ واحدٍ منّا في قرارة نفسه أن ينسى الآخرُ سهواً أحدَ الكافات، لِيُعاتبه على ذلك، كي يستلم منه اعتذاراً رقيقاً يدغدغُ العاطفة، وتدليلاً غراميّاً يفتح النفس .

وصلَتْ فردوس مرسيليا لدراستها الجامعية في كليّة الآداب في جامعة اكس اون بروفانس المتاخمة لمرسيليا، ذات التخصصات الغنية في اللغات الشرقية والآداب والترجمة. عِشنا مع بعض في غُرفٍ وشققٍ جامعية، ثمّ في شقَّةٍ سكنيّةٍ في حيّ لوبانييه (السلّة) الرومانسي، المجاور للميناء القديم في قلب مرسيليا، قبل أن نسكن، منذ سنين قليلة، في فيلا جميلة على شواطئ كاسيس الرائعة، القريبة من مرسيليا. منزلٌ تملأه طفلتنا الكبيرة وطفلنا الصغير تفجُّراً وعطاءً وسعادة .

«حياةٌ إلهية»، كما يصفُها الزملاء والأصدقاء الذين يعرفوننا عن قرب. إنسجامٌ جذريٌّ كامل. سفرٌ ورحلات مشتركة متواصلة. تفانٍ من الطرفين لم يتوقّف يوماً. عشقٌ لا حدّ له.

تتَّجِهُ فردوس للسرير. تضع شمعتين في شمعدانين على جانبيه. قرب مرآة الجدار المقابل مزهريَّةٌ يفوح منها أريجُ باقةٍ من الزنبق والياسمين. ضوءٌ رومانسيٌّ خفيف. تخلعُ فستانَها الحريري. هي عاريةٌ، نقيَّةُ الجمال، معطّرةٌ ناريّة. تحافظ دوماً على رشاقتها المثلى، على مقاييسها الجسدية النموذجية، على صفاءِ بشرتِها المخمليّة البيضاء شديدةِ الرقّة. هي جذريَّةُ الأنوثة، ساحرةٌ حقّاً .

تلاحظ أني على غير عادتي في السرير أغيبُ بعيداً عنها هذه الأيام. لا تشعر برغبتي بالحضور الكثيف معها هذه الليلة بشكلٍ خاص. لعلها تتساءل: نقص الرغبة؟ انشغالُ التفكيرِ بـِ«المهمَّة العلمية»؟ فاتحة الشيخوخة؟ غروب العاطفة؟ . لا تفهم، بالتأكيد. تشعر بالقلق. لا تتذكَّرُ غياباً مني كهذا، لاسيما قبيل رحلة سفر. اعتدنا أن نُزَوِّدَ أنفسنا باللذة ونملأ ذخائرنا عشقاً (تعرفُ، هي، كيف تدفعُ به إلى ذروته) قبيل فراق بضعة أيام أو أسبوع، فماذا لو كان شهراً كاملا؟ .

على السرير، فردوس تعشقُ الحرير، الورود، الصمت! استغربتُ دوماً من لجوئها للصمت عند العناق لأنها، أوّلاً وأخيراً، شاعرةٌ في الجوهر، شاعرةٌ بالغريزة. هي تحيى في الشعر، من الشعر وبالشعر. تعشق الشعر كما لا تعشق شيئاً في الوجود. هكذا كانت منذ أن تعرَّفتُ عليها. حياتُها قصيدةٌ لا تتوقّف. موسيقاها، رقَّتُها، صوتُها، ألوانها، كلماتها، أحرفها، اقتباساتها، استعاراتها، همساتها، ردودها، نومُها (فردوس تحبُّ النوم كثيراً، تنام بمنهجيّة وشاعريّة)، نظراتها، تفاعلها مع كل تفاصيل الحياة، مع الذكريات، مع الهدايا، مع اللوحات الفنيّة، مع الملابس، مع أوجه العابرين، مع الرموز البسيطة ..: ديوانٌ لا تنتهي صفحاته.

الشِّعرُ مهنتُها أيضاً. لديها عقودٌ مُغريَةٌ مع دور نشر، لِلترجمة الشعرية على وجه الخصوص والأدبية بشكلٍ عام، لِنشر شعرِها ودراساتها، لإعطاء محاضرات في الأدب والترجمة والشعر المقارن. تساهم أيضاً في هيئات تحرير مجلات ثقافية جامعية محكّمة ومتخصصة في أكسفورد وميونيخ . مكتبة منزلنا شلّالٌ من دواوين الشعر، تُقضّي فردوس حياتها في شرائها في أكشاك ومكاتب مرسيليا وباريس وكلّ المدن التي نزورها. الشعر يغمر المكتبة، يطفحُ، «يَتَطَعْفَرُ»، من كلِّ رفوفِها الزاخرة . الشِّعرُ إيقاع الحياة اليومية لفردوس. به تُقاومُ، كما تقول، قيودَ الحياة، حدودَ التفكير، حتميّةَ الموت، ضعفَ الجسد، سلطةَ الزمن، جبروتَ الصدفة، صِيغَ اللغة، ترسيمات الواقع، منطقَ الأرقام . به، كما تقول أيضاً، تهزمُ الكآبة والسويداء، تنتصرُ على الفناء اليومي. به تنتهكُ الحدودَ القسريّة لِلُّغة والتفكير التي تفرضها الطبيعة والحياة . الشعر، كما تقول، سفرٌ نحو المطلق، لجوءٌ إلى عالمٍ أوسع من عالمنا الأرضي ذي الأبعاد الثلاثة، أو الأربعة حسب نظرية الفيزياء الحديثة! عالمٍ متعدِّد الأبعاد، لانهائي . الشعر، في عيون فردوس، تجاوزٌ لِنهائيَّةِ الأشياء، تماهٍ بالآلهة، «لغةُ الروح». (استخدمَتْ هذا التعبير الأخير يوم لقائنا الأول في ميونيخ.)

*   *   *

غير أنها على السرير تصمت، لا تُمارس لغةَ الروح. تُفضِّلُ لغةَ الجسد. تعشقُها، تُجِيدُها، تمارسُ تفاصيلها الصغيرة ببطءٍ وشغفٍ وعبادةٍ وحريّة . السرير بالنسبة لها لحظةُ خشوعٍ للاحتفال بالحواس، قصيدةٌ عضويَّةٌ حرّةٌ، لغةٌ بيولوجية ترفدُ لغةَ الروح، تُهيِّجُ دورتَها الدمويّة .

لكنها اليوم، قبيل مغادرتي لضواحي باريس، تثرثر، تحاول أن تستقرئ ما يختفي وراء هذه «المهمّة العلميّة» الجديدة، أن تستشفّ إجاباتي، أن تلمح في منعطفاتها ما يفسِّر هشاشة حضوري، ما يستشرف البرنامج الخفيّ لهذا الشهر الذي سأطير فيه بعيداً عنها .

لغتُها الشعرية طافحةٌ على السرير هذه المرّة! لعلّ الشعر كان دوماً عزاء المحرومين، مأوى الضائعين، فتوح المهزومين، فنتازيا المقهورين، منهل الظامئين والمغلوبين على عشقهم . تلجأ اليوم للشعر لإغرائي واستعادتي والاستيلاء عليّ لأنها تعرفُ أنه نقطة ضعفي الخالدة. تعرف أني رضعتُ عشقَ الشعر منذ طفولتي. ورثتُ جيناته من أبي الذي كان، طوال سنوات معرفتي به، مغرماً مسكوناً ممحوناً بالشِّعر . أدمنتُ ونَشرتُ الشِّعر صغيراً. ثمّ أحرقتُ يوماً ديوان شعري لأرى أحرفهُ مغسولةً بالنار، لأقرأ صفحاته في صيغتها الأخيرة المشتعلة، لأكتب بعد ذلك قصيدةً أخيرة عن «نهاية الشعر»، عن آخر حسرات الديوان المحترق! . لكني أعشقُ الشعر بشكلٍ مُطلق، أعرفُ أني إن كنتُ في هذه الدنيا الفانية أهْلاً لِلَقبٍ واحدٍ فهو: شاعرٌ فقط، شاعرٌ لا غير. «شاعرٌ متقاعد» على حدِّ تعبير فردوس . لعلّي أديرُ أبحاثاً جامعيّة علميّة (هذه مهنتي)، أكتبُ روايةً أدبيةً بين الحين والحين. لكنهما ليستا أكثر من هوايتَي شاعرٍ قديم يُشغِلُ بهما سنوات تقاعدِهِ الشعريّ. لا يدَّعي أنه يهبهما نفس ذلك الشغف والعشق الذي انتزعهما منه الشعر منذ الطفولة. هما هوايتا شاعرٍ مهزوم خرسَتْ ملكاتُه الشعريّة إلى الأبد، صار حبيساً عن الشعر يوم أوحَتْ له آلهةُ الشِّعر بآخر قصائده، فردوس. لم يعدْ بعدها يحتاج للشعر، لأنه صار يمتلكه .

أغادرُ المنزل في الفجر. عينا فردوس قصيدةٌ قلقةٌ حائرةٌ حزينة ترثي غروب العاطفة، نهاية الشعر، تتحدّث عن الخراب القَدريّ الذي يدقُّ مفاصل الزمن .

(2)

أعشقُ لحظةَ بدء كلِّ لقاءٍ مع حنايا، على هامش مؤتمر علمي في كاليفورنيا أو روما، أو أثناء دعوات علمية في باريس أو لندن. أحترق ببطء في انتظار هذه اللحظة. أعِدُّ نفسي لكلِّ تفاصيلها الصغيرة بكلِّ خشوعٍ وتفان. أمارس طقوسها بنفس الوتيرة: عندما يكون موعدنا باريس، أصِلُ قبل حنايا بيوم أو بساعات كافية، لأسكن في شقَّةِ عمارةٍ صغيرة خاصّةٍ بضيوف مُجمَّع مختبرات أبحاث قرب جامعة أورسيه (باريس 12)، في ضواحي جنوب باريس. تفصل عمارتي عن عمارتها عشرات أمتار فقط . أتوجَّهُ لانتظارها في مطار شارل ديجول، أو في محطة قطار الأوروستار الذي يربطُ باريس بلندن مخترقاً أحشاء بحر المانش. أصِلُ دوماً قبل موعدِها بأكثر من ساعةٍ ونصف . أنتظرها أمام باب الخروج قبل حوالي ثلاثة أرباع ساعة. أراقب كلَّ شيء: أوبرا أصوات وإعلانات وضوضاء المطار، قسمات وجوه العابرين وأنماطهم، جِماعَ الضوء الخارجي بأضواء النيون في الصالة، خلجات وهموم المنتظرين حولي . لا أُضيع تفصيلاً صغيراً في لحظةٍ مقدَّسةٍ كهذه. أقف مواجهاً باب الخروج في نهاية رواق مرور الواصلين، كي ألمح حنايا في الواجهة لحظة انفتاح الباب الأوتوماتيكي مباشرة، كي أراها كلّاً وهي تخرج من الباب تنظر يساراً ويميناً بحثاً عنّي، ثمّ تلمحني أمامها في نهاية الرواق، تتقدّم بضعة خطوات في طريقها إليّ بابتسامة بعيدة، بلمعةٍ في العين لا تخلو من ظلال سعادة .

لم تصل بعد. تتأخر دوماً عن الخروج، أنتظر بقلقٍ شديد .

*   *   *

أراها أخيراً تخرجُ من الباب بحقيبة سفرها الرمادية، بفستانٍ حريريٍّ أبيض، من ماركة «كينزو»، تتخلَّلُهُ بعض النقوشِ الفيروزية التجريدية الأنيقة، اشتريناه معاً في رحلتها السابقة لباريس. شَعرُها الكستنائي الفاتح أقصر من قبل، حديث التسريحة كأنها خرجت للتو من صالون كوافير. وضعتْ خاتمها وعقدها العُمانيَّين اللذين أفضِلهما . أحزرُ لمعة عينيها وابتسامتها. أتحوّلُ، من رأسي إلى قدميي، «سكانيراً» يلتقط صورها «بِيكسلاً بيكسلاً»، الصورة بعد الأخرى . تقترب، تصل . قُبْلةٌ في الشفتين أنتظرها بِلوَعةٍ، أحلمُ بها منذ أمَد، أغدو إثرها مثل إلهٍ في يومهِ السابع . أستنشق حنايا في هذه اللحظة بالذات التي يختلط فيها عطرها المفضَّل، أوبيوم سان لوران، بنسمةٍ خفيفةٍ دافئة من رائحة جسدها الذي هدهدَهُ حراكُ الرحلة. أعشق نكهة هذه النسمة الطازجة، أُقدِّسُها، أبحثُ عنها بين طبقات العطر التي تفوح من كلِّ جسدها، أُسَمِّيها: عَطْرُ العَطْر، عرَقُ الآلهة .

همساتٌ ومناجاةٌ خفيفة. ألمح لمعةَ عينيها خلالهما. ثمّ قُبلةٌ عميقةٌ طويلة تعيشها كلُّ خلايا جسدي، تحتفلُ بها، تستنشقُها، تبتلعُها ابتلاعا ً. هاأنذا مستعدٌّ للإقلاع في أحضان حناياي .

تاكسي يُقِلُّنا نحو عمارةِ سكنِها، تتخلَّلُه قبلات عميقةٌ مشتاقة. نصعد مع حقيبة السفر إلى الغرفة. الشوق في أَوْجِه. ساعاتٌ من العناق الحار أمام نافذة غرفتها المطلّة على غابة أورسيه. السماء صدفيَّة اللون، مملوءة بسحب هائمة. حنايا، مثل فردوس، لا تملُّ التحديق السادر الولهان بالسماء المثخنة بالسحب المسافرة. لعلّ ذلك ولعهما المشترك الوحيد . ثمَّ عناق طويلٌ في السرير. كلماتٌ ملتهبة. دموع . مازالت ترفضني! متى سيأتي ذلك اليوم الذي ستقفزُ هي نفسها فوقي كَلَبْوَة؟ .

نخرجُ قبيل المغرب لنمشي في وسط باريس. نتوجَّهُ للعشاء في أحدِ المطاعم الدولية في الحيّ اللاتيني أو مونبارناس، أو في أحدِ المطاعم الفرنسية الراقية حول الشانزليزيه. أشعر دوماً بالسعادة وأنا أقودُ ملعقتي إلى ثغرها لأُذوِّقها شذرات من أطباقي، المرّةَ تلو الأخرى .. أكرِّرُ سؤالاً ينفلتُ منّي بعفوية، لا أملُّ سماع الردِّ عليه:

ـ كيفك؟ هل أنت سعيدة؟.

ـ نعم، أنا بخير، حبيبي!

عمّاذا نتحدث عندما لا نتحدَّث عن عواطفنا، ذكرياتنا، أشواقنا، حياتنا وهمومنا اليومية، وعندما لا نُعلِّق بشغف أو بسخرية على ما يدور حولنا؟ . نتحدَّث عن الدماغ، الروح، التفكير، الخيال . عن برنامج عمل حنايا خلال هذا الشهر . موضوع أبحاث حنايا هو «رسم الخارطة الدقيقة للدماغ في أبعادها الثلاثة». يعرف العلم منذ زمن أن الدماغ مناطق مستقلة عديدة جدّاً. لكلِّ منطقة وظيفة ذهنية محدَّدة: اللغة، انسكلوبيديا الذهن، تفسير سلوك الآخرين، النظر، المشاعر، تقييم الخطر، حركة الجسد . مشروع أبحاث حنايا هو رسم هذه الخارطة بشكل دقيق، أي تحديد دور كل عصبون من عصبونات كُرتَي الدماغ في أداء هذه الوظيفة الذهنية أو تلك. مشروعٌ موسوعيُّ الحجم، لانهائي التعقيد، يدلي فيه، كلّ بدلوه، باحثون من مجالات مختلفة، يؤثِّثونه معاً، كتفاً بكتف .

وسائل البحث متعددة: 1) أجهزة تصوير الدماغ المربوطة بتحليل الكمبيوتر، مثل أجهزة تصوير الدماغ بتوموجرافيا إرسال المواضع، أو بالرنين المغناطيسيّ الذريّ (أحّدُ أهم اكتشافات العلم قاطبة في السنوات الأخيرة، إن لم يكن أهمَّها إطلاقاً) تعطي صورةً رقميّةً ديناميكيّةً دقيقة للدماغ تُحدِّد نشاطاته في هذه اللحظة أو تلك. 2) حالات المصابين بِوباءٍ في بعض مناطق الدماغ تسمح بربط العلاقة بين المناطق التالفة والوظائف الذهنية الناقصة، أو المُختلَّة لدى أولئك المرضى . تخصّصات ومناهج البحث كثيرةٌ أيضاً، تُغنِي بعضها البعض: علوم العصبونات، العلوم الذهنية، الرياضيات، علوم الكمبيوتر، العلوم الاجتماعية، علوم اللغة .

سألتُها:

ـ ما هو برنامج عمل هذا الشهر؟

ـ سأشتغل مع فريق من أطباء الدماغ ومتخصصين في العلوم الذهنية والاجتماعية بدراسة «قاعدة بيانات» من صور أدمغة مرضى. يوجّه الفريق (أثناء العملية الجراحية، عندما تكون كوفية جمجمة المريض منزوعةَ العظام، مفتوحةً على مصراعيها كطاسة.) أسئلة محدَّدة للمريض تشبه الامتحانات المدرسية! يكون المريض حينها مخدَّراً في حالة سكونٍ شبه كلّي، لا تنشطُ أثناء إجاباته إلا المناطق المرتبطة بالإجابات. ثم يعطي الفريق، مثل المدرِّس، تقويمات ودرجات لإجاباته تُشخِّص وتُحدِّدُ مدى الخلل. أنطلق أنا من هذه التقويمات والدرجات، من صور أدمغة أولئك المصابين، من نظريات متخصصة في الإحصائيات الرياضية، ومن نمذجةٍ رياضيةٍ اقترحتُها لعلاقات العصبونات مع بعضها . أنطلقُ من كلِّ ذلك لِتحديد العلاقة بين المناطق التالفة في الدماغ وهذه الوظيفة الذهنية المختلّة أو تلك . نقارن هذه النتائج أيضاً بنتائج توجيه نفس الأسئلة لأناسٍ غير مصابين، يتمّ تصوير وقراءة نشاطات أدمغتهم أثناء الإجابة على نفس الأسئلة، أو أثناء التفكير .

أذهلتني عبارة «يتمّ تصوير وقراءة نشاطات أدمغتهم أثناء التفكير»! شعرتُ بِ«دوش» من الماء المثلَّج ينسكب على ظهري . كلُّ ما كنتُ أعرفهُ هو أن أجهزة تصوير الدماغ تستطيع مثلاً إدراك إذا كان الإنسان، في لحظةٍ ما، يفكِّر في صورة أو في مكان جغرافيّ، من خلال رؤية الموقع «المضيء» في الدماغ، أي ذلك الذي تحدث فيه الخلجات الكهروكيماوية . لكن يبدو أن معلوماتي تجاوزها العلم بكثير . طلبتُ من حنايا الشرح. تردَّدَتْ قليلاً لأن ذلك مرتبطٌ ببرامج علمية خاصة تمسُّ أخطر المواضيع العلمية وأكثرها أهمية في الغرب (تلك التي أدّت لِتقدُّمِهِ ولِسيادته على العالم): التفكير، العقل، الدماغ . أنتهت حنايا بتوضيح أنها، ضمن فريقٍ دوليٍّ أمريكي فرنسي ألماني بريطاني متعدِّد الاختصاصات، تساهم في تطوير برنامج كمبيوتر اسمه «قارئة الفنجان» هدفه قراءة تفكير الإنسان!

وعدتها بالكتمان، شرحتْ لي الخطوط العريضة لِطُرقِ عملهم: يوجِّهُ الفريق العلمي أسئلة متنوعة لعدد من الناس. يتمُّ تصوير نشاطات أدمغتهم أثناء الردّ. يدرس الفريق العلمي تفاعلات الدماغ أثناء الإجابات. ثم يتمُّ تعليم برنامج كمبيوتر طرائق تحليل الفريق العلمي للإجابات، وتحديده لِتداخلات وهويّات مناطق الدماغ التي اشتغلت أثناءها. إثر ذلك يتعلَّمُ الكمبيوتر كيف يصل لنفس نتائج الفريق من مجرد تصوير نشاطات دماغ الإنسان وهو يفكِّر، دون أن يُعبِّر شفويّاً عمّا يفكر به! أي أن الكمبيوتر يتعلّم كيف يقرأ باطن الإنسان! أضافت لِتُضاعف دهشتي وإذهالي:

ـ ثمّة أيضاً برنامج آخر أسمه «الفيلسوف، كاشف الأسرار» يربط برنامج «قارئة الفنجان» بقاعدة موسوعيّة من المعارف العلمية والثقافية والاجتماعية، النظرية والتطبيقية، لِينتهي بتقديم تقرير شامل، يمكن قراءته على شاشة الكمبيوتر بعد دقائق فقط!

ـ تقرير؟. سألتُ حنايا غير مصدِّقٍ ما أسمعه!

ـ نعم! تقرير مكتوب، هو عبارة عن تحليلٍ فلسفي عميق لما يدور في دماغ الإنسان، ممزوجٍ بآراء وتحليلات «الفيلسوف» التي تربطُ، كما قلتُ قبل قليل، هذه التحليلات بمعارف علمية جوهرية، ذات طابع شمولي عام. ينطلق «الفيلسوف» من كل ذلك، يفذلكه، لِيُخرج أخيراً تقريراً مثيراً مذهلاً وعميقاً جدّاً، له طابع فلسفيّ أوسع من الوصفِ المقتضبِ المباشر الذي يسردُهُ برنامج «قارئة الفنجان»!

بلغَتْ صعقتي ذروتَها وأنا أسمع هذه الأسرار العلمية الخفية، شديدة الجوهرية والعبقرية والأهمية القصوى! توسَّلتُ حنايا أن تُجرِّب هذه الأجهزة معي، أن تريني تقرير «الفيلسوف» وهو يقرأ، يُنظِّرُ، ويُحلِّلُ ما أفكّر به. وعدَتْنِي أنها ستعمل الإجراءات الإدارية اللازمة للسماح لي بالتجريب، خلال يومين فقط. لأن علاقات علميّة قويّة تربط مختبرات مجمّعنا العلمي . تعهّدتُ بالالتزام بكل الشروط الأمنية والإدارية لذلك .

أشعرُ بالرجفة! ماذا تبقّى للإنسان الآن؟ هاهو اليوم يتقيأ دماغه من فمه وأنفه، يضعه في فنجان، يراقبه كقارئة فنجان، يُحلِّله كفيلسوف، يكتب تقريراً عنه، ثمَّ يُعيده لقُمقُمِه .

عندما لا أتحدث مع حنايا عن الدماغ، نتحدّث عن أهم انتاجاته: الخيال. تشرح لي حنايا سيرورة الخيال كنشاط ذهني، كعملية «معالجة معلومات». تُلخِّص لي بصعوبة ما يعرفه العلم عن هذه الوظيفة الدماغية شديدة التعقيد والأهمية والعبقرية والعظمة: كيف يتمُّ إنتاج الخيال في الدماغ بواسطة عملية «دمجٍ ذهنيٍّ» لطوبات من المفاهيم الصغيرة، ماذا يحدث في «فضاء الدمج»، ما هي العمليات الرياضية التي تتم في ذلك الفضاء . أصغي لها بشذوهٍ تام وإن لم أفهم كلَّ ما تقوله. يذهلني شرحها الرياضي للخيال ك«سيرورة» حاسوبية، كبرنامج «معالجة معلومات». تذهلني طريقتها في تفكيك ما تسمّيه فردوس: «العرفان»، هذا المفهوم الصوفيّ الغامض الجميل الذي ترعرع طويلاً في حضارات فارس وبين النهرين . أتذكّر حينها فردوس التي يُهمُّها ويسحرها موضوع الخيال، بنفس مقدار حنايا، ولكن من منظورٍ شعريٍّ بحت .

*   *   *

حوار مع فردوس في صحيفة أدبيّة:

ـ ما هو المشروع الشعري الذي تنتمين إليه؟

ـ كسر حدود اللغة، تحرير الإنسان من قيود المنتهى .

ـ طريقك إليه؟

ـ الخيال، الحلم!

ـ هل لكِ أن توضّحي ذلك؟

ـ لا أقصد هنا الخيال «النقابي»، الحلم «الأرضي»، ذلك الذي يتخيَّلُ فيه الإنسان وجبةً غذائية أفضل، عمارةَ سكن أكثر راحة وثراء، حياةً يومية أقل قساوة . لا أقصد أيضاً الخيال والحلم الذي يُعبِّرُ عن رغبات نفسيّة مكبوتة .

ـ ماذا تقصدين إذن؟

ـ الخيال العلوي «اللدُنِّي»، الحلم الميتافيزيقي. ذلك الذي يكسر حدود الزمن، قيود الواقع، يتجاوز ترسيمات الأشياء وقوانينها الفيزيائية.

ـ كيف الوصول إلى ذلك؟

ـ عبر «العرفان»! عبر الدماغ الذي يهرب من قوانين الدماغ .

*   *   *

بعد الدماغِ الذي يضع الدماغَ في فنجان لِيقرأه، هاأنذا أمام الدماغ الذي يهرب من الدماغ! ما أروع رياضيات حنايا وشعر فردوس! أؤمن أن الرياضيات والشعر هما لغتا خالق الكون! احتاجَ لهما يوم خلق السموات والأرض. لعله احتاجَ للرياضيات في الستة الأيام الأولى، وللشعر في اليوم السابع! .

فردوس وحنايا لا تستوعبان مفهوم الآلهة، شأنهما شأن معظم سكّان الغرب (مثل فرنسا التي عرفت حرباً ضروساً بين الدين والعلم، لاسيما في عصر التنوير، انهزم أثناءها الدين على كل الجبهات. فرنسا التي انفصل فيها الدينُ عن الدولةِ، منذ أكثر من قرن، حيث لا تعترفُ المدرسة الحكومية بأَيّ دِين، بما فيه المسيحية) . ما يثيرني هو وسيلتهما للتعبير عن ذلك. فردوس تستخدم الشعر، تستشهد بستيفان مالاراميه: «التقيت بالعدم! باللاشيء ـ الحقيقة!». حنايا تستخدم لغةً مختلفة تصبُّ في نفس المعنى عندما تتحدّث عن «الدماغ الذي صنع مفهوم الآلهة» . أو بالأحرى حنايا لا تؤمنُ إلا بإلهِ الرياضيات، «إلهِ الصفرِ واللانهاية». وفردوس لا تُقدِّسُ إلا إلهَ الجمال، إلهَ الشعرِ والخيال. في عينيي حنايا الإلهُ يختفي في الرياضيات. الكونُ ماكينةُ رياضيات. الفضاءُ، الزمنُ، الضوءُ، المادةُ، الحركةُ، القوةُ، الروحُ . كلُّها كائناتٌ رياضيَّة تُموسقها أنغامٌ رقميَّةٌ إلهيّة . في عينيي فردوس الإلهُ يتجلَّى في «السرِّ الذي لا تستطيعُ أيّةُ معادلةٍ رياضيّة ترجمَتَه أو التعبيرَ عنه»: الجمال . تسألُ فردوس: أيَّةُ معادلةٍ رياضيّة تستطيعُ ترجمةَ جمالِ ابتسامةِ الطفل، سكرةِ قُبْلةِ العشق، سحرِ خريرِ الشلالات والينابيع الجبليّة، موسيقى الغروبِ في سماءٍ صحراويّةٍ عميقةِ الزرقة؟ أيُّ دماغٍ بإمكانه أن يُفكِّرَ خارج حدود الزمان ـ المكان لِيتصوَّر العدمَ المطلقَ الذي اكتسحَ الوجود قبل «الانفجار الكونيّ الكبير»؟ .

أعشقُ فردوس وحنايا. معهما أعيش في بُعدَين متعامدين، هذه سيمفونيتي! لعلَّ أبي الذي أسماني: شمسان (اسم الجبال البركانية القابعة في شواطئ خليج عدَن) تناغمَ في ذلك، بدون وعي، مع ما وهبتني الحياة لاحقاً: شمسي الأولى، فردوس. والثانية، حنايا . فأنا أدِيمٌ تُقدِّسُ هاتين الشمسين، تستضيء بهما، تغتلي بدفئهما. أنا، لا غير، أرضٌ لِشمسَين، معبدٌ لآلهتين، مَخدعٌ لحُلمَين، جوفٌ لِقلْبَين .

*   *   *

نمشي طويلاً في باريس قبل العودة لِشُقَّةِ حنايا. نعشق كثيراً المشي في العواصم والمدن الكبرى التي نلتقي بها، لاسيّما باريس. نُقبِّل بعضنا بدفء ورِقَّة في كلِّ شارع، في كلِّ جسر، في كلِّ غابةٍ ومقهى، في كلِّ مكان تعانقنا فيه في زيارات سابقة، في كلِّ موقعٍ زرعنا فيه ذكريات قديمة . عادةٌ لا إرادية، عنيفة، صادقة، نعشقها بشكل مفرط، لا نجيد ترويضها ولا نستطيع تقنينها، لا نرتوي منها أبداً . لكلِّ شارع، لكلِّ ساحة وحديقة وركن وطريق . اسمٌ اخترعناه يحلُّ محلّ الاسم الرسمي، لِيُخلِّد شيئاً من ذكرياتنا فيه، أو ليحفظ تعليقاً ما خطر ببال أحدنا أثناء المرور به: شارع الخاتم المتمرِّد (الذي أضعتُ فيه فصّ خاتمٍ من العقيق اليماني، حاولت حنايا عبَثاً تثبيتَهُ في حلقة الخاتم، أكثر من مرّة)، شارع القُبلة اللامنتهية، كنيسة الوعد (التي عمَّدنا قربها، بالعناق، وعداً مشتركاً خطر ببالينا بالصدفة، في نفس الوقت)، فندق ال«شورت» المفقود (الفندق الذي نست فيه حنايا بنطلونها الشورت)، نافورة آية الكرسي، مقهى الإيميل (الرسالة الالكترونية) الحزين، محطة قُبلة الوداع، شجرة فطائر «الكريب» بالشكولاته، شارع الوعكة (وعكة غرامية حادّة، تجاوزناها غراميّاً في أيّام قليلة)، منعطف الشحرورة (كنّا نقابلها في السابعة مساء بالتحديد، في منعطفٍ ناءٍ في غابة أورسيه، عندما نتجوّل فيها بعد الخروج من مختبرينا!)، شارع سندويتش فخوذ الضفادع (الذي تناولناه معاً بشهيّةٍ هائلة ذات ظهيرةٍ ممطرة) ..

 لكلِّ يومٍ من أيام الشهر حدثٌ خالد نحتفل به (في ديننا، حنايا وأنا، نحتفل بالذكرى الشهرية للأحداث الحميمة وليس بالذكرى السنوية): عيد عناق الأرجل (في الأول من كلِّ شهر، لتخليد يوم الأول من ديسمبر الذي التقينا فيه في مطعم مع حشرٍ من الزملاء. طلبتُ سرّاً من حنايا التي كانت تواجهني في الطاولة أن تضع قدميها فوق قدميّ أسفل الطاولة، طوال الوجبة، لشدّة شوقنا لبعضنا ولاستحالة القُبلة فيه)، عيد ميلادها الشهري (نحتفل به في الثاني من كل شهر. ولدت حنايا في الثاني من مارس، لذلك نحتفل بواحد على اثني عشر، 12/1، من عيد ميلادها في الثاني من ابريل، بسدس عيد ميلادها في الثاني من مايو، بربعه في الثاني من يونيو، بثلثه في يوليو .) عيد القُبلة الأولى (في الثالث من كل شهر، لتخليد الثالث من مايو العظيم، يوم القبلة الأولى)، عيد الرسالة الأولى (في الرابع من كل شهر)، العيد الوطني (في الخامس من كل شهر، يوم تعارفنا في أورسيه في حفلة أقامها المجمع العلمي ضَمَّتْ باحثين من مختبرات شتّى، قبل ثلاثة سنوات من الآن) . في هذا الشهر سنحتفل بكلِّ المناسبات الخالدة معاً، وجهاً بوجه، ثغراً بثغر، هنا في باريس، وليس من خلال الرسائل والايميلات، كما هي العادة في الغالب . سنضيف مواعيد وتواريخ وذكريات جديدة لأجندة عشقنا. سنواصل تغيير خارطة باريس وتسمية شوارعها وأركانها وساحاتها بما يُخلِّد هذا الشهر الذي يفترش طويلاً أمامنا.

نَصِلُ عمارتها. الغرفة مصمَّمةٌ بإتقان، جميلةٌ كحلم. جدارها مكسوٌّ بالأحمر الخفيف في النصف الأسفل، والبرتقالي الفاتح في النصف الأعلى، يفصلهما شريطٌ أفقيٌّ بنفسجيٌّ تتخلَّلُه منحنيات ورديّة حمراء ناعمة. مجرَّدُ تذكُّرِ ذلك الجدار يُذكي فينا معاً، حنايا وأنا، تيّاراً كهربائياً من الأحاسيس والأشواق القويّة الدافقة. هي مستلقيةٌ وسط السرير. جسدٌ من حرير. صوتٌ مخمليّ. حامورةٌ ورديّة. أظافر حمراء. أعين واسعة. مسحوقٌ عطريٌّ عُمَانيٌّ عبِق، أسفل الأذنين، يفتح النفس. رشّاتٌ مُتقنَةٌ من أبيوم سان لوران تغسل كلَّ جسدها. ينبوع عطرٍ يغسلُ ينبوعَ صدقٍ وصفاءٍ ورقّةٍ وعشق. يغسل العشقُ بِنُورِهِ من يشاء. لا تتعرَّى، لا تخلع ثيابها. تتخشَّب فجأة. لم تعد نفس حنايا الرقيقة الشفافة، الوديعة البسيطة، صافية السريرة، ذات القلب البلوري الذي يمتحن الضوء فيه نفسه . ثمّة ثالثٌ يحُوْلُ بيننا على السرير: الأديان؟ الشيطان؟ العادات والتقاليد؟ القرون الظلامية؟ . ثمّة ثالثٌ يُحدِّد تغيُّرات الطقس الجويّ ويرسم خارطة الطريق. لا اعرفها على السرير. نُقبِّل بعضنا بنفس الحرارة والشوق والعمق. بنفس العشق . ثمَّ يحقُّ لي، بعد كفاحٍ طويل، بين الحين والحين فقط، لمسَها ومداعبتَها، شربَ شهقاتِها الصغيرة والإصغاءَ المفتون للذَّتها الساحرة . عدا ذلك، قُدِّر لي الاحتقان الدائم، الحرمان الكامل من لمساتها ومداعباتها، من حرِّيتها في عناقي وعشقي، من مجرَّد لمسِها لِبشرة صدري فقط أو تقبيل كتفي العاري لا غير.

هذه الشابّة الحرّة الشامخة المخلوقة بجينات العصافير تنقبض، تتحوّل إلى لعبة بلاستيكية مُغلَقة، لا تبادلني العشق، لا تبادر، لا تعطي، لا تحترم مبدأ «التماثل الهندسي» الذي بدونه يصيرُ العشقُ تصفيقاً بيدٍ واحدة، لا تتجرأ التمرُّد على الثالث غير المرئي الذي يُحدِّدُ خارطة الطريق، تنهال عليَّ بقطيعٍ من اللاءات الكاسرة! تتحوّل إلى حارس سجن، تتقوقع، تختفي، تلتحف الملايات كَكَفن، تُطفئ الضوء. يتحوّل السرير في لحظةٍ صغيرة إلى مقبرة. تحتضنني كجُثّة، أعانقها كصليب. أنكمشُ فجأة لأني أحيا على إيقاعها، لأني لستُ أكثر من صدأٍ لخلجاتها، لأني لا أستطيع التوحُّد معها وسط مراسيم جنائزية. أُعطِّفُ رغباتي، أحمل أحزاني كعصفورٍ جريح.

هذه الألمعية في خفايا علوم العصبونات الذهنية، التي تعرف كيف ترسم خارطة الروح بِيُراع الرياضيات، التي ستفتح لي أبواب برنامج «كاشف الأسرار»، التي ستجعلني أكتشفُ السيرة الذاتية للآلهة، أفكِّكُ قصص الأديان، وأُنهي دَيْناً عريقاً واخزاً بيني وبين والدي. ليست ألمعيّةً في علوم الجسد، ترسم خارطته بأسلاك شائكة، تستخدم عبقريتها لتحويله شبكةً من مناطق محرّمة، كثباناً من عُقدٍ وعراقيل. أشعر بالقهر والظلم: يكفي غالباً عشقٌ طفيفٌ لِيتوحَّدَ البشر منذ آلاف السنين، ببساطة وسعادة، فيما نحن العاشقَين الحقيقيَّين، اللذين خُلقنا لنحيا بحريّة وتفجّر وانطلاق واحتفالٍ دائم، نتخبَّط في متاهات سخيفة، نلهث في أروقةٍ موصدةٍ مظلمة، هنا داخل هذه الغرفة الباريسية الرومانسية المواجِهة لغابةٍ هادئةٍ جميلة وقمرٍ صامتٍ رقيق! أشعرُ بالحزن والألم: تنغلق حنايا على نفسها، تتخندقُ في غرفة معزولةٍ داخل سجنٍ خفيّ، حواسُها ومشاعرُها تُقرفصُ في كهفٍ صامتٍ مظلمٍ بارد، هي التي خُلِقَتْ أساساً للغرام والعشق والعبادة واللذة العنيفة. الليل خيمةٌ قَبَليَّة تحوم حولها أرواحٌ شاحبةٌ نحيلةٌ مقهورة.

عندما تشعر أني ظامئٌ لعاطفتها وعطفها واهتمامها ولمساتها ومبادراتها، وأني أتوق أن تُترجم لي (بِلمسةٍ رقيقةٍ واحدة مثلاً) أنها لا تعتبرني مغتصباً، قرصاناً، غازياً، باحثاً عن تحقيق نزوةٍ ليس إلا؛ عندما تحسُّ حاجتي المحترقة لأن تؤكِّدَ لي (بِلَمسةٍٍٍ حرّةٍ خفيفة) أنها تشاركني نفس العشق الهائل؛ عندما تشعر بعنفِ حاجتي الصامتة لذلك، تبكي! تبوح بكلماتٍ تُقطِّع القلب، لا أسمع فيها أكثر من أصداء نداءات قبيلتها العُمانية. أكتم مشاعري حينها لئلا أمُسَّ مناطق غائرة مؤلمة. ثمّة فعلاً ثالثٌ غير مرئي عليه اللعنة! عندما ينقشعُ يوماً (من يدري!) ستتفجَّرُ حنايا، هي نفسها، مبادراتٍ وعطاء! ستغمرني حينها (من يدري!) بِسيول اللذة التي تمسح كلَّ آثار الآلام الصغيرة!

*   *   *

من هي حنايا؟ . شابَّةٌ من سلطنة عمان تعيش في لندن. لا اعرف أكثر من ذلك تقريباً. كما لا تعرفُ هي أكثر من كوني يمنيٌّ من عدَن يحيا في فرنسا. متزوجة؟ لا اعرف ولا أودّ معرفة ذلك. مثلما لا تعرف ولا تودُّ معرفة تفاصيل حياتي الأسَرية. كلُّ ما نعرفه هو أننا نعشق بعضنا من الأعماق عشقاً عاصفاً صادقاً، بدأ يوم التقينا بالصدفة لأول مرّة، في حفلةٍ رسمية في مجمع المختبرات العلمية المجاور لجامعة أورسيه، قبل ثلاثة سنوات. كانت حفلة لتوقيع تعاقد أبحاث مع دولة أوربية اسكندنافية. أصرَّ ممثِّلوها أن تكون حفلةً رسميّةً تبدأ بالنشيد الوطنيّ للبلدين! تقليدٌ غير أليف إطلاقاً في الأوساط العلمية. كنت واقفاً أثناء النشيدين الوطنيين، مثل كلِّ المدعوِّيين، عندما لمحتُ فتاةً تبعدني ثلاثة صفوف، جالسةً دون اكتراث! الجميع مستقيمٌ إلا هي! بعد مراسيم التوقيع، بدأ الحفل. توجَّهتُ نحوها. لاحظتُ على التو أن لها نفس لونِيَ النحاسيِّ الفاتح، ولهجةً تقترب كثيراً من لهجتي العدنيّة. هي من مواليد صلالة في سلطنة عمان! شعرتُ بتيارٍ كهربائي مفاجئٍ عنيف وأنا أتفحَّصُ أثناء دردشتنا جمالَها البدويَّ الأوربيَّ النادر. أثارني أيضاً تناغم أمزجة مدينتينا، صلالة وعدَن. سألتُها، منذ البدء، «لماذا لم تقفي مثل الجميع أثناء النشيدين الوطنيين؟» أجابت بهدوء أنها تسخر من «مفهوم» النشيد الوطني بشكلٍ عام، تستخف من ممارسة هذا التقليد! كلُّ ما يرمز للحدود الجغرافية بين البشر، كلُّ ما يُميِّزُ بين أبناء نفس «النوع البيولوجي» يثير قرفها. أضافت: «النشيد الوطني هو نشيد القبيلة وقد أضحَتْ بحجم وطن! أنا ضدّ نشيد القبيلة! أنا مع عالَمٍ بلا حدود!».

أتذكَّرُ الآن، على السرير، عبارتها هذه! يالِلْبَونِ الشاسع! هي طليعيةٌ هكذا بشكلٍ يفوق كلّ قياس. بينما هنا، على السرير، على بُعد سبعة ألف كيلومتر من القبيلة، تتحوَّل مصنعاً للحدود والجمارك والعراقيل. لها، هنا على السرير، نفس نبرات الصوت الخاضع لِشقيقةِ انتيجون، إسْمِن، وهي تقول (في التراجيدية الإغريقية «انتيجون» لِسوفوكل): «أنا ولدتُ في تِيْبْ، لا أستطيع أن أفكّر وأسلك إلا مثل أهل تِيْبْ!».

*   *   *

عندما تشعر حنايا بالرغبة في النوم، تقول لي: «لو سمحْتَ!». أفهم أنه لم يعد عليّ إلا أن أغطِّيها بالملايات كي تنام كطفلة، أن أعطِّفَ جسدي، أن أخْرُجَ مطروداً من الجنَّة إلى أحضان الشيطان. إذا حالفني الحظ أسمع هذه العبارة وأنا على وشك إغلاق الباب:

ـ قُبلة أخيرة!

نعود لتكرار نفس الطقوس، بنفس اللوعة والرغبة. ثمّ أسمع من صاحبة الجلالة «لو سمحْتَ!» أخيرة، مُطْلَقة، قاطعةً مانعة، لا رجوع بعدها.

أخرج صوب عمارتي في ساعة متأخرة من الليل، كجنديٍّ مهزوم، أحملُ كلَّ خيبات العالم فوق كاهلي. لا افهم شيئاً مما يحدث. كيف يطيب لها أن تُدميني شبقاً وتُحرمني منها في نفس الوقت؟ ماذا ارتكبتُ من ذنبٍ في الحياة لأتأرجح بين لظى وصقيع هذه المعادلة الزجزاجيّة؟ أتستعرضُ بذلك فقط روعة جسدها، دفق وطزج حناياه، حيويّة وخصوبة أنسجته الركينة، رقّة وتوقّد أعضائه الحميمة؟ أتعتقدُ حقّاً بمقولة «الشيخ» بودلير: «لا يتلذّذ الرجل مع معشوقته الحقيقية»؟ (مقولةُ عاشقٍ متقاعد يحتفل بشيخوخته، لا أكثر ولا أقل!) ألا تُفضِّلُ عليها مقولة محمود درويش: «إذا كان لا بدَّ من عشقٍ فليكن كاملاً كاملاً»؟

أهي ساديّةٌ (لا أعتقد)؟ أنانية (لا أظن)؟ أتعشقُني حقّاً (لست أدري، ربما، أتساءل)؟ أتلعبُ أمامي دورَ إمبراطورة، أو فينوس، أو آلهةٍ أنثوية تريدني أن أدفع ضريبة كلّ خطايا رجال العالم، تعاقب عبري «حمران العيون» من البشر، تثأر من نهبهم، شراهتهم، فظاظتهم، نزعتهم الاغتصابية؟ أتنتقمُ لِفردوس التي أهملتُها البارحة؟ أتريد أن أدفع ثمن محاولتي عصيان الآية القرآنية: «ما جعلَ الله لِرجُلٍ من قلبين في جوفه»؟

أم أنه للوصول إلى السماء الثامنة،

للذوبان في عطر العطر،

للاغتسال بعرَقِ الآلهة،

لبلوغ حنايا حناياي،

يلزم كثيراً من الكشف والمعاناة والمكابدة،

يلزم أوّلاً الغوصُ في أعماق التاريخ بحثاً عن الثالثِ اللامرئي، عن سرِّ كاشف الأسرار هو نفسه؟.

أدخل غرفتي وحيداً بشاربي المفلفل الكثيف المعقوف. أشاهده في المرآة. كم هو مدعاةٌ للسخرية في هذه اللحظات بالذات! أبكي صامتاً. لا تسمعني حنايا. أصرخ بلا صوت: «حرام عليك!»

(3)

لزم أن يقترب الفجر لأستعيد تفاصيل ما قالته حنايا عن «كاشف الأسرار». كنت أظن أن برنامجاً مغامراً شديد الطموح والتعقيد كهذا لا تتجرأ الخوضَ فيه إلا أفلامُ التخيُّلِ العلمي. لكن العلم يسير كما يبدو بخطوات خفيّة لا هوادة في تسارعها، لاسيما في المجالات الأكثر أهميّة واستراتيجية في دُنيا الغرب: الدماغ والتفكير. لعلي لاحظت ذلك حال وصولي فرنسا للدراسة، في منتصف السبعينات، بعد الأزمة البترولية بقليل. كان الشعار اليميني المشين الذي لا يخلو من العنصرية: «نحن ليس لدينا بترول، لكن لدينا أفكار!» كثيرَ الرواج حينها. ما أثار إعجابي بالمقابل هو أن الطالب يتعلَّم هنا أن حياة الإنسان على الأرض لا تُحدِّدها المصادر والثروات والإمكانيات الطبيعية، بقدر ما يُحدِّدها مدى الأفكار وحدود المعارف! لا يحتاج الإنسان للفحم مثلاً، كَفَحم. يحتاج للطاقة فقط، التي يمكن توليدها بطريقة أو بأخرى: بالفحم، أو بالبترول (الذي كان يعتبر إلى زمن قريب ماءً مُلوَّثاً ليس إلا)، أو بالتفاعلات النوويّة، أو بأي فكرةٍ أخرى. ماء الشرب ليس مشروطاً بالآبار، بل يمكن استخلاصه من البحر أو بوسائل أخرى. الرمل الذي لم يكن له أهمية كبيرة في الماضي، أُستخدم أوّلاً في صناعة الزجاج، وها هو يستخدم اليوم كمادة رئيسة في صناعة الأقراص المدمّجة «سي دي روم»، و«سيليسيوم» أجهزة الكمبيوتر! انعقاد الاجتماعات التي تضمُّ بشراً من أماكن جغرافية متباعدة لم يَعد اليوم مشروطاً بالسفر، بالإمكان عقدها بطريقة «الفيديوكونفرنس». أنترنت، قبل هذا وذاك، منح البشرية إمكانيات وموارد جديدة لا حدود لها، لم تخطر ببال قبل ذلك.

قلتُ لِنفسي: إذا كان لديّ موضوعٌ أريد أن أقدِّمه لحضرة كاشف الأسرار وأقرأ تحليلَهُ وتقريرَهُ عنه، فهو: حنايا! حنايا نفسها، لغز ألغازي: ثلاثة سنوات من عشقٍ رقيق عارم التقينا خلالها في أرقى عواصم العالم، في كثير من فنادقها ودورِ ضيافة جامعاتها. زرنا متاحفها وعبرنا شوارعها حتى ساعات متأخرة من الليل. تبادلنا العناق والذكريات، لم نتوقف عن المراسلة والاتصالات . وفصلتْنا مع ذلك خارطةُ طريق مستحيلةُ التفسير والإدراك!

كنتُ أتوق لأن أختبرَ بأم عينيّ ما قالته حنايا عن كاشف الأسرار (الذي بدا لي إعجازاً علميّاً خارقاً)، وأخاف في نفس الوقت أن أُعرِّي أمامه معشوقتي (التي أحرص أنا نفسي على تغطية جسدِها قبل النوم بالملايات). راودتني مع ذلك رغبةٌ شديدة، لم أستطع كبحها، في أن أفكِّرَ أمامه بكل تفاصيل لقاءاتنا، وبكل ما تقاطر إلى أذني عن طفولتها أثناء حوارات متباعدة، لأتأكَّدَ أوّلاً أن كاشف الأسرار استطاعَ فعلاً قراءة ما يدور ببالي وأدركَ كنهَ ما أفكّر به، ثمّ لأصغي لتحليله واضاءاته بعد ذلك لأسرار خارطة الطريق.

حنايا تتحدّث بصعوبة عن طفولتها. هي مثل أهل عمان منغلقةٌ على نفسها متحفِّظةٌ كتومة . عُمان بلدٌ صامت، باردٌ جدّاً (لا أعني الطقس الجويّ بطبيعة الحال)، يجيد فن إخفاء نفسه عن العالم، يمارس بمنهجية العزلة والتستر والحياة في الظلّ، في الزوايا المظلمة الخفيّة . لو أقيمت حلبةُ رقصٍ كونيّةٌ شبابيةٌ صاخبة يحضرها ممثلٌ عن كل بلد، فممثلُ عمان سيصلها من باب خلفي، بالخنجر والعمامة الفولكلورية والقميص التقليدي، سيتنحّى بوقار في أكثر زواياها ظُلمَةً ليشربَ كأساً من القهوة العربيّة دون أن يتحدّث مع أحد، سيغادرُ الحلبة في العاشرة مساء معتذراً (بابتسامة مقتضبةٍ، بحشمةٍ وحسنِ أدبٍ جم)، قائلاً أن عليه إن يغادر للنوم.

كنّا نتجوّل في سنترال بارك عندما عرفت من حنايا أن هناك رجلا خدش بمخالبه طفولتها إلى الأبد: سلطان بن محمد البوحديد! يثير هلعها حتى اليوم. تخاف مكْرَه حتّى وهي تعيش في لندن، بعد كل هذه السنين التي أبعدتها عنه . قالت:

ـ سلطان قريبٌ من قمّة السلطة، إن لم يكن الأقرب! لعله أكثر الناس نفوذاً. أسمتهُ حنايا: «قائد ميليشيا الظلمات»، لأنه يدير كلَّ شيء خلف الكواليس. يشتغل في الظل، يميل إلى ذلك، لا يمكنه إلا أن يكون كذلك حتى لا يحفر قبرَهُ بِيده، لأن الظلّ يمنع الآخرين من رؤية حجم سلطته ومدى تورطاته، ويضمن له ما يُفضِّلهُ على الدوام: فضاءَ نفوذٍ هو سيّدُهُ الأوحد دون منازع أو سلطان آخر. أدار مؤسسات اقتصادية حسّاسة قابضة، كان وزيراً للاقتصاد والمالية والتجارة، لكنه كان دوماً أحد مفاتيح الأمن في البلاد إن لم يكن مفتاحها الأهم. يُوجِّهُ مباشرةً حيناً، ومن الخلف حيناً آخر، شئونَ المكتب السلطاني والبلاط. ذلك ما يهمه أساساً . السمعة المحمودة التي أكتسبها عند إدارة الوزارات والمؤسسات لم تكن إلا بغرض ذرِّ الغبار في الأعين، واكتسابِ صورةٍ مقنَّعةٍ تسمحُ له بإخفاء طبيعته الأخطبوطية. ثمَّ هو، قبل كلِّ هذا وذاك، شديدُ الغنى، متعدِّدُ المليارات الموزعة بعناية وذكاء في الخارج، بين عقارات وأموال سائلة وممتلكات وأسهم بورصة.

سألتُ حنايا: كيف وصل إلى ذلك؟

أجابت: كان والده الشيخ محمد البوحديد تاجراً في عمان التي كانت فقيرة قبيل الطفرة البترولية. أرسله للدراسة في مصر، ثمَّ في لندن . أبي (شقيق سلطان من الأم) عاش في منزل سلطان الذي كان طبيعياً أن يضمّه لرعايته منذ أن توفّت أمهما وهما صغيران. ثمَّ رافق أبي أخاه للدراسة في الخارج. في المنزل كان سلطان الطفل المدلّل، الأمير الصغير. أختلف أبي عن سلطان في أشياء كثيرة: كان وسيماً بشكلٍ غير اعتيادي، بهي الطلعة، فارع الطول، مغامراً، متمرِّداً، شديد الثقة بنفسه، يستقبح مفهوم القبيلة ولا يطيق سجون عاداتها وتقاليدها. كان حلمه أن يكون ممثلاً سينمائياً لا أكثر ولا أقل! لم يهتم كثيراً بالدراسة كسلطان الذي واظب عليها في مصر ولندن، قبل أن يعودَ إلى عمان ويتسلّقَ بلمحةِ بصر هرمَ الاقتصاد والإدارة. عاد أبي بعده بأشْهُر بزوجةٍ إنجليزية، وبميولٍ ثورية قادته للانضمام إلى الجبهة الشعبية لتحرير عمان، ولعبِ دورٍ قياديٍّ فيها.

واظب سلطان، مثل أبيه، على توجيه دفّة القبيلة وإدارة طقوسها اليومية. أضحى واجهتَها الرسمية، مايسترو موازينها وأعرافها وعلاقاتها. اختار سلطان بالطبع جانبَ السلطان (لكل امرئٍ من اسمه حظٌّ ونصيب). ثمَّ دخل في مؤامرة قتلِهِ لصالحِ السلطانِ الابن (لِسلطان حاسّةٌ سادسةٌ نموذجية تسمح له باختيار المرمى المنتصر على الدوام). مثل السلطانِ الابن كان سلطانُ حريصاً على ضرب الثورة الناهضة بكل الوسائل. جاءهما مدُّ الدول المجاورة التي دبَّرت أيضاً مؤامرة اغتيال الرئيس المتنوِّر إبراهيم الحمدي في شمال اليمن، وضمنَتْ لِليمن قبوعاً ثابتاً في وحْلِ القبيلةِ والتخلفِ والفسادِ حتّى اليوم. استنهضَ السلطانُ وسلطانُ القبائل. كان الثاني المبعوثَ الرسمي للأول إليها، والمهندسَ المبدع لِتحريضها وكسب ولائها بكلِّ الوسائل، من الدعاية المضادة للثورة واستنهاض النعرات وتمجيد الماضي والأعراف، إلى المدِّ المالي والكرم والحديث المطرَّزِ بالتأدب والمدح.

تمَّ إخماد الثورة وإن صمد بعض مناضليها الأكثر عناداً وبسالة. كان والدي أحدهم. استُخدِمَت ضد هؤلاء القوة والإغراء ووسائل ماكرة متعدِّدة. لم ينس سلطان حمايةَ أخيه. اختطفه وأخفاه في رعاية قبيلةٍ قريبةٍ منه. أرسلَ والدتي، التي كانت حاملةً بي، للوضع في «مستشفى الجمهورية» في عدَن (مستشفى الملكة اليزابث، كما كان يسمى أيام الاستعمار الإنجليزي). ثمَّ تمكّن من تهريب أبي ليلحقها إلى عدَن. بعد أن كسب سلطان أخاه بهذه الحماية والثقة، أغراه بالنفوذ والمال وبعضٍ من سلطتِهِ وممتلكاته. أسال لعابَه. فسلطانُ الذي كان سابقاً «فأر أنابيب» أضحى «حوت أنابيب»، ازداد دهاءً وتجربةً ومعرفةً بكل مفاصل الحياة العمانية، لاسيما بعد عودته من لندن وانخراطه في كل المطابخ السياسية الناجحة. تميَّز على الدوام بمهارته في فنّ الإغراء وإسقاط النفوس. يؤمن بشكلٍٍ قاطع أن أي إنسان في الكون قابلٌ للشراء إذا قُدِّم له السعر المناسب! ثمّ هو يعرف طبيعة أبي وحاجاته الدفينة. يعرف أن أبي، في عمق أعماقه، يشبهه بشكلٍ أو بآخر.

كان سلطانُ واثقاً أن الثورة في عدَن، التي أصرَّ على تهريب أبي إليها، لم تكن ممتعةً كفيلمٍ سينمائي، إن لم تكن أقصر الطرق التي ستجعل أبي «يُعَطِّف» ثوريّتَه ويبحث عن دربٍ آخر. وعدَهُ أيضاً بمنصب سفير، «أقرب الوظائف إلى دور الممثل السينمائي»، كما قال له بما لا يخلو من السخريّة! وقعَ أبي في صُنّارة أخيه. خان آخر رفاقه. عاد إلى عمان بصحبتي وأمي. ثمَّ طلّق أمي بعد أن ضمن له سلطان حضانتي. عادت أمي إلى لندن مقهورةً حاقدة لتبدأ كفاحاً طويلا من أجل استعادتي، دام سنوات، وانتهى بصفقة غامضةٍ أجهلُ كلَّ تفاصيلها. عُيِّنَ أبي سفيراً. أحبَّ ذلك كثيراً. بدأ يجول العالم. ثمَّ فقد اهتمامه بالمال والأعمال! عشق حسناء إيرانية، لها علاقةُ قرابةٍ بعائلة شاه إيران، «هرب» ليعيش معها في ضيعةٍ هادئةٍ نائية في أمريكا! كان ابتعادُه المفاجئ عن العمل الدبلوماسي فضيحةً تركها عبئاً على سلطان، كادت أن تنفجر في وجهه لولا أنه استطاع لملمتَها وتحجيمَ آثارها بمراوغته ودهائه، واستخدامه للقوة والنفوذ والإغراء في نفس الوقت، وإن لم يستطع إطفاء حقدِهِ الشخصي على أخيه «الخائن».

في جولةٍ مع حنايا في روما (بين نافورة دوتريفي، ساحة أسبانيا، وحديقة سيركوس ماكسيمو)، بعد حوالي سنة من لقاء سنترال بارك، أضافت لِسيرتها ما يلي:

كنتُ وديعةً بيد سلطان. لم يعاملني بسوء. زوجته وأطفاله كانوا يحبونني كثيراً بلا شك. غير أنه ظلَّ ساخطاً على والدي بعد هروبه. كنتُ أكرهه كثيراً لأنه يجيد إظهار صورة إنسانٍ بسيطٍ متواضع، حسن الأخلاق، لكنه يخفي شيطاناً ميكافيلياً، خطيراً جدا، يمكنه عمل أي شيء للوصول لأهدافه حتى وإن اضطره ذلك سنيناً من الانتظار. عرفتُ فيما بعد من أمي، التي كانت زميلة سلطان في الجامعة، أنه يكرهها لأنه أحبَّها في نفس وقت أخيه، إن لم يكن قبله بقليل، لكنها اختارت أبي ورفضت عمّي. لم يغفر سلطان لها ذلك. طوال سنين حياتي في بيت سلطان غرس في ذهني أن أمي باغية، وأنه مارس العشق معها في الخفاء عن أبي قبل زواجهما، وأنّها طلبَتْ منه النوم معها بعد زواجها بأبي، لكنه رفض! كان يراني صورةً مصغَّرةً من أمي لأني كنتُ أشبهها شكلاً وسلوكاً. لم يتوقف عن شتمها، وعن القسَم بأنه سيضمن لي تربيةً معاكسة. لعله كان يحتقر الحب والجنس (لا أظن أنه أحبَّ أمي فعلاً، لكنه اشتهاها لا غير، بشكلٍ أو بآخر) وإن كان يميل للحديث عن بطولات غرامية مع فتيات من شرق الأرض إلى غربها. له، حسب الدعاية التي يحب أن يُسرِّبها في محيطه القريب، عشيقات من أمريكا وفرنسا وايطاليا وألمانيا والهند وإيران. الحق أن الشيخ سلطان بن محمد البوحديد لا يستطيع أن يعشق أحداً غير نفسه! كان يجيد حكاية الأمور، تقبيحها أو تجميلها، حسب رغباته وسجيّته. حاول تربيتي لأكون عكس أمي تماماً. أحاطني بطاقمٍ من المربيات والداعيات المهنيّات اللواتي لم يتوقفن أيضاً عن شتم أمي «العاهرة» وأبي «الفاشل». حاصرنني بكلِّ المحظورات، أضعاف محاصرتهن بقية بنات القصر. لعلي صرتُ بسبب ذلك سلفيَّة متطرِّفةً في لحظةٍ ما.

(4)

بعد يومين وصلتُ إلى مختبر العصبونات الذهنية، في الصباح الباكر. كان لي موعدٌ مع رئيسه. استقبلتني حنايا في بهو المختبر بفانيلة بلون الخردل (صفراء مُخضرَّة) أنيقةٍ عليها بعض النقوش اليابانية البنفسجية، ببنطلونٍ بُنيٍّ كاكي من ماركةٍ راقية، بابتسامةٍ نابضة ولمعةٍ في العينين أعشقُها بشكل خاص. في أحد جدران البهو صُوَرٌ لعلماء لم أعرف منهم إلا دو بوركا الذي توجدُ منطقةٌ في دماغ الإنسان تحملُ اسمَه. اشتهر بأنه درس بعض الارتباكات اللغوية لِمريضٍ أحبس متعثِّر النطق، اسمه لوبورن. ثمَّ أجرى لدماغ ذلك المريض بعد موته عمليةَ تشريح في عام 1861، ليجد «ثُقباً»، أو خللاً في منطقة محدَّدة فيه (تسمى اليوم بمنطقة دو بوركا)، مسئولةٍ عن النطق. في وسط بهو المختبر علبةٌ زجاجية ضخمة تحوي كُرَتين ثلاثيتي الأبعاد مرسومةٌ عليهما خارطةُ الدماغ الإنساني. لعلَّ خارطة الكرة الأرضية الجغرافية والجيولوجية بالمقارنة بها أشبه بلعبة طفل. قابلتُ رئيس المختبر بصحبة حنايا التي قامت بتقديمنا لبعضنا. شرح لي أني سأبدأ بعد بضعة أيام فحصاً وامتحاناً شاملا لدماغي بغرض إدخال خصوصياته وطوبوغرافيته لبرنامج كاشف الأسرار، قبل أن يبدأ البرنامج قراءة وتحليل أفكاري. سيستغرق الفحص أسبوعا كاملا!

ـ أسبوع كامل؟، سألتُ مستغرباً.

ـ نعم، لا يمكننا بعدُ أتمتةَ هذه المرحلة التمهيدية الضرورية. يلزم حالياً فريقٌ من حوالي تسعة متخصصين لدراسة نتائج أسبوع الفحص، وتكييف المؤشرات العامة لبرنامج كاشف الأسرار، بشكلٍ يَدَوِيّ، لتنسجم مع مقاسات دماغ الممتحَن. نحتاج لسنين كثيرة من الأبحاث قبل أتمتةِ هذه المرحلة بشكل كامل (أو بعض أجزائها على الأقل) وتأهيلِ الكمبيوتر ليحلَّ محل الفريق العلمي، ويوجز هذه المرحلة التمهيدية في ساعاتٍ قليلةٍ فقط. لكنها في الوقت الراهن مرحلةٌ طويلة، شائكة، قد تكون مملّةً جدّا بالنسبة لك.

وافقتُ على شروط وبرنامج الفحص، وقّعتُ على عددٍ من الأوراق الإدارية التي تُلزمني بعدم الحديث عن تفاصيل الأجهزة التي سأراها، وتفاصيل برنامج العمل. ثمَّ قال لي إنه سيقدِّم لي بعض التعليمات النهائية قبل بدء اللقاء مع كاشف الأسرار مباشرة، ليستطيع الأخير قراءة أفكاري «ساخنة»! ثمَّ بدأتُ أسبوعاً مكثَّفاً من الامتحانات الدقيقة التي صُوِّرَتْ خلالها نشاطات دماغي دون توقّف. امتحاناتٌ لدراسة مستوى وسرعة نشاطي الذهني، سرعة اتصالات عصبوناتي، سرعة الفهم، درجة الانتباه، الذاكرة. ثمّ امتحانات وتحليلات لمدى الاضطرابات الذهنية والعاطفية. امتحانات أخرى لتحليل المستوى الثقافي العام. قُدِّمت لي صورٌ وأفلامٌ تمَّ تصويرُ ودراسة تفاعل دماغي معها أوَّلاً بأوّل بدِقّةٍ ميكروسكوبية. امتحانات أخرى كثيرة وطويلة ارتبطت باللغة، بأسلوب التعبير، والاضطرابات اللغوية الممكنة.

عرفتُ أنهم في المختبر يركِّزون بشكلٍ استثنائي على تحليل اللغة كونها منظومةَ إشارات للتعبير عن الأفكار، ووسيلةً متميزة لنقلها. لمختبرهم أبحاث طليعية وتخصصات نادرة في هذا المجال. تمَّ تسجيل ردودي والتصوير الديناميكي لنشاطات دماغي في نفس الوقت، بُغية التحديد الدقيق لخارطته الخاصة. قبل ذلك مررت امتحانات متخصصة بالاعتقادات الكاذبة (درجة أولى، ودرجة ثانية)، وامتحانات أخرى لقراءة الأفكار الكاذبة، وتحليل العواطف من النظرات.

في بداية الأسبوع مررتُ أيضاً امتحانات كتابية. سألني الكمبيوتر:

ـ هل تكتب باليد اليسار أو اليمين؟

ـ أنا «أضْبَطٌ»، يمكنني، مثل بعض الناس، استخدام اليدين في الكتابة.

ركَّز الفريق على حالتي باهتمام أكبر. لعلّهم في المختبر يبحثون عن عيّناتٍ مثلي لإغناء أبحاثهم، لاسيما وأن طوبولوجيا الدماغ تختلفُ قليلاً عندما تُستخدمُ اليدُ اليمين، أو اليسار، أو الإثنتين معاً للكتابة. كدتُ أضيفُ لإجابتي الأخيرة: «لعلّي لذلك أعشق فردوس وحنايا في نفس الوقت!»، لكني كتمتُ ذلك.

عقد الفريق أكثر من اجتماعٍ يوميٍّ لِمقارنة النتائج أوّلاً بأوَّل. تمَّ إعادة بعض الامتحانات من جديد وبِطُرقٍ مختلفة عند بروز اختلافات في التحاليل بين أعضاء الفريق العلمي. ثمّ مررتُ امتحانات خاصة بالمخيخ لدراسة نشاطات التوهُّم. تلتها امتحانات هامة ومطوَّلة مسَّتْ «الذهن الاجتماعي»، الوعي بالذات، الأحكام الأخلاقية والقرارات الشخصية. تمَّ تصوير دماغي بدقّة هائلة عند رؤية مقاطع محدَّدة من بعض الأفلام والصور بُغية فهم وإجلاء قسمات وملامح بسيكولوجيتي و«مسلَّماتي الحدسيّة» الاجتماعية. لم أتوقف خلال كلِّ الأسبوع من مواجهةِ شاشةٍ ضخمة امتلأت بفيلمٍ مسرحُهُ وبطلُهُ الوحيد: دماغي. امتلأت الشاشة ببعض مناطقهِ أو بهِ كلِّه، بخارطةٍ لتضاريسِهِ تزدادُ تحديداً ساعةً بعد ساعة، بالإشارات الجرافيكية الملونة، بالأسهم المتحركة، بالألوان المختلفة والوسائل «متعدِّدةِ الوسائط» الراقية. أسبوعٌ كامل التصقَ خلالهُ بِجمجمتي أخطبوطٌ من اللاقطات والكشّافات الالكترونية الصغيرة الموزّعة على مواضع مختلفة في رأسي للتنصُّتِ على رعشات عصبوناته، والمربوطة بأسلاك رفيعة (أو باتصالات لاسلكية) بكمبيوترات جبّارةٍ عديدة. واجهتني شاشات كمبيوتر لم تتوقّف من إخراج رسومات جرافيكية ملوَّنة وتحليلات لمقاطع معيّنة من دماغي وطباعة تقارير مصغَّرة عنها. بعضُها كانت ترسم جمجمتي منزوعةَ الفوهةِ العظميّة، يملأها حساءٌ مُلوَّنٌ كثيفٌ يقبعُ داخل طستٍ من عظام.

فوق كشّافات ولاقطات قلنسوةِ جمجمتي حزمةٌ متنوِّعة من أحدثِ ما وصل العلمُ إليه من أجهزة تصوير الدماغ، أشبه برادارات وغوّاصات وهيلوكبترات التجسُّسِ العسكرية. لا تتوقَّفُ شاشاتُ الكمبيوتر من تحليل صور هذه الأجهزة ورسم الخرائط الديناميكية المتغيّرة لخطوط المواصلات الكهروكيماوية التي تربط محطَّات عصبوناتي. الدماغ على الشاشة يُشبه كوكباً مكتظّاً بمليارات الأنفاق والسراديب والممرّات والقنوات التي تعبرها ملايين المليارات من النمل بسرعة جنونية. وفي الجهة الخلفية من دماغي، وراء جدارٍ زجاجي، هيئةُ الأركان بكامل طاقمها: أقصدُ فريقاً علميّاً رفيع المستوى، يعقدُ بكلِّ أعضائه اجتماعات متواصلة وكأنه في حالة طوارئ دائمة.

لفت انتباهي هذا الحوار مع الكمبيوتر الذي سألني في منتصف الأسبوع:

ـ لو كان لك أن تختار مسقطَ رأسك فماذا ستختار؟

ـ رأس الرجاء الصالح! (لعلَّ هذه الإجابة خطرت ببالي قبل ذلك، في آخر زيارةٍ سياحيّة لي مع فردوس إلى جنوب أفريقيا)

ـ لماذا؟.

ـ أحبُّ كثيراً أقصى القارة الأفريقية، حيث يتعانق المحيط الهندي بالمحيط الأطلسي! أعشقُ بشكل خاص تلك البقعة الجغرافية الميثولوجية التي تتوحّدُ فيها أمواج الأوّلِ الدافئة مع أمواج الثاني الباردة. منطقةٌ متميَّزة الثراء: تحملُ لها أمواج المحيط الهندي مناخَها، دفأَها، أسماكَها وقواقعَها ونباتاتها، وتحملُ لها أمواج المحيط الأطلسي كلَّ خصوصياتها أيضاً. تختلف فيها درجة حرارة الماء 14 درجة بين نقطتين لا تفصلهما غير عشرة كيلومترات فقط، إحداهما في المحيط الهندي والأخرى في المحيط الأطلسي! لذلك هي أغنى مناطق العالم بالنباتات والأسماك المتنوعة والطيور النادرة.

كدتُ أضيف لإجابتي: «لعلي لذلك أيضاً أعشق فردوس وحنايا في نفس الوقت!» . كتمتُ ذلك. استغربتُ حينها من الكمبيوتر وهو يسألني هذه المرّة:

ـ ماذا أردتَ الإضافة؟

ـ لا شيء .، أجبتُ.

ـ هل أنت متأكد من ذلك؟

ـ .

رمقتُ لحظتها، في إحدى شاشات الكمبيوتر، إشارات وخطوط حمراء غريبة وتقارير مستعجلة قُدِّمت لتحليل الفريق العلمي (تلتها همسات واختلاف في الآراء وتحفّظات، ونظراتٌ شزرتني بتفحّصٍ سريع). أعيدت جراء ذلك من جديد امتحانات خاصة لدرجة مصداقيتي وتحديد النقاط التي لا أنوي الحديث عنها . أيقنتُ حينها أنه حتى وإن لم ينته بعدُ أسبوعُ دراسة طوبوجرافيا دماغي، فلدى الكمبيوتر صورةٌ جزئيةٌ عنه لا يستهان بدقَّتِها . ثمَّ فوجئتُ بالفريق العلمي يضحك عند قراءة تقرير صغيرٍ عاجل وصلهُ من الكمبيوتر! سألتُ أحدَ أعضاء الفريق في نهاية ذلك اليوم عن سبب ضحكهم. أجاب أن الكمبيوتر، الذي يميل أحيانا لاستخدام الفكاهة لاسيّما عندما يرى الفريق في حالة استغراق وتفكير مُرهِقَين، علَّقَ قائلاً: «نحنُ أمام حيوانٍ برمائي!»

(5)

في لحظةٍ مفاجئةٍ من اليوم الثامن من الفحص قال لي رئيس المختبر:

ـ يبدو أن عند كاشف الأسرار صورةً كاملةً دقيقة لِخصوصيات بُنيةِ دماغك وطريقةِ عمله! هو جاهزٌ الآن لقراءةِ كتابِ أفكارك والتفاعلِ معها. لو كنتَ نائماً تحلمُ أمامهُ الآن، فبإمكانه سردَ ما تحلم به وكتابةَ تقريرٍ عنه! بعد دقائق إذَن ستبدأ لقاءك بكاشف الأسرار. نُحبِّذُ أن يكون الموضوع الذي تفكِّرُ فيه موضوعاً يُهمُّكَ كثيراً، يُثيرك جدّاً، تتجاذبك فيه آراء وفرضيات مختلفة، ذكريات قويّة، تضاربات واستفسارات عديدة. يُهمُّنا جدّا اختبارَ مقدرات الكاشف على استشفافِ المواضيع المعقّدة، بعد أن نجح كثيراً في السنوات الماضية في قراءة وتحليل مواضيع التفكير الصغيرة لعددٍ كبيرٍ من الأفراد!

قلتُ لنفسي: سأحاول خوض موضوع حنايا، بشكلٍ أو بآخر، مُلَفِّقاً اسمَها وهويَّتَها بما أستطيعُهُ من تغليفٍ وتوريات، كي يُجلي لي كاشفُ الأسرارِ خفايا هذا العشق الذي تخنقُهُ «خارطة الطريق»! لولا أن رئيس المختبر أضاف:

ـ ستستلم التقرير بعد أقلِّ من نصف ساعة من انتهاء لقاءِك مع كاشف الأسرار. ثمَّ سيبدأُ الفريقُ العلمي اجتماعات لتحليل التقرير معك من الغد، لأخذ رأيك فيه، ولمناقشة جدواه في ضوء الصور الديناميكية التي سنأخذها لدماغك. سنحتاج كثيراً لرأيك الشخصي وانطباعاتك الدقيقة حول كلِّ فقرات التقرير، حول مدى إدراكِ كاشف الأسرار لما كنتَ تفكِّر به. يُهمُّنا بشكلٍ خاص تقويمك لِعمقِ تحليله لمواضيع تفكيرك الرئيسة وإجلاء ما لم يلتقطهُ منها إطلاقاً أو ما يلتقطهُ جزئياً فقط. أتمنى لك تفكيراً مثمراً، تقريراً عميقاً، وحظّاً سعيدا!

سحبتُ إثر ذلك موضوع حنايا من مائدة التفكير في حضرة كاشف الأسرار. كان آخرُ ما يمكنني أن أرتكبهُ هو «تعريتَها» أمام زملاء عملها! شعرتُ أني سأنكشف تماماً عند النقاش معهم مهما حاولتُ إخفاءَ شخصيتها وتمويهَ سِيرتها، لأن اللاقطات الالكترونية التي ستُغرَسُ في تلابيب وأقبية دماغي، وبرامجَ الكمبيوتر العبقريّةَ التي ستُحلِّلُ حركاته وسكناته، المدجَّجةَ بآخر نتائج علوم «الذكاء الاصطناعي»، ستكشفُ سريعاً النقابَ عن مغالطةٍ جسيمة، رديئةٍ جدّاً. في تلك اللحظة بالذات صعدَتْ من عمق أعماق دماغي ذكرياتٌ كثيفةٌ غامضة استطعتُ تناسيها بضعة عشرات سنوات، وإن داهمتْني في الحلم هنا وهناك! صعدَتْ بقوّة وهدوء وثقة وكأنها بانتظار هذا الموعد منذ زمنٍ طويل. ثمّة في حياة المرء لحظاتٌ غريبة تظلُّ نائمةً في الغور، منسيَّةً لزمنٍ طويل، قبل أن تتحرَّرَ من قمقمِها وتندفعَ نحو السطح في لحظةٍ قدَريَّةٍ مفاجئة. مسرحُ تلك الذكريات الخلاءاتُ الرمليّةُ المحيطةُ بحيّ الشيخ عثمان في عدَن، مسقط رأسي. وسطُ المسرح طفلٌ لم يكمل الرابعة عشرة من العمر، نحيفٌ إلى حدٍّ ما، يلبسُ قميصاً أخضر غير متقن الكي، وبنطلوناً أسود غير مضبوط النهايات. بجانبه والدُه الطويلُ المتينُ الجسد، بِوجهِهِ ذي اللون الأحمر الفاتح، بعمامته وقميصه التقليديين الأبيضين اللذين يهبانه طلعةً دينيةً جليلة.

أخذني أبي ذلك اليوم لنتجوَّلَ وحدَينا في الكثبان الرملية المحيطة بِحَيِّنا في عدَن، في ساعة نهاية العصر، نفسِ الساعة التي اختارها منذ سنوات لتَلْقِيني دروساً كئيبةً في الفقه والتفسير والنحو والفرائض والبلاغة. في تلك الساعة العذبة التي تخفُّ فيها وطأة شمس عدَن الماحقة، يتنقلُ أصدقائي في الشارع أو في الخلاءات الرمليّة المجاورة من حارةٍ لِحارة، من ملعبِ كرةٍ لِملعب كرة، من مغازلةٍ لمغازلة. وأنا أتنقَّلُ من شرح الكافوري إلى الزمخشري، من تفسير الصاوي إلى الطبري، من أحاديث الترمذي إلى ابن ماجه، من الزُّبد إلى ألفيَّةِ ابن مالك. لم يتجوَّل أبي معي رأساً برأس قبل ذلك اليوم. لم أعهده أيضاً بِروحِ فكاهةٍ رفيعةٍ كهذه، بالغَ اللطف والظرف والإصغاء لما أقوله. أعترفُ أنه كان دوماً لانهائيَّ الحنان والرقّة، لكن المشي أو الحديث معه يعجُّ من طرفِهِ إلى طرفِهِ بِ«الذِّكر» والفقه والشعر الصوفي والنحو، وكلّ ما لا يثيرُ متعةَ طفلٍ بِعُمرِ شمسان. اكتشفتُ مع ذلك في تلك الجولة أن دروسه الفقهية القاسية وأشعاره الغليظة يمكنها أن تكون أيضاً واحةَ تسلية وإمتاع! غمرني ذلك اليوم بطرائف لغوية، ضحكتُ لِبعضِها بقوة. أتذكَّرُ لغزاً شعريَّاً رائعاً (لم أنساهُ من ذلك اليوم) اكتشفتُ من مدلوله أن الإنسان بإمكانه أن يكون (بطريقةٍ شرعيّة!) عمّاً لعمَّتِه وخالاً لخالتِه! طلب مني أن أفسِّر ذلك في ضوء الإشارات التي تحملها هذه الأبيات:

لي عمةٌ وأنا عمُّها                               ولي خالةٌ وأنا خالُها

فأما التي أنا عمٌّ لها                              فإن أبي أمَّهُ أمُّها

أبوها أخي وأخوها أبي                           ولي خالةٌ وكذا حُكمُها

كان ذلك أوّلُ لقاءٍ وُديٍّ حميميٍّ يجمعُنا (وآخر لقاءٍ أيضاً). لعلّ لذلك خانني سؤالٌ فلت من لساني على حين غرّة (أشعر حتى اليوم بالخجل من توجيهه):

ـ إعترفْ، أباه، أني الطالب الأفضل!

هو شديدُ البخل في التشجيع والمدح، وأنا أميل إلى الخجلِ والمبالغة في التواضع. غير أن هذه اللحظات الوديّة الرقيقة النادرة منحتني الجرأة لأن أطلب منه مدحاً وتشجيعاً، من باب العرفان (على الأقل) بتفاعلي الصامد مع دروسه الثقيلة التي يُلقِّنُني إياها مرغِماً كل يوم، من الخامسة حتى السادسة عصراً، في أحلى وأرقِّ ساعات اليوم العدنيّ. نظرتُ له العين بالعين. لم يرد على سؤالي. لكنه ابتسم ابتسامةً مقتضبةً سريعةً جدّاً، كانت كافيةً بالنسبة لي، منحَتْني بعض الثقة بالنفس حتى آخر العُمر! ثمَّ غيَّرَ موضوعَ الحديث سريعاً ليطلب مني قراءة بعض آياتٍ من الذِّكر الحكيم بعد موته، مرة واحدة كل أسبوع على الأقل، وإهداءَ ثوابِ ما أقرأه لِروحِه! شعرتُ بارتباك مفاجئ، بِرُعبٍ من سماع كلمة الموت، بعدمِ فهمٍ كُلِّي لهذه الوصيّة التي تُخفي شيئاً ما يُشبِهُ المؤامرة، والتي أجبرتُ نفسي على تناسيها قدرَ ما أستطيع!

كيف أُلخِّصُ أبي في كلمتين؟ . رجلٌ يعشقُ رائحةَ المداد. يهوى جمعَ أقلام الحبر والكرّاسات المجلّدة الفاخرة، يُقدِّسُ الأوراق البيضاء السميكة الناصعة الجميلة. هوايتُهُ السريّة: بَرْيُ أكداسٍ شديدةِ التنوِّعِ والتألق من أقلام الرصاص، يحفظُها بعناية في صندوقٍ خفيّ أسفل سريره. أتذكَّرُهُ ذات يوم وهو يفتحُ علبةَ مدادٍ وصلتْهُ هديَّةً من صديقٍ في بلدٍ بعيد، يتفحَّصُها، يستنشقُها، يبتسمُ كطفل في أوجِ سعادته، يقول: «مدادٌ رائع، مُنقَّعٌ بالجودة، عذبٌ، عبِق!». كم كان سعيداً عندما كنتُ أقولُ له أحياناً: «أباه! لِغرفَتِكَ رائحةُ أقلامِ الرصاص!»

ثمَّ مات يوماً! لم يطمّهُ طوفانٌ من المداد «الرائعِ، المُنقَّعِ بالجودة، العذبِ، العبق»، لم يُغطَّ بِكفَنٍ من الأوراق المصقولة البيضاء الجميلة، لم تُفرش أسفلهُ وسادةٌ من الكُتب. مات بِمرضٍ لا يهبهُ ربُّ الفقراء إلا للبلدان الفقيرة. كلّما أستعيد ذكراه اليوم لا يتجسّد أمامي إلا شيءٌ واحد: كثافة ولانهائية شغفِه! لم يتوقّف لحظةً عن القراءة، الكتابة، العبادة، الذكر، الابتهال، الدموع، التضرّع، الصلاة حتى مطلع الفجر. يمارس كلّ ذلك بعشقٍ صوفيٍّ، بذوبانٍ وفناء. لعلَّ رؤية ومعاشرة ذلك الشغف ليل نهار هو أعظمُ وأنبلُ ما أهدتهُ الحياة لي!

غير أنهُ مات ليتركَ على أكتافي عبئاً بالغ الثِّقل:

ـ «أتتذكَّرُ الوصية؟»

ـ نعم أتذكَّرُها أبي!

من هذه الوصية بدأتُ تفكيري أمام لاقطات وشاشات كاشف الأسرار. بعد انتهاء الجلسة مع الكاشف، تناولتُ الشاي مع رئيس المختبر وحنايا. طلب مني رئيس المختبر أن لا أبوح بالموضوع الذي فكَّرتُ فيه لأحد قبل أن أستلم التقرير. قال لي رئيس المختبر: «حتّى وإن لم تكن حنايا ضمن الفريق العلمي، فدورُها هامٌّ في تصميمِ وبرمجة كاشف الأسرار! تحمَّلَتْ، خلال سنوات أطروحة دكتوراتها وبعدها بسنوات، مسئوليةَ النمذجة الرياضية لِمتابعة أيِّ نشاطٍ ذهنيٍّ مُحدَّد بين خليطٍ متشابكٍ من الأنشطة». لاحظ أني لم أفهم ما قاله. أضافَ مُبَسِّطاً: «حركةُ التيّارات الكهروكيماوية لمجمل نشاطات الدماغ عجينٌ لانهائي التعقيد والتشابك، تختلط فيها نشاطات الحواس، وحركة الجسد، والتفكير والمشاعر . كيف يمكن محاصرة ومتابعة نشاطٍ صغيرٍ مُحدَّدٍ داخل حساءٍ عارمِ التشعُّبِ والعشوائية؟ هذا ما تخصَّصَتْ فيه حنايا قبل سنوات. نمذَجَتُها لِطرقٍ رياضية جديدة لحلِّ هذه الإشكالية العلميّة العويصة مغروسةٌ حاليّاً في أحشاء برمجيات كاشف الأسرار. يسمحُ له ذلك بمتابعة تفكيرك مثلاً وإهمال كل نشاطاتك الذهنية الأخرى، مثل سفينةٍ فضائية تتابعُ وسط حركةِ مرورِ سياراتِ الكرة الأرضية نمطاً مُعيَّناً من السيّارات فقط: التاكسيات، أو سيارات الفوكسواجن.»

نظرتُ لحناياي بإعجابٍ عاشقٍ لا حدَّ له. قلتُ لِنفسي من باب السخريّة الغرامية أيضاً: «هي عبقريةٌ في خرائط الطريق، على الدوام!». بعد نصف ساعة فقط خرج التقريرُ من الطابعة، تَبَعَهُ مُلحقٌ علميّ (يشرح بكلماتٍ بسيطة وفقراتٍ متسلسلة بعض المعارف الجوهرية العامة والمصطلحات العلمية، مثل مفهومِ «المنظومات الاستنباطية»، المستحسنِ استيعابُ مدلولِهِ أوّلاً قبل قراءة التقرير). أتركُ الملحق العلميّ هنا في نهاية الرواية، ملْحَقاً لها كما خرج من طابعة كاشف الأسرار، دون مسِّ حرفٍ أو فاصلةٍ منه!

أعطى رئيسُ المختبر التقريرَ والملحقَ في ظرفين لحنايا. مدّتْ لي الملحق العلمي لأقرأه وحدي خلال الظهيرة. احتفظَتْ بالتقرير قائلةً إنها ستقرأه لي هي نفسها هذا المساء!

الفصل الثاني

السفر بأسرعِ من الضوء

(1)

قرأتُ الملحقَ العلميَّ على عجل حال عودتي من المختبر إلى غرفتي. التقرير الذي ستقرأه حنايا لي هذا المساء شغل بالي. كنت مستعجلاً شغوفاً لسماعه، شديدَ النرفزة أيضاً. عندما أكون قلقاً شديد الانتظار لا تسعفني إلا الكتابة. تُفرِّجُ عني بعض الغمّ إلى هذا الحدِّ أو ذاك. تُهدِّئُ أعصابي كثيراً، تجعلني أتصالح قليلاً مع نفسي والعالم، أقاوم استفزاز الوقت الذي يمرّ بطيئاً قاهراً قاتلاً.

كتبتُ دون تفكير أو تهيئة بضعة صفحات تحكي حلماً قديماً ومشاعر جديدة! كتبتُ الصفحات الثلاث التالية:

((في البدءِ كان الروح: شبحٌ داخل ماكينةٍ اسمها الجسد، كما تقول الأديان. نفخةٌ أثيريّةٌ تغادرُهُ يوماً ما، تذوبُ في الضوء. عفواً! في البدءِ كانت الروح: رعشاتٌ كهروكيماوية في عصبونات الدماغ، كما يقول العلم. شحناتٌ كهربائية في نوافذ اتصال (سِينَابْس) تلك العصبونات مع بعضها، تؤدي إلى إطلاق مادة كيميائية (نوروميدياتور). في البدءِ إذن كانت الرقصات السينابْسية في الدماغ التي ينضحُ منها رحيقٌ كيماويٌّ يُشبِهُ عَرَق الآلهة! في بدءِ البدءِ إذَنْ: التيارُ الكهربائي، الإلكترون. كتلةٌ لانهائية الصغر، واحدٌ على مليارِ مليارِ مليارٍ من الجرام، ذو شحنةٍ كهربائيةٍ هامّةٍ مع ذلك. جُسيمٌ حرٌّ حسَّاسٌ طليق يتحرك بسرعة الضوء، يُسفلِتُ طرق مواصلات الإدراك والتفكير في عصبونات الدماغ، يمُدُّها نحو بوابات الحواس وغددها الرهيفة. في بدءِ بدءِ البدء كانت القُبْلة! قُبْلةُ حنايا التي قادتني (من غرفتها القابعة في عمارةٍ قَصِيّة تابعة لمختبر «العصبونات الذهنية» في مركز أبحاثٍ علميٍّ معزولٍ على تخومِ غابةٍ باريسية) نحو العصبونات، الروح، اللذّة المؤجّلة الظامئة العنيفة، وأشياء كثيرة أخرى . في بدءِ بدءِ البدء كان الثغرُ، استنشاقُ الآخر، تذوُّقُ نَسغِه، شربُ شهقاتِه، تنفُّسُ همساتِه، التهامُ جسدِه . قُبلةٌ إعصارية. وابلٌ من القبل المفعمة، العميقة، المندفعة، الرقيقة، المنهجية، العاشقة، الماجنة، الفاجرة التي تتغلغل مباشرة إلى النخاع الشوكي، تُغلِيه وتُشعلُه . في بدء البدايات إذن كانت القُبلة: عشقٌ يحترم مبدأ «التماثل الهندسي»، إدغامٌ جسديٌّ كاملُ التطابق، كلا العاشقَين مُرسِلٌ ومُستلِمٌ في نفس الآن. تمصُّ لسانها وتمصُّ لسانك بنفس العذوبة والنهم والعطاء والتكافؤ والتناغم والشبق الدائم. أليست القبلةُ، كما يقولون، أعلى درجات العشق، لأن العاهرات لا يُقبَّلْن؛ لأن القبلة يمكن أن تستمر إلى مالانهاية، دون أفولٍ أو جفافٍ أو انكسار؛ لأن حياة العشَّاقِ الحقيقيين عناقٌ متواصل؟

قَبْلُ المعشوقة، بعدُ المعشوقة، قبلُ القَبْلِ وبعدُ البَعد، ثمّة الحقيقة، هوَسُ البحثِ عن صيغتِها الأصليّة، الظمأُ لامتلاكها خالصةً نقيّةً عذراءَ مُجرَّدة.

القديس يوحنا: «سوف تعرفون الحقيقة، والحقيقة ستجعلكم أحراراً!».

لا أبحث عن أكثر أو أقلّ من الحرية، عزيزي القديس يوحنا! يُقرفني، بل يُغيظني حدّ الجنون أن تُخْفَى عني الحقيقة، أن أردِّدَ يوماً ببلاهة مسلَّمات ملفَّقة، أن أتلقَّن أقاويل مُختلَقة. أريد أن أخترق جدار الزمن، أن أعبره بالاتجاه المعاكس كي أشهد ما دار، كما دار، دون شاشةٍ أو روايةٍ أو وسيطٍ أو دبلجة. أريد أن أقرأ ملحمةَ «الأكذوبات الجليلة» و«الحقائق الكبرى التي تتكئ على أعمدةٍ من ضباب». أريد أن أراقب، عبْر العصور، تراكمَ اللُثُم والأقنعة، تناسلَ جرعات التنويم المغناطيسي الجمعيّ. أريد أن أرى القرون تُخرِجُ أسرارها، تخلعُ نقابها، تتقيأ مغالطاتها. ألم أحلم يوماً أن أستطيع الطيران بأسرع من سرعة الضوء (أرمي أنا أيضاً، في أحلامي فقط، بمعادلات اينشتاين عرض الحائط. لكنه حلمٌ ليس إلا.) كيما ألحق أشعةَ الضوء التي غادرت الأرض قبل زمان حتى لو كانت الآن في أطراف الكون؟ أريد أن أسبقها أيضاً، كي أستقبلها بعد ذلك بأم عينيّ. أريد أن أبحث في ركامها عن الأشعة التي انعكست على وجه المتنبي قبل مماته، علِّي أرى المشهد طازجاً بعد قرون من ذلك! أريد أن أرى أشعة الضوء القادمة من اجتماع السقيفة وكأني كنتُ حاضراً في ذلك الاجتماع! أريد أن أرى الأشعة القادمة من قبر المسيح علِّي أرى اللحظة التي اختفى فيها جسدُه من القبر! أريد أن أصفِّقَ بإعجاب وأصرخ من الأعماق: «برافو!» عندما أشاهد وصولَ «عفريتٍ من الجن» اقتلعَ قصر ملكةِ سبأ من موضعه، حملَهُ عابراً كلَّ جزيرة العرب بأسرعِ من الضوء (ضارباً، هو أيضاً، بمعادلات اينشتاين عرض الحائط!)، ثمَّ غرسَهُ في القُدس أمام الملك سليمان، «قبل أن يرتدَّ إليه طرْفه»، كما يقول القرآن الكريم.

أريد أن أحدِّق طويلاً في الكاتب المجهول لِ«ألف ليلة وليلة» وهو يخطُّ بعبقرية روايته الخالدة. أريد أن أرى عمر الخيام وبودلير في مستهلِّ كتابة قصيدة، فيثاغورس وهو يرسم براهينه الهندسية على الرمل. أريد أن أصوِّر بالفيديو آخر لحظات سلفادور الليندي في قصر المونيدا بسانتياجو، صلاح الدين الأيوبي يدخل القُدس، الملكة أروى تحكم اليمن من قصرها في «جِبْلة»، رامبو وهو يفضي لأخته ايزابل، على سرير الموت بمرسيليا، شوقَهُ لِعَدَن.

أريد، قبل كلِّ هذا وذاك، البدءَ من البداية، رؤيةَ اللحظة الكبرى، جِذْر اللحظات، سفر التكوين: الانفجار الكوني الكبير، «بيج بانج»، قبل حوالي 15 مليار سنة! الكون، كلُّ الكونِ، يَكتنزُ ويَتكثَّفُ في كتلَةٍ صمّاء بحجم رأس دبّوس، لانهائية التركيز والكثافة والثقل، لانهائية الغليان الحراري! لا حركة خارجها ولا زمن. لا فضاء ولا فراغ. الكونُ يسبحُ في محيط العَدم، الوجودُ ينامُ قرير العين في ملكوتِ اللاوجود. صمتٌ مطلقٌ يملأُ رحابَ الأبديّة التي لم تبدأ بَعْد. ثمّ تنفجرُ حبَّةُ الغبار في كُسْرٍ لانهائيِّ الصِّغَر من الثانية: بووووووووم! طوفانٌ كونيٌّ من الحُممِ العملاقة بِحجم مليارِ مليارِ مليارِ يومِ قيامة!))

أعدتُ قراءةَ ما كتبتُه. بوووف! حلمٌ طفوليٌّ قديم، ليس إلا! نصٌّ يبحث عن الهروب إلى شيءٍ ما. الوقت يمرُّ بطيئاً مقرفاً. ما زالت أمامي ثلاثة ساعات قبل الموعدِ مع حنايا. الشوق وعدم الصبر يلتهماني. أتّصلتُ بحناياي كيّ أقدِّم الموعد. عبثاً، كانت حينها في اجتماع. واصلتُ النصَّ مُغيِّراً ضميرَ المتكلِّم لسببٍ أجهله. انهمر القلمُ حينها بسرعةٍ ساعدتني كثيراً على الهروب من وطأة الانتظار والضجر.

(((ها أنت إذن تَحيى أوَّل صباحات الكون، تشاهدُ ولادةَ الزمن. تشاهده جالساً على منضدة في إحدى أقصى ضواحيه، بيدك جهازُ تصوير فيديو، وكأسٌ من النبيذ الأحمر: سانت ايستيف 1956. تتابع من منضدتك كلَّ تاريخ الكون عبر الأشعة الضوئية القادمة من سنين سحيقة، ترى بعينيك كل شيء، أوَّلاً بأوَّل، كما تمّ تماماً. ثمَّ تتقدَّمُ مع منضدتك، في طريق عودتك للأرض، بالاتجاه المعاكس للضوء. التاريخ يمرُّ أمامك كنهر. تطيرُ بسرعةٍ تَختارها وتُنوِّعها كما تريد، كي تشاهد شذرات محدَّدة من أشعة الضوء القادمة من فجر الأبديّة، في تسلسلٍ زمنيٍّ تصاعدي. تتقفَّزُ في شِعاب السنين الضوئية كما لو كنتَ تتنقَّلُ بِ«ريموت كنترول» بين أربعين شاشة تلفاز تُعرض فيها أفلام مختلفة. تختزلُ أحياناً ملايين السنين بدقائق، تعبُرُ أحياناً قروناً كاملة بلمحة برق، وتتوقّف أحيانا عند بعض اللحظات الهامّة في تاريخ الكون والحياة، تحدِّقُ بها مليّاً من زمنٍ خارج الزمن، بابتسامةٍ داكنة، بخبثٍ، ببطءٍ لذيذ.

تتوقّفُ عند أوَّل محطّةٍ تستحوذك: ولادةُ المادّة وتَشكُّلُ خارطةِ الكون بعد مئات آلاف السنين من الانفجار الكوني الكبير! الطاقةُ تتحوَّلُ شيئاً فشيئاً إلى كتلةٍ ملموسة، الإشعاع يتحوّلُ إلى مادة. تولدُ في كلِّ مكان: نجومٌ، كواكب، «ثقوبٌ سوداء». مائة مليار مجرَّةٍ تستلقي أمامك. تُفتِّشُ في لُجِّها عن مجرَّتِك، «درب اللبانة». تراها شُتلةً ضبابيّةً ضائعة. تبحثُ في أعطافها، بين مائة مليارِ نجم، عن كوكب الأرض الذي يختفي كذرَّةِ غبارٍ في صحراء. أمامك الآن على طول المدى مداراتٌ أهليلجية، طرقٌ مُعبَّدةٌ بالسُّدم، بمجرَّات حمراء أرجوانية، بأخرى برتقالية عسليّة، بألوان غريبة، بِنجومٍ تتفجَّر، بكواكب تنشطر، بِ«ثقوبٍ سوداء»، بنيرانٍ تعصف بمجرّات، بألعاب ناريّة من الشهب والنيازك والكويكبات الراقصة، بنجومٍ ستصل أوَّلُ أشعتِها إلى الأرض بعد بضعة مليارات سنين، بأشعة نجومٍ اختفت قبل بضعة مليارات سنين. حولك سيمفونيةٌ كونيّةٌ لانهائية الامتداد، أضواء وظلمات، طاقةٌ تتحوّل إلى مادة، مادةٌ إلى طاقة، بداياتُ كواكب، نهاياتُ نجوم، صمتٌ كونيٌّ يصمُّ الآذان. اللانهائي الكبر ينبثقُ من اللانهائي الصغر أمام عينيك. السيرة الذاتية للكرة الأرضية تنكتب أمامك أوَّلاً بأوّل. ترتجف. تتقدّم في الزمن بسرعةٍ أكبر، مُركِّزاً ناظريك على الكرة الأرضية. ذرّةٌ ميكروسكوبيةٌ على بعد ملايين السنين الضوئية، خليّةٌ هلامية، نواة ثمرة كرَز، تفاحةٌ صغيرة. لا يمكنك أن تصف شعورك بالدوار والرهبة وأنت تراها ضئيلةً غارقةً في أطراف المدى.

تتوقّف طويلاً في المحطة الثانية التي تهمُّك كثيراً: بدء الحياة، قبل 4 مليار عام! يغمرُ كرتك الأرضية «حساءٌ بدائيٌ» مكفهِرٌّ مريع: خليطٌ من صخور، غازات، عواصف. تتفاعل مع بعض، تتداخل، ترقص. تنتهي هذه التفاعلات الكيماوية (التي يمكن محاكاتها وتحضيرها اليوم في المختبر، باستبدال العواصف بشحنات كهربائية) بإنتاج «أحماضٍ أمينية»: الطوبات الأوليّة لعائلةٍ من أحماض (الأحماض النوكليكيّة) أكثر تعقيداً، تمتلكُ المقدرة على إعادة خلقِ نفسِها وتوالدِها وتطوُّرِها! أي تمتلك مفتاح الحياة! ينتمي لهذه العائلة حمضان صارا اليوم أشهر من نار على علم: حمض الدنا، وحمض الرنا، الأساسيّان في حفظ الميراث البيولوجي للإنسان ونسخ خلاياه. يغمرك الخشوع والانذهال وأنت تراقب مخاض الأرض من إحدى زقاق الأبدية! لزِمَ 11 مليار عام منذ الانفجار الكونيّ الكبير للوصول إلى هذه اللحظة الجذريّة التي لا تقلّ أهمية عن البيج بونج نفسه! 11 مليار سنة كي تلد الصدفةُ «الحساءَ البدائي» والشروطَ اللازمة لتفاعلاتٍ كيماوية فجَّرَتْ ينابيع الحياة في أرضٍ قاحلةٍ رميم. هاأنت تقرأُ روايةَ الحياة من صفحتها الأولى، فاغرَ الفاه. يستثيرك أولاً عصرُ الديناصور. للحياة حينها جمالٌ همجيٌّ مرعب، أبعادٌ «هِمَلائيَّةٌ» فاتنة. ترمقُ (وتغمضُ عينيك سريعاً) الطامّةَ الكبرى التي وقعَتْ قبل 65 مليون سنة: كُويكب سيَّار هائل (ارتعدت مفاصلك واهتزّ عمودك الفقري عند رؤيته) يرتطم بالأرض، يطيح بإمبراطورية الديناصور من ظهرها إلى الأبد. تواصل عبورك الزمن. أوديسيا النوع البشري تتعرّى أمام ناظريك صفحةً صفحة (داروين يغمزُ لك مبتسماً من زمنٍ آخر): طحالب تتحوّل إلى فقريات، إلى ثدئيات، إلى بشريّات. ينتهي هذا التسلسل البيولوجي بكائنٍ ظهر قبل حوالي 7 مليون سنة في مهد البشرية، أفريقيا. تتابعهُ منذ رعيله الأول، جيل السيد تُوماي الذي اكتُشِفت بقايا هيكلِه العظمي قبيل بضعة سنين فقط في تشاد، مروراً بجيل السيد أوروران الذي عاش قبل 6 مليون سنة واكتُشِفَ رفاته في كينيا، ثمّ بِجِيل السيدة لوسي التي عاشت قبل 3,2 مليون سنة واكتُشِفَ جثمانها في أثيوبيا في 1964. تُثيرك بشكلٍ خاص جدَّتُك لوسي وأنت تراها حيّةً تُرزق! هي حقّاً «منزلةٌ بين المنزلتين» بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى: تأكلُ العلف مثل سلفِها الأُوَل، وتمشي على قدمين مثل الإنسان الحديث! ترمقُها بتمعُّن: أعلى ظهرها معطوفٌ إلى الأمام. تستقيمُ بصعوبة. دماغها لا يزيدُ عن نصف حجم دماغ الإنسان الحديث!

الكوكبُ الأزرق أمامك في أوجِ جمالِه بعد ظهور الحياة في كلِّ ربوعه وأفيائه. ما أبدع الحياة وألذّها بعد ظهور الإنسان! تُحدِّق باتجاه جزيرةٍ إغريقية كنتَ فيها قبيل أسابيع مع فردوس. تغيَّرتْ كثيراً هذه الجزيرة التي كانت صخوراً جرداء قبل أربعة مليار عام (كما رأيتَها قبيل دقائق من ضواحي الأبدية) تتناثرُ فيها اليوم نخيلٌ وسواقٍ ومزارع زنبقٍ وخُزامى، وسَيْلٌ من حقول عبّاد الشمس. مياهُها تتلألأ تحت سماء زرقاء. تحلمُ داخل الحلم: تتمنى أن تقفز الآن من سفوح الأبدية لتعوم فيها حتّى الثمالة، ثمّ ترتمي بإرهاقٍ سعيدٍ على رمال شواطئها. تتركُ جسدَك يغتسلُ بالشمس بكسلٍ لذيذ (كم تعشق الكسلَ والشمس!). تلحقك فردوس، تضطجعُ قربك بقامتها الرشيقة، بوجهها الجميل الفاتن، بجسدِها الرقيقِ الرطبِ السائلِ المعطاء، بأردافها الحريرية، برائحتِها العطريّة الدائمة. تضعُ رأسَها على صدرك بحنان، يداها تحتضنُك بقوّة. تستمعُ لأنفاسك، تستنشِقُها، تبتلِعُها. تهدهدكما النوارس. حولكما عصافير وفراشات وألوان زاهية. بعيداً، قرب الأفق فنارٌ يستقطبُ النظر. لا تُيقظكما من غفوتكما العميقة إلا رائحة فطائر ساردين مشويٍّ ساخن لِبائعٍ متجوِّل. ما أحلى الحياةَ حقّاً!

تكبحُ جماحَ شرودك المفاجئ في هذه الأزقة الكونيّة النائية. تتنهد. تتمضمض رشفةً من نبيذ سانت استيف. تبحثُ في كلِّ مكان عن حفيد توماي وأوروران ولوسي. تلتصقُ به نظراتك. ترثي حالَهُ الضعيف بين سباع الأرض وضواريها. تتابع تحوّلات سلالاته هنا وهناك والظروف التي أملَتْها. تلاحظ الازدياد المضطرد لحجم دماغه. تتصفَّحُ رواية تطوُّرِهِ وتأنسُنِهِ حتى وصوله لآخر أشكاله قبل مائتي ألف سنة: «أومو سابيانس»، الإنسان الحديث، بجسدِهِ العموديّ المشرئب، بِدماغه المُتميِّز الذي ينتصُّ على جسده (شكلاً ومضموناً) كتاجٍ مهيب، المقسَّم إلى عدد كبير من «المنظومات الاستنباطية» المتخصصةِ في أداء وظائف ذهنيّة محدَّدة، ذو المائة مليار عصبون، لكلٍّ منها حوالي عشرة ألف نقطة تماس (سينابس) مع العصبونات الأخرى. مليون مليار نقطة تماس! 1000000000000000! رقمٌ بخمسة عشر صفر يرتعش لِهولِه النخاع الشوكيّ. جدُّك الأول، سابيانس، أمامك قرب بحيرة أفريقية تملأها التماسيح والسلاحف والضفادع والثعابين. تجاورها غابَّةٌ استوائيةٌ متفجِّرةُ الجمال، مشحونةٌ بالضباع والفهود والأسود والقرود والزرافات والقردة. تودُّ مصافحتَهُ واحتضانه. محالٌ: تفصلكما اللانهايةُ ومعادلات اينشتاين. ترثيه وأنت تراه يكدح لِكسبِ قوته بين الضواري والسباع، في أرضٍ همجيّةٍ جرداء شحيحةِ المواد الغذائية. (تتذكَّرُ أنه لم يكتشف الزراعة إلا قبل عشرة ألف سنة فقط!). هو أمامك ينهشُ الجثث ويقضم السحليات أحياناً ليسدَّ رمقه. ستنحني أمام ذكراه بإجلال كلَّ مرَّةٍ تعبرُ فيها أروقة سوبر ماركِت بِعربةٍ صغيرةٍ تشحنُها بأصناف متنوِّعة من الجبن والحلويّات والنبيذ والأسماك واللحوم الطازجة.

ثمَّ تتوقَّفُ عند ثالثِ محطّة تستحوذك أيَّما استحواذ: تطوُّراتٌ بيولوجيةٌ معقَّدة طرأت على دماغ الإنسان، ازداد تشابكُ عصبوناته لتندمج وتتفاعل «منظوماته الاستنباطية» أثناء نشاطاتها المستقِلَّة. انبثقت من ذلك، قبل خمسين ألف إلى مائة ألف سنة، ملَكَةٌ عبقريَّةٌ جديدة لا مثيل لها في سائر الكائنات الحيّة: التفكير والخيال! ولادةٌ ثالثة تثيرك مثل ولادة الكون قبل 15 مليار عام، وولادة الحياة قبل 4 مليار عام! بفضل ملكاته التجريدية والاستنباطية الفريدة يتحوَّلُ المخلوقُ الضعيف، الذي لا يمتلك جسدَ فيل أو مخالب أسد أو أجنحة نسر، إلى ملِكِ الكون! هو يُفكِّر ويتخيَّل فقط. لذلك أصبح الأقوى دون منازع. تراقبهُ بتعاطف وإعجاب لا حدّ لهما وهو يجوب الأرض، يعيش ضمن مجاميع متعاضدة، يرصد معلومات شتّى في دماغه، يتذكّر، يتخيّل دوما، يتمثّل، يخترع، يتكلّم، يعشق، يضحك، يبكي، يتبادل المعلومات مع ذويه ورفاقه، يكتب، يُفكِّر في كلِّ شيء. يُنظِّرُ في كلِّ شيء. يُفكِّرُ في التفكير أيضاً! يُعيدُ خلقَ الكون في تفكيره، يُعيدُ خلق قصَّة الخلق أيضاً. «للدماغِ وزنُ الآلهة»، كما قالت الشاعرة أميلي ديكنسون. لأنه يبتكرُ كلَّ شيء، بما فيه مفهوم الآلهة! هو سيفٌ ذو حدِّين، قوَّةٌ طامّةٌ جرّارة عمياء تُحرِّر الإنسان وتسجنُه في نفس الوقت!))

قرأتُ ما كتبتُه. لم أعلِّق. شعرتُ بهدوءٍ ما. نظرتُ للساعة. تفصلني خمسون دقيقة عن الموعدِ مع حنايا. آه، عليّ إكمال النص سريعاً بآخر وأهمِّ صفحاته! واصلتُ:

((تبحثُ، بكلِّ ما تمتلك من رغبةٍ وشغف، عن المحطَّةِ الأخيرة التي تهمّك أكثر من أيّ محطّةٍ أخرى: اللحظة التي اخترع فيها الإنسان مفهوم الآلهة! تريد أن تستوعب كيف آمنَ بها، ولماذا عشعش وانسجن فيها! تريد بذلك حسم آخر صراعاتك الذاتية الجوهرية. ألا يُطاردك الآن منظرٌ تناسيتَهُ خلال 27 عام كرَّسْتَها للدراسة، لنيلِ الوظيفة التي حلمتَ بها، لِبناءِ عائلةٍ ومشروعِ حياة؟ ألم يعاودك خلال هذه السنوات حلمٌ ليليٌّ حاولت كبتَهُ قدر ما استطعتْ. يتكرَّرُ في الحلم نفس المنظر: والدُك قبل مماته بأيام، بجانبك وأنتما تسيران وحيدَين في الكثبان الرمليّة المحيطة بمدينة ولادتك، عدَن، أمامكُما شمسٌ ذهبيَّةٌ داميةٌ توشك أن تغرب. يطلبُ والدُكَ منك في نهاية الحلم طلباً غريباً: أن ترفدَ روحَهُ بالحسنات كل أسبوع! وعدتَهُ بذلك مُحرِّكاً رأسك عمودياً كَدُميات مسرح العرائس! صار الوعدُ ثقيلاً على كاهلك اليوم. طيفُ روحِ والدك تُحلِّق فوق رأسك بين الحين والحين، تُذكِّركَ بالوعد! أنت لا تخلف الوعد مع أي إنسان، فما بالك مع من تُحِبُّهُ وتُدينُ له أكثر من أي مخلوقٍ آخر؟

للوصول إلى محطتك الرابعة؛ لرؤيةِ اللحظة التي ظهر فيها مفهوم الروح والدين والآلهة على الأرض، لماذا وكيف أخترعه الإنسان، ولماذا استمرّ حتى اليوم؛ لِتصفية إشكالاتك مع وعدِ والِدك؛ لِحلِّ مشاكلك مع هذه الأسرار العويصة والمفاهيم الجامدة التي أرهقتْكَ كثيراً منذ طفولتك، لا يكفيكَ عبورُ الزمن والسفرُ إلى قاع التاريخ وأطراف الجغرافيا. يلزمك أن تجدف وتغوص طويلاً في جيولوجيا دماغ الإنسان وطبقاته الرسوبية، في فسيولوجيا علاقاته واحتياجاته الاجتماعية، في تصريفات وطقوس ثقافاته وطرائق توارثها.

يلزمك إذن أن تخلع عقالَ جمجمتك كما تفتحُ غطاء طَنْجرة، كما تنتزع كبسولة، كما تفقس هامة ثمرة نارجيل؛ أن تُخرِج دماغك بيدك من فوهة جَرَّة الجمجمة، أن تحطَّهُ أمامك في فنجانٍ كريستاليّ على منضدة، أن تفحصه بالمجهر بدِقَّةِ ساعاتيٍّ وشَغَفِ باحثٍ علميّ وطموح «قارئة فنجان»؛ أن تُحدِّق فيه طويلاً، وإن كان هو الذي يحدِّقُ فيك بالأحرى! يلزمك أن تدغدغه، تعجنَه، تُفكِّكَهُ خصلةً خصلة، عصبوناً عصبوناً. يلزمك أن تبحث فيه عن الجدران والأسلاك الشائكة، عن الدبابيس والفقاعات الهوائية، عن الشحم الذي احتلَّ مكان المادة السنجابية، عن الديدان، «الثقوب السوداء»، الجمارك، المطبّات الهوائية، الجماجم المحروقة، العنكبوت الذي يخيط قاعَهُ منذ قرون، الطحالب والبكتيريا، «لجان الرقابة الحزبيّة»، القرصان الذي يقف في مدخله يحمل سكِّيناً في الفك ونقشاً في الجبين لِعظمَين متقاطعين كعلامةِ ضرب. يلزمك، بين هذا وذاك، أن تماوجَ وتُموسقَ لسانك طويلاً في ثغرِ معشوقتك حنايا التي علّمَتْك كيف تُفكِّكُ الأسرار الروحيّة الكبرى، أن ترتوي من رحيقِها حتى الثمالة. من يدري، لعلها بعد دهرٍ من اللاءات المُرهِقَة والتحريمِ الصارم لِبعضِ جسدِها عنك، ستسمحُ لك، بِرغبةٍ حقيقية، بامتلاكهِ وعبادتهِ كاملاً دون «خارطةِ طريق»! لعلها ستُصغي لإيقاعاتك الداخلية مثلما تصغي أنت لإيقاعاتها الداخلية، ستحترمُ مبدأ «التماثل الهندسيّ» في العشق، ستضمُّك لِجسدِها بجرأةٍ وثقةٍ ورغبةٍ وتفجُّرٍ وحريَّة! آه، جسدُها الإلهيّ الساحر، «ياقوتُك الأحمر» حسب تعبير الإمام الغزالي، هلاكُك الرائع!))

الفصل الثالث

مقدِّمة «تقرير كاشف الأسرار»

حنايا تحملُ ظرفاً فيه تقرير كاشف الأسرار. عليها فستانُ نومٍ من حرير الموسلين، بنفسجيٌّ بنقوشٍ من ورود الأوركيديا البيضاء، مصبوبٌ على جسدِها بتناغمٍ وسيولةٍ مثلى. هي في منتهى السناء. عيناها مكحَّلتان بعناية فائقة. رائحتُها عطريّةٌ مفعمةٌ قاتلة. محياها هادئ يخفي ابتسامةً غامضة. تراقب بحبِّ استطلاعٍ واستمتاعٍ ملحوظَين قلقي ورغبتي في معرفة محتوى تقريرٍ سيتحدَّثُ عمّا كنتُ أفكِّر به بصمت في «غرفة عمليات» مختبرها هذا الصباح! تلاحظ استثارتي. لم أكن، والحقّ يقال، أتصوّر أن ثمّة من يستطيع أن يقرأ ما دار ببالي حينها وما لم أبحه لأحد حتّى هذه اللحظة! تضع إبريق شايٍ صينيٍّ على منضدتها المجاورة. تصبُّ كأسين ببطء، كأنها تريد إطالة تشويقي. تضع «سي دي روم» لِجون ساباستيان باك وهو يعزف«توكاتا» على الأورجن. تضطجع على السرير، بيدِها ظرفُ التقرير. أستلقي قربها، أضع رأسي على كتفها العبق الرقيق، أتنفَّسُها بعشق، أنتظرها بلهفة وهي تفتح الظرف بتأنٍ، تخرج تقريراً من بعض عشراتٍ من الصفحات. أقبِّل ثغرها قبلات ظامئة لا تخلو من توتُّرٍ ما. لا أستطيع أن أهدئ رغبتي بتقبيلها (هي خُلِقتْ لِتُقبَّل)، حتى في هذه اللحظات الجادّة. أستنشِقُها بعمق (كم أعشق استنشاقها!). أركِّزُ تماماً وأنا أسمعها تقرأ بصوتها الحريري:

((عزيزي شمسان!

ما إن تبدأ بإدراك العالم الذي يحيطك، في أي بقعة على الأرض وُلِدتَ بها، إلا وتكتشف أنه ليس سهلاً جليّاً واضح المعالم، حتى لا أقول شديد الغموض والتعقيد والغرابة والهول. لعلَّ أكثر ما يريعك ويستحوذك ويملأ لياليك رعباً وهواجس، منذ نعومة أظافرك، ليس هذا العالم الذي تراه بأم عينيك، بل العالم الموازي، غير المرئي، الذي يحيطُهُ ويتخلَّلُهُ ويخترقُهُ ويُغَلِّفُه: عالم الأرواح والأشباح والأخيلة! عالمٌ خفيٌّ تعجُّ به كائناتٌ افتراضية: شياطين مريعة وملائكةٌ منيرة، آلهةٌ تراتبية متخصصة أو إلهٌ واحد، وأنواع من الكائنات «الوطنيّة» تتنوَّعُ حسب الثقافات: جنٌّ وعفاريت مُجنَّحةٌ شَعْرُهم حيّات وعقارب؛ تنِّينات وثعابين وضوارٍ طائرةٌ غريبةُ الشكل، حيوانات غيبية أليفة؛ حوريَّات فاتنة؛ أرواح الأجداد التي تحوم فوق الرؤوس؛ وسائط لاهوتية متعدّدة المراتب والأصناف. عالمٌ تكتظُّ به، قبل هذا وذاك «أرواح» الموتى: كينونات اجتاحت ثقافة طفولتك بشكلٍ خاص، كانت لغزها الأكبر وموضوعها الأهم، أثارتكَ وأرهبتك لأنك ستكون إحداها يوماً ما، كما قيل لك. هكذا، تبدأ حياتك مع العالم غير المرئي منذ أن تنفتح عيناك على العالم المرئي. هو أقرب لك من حبل الوريد، لأنه، عبر مُمَثِّلِهِ الرسمي: الروح، ذائبٌ فيك، يسكن أوصالك، يحتلُّ جسدك، يتمركز في بؤرته!

في كلِّ الثقافات تقريباً تسمعُ منذ المهد نفس هذه الكلمة التي تثيرك أيما إثارة: الروح! تُعَلِّمُكَ كل الثقافات أن جسدك أشبه بماكينة، يسكنها شبحٌ اسمه الروح! يغادرها عند الموت نحو بلادٍ بعيدة: مملكة الأرواح. حسب الثقافات تقع هذه البلاد البعيدة في مكانٍ ما خارج الطبيعة أو في أطراف الدنيا، في أعماق البحار أو القمر، في السماء أو «الأرض التي لا عودة منها». تتساءل في لحظةٍ ما، بشكلٍ أو بآخر: ما هو الروح؟ ممّ يتكوّن هذا الينبوع اللامادي الذي يضخُّ وقودَ الجسد ومشاعرَه وذكاءَه وإلهامَه؟ ما هي هذه الكينونة اللامرئية التي تدخل الجسد في لحظةٍ رعْدِيّة وتخرج منه منزوعةً بِيدِ «قابض الأرواح»؟ متى تبدأ تلك اللحظة الرعدية؟ مع القطرة المنوية؟ في اليوم الأول من التلاقح بينها وبين البويضة الأنثوية؟ في إحدى أوَّلِ أيّام تشكُّلِ الجنين في رَحِمِ الأم؟ يوم خروجه من الرَّحِم؟ هل ثمّة روحٌ للأطفال الذين يتمّ خلقهم في أنبوبة مختبر؟ متى يدخلُ الروح الأنبوبة؟ وأولئك الذين يمكن خلقهم بالتناسخ، متى تصل أرواحهم؟ تبحث عن أصغر إجابة حول ماهية روحك، أصل وجوهر وموتور حياتك. عبثاً! لو عشتَ في مصر القديمة (حيث خُلِقَ الإنسان هناك من دموع الآلهة «ري»، آلهة الشمس) فسيقال لك هو ال«عنخ»، رمز الحياة، أَلَقٌ نورانيٌّ يفارق جسد الإنسان عند الموت. لو عشتَ في حضارات بين النهرين لَقِيل لك إن إحدى الآلهات خلطت قليلاً من دمِها بالصلصال لتخلُقَ من اتحادِهما الإنسان. (الروح دمُ الآلهة إذن، والجسد صلصالٌ بطبيعة الحال). ستسمع كلاماً شبيهاً لو عشتَ في حضارة الإغريق حيث خلقَتْ نصف الآلهة بروميتيه الإنسان من الصلصال ومنحتْهُ صديقتها الآلهة أثينا قوَّتَه الروحية. إله الأولمب الأكبر، زوس، بنوعٍ من الغِيرة كما يبدو، يُكلِّفُ أخاه، إيفايستوس، بخلق المرأة! في مجتمعات أفريقية سيُقال لك إن الإنسان انبثق من مضاجعة الرب ـ السماء بالأرض ـ الأم. في مجتمعات التوراة سيقال لك إن الإله الأوحد بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، جمّع ترابا من كل أنحاء الأرض، نفخ فيه في اليوم السادس ليخلق الإنسان «على شاكلته»، قبل أن يأخذ إجازةً للراحة في اليوم السابع. في حضارات الصين القديمة يختلف السيناريو قليلا: من اضطرابٍ كونيٍّ أوليٍّ سحيق تشكَّلتْ بيضة، انبثق منها اليينج واليانج وعملاقٌ كونيٌّ كبير اسمه بانجو. من جسدِهِ وهو يُنَخِّرُ تشكَّلَ العالم: من عينيه انبثقت الشمسُ والقمر. من شَعرِ جلدِهِ ودمهِ الأنهارُ والبحار، ومن قملِهِ وصيبانهِ البشر!

لا يفوتك إبداع الصور في كلِّ هذه السيناريوهات. جميعها مذهلةٌ مثيرة دون تمييز. يجذبك دائماً جمال وهج الجمر المترمِّد عند انسياب نسماتٍ متوالية من الريح تُحوِّله إلى جذوات أرجوانيةٍ وهّاجةٍ مستعرة. يستحوذك روعة وانتظام اتِّقادِه عندما يَنفثُ عليه جهازُ «مجفِّفِ الشَّعْر» تيّاراً مستمرّاً من الهواء. ما أروع النفخة وهي تُحوِّل الجمر الرمادي إلى لفحةٍ تشتعلُ باضطرام محتدم! ما أبهر دم الآلهة أو النفخة الناطقة عندما تسكب الحياة في جسدٍ من غبار! باختصار شديد، حيثما وُلِدْتَ ستتعلَّمُ أو ستسمعُ منذ طفولتك أن جوهر الحياة يكمن في كلمة واحدة: الروح! لأن الجسد وعاءٌ له لا أكثر ولا أقل، مادةٌ فانية، فيما هو موتور الماكينة. الوعاء يتحوَّلُ خردةً صدئة يوماً ما، فيما الروح يسمو، يطير بعيداً، يغادر الوعاء بعد الممات نحو مملكة الموتى، نحو عالم الأرواح الأبديّ المطلق. هو الذاكرة الأبدية لحياتك، ذكاؤها وألمعيتها، لفحتها الخالدة. هو نفحة الصانع الأعظم. غير أن الإجابة على تساؤلاتك، بالمعادلة الدينيّة الشهيرة: «الإنسان = ماكينة + شبح = جسد + روح» تثقل كاهلك أكثر من ثقل التساؤل نفسه. الإجابة تفتح ألف سؤال وسؤال. ما إن توجِّه بعضاً من هذا الأسئلة لكشف النقاب عن أسرار هذه المعادلة، حتى تحيطك الخطوط الحمراء من كل مكان: قف! منطقة محرّمة! «الروحُ علمُها عند صانعها»!

لعلك تشعر بمرارة وإحباط. ذلك يعني: «كن جاهلاً وسعيدا!». إذا لم يحق لك فهم ميكانيكا الروح أو حتّى التساؤل حولها فماذا يتبقّى لك: معرفة سعر البطاطس في السوق؟ عدد سكّان الحارة؟ الصراخ في الشارع: «بالروح! بالدم! نفديك يا مهندس الخراب!». «كن جاهلاً وسعيداً!» شعارٌ اعتدتَ عليه منذ ولادة جدِّك وجدَّتك الدِّينيَّين الرائعين: آدم وحواء ورغبتهما النبيلة في مضغ ثمرة «شجرة المعرفة». العقاب على هذه الخطيئة، أمِّ الخطايا، كما تعرف، كان ماحقاً رادعاً مطلقاً لا رجعة فيه! ثمّ تتركَّزُ كلُّ أسئلتك، كلُّ تفكيرك، حول صانع الأرواح والأجساد، حول النافخ نفسه، الأعظم بالضرورة. أليست الروحُ مجرَّدَ نَفَسٍ من أنفاسه، قطرةً من دمِهِ، كما تقول ديانة بين النهرين، قطرةً من أمواجه المَنَوية الدافقة حسب بعض المعتقدات الأفريقية؟))

قاطعتُ حنايا بصرخةِ إعجاب! لم أتمالك نفسي من إطلاق «واااووو!» هائلة عند عبارة «الأمواج المنويّة الإلهية الدافقة»! ابتسمَتْ حنايا بخجل واقتضاب. صِمْتٌ، نظراتٌ غائبة. (تلفتُ حنايا دوماً بأعين هاربة عندما أطلق عبارةً ما ترتبط بالحياة الجنسية). وضعتْ أناملها في شَعر رأسي (لم تلمس بشرة الجبين) لِثوانٍ مقتضبة عجولة، تمنَّيتُ عبثاً أن تُطيلها قليلاً، أو أن تمُسَّ بشرة هامتي بسرعةٍ خاطفة. ارتشفتْ قليلاً من الشاي.

لم يثرني في هذا التقرير إلا شيءٌ واحد: كيف عرف «كاشف الأسرار» أن محور تفكيري، عندما كنتُ أواجهُ أجهزتَه، كان فعلاً مفهوم «الروح» والكائنات الغيبية التي ملأت طفولتي؟ عندما بدأَتْ أجهزة كاشف الأسرار تُسلِّطُ عدساتها نحو أغوار دماغي، كان جلُّ تفكيري ينْصَبُّ فعلاً حول والدي ووصيَّتِهِ الأخيرة لي بتلاوة الذكر الحكيم والدعاء بتحويل ثواب ذلك لروحه! من هذه الوصيّة انطلق عنان تفكيري نحو العوالم الروحيّة الغامضة التي ملأت طفولتي. كلُّ ما عدا ذلك في مقدمة التقرير لم يذهلني كثيراً لأنه كان نتاج فذلكةِ وتصميمِ برنامج الكمبيوتر التي تسمحُ له باستقاء معلومات مفيدة من موسوعته الثقافية وتكييفها بمهارةٍ وألمعيّة مع لبِّ الموضوع. الإعجازُ وحده يكمن فقط في معرفة «كاشفِ الأسرار» (أو «أبي الكشوف» كما أحبُّ تسميته من باب المودّة) لِجوهر ما كنتُ أفكِّر به عندما كنت أواجهُ عدساته وشاشاته ولاقطاته الالكترونية وترسانةَ أجهزة تصويره شديدة الدقّة والتكلفة! أعترفُ أنه أصاب تماماً في إدراك فحوى تفكيري واستخراجه من أغوار وتلابيب عصبونات دماغي!

تواصل حناياي:

((يتمركز تفكيرك حول المايسترو الأكبر، قائد المسيرة: صانع الشيء واللاشيء، الساكن في الوجود والعدَم! لا يفارقك التفكير به لحظة واحدة. لأنك تسمع أوّلاً أنه موجودٌ في كلِّ لحظةٍ ومكان! يراقبك، في الضوء والظلام، يرى ما تعمل، يعرف ما يدور في بالك، يعرف السرّ وما يخفى! أنت إذن أكثر من مُحَاصَر منذ وصولك هذا الكون: كل ما عملته وما تعمله وما ستعمله معروفٌ له، مكتوبٌ منذ الأزل في دفاتره المحفوظة. ستكتشف باستفزاز أنك لن تكون وحيداً لحظةً واحدة على هذه المعمورة! العيون الخفيّة تلاحقك حيث ما كنت! احترام الحياة الشخصية الخاصة ليست نعمةً يُحظى بها البشر. لأن ثمَّة ثانٍ يراقبك إذا كنت في الشارع أو ملتحفاً فراشك في الظلمات. ثمّة ثالثٌ يراقبكما إذا كنتما اثنين على السرير. أو ربما أكثر من ثالث: على يمينك ويسارك مُساعِدَين خَفِيَّين لِعالِم الأسرار، يُسجِّلان مَحاضرَ حياتك أوّلاً بأوّل، يكتبان كل ما تقوم به وما يخطر ببالك، وكأنه لا يكتفي بكل صغيرة وكبيرة مكتوبةٍ منذ الأزل في دفاتره المحفوظة.)))

كدتُ أقاطعُ حنايا وأصرخ: «ثمّة رابعٌ أيضاً! ذلك الذي يمنع توحُّدَكِ معي على السرير. هو وحده غريمي الخالد، عدويّ اللدود!». لم أقل ذلك لأني أعرف أن دموعاً مدرارة وآلاماً دفينة ستسيل من هاتين العينين المكحّلتين الرقيقتين، شديدتي الجمال والذكاء والرقّة. عيناي، أنا، لا تتوقّفان عن تصويب النظر نحو ثغرها وهي تقرأ. نظراتي تلتهمُه بِصمت. كم أعشقُه! أُقضِّي أحيانا، ونحن ندردشُ في السرير أو المطعم، وقتاً طويلاً أحدِّق بدون وعي في جمال شفتيه الورديّتين، في بهاءِ أسنانه البيضاء الناصعة البديعةِ الانتظامِ والشكل، في انسيابِ صوتِه ذي الرنين العسليّ. لعلّها لاحظت ذلك في بعض الليالي! (تبتسم حينها باقتضاب وهي تراني أبعدُ نظري عن ثغرها بارتباك عندما أكتشف أنها تلاحظني أحدِّق فيه مخبولاً منذ دقائق.)

تواصل حناياي:

((كلُّ عصبونات «منظومتك الاستنباطية» الخاصة ب«السيكولوجيا الحدسيّة» يستنفرُها عالِمُ الأسرار، الحاضرُ في كل زمانٍ ولحظة، الجبّار القادرُ على كل شيء. جميعها مركِّزةٌ نحوه، تتصوّرُ ردّ فعلهِ لِكلِّ ما تقوم به، تتوسّله على الدوام الرزقَ، العفوَ، الإلهامَ، المساعدةَ، المدد. منهُ يلزم طلبُ العونِ والفرجِ والخير قبل أي امتحانٍ دراسي، قبل السفر، عند المرض والموت، قبل كلِّ حدثٍ مهمٍّ في حياتك. معهُ يلزم التفاعل كلّ لحظة، لهُ يلزم اللجوء على الدوام. كائنٌ مثله يعرف المصائر والأسرار، ما يدور في رؤوس أصدقائك وأعدائك، زملائك ومسئوليك، هو كائن ذو أهميّة قصوى. كائنٌ مثله موجودٌ في كلِّ مكان وزمان يلزمك رضاه وكسب عطفه. يلزمك عدم تناسيه لحظة واحدة. كائنٌ مثلهُ بيدِهِ مفتاح الرزق والنجاح والعافية هو أسُّ الأس، الكلُّ في الكل، الألِفُ والياء، الأولُ والآخر، الظاهرُ والباطن. لعلّك لم تُقصِّرْ، عزيزي شمسان، منذ فجر طفولتك، في التصالح الكامل معه، والتوسُّل لكسب محبَّته وعونه منذ أن غرس والدُك عشقَهُ في عمق أعماقك إلى أبد الآبدين. تصلك عنهُ معلومات إضافية في غاية الأهمية تستقطب كلّ ما تبقّى من المنظومات الاستنباطية في دماغك: هو عادلٌ رحيمٌ لطيف، وقاهرٌ عنيد يعاقب بشدَّة في نفس الوقت. يراقبُ الغشّاش والسارق، ينقذُ الصغير والكبير، يغفرُ الذنوب والخطايا ويكافئ من يطيعه بتسكينه بعد الموت في عالمٍ ساحرٍ اسمه جنَّةُ الخلد. وهو أيضاً «أمكر الماكرين» (تخيفك كثيراً هذه العبارة بشكل خاص)، يرسل الموتى نحو أبشع العوالم وأشنعها: الجحيم! ترتعد فرائصك لِمُجرَّد سماع وصف نيران الجحيم، أو تصوُّرِك مُداناً بهولِ عذاباتها يوماً ما. أراعك منذ نعومة أظافرك بشكلٍ لا حدَّ له مفهومُ الجحيم! بكيتَ في طفولتك كما لم تبك يوماً، ذات ليلةٍ تتذكَّرُها حتى الآن، من فرط رعبك من هذه الحياة المكتظَّة بالأرواح الشريرة والعفاريت الجبّارة والجواسيس اللامرئية والكوارث والآلام الأرضيّة، والتي تنتهي في آخر المطاف بنيران جهنم وعذاباتها التي لا حدَّ لها. لو كنتَ إلهاً يُراقبُ الكونَ من نافذةِ الأبدية، لصرختَ حينها: «الكونُ تجربةٌ فاشلة!».

تمنّيتَ من أعماق قلبك، وأنت تبكي، أن تتوقَّفَ الحياةُ وأنت نائم! دعوتَ الربَّ القادرَ العظيم وأنت تبكي متضرِّعاً أن يمحي الوجودَ من طرفِهِ لِطرفه، في لمحةِ بصر، دون أن يشعر بذلك أو يتألم له أيُّ إنسان. توسَّلْتَهُ أن يُعلِنَ نهايةً نقيَّةً للكون، حاسمةً عاجلة، بِصرختهِ الشهيرة «كُنْ فيكون!» التي لا يُجيدها إلا هوَ، جلَّتْ قوَّتُه، كي لا تصل إلى أسماعك بعد تلك الليلة كلُّ الأهوال التي ملأت ليالي طفولتك كوابيساً ورعبا! كلُّ منظوماتك الاستنباطية مسكونةٌ بهذا الكائن الجبّار اللامرئي، مهووسةٌ به حتى الثمالة. كلٌّ منها ترتعش أمام ذكره، لا تفكّر إلا به. منظومتك الاستنباطية الخاصة بالبعد الأخلاقي تبتهج به أوَّلاً، تراه كائناً اجتماعياً راقياً ممتازاً بفضل عدله ورحمته والجنان الوارفة التي يُقدِّمُها للصالحين. منظومتك الاستنباطية الخاصة بادراك الخطر (أي هيئة أركان استعلامات دماغك) تشعرُ بالذعر، تُشمِّرُ عن ساعديها، تتوثّب، تدقّ ناقوس الإنذار، تحذِّركَ من غضبه، تخبرك أنك أمام أخطر الكائنات الفتّاكة وأكثرها جبروتاً وقوّةً وشراسة. كلّ منظوماتك الاستنباطية التي سبكتها آلاف القرون من الخوف من السباع والضواري، من فتْكِهم وقصفِهم، ترتجف كما لم ترتجف من قبل، تهمس لك: أنت أمام وحشٍ يملأ السماوات والأرض. ثمَّ تُهدئُ من أعصابك، تقول لنفسك: ليس وحشاً ذلك الذي يملأ السماوات والأرض، هو الأجمل، الأعظم، هو نور الأنوار. هو الأسمى: أليس الضوءُ ظلَّهُ، جلَّتْ عظَمتُه؟

تبدو لك الأشياء في غاية المنطق. أقصد في غاية منطق دماغك كما صاغته الحياة عبر آلاف السنين: أنت أمام ما يشبه التبادل التجاري، أمام نمطٍ من العلاقات الاقتصادية التي اعتاد عليها وتطوَّر في متونها الدماغُ البشري منذ أن صار الإنسان حيواناً اجتماعيا، أي منذ أن صار إنساناً حقيقياً. ثمّة جنّة وثمّة نار، ثمّة حسنات يلزم الحصول عليها للوصول إلى الجنّة وثمّة سيئات يلزم تجنُّبُها للابتعاد من النار. الحسنات تُشترى بالدعاء والصلوات والقرابين والأعمال الطيبة، والسيئات تنتجُ عن نقص الطاعة والصلوات والدعاء والأعمال الصالحة. منظومتك الاستنباطية الخاصة بِ«الاقتصاد الحدسيّ» تشتغل، تحسب دون توقف، تُقدِّر كميّة الحسنات والسيئات، توصيكَ، إذا ما شعرتَ بطفوحِ منكراتك، بصلوات إضافية في أقرب معبد، بقرابين أمام أقرب آلهة هندوسيّة أو بوذيّة، بالتهجّد أمام جدار الغفران أو بالحجّ في ديار بيت لحم أو لورد أو مكة أو مياه المانج. هذا الفاعل الخارجي إذن في غاية الانسجام مع طبيعة دماغك وتركيبه وبنيته ومسلّماته الاجتماعية وكأن الدماغ البشري هو الذي خلقه «على شاكلته» وليس العكس، كما تقول التوراة! كأنه أكثر اختراعات هذا الدماغ إذهالاً وتحفيزاً وتأجيجاً لكل عصبونات منظوماته الاستنباطية. لعلّك تلاحظُ أن كلَّ القصص السماوية شبيهةٌ جدّاً بالقصص الأرضية تماماً، وكأنها حصلت بين بشر. أنظر على سبيل المثال فقط: شيطانُ التوراة! كان زعيم الملائكة، أعظمهم، أقدرهم، وأجملهم. أكثر المقرّبين للإله الأكبر الذي قرّر فجأة، دون أخذ رأي أحد، خلقَ الإنسان من الطين وجعلَه مركز كلِّ اهتمامه! كيف يمكن لأي إنسانٍ كان، لو كان في محلِّ الشيطان، فخوراً بملكاته وجماله ووظيفته وطبيعته النارية وموقِعِه التراتبي بعد الملك الأعظم مباشرة، صادقاً متفانياً عاشقاً لِملِكه منذ فجر الأبديّة وبدء البدايات، تحرقه الرغبة في أن يظلَّ مساعدَهُ الأكبر ومُدلَّله الأوّل. كيف يمكن لهُ أن يقبل دون نوعٍ من الغيرة العاشقة، أو تساؤلٍ لا يخلو من اللوم المشروع، سقوطَهُ المفاجئ لمجرد رغبةٍ أو نزوةٍ ما اختمرت في ذهنِ الملك وقادَتْهُ لصنعِ كائنٍ من طين يستحوذ جلَّ اهتمامه!

ردُّ الملك الأعلى كان لانهائي القسوة والقطع: طردَهُ من الملكوت الأعلى، حوَّلهُ إلى قائد مليشيا الظلمات! ما أشبَه قصصهمُ العليا بقصصنا السفلى في أيّام الممالك الخالية، والعكس أيضا! كم أرعبتكَ هذه القصّة بالذات عندما سمعتها في الصغر! كم تمنَّيْتَ لو كان لذلك الصراع حلٌّ أفضل، أقلُّ تطرَّفاً وأكثرُ رقّة! تمنَّيت لو قدَّمَ الشيطانُ حينها اعتذارَه سريعاً وطلبَ المغفرةَ والتوابَ على التو، ولو صفحَ عنهُ الربُّ الكريمُ الغفورُ الرحيم دون هذا الرفض المطلَق. حلمتَ لو انتهت هذه القصَّة يومذاك بِتصالحٍ ينقذ أهل الأرض من صراعات جبابرة السماء. الصلحُ بين الإله العظيم والشيطان الرجيم كان، في رأيك، أفضل حلٍّ لكلِّ هذه المآسي والكوارث الأرضية التي لا تتوقّف!)))

أخذتُ ورقةً صغيرة. طلبتُ من حنايا الانتظار لأسجِّلَ للفريق العلميّ بعض الملاحظات قبل أن أنساها. كتبتُ: «جنّحَ أبو الكشوف بعيداً، حلّق أكثر مما ينبغي. أخاف أن يتفسّحَ كثيراً في ضواحي ما كنتُ أفكِّرُ فيه أمامه وينسى الأهم! لا أنكرُ أن التساؤلات التي سردَها خطرت ببالي يوماً، لكني لا أذكر أن صراعات "جبابرة السماء"، على حدِّ تعبيره، أرَّقَتْ طفولتي إلى هذا الحدّ. لا أحبُّ كثيراً هذا المنحنى، المبالغ في أهميته، في التقرير»

تواصل حناياي:

((ما يبدأ بزعزعة يقينك هو أن شراء المعصية بحسنات الصلوات أو القرابين أو الحجّ لديارٍ دينيّة فكرةٌ لا تسمو لمقام الذات العليا، كما يقولُ كبار عشّاقها من الفلاسفة والمتصوفين. علاقةٌ تجاريّة كهذه تثير نقدهم وسخريتهم. في أعينهم الذات العليا أسمى من علاقةٍ صغيرةٍ وَضِيْعةٍ كهذه. تحوم في دماغك حينها أسئلةٌ عميقةٌ سامية وجّهها هؤلاء العشّاق، ترفع الخالق العظيم إلى مقامٍ أعلى من علاقة التبادل التجاري: كيف يمكن اختزال العلاقة مع الذات العليا بهذا التبادل التجاري المبتذل؟ كيف يمكن أن تتحوّل العلاقة مع الذات العليا إلى ما يشبه العلاقة بماكينة المشروبات التي تدفع لها قطعة نقدية مقابل أن تهبك قنينة كوكا كولا؟ ما قيمة المناسك والعبادات في الجوهر؟ أليست القرابين، الأضحيات، الحج إلى الكنائس وديار الصلوات، لطم جدران الغفران وتقبيل التماثيل، صفع الرأس والصدر، الطواف حول الأماكن المقدّسة، الزنانير وأجراس الكنائس ونداءات المآذن، طقوس الاعتراف أمام القساوسة والكهنوت، رمي الحجارة على «تمثال الشيطان» التي تنتهي كل عام بمئات الموتى والمُداسين وسط مراسيم الزحام والرجم السنوي العارم. أليست جميعاً، كما يقول كبار الصوفية، أشبهُ بطقوس وثنيّة بدائية عفا عليها الزمن؟ أتحتاج الذات العليا إلى وسائل وكوارث كهذه لشراء رضاها، لإغرائها، للتوسِّل لها؟

ترنُّ في دماغك هذه الهمسات الصوفيّة: «الفضيلة لا تشترى ولا تباع! هي غايةٌ بحدّ ذاتها. الذات العليا لا تحتاج لوسائط وطقوس! هي ليست بقرة حلوب كي نسألَها الرزقَ والدعم على الدوام. بها يلزم التوحُّدُ والذوبان! لها يلزم العشقُ المجرّد النقيّ الخالي من أي بيعٍ أو شراء! الذات العليا هي الأخلاق الخالصة، هي الفضيلة والعشق. تُبَّاً لك إن خُنْتَ أسس الأخلاق الفاضلة والمُثُل العليا ولجأت إلى قيم أخلاق العبد وذهنيّتهِ النفعيّة! تستحق اللوم أو السجن والفناء! لك حينها أن تعمل بنفسك ما تشاء إلا أن تبحث عن التكفير عن معصيتك بشراء أو إغراء من يسمو عن أيّ مناقصة.» تصمتُ عند سماع هذه الهمسات تحوم في أقبية دماغك. تخجل من نفسك! لا تعرف إذا كانت هذه الهمسات هرطقةً أم هي عين الإيمان الحقيقي السامي بالذات العليا.)))

ذهلتُ بشدّة وأنا أسمع حنايا تقرأ هذه الفقرات الأخيرة من التقرير. هكذا، يُعرِّجُ أبو الكشوف بخطوةٍ واحدة من ضواحي تفكيري إلى المركز! أصاب الآن فعلاً في استشفافِ صُلبِ ما كنتُ أفكِّر به حقّاً، وتقديمِ تحليلٍ فلسفيٍّ له. إذ كنتُ أفكِّر مليّاً أمام أجهزته بتناقضات والدي وأنا أستعيد وصيّته لي قبل مماته: هو عاشقٌ صوفيٌّ للذات العليا، قضّى حياته في الابتهال لها والتوحّد معها، يردِّد أبيات ابن الفارض والحلاج ليل نهار، يذوبُ بكاءً عند قراءة النصوص الصوفيّة. ومع ذلك، الشعائرُ الصغيرة شديدةُ الأهمية في ناظريه. يؤدِّيها بكثافة وتدقيق يصلان حدَّ التطرّف. بها يمارس ليل نهار هوايةَ «اصطياد الحسنات» واللهث وراء أكبر كميّة من الأجر الذي يثقل موازين يوم القيامة. يعتقد بذلك بشكلٍ عميقٍ راسخ لِدرجةِ أن وصيَّته لي كانت أن أقرأ لروحه بعد موته آيات قرآنية بانتظام، لرفدِ رصيده بالأجر والحسنات يوماً بعد يوم.

*    *    *

أتركُ بقيّةَ هذا التقريرِ الطويلِ المدهش (الذي سيتلصَّصُ فيه أبو الكشوف على أعمقِ أسرارِ دماغي، سيُفتِّشُ عصبونات أقبيتهِ عصبوناً عصبوناً، سَيُجْلِي فيه خفايا رؤيتي للوجود وتطوّراتها أوّلاً بأوّل) مُلحَقاً في نهاية هذه الراوية عنْوَنتُهُ بِ«بقيّة تقرير كاشف الأسرار»، لمن أراد قراءَتَهُ الآن بعد مقدِّمة التقرير مباشرة، أو لاحقاً إذا أراد! رصدتُ أيضاً، حرفاً حرفاً، في هذا الملحق حواراتي الحميمية الخالدة مع حنايا وهي تقرأهُ في أحضاني، على السرير.

الفصل الرابع

استقالة الآلهة

(1)

ماذا سأحكي للفريق العلميّ عندما يسألني عن انطباعاتي حول «تقرير كاشف الأسرار»؟ شيءٌ ما مثل: نَعَم، استطاع أبو الكشوف بشكلٍ عام محاصرةَ الإشكاليات والذكريات الكبرى التي عبرت دماغي. لكنه لم يكن مكترثاً أو دقيقاً في سردِهِ لِتفاصيل وتداخلات المشاعر والتساؤلات التي اكتنفتني أثناء الأحداث التي تذكَّرتُها أمامه. تذكَّرتُ أمامه مثلاً أني كنتُ أحدِّقُ بتمعّنٍ هائل في مسامات وجه والدي، أثناء جولتنا الرمليّة، وكأني كنتُ أراها لأول مرّة. كنتُ أودُّ أن يشرح تقريرُ أبي الكشوف لماذا علقَ بذهني هذا التفصيل الذي أراه مُهمَّاً لسبب أجهله، أو أن يذكرهُ في تقريرهِ على الأقل! تحدَّث أبو الكشوف باقتضابٍ جم عن بعض الطقوس الهامّة التي هيمنَتْ على ثقافة طفولتي، مثل الأدعية والصلوات. كان انتقائياً أحياناً لسببٍ لا أفهمه! تقريرُه مهنيٌّ بحت، دافقٌ في مهنيّته. لم يكن شاعريّاً في بعض فقراته، كما أهوى. مال (بشكلٍ أزعجني أحياناً) إلى التلقين واستعراض المعارف الموسوعية في بعض الفقرات أكثر من الإيحاء والهمسات الرمزية الرقيقة التي تأسرني بشكلٍ أشد. استبدلَ أحياناً اليقينَ الدينيّ باليقين العلميّ بشكلٍ استعراضي لا يخلو من الثقةِ المطلقة والتعميمِ الشديد، ومن نوعٍ من العنترة العلميّة التي لا أحبُّها. كنتُ أودُّ لو استخدمَ لغةً أقلَّ جهراً وقطعيَّة، أكثرَ تواضعاً واحتفالاً بالشكِّ والتساؤل وبعضٍ من الغموض. لأن ثمّة أسئلة ستظلُّ هي الأخرى بلا جواب! لِيقُلْ لي مثلاً، حفظهُ الله: من أين جاءت تلك الذرّة اللانهائية التركيز والكثافة والثقل، التي أدّى انفجارها إلى تشكُّلِ الفضاء والمجرّات؟ كنتُ سأفضِّلُهُ أكثر لو تركَ بعضَ الحجرات المظلمة هنا وهناك، بدلاً من التمشدُقِ بالحقيقة العلميّة الساطعة، واللعلعةِ الشديدةِ بالضوء الذي يفقعُ بصري أحياناً.

ما الذي لن أقوله للفريق العلمي؟ شيءٌ ما مثل: تغيَّرتْ أيامي بعد سماع هذا التقرير مباشرة! سأضيفُ سريعاً حتى لا يغشاهم الغرور: ليس بسبب التقرير! لكن بسبب عذوبةِ سماعهِ ينسابُ في صوت حنايا العسلي، وبشكلٍ خاص بسبب مفاجأتي عندما بادرَتْ حنايا بتقبيلي، هي نفسها، وهي تفتحُ لي موضوع البحث عن «السيرة الذاتية للآلهة، المبرهنة باستخدام الكمبيوتر!» في منتصف قراءتها، وتحثُّني على الخوض فيه! مبادراتُها بتقبيلي لأوَّل مرّة شغلَتْ بالي، دغدغَتْ كلَّ آمالي، أغرتْني باختراق ذلك الموضوعِ الجامدِ المخيفِ الشائك، جعلتْني مثل انتحاريٍّ يغادرُ قلعة «ألَمَوت» للاستشهاد بعد ليلةٍ قضّاها مع إحدى حوريّات «شيخ الجبل». ناهيك أن استخدام حنايا، على هامش تلك القبلات، لِلمصطلح الفتّاك: «التماثل الهندسي»، الذي لا ألجأ إليه إلا في سياقٍ غراميٍّ بحت، أخفى في نظري تحدٍّ جليّاً وأملاً واعداً بشيءٍ يُدمي رغباتي منذ أمد. لم يكن أمامي بعد ذلك إلا أن أشمِّر لبدء مشروعها بشغفٍ جليٍّ وهمّةٍ طاغية.

ما الذي لن أقوله للفريق العلمي إطلاقاً؟. قرَّرتُ بعد سماع تقرير أبي الكشوف، لأسبابٍ شخصيّة بحتة، أن أقرأ لروحِ والدي، مرَّةً كلَّ أسبوع، ما تيسّر من الذكر الحكيم! ليس رغبةً في بيعٍ أو شراء! ليس لأسبابٍ نفعيّة قط! لكن حبّاً ووفاءً لوالدي الغالي! لتحقيقِ رغبتِهِ فقط! للفضيلةِ المجرَّدة ليس إلا، كما يعشقها الصوفيون مثلي لا غير!

(2)

لعلّي تحدَّثتُ كثيراً حتى الآن عن فردوس وحنايا، عن شغفيهما وأبحاثهما، دون أن أتحدَّث بعد عن دراساتي وأبحاثي، عمّاذا جئتُ أعمله في مختبر «العوالم الافتراضية الموسَّعة»، في نفس المجمّع العلمي الذي يضمّ مختبر حنايا. لم أتحدّث حتّى الآن إلا عن تلعثمِ حياتي وخربطتِها قبل بدءِ هذا الشهر في حضرةِ حنايا. ستتحوّلُ اللعثمةُ بعد هذا الشهر إلى صراعٍ ذاتيٍّ مرير، لأني كنتُ واثقاً قبل حنايا أنَّه لا يمكنني أن أعشقَ فتاةً أخرى غير فردوس! هي وحدُها من ستمتلكُ دماغي وقلبي وحواسي إلى الأبد. منذ فردوس (وقبل حنايا) كنتُ واثقاً أني مُبرمَجٌ لِحُبِّ فردوس فقط. قَبلُها جاهليّةُ العشق. بعدُها نهايةُ العشق. قَبلُها خفقاتٌ مُراهِقةٌ وحماقاتٌ طائشةٌ مسحَها الزمنُ من الذاكرة. بعدُها استقالةٌ شاملةٌ كاملةٌ من العشقِ والكونِ في نفس الوقت. منذ فردوس (وقبل حنايا) وجدتُ تناغمي في الديمومةِ والامتلاك! معاً، نبحثُ في علاقتنا الجسديّة عن الرتابةِ والتجديدِ في نفس الوقت. عن الوفاءِ الدائم للطقوس والذهابِ إلى أقصى حدود الحريّة أيضاً. عِشقُنا عطاءٌ ثنائيٌّ دائم، فضاءٌ متجدِّدُ التهويَة، سياجٌ يقاومُ الزمن. تمتلكني وامتلكها، رغباتُها تتحوَّلُ رغباتي سريعاً، والعكس أيضاً. أرغبُ بها وترغبُ بي بانتظامٍ لم يفقد عنفوانه منذ لقائنا الأول في ميونيخ، و«حملة الإغراء والمراسلات والأحلام الليلية» (حسب تعبيرها) التي تلتْهُ حتى وصولها إلى مرسيليا للدراسة، ثمّ توحُّدنا الجسديّ في غرفتها الجامعية الضيّقة في مرسيليا. آه، ذلك التوحّدُ الكثيفُ المُفعَمُ بالعشقِ والرغبة الذي طالما استعدنا ذكرياته ثانيةً ثانية. كان منذ بدايته، مثلُها، ينبوعاً من السعادة والحريَّة والبهجة الدافقة، «ولادةً ثانية»، حسب تعبيرها أيضاً!

منذ فردوس لا أعشقُ إلا فردوس. بها أفكِّرُ في لحظات غيابي الذهني أثناء اجتماعات العمل، في استراحات الشغل، في لحظات الأنس والطرب، في الخلوة، في لحظات السفر والراحة، قبل النوم وفي اليقظة. هي هوَسي الدائم. عيناها، ثغرُها، خاصرتُها، نهداها تأسرُ دماغي وتكتسحُ رغباتي على الدوام. اشتاقُ لها، أعشقُ التوحّدَ بها طويلاً طويلاً، كثيراً كثيراً.

منذ فردوس صرتُ أزدري وأسخرُ كثيراً من التنقُّل الذكوريِّ الكسير من فتاةٍ لأخرى. لا أرى فيه فحولةً أو فتوَّةً أو ميزةً ما. القوّة والروعة يكمنان، في رأيي، في أن يتقاسمَ المرءُ الفراشَ مع معشوقةٍ واحدة، تؤجِّجُه ويؤجِّجُها ليل نهار، يغدِقُها وتغدقُهُ لذّةً كلَّ يوم، لا يملُّها أو تملُّهُ ليلةً واحدة. غير أن فتاةً كحنايا لا تعبرُ الحياةَ نزوةً مارقة. لا تدخل القلبَ من الباب أو النافذة. لا تستأذنُهُ للدخول. تكتسحُه صاعقةً تهدمُ السقف، موجةً عارمةً تقتلعُ الأخضر واليابس.

لأبدأ الحديث عن دراساتي من الفاتحة! جئت فرنسا في منحةٍ لدراسة الفيزياء، وإن كنتُ أعشق الرياضيات أساساً. في السنة الثانية من الجامعة، في بداية الثمانينات، اكتشفتُ علماً جديداً يقع في تقاطع الرياضيات والفيزياء: علم الكمبيوتر التي بدأت الجامعة تدريسه. منذ أولى المحاضرات في الخوارزميات والبرمجة في بداية السنة الجامعية، لاحظتُ أن هذا العلم الطازج سرق أنبل ما في الرياضيات والفيزياء. ودَّعتُ الفيزياء على التو، اتجهتُ نحو دراسة هذا العلم الجديد بجانب (أو في حضرة) ملكة العلوم، الرياضيات، وإن أيقنتُ سريعاً أنه لن يتأخر كثيراً على الاستيلاء على عرش الملكة. منذ تلك الآونة بدأتْ تدغدغُ مسمعي أبرز أفكار الثورة المعرفية، التي لم تعد اليوم سرّاً لأحد، مثل: «الكمبيوتر خُلِقَ على شاكلة الدماغ»، «الكمبيوتر يشتغل مثل الدماغ، والعكس صحيح»، «التفكير الإنساني سلسلةٌ من عمليات معالجة المعلومات». لاحظتُ بانبهارٍ كامل أن أهم خلاصات الثورة المعرفية هي سقوط الحدود بين الحي والجامد، لأن الحياة ليست أكثر من «منظومة من السيرورات الماديّة»! أو بأكثر دقّة، «الحياة منظومةٌ من التحوّلات الكيميائية التي تعيد خلق نفسها وفقاً للقوانين الداروينية»، حسب تعريف «النازا» للحياة. سيروراتٌ ماديّة إذن، يمكن محاكاتها! ذلك يعني: إذا بُرمِجَ رجلٌ آليٌّ بنفس البرامج الذهنية المنحوتة في دماغ الإنسان (والتي أنتجتها سبعة مليون سنة من التطور) فبإمكانه أن يمارس كل النشاطات الإنسانية، الميكانيكية والروحية على السواء: يلعبُ كرة، يفكّر، يغازلُ ويحب، يكتبُ الشعر، يبكي، يضحك، يعشق حتى الثمالة. الإشكال يكمن فقط في أن العلم مازال يجهل ميكانيكا معظم هذه البرامج الذهنية!

ألهبَتْني أيضاً الطموحات والأحلام المعترمة التي رافقت ولادة علوم الكمبيوتر. كانت جليلةً جدّاً، طوباوية إلى حدٍّ ما. أثارني بشكلٍ خاص قرار اجتماع مؤسسي علوم «الذكاء الاصطناعي»، في معهد «ام، آي، تي» في 1956، الذي نصّ على «تصميم ماكينة تحاكي الذكاء الإنساني وتتجاوزه قبل نهاية القرن العشرين»! لم يكن من قبيل المعقول أن يستوعب العلم ويحاكي ويتجاوز، خلال خمسين سنة فقط، ذكاء البرامج الذهنية المنحوتة في دماغٍ صاغته سبعة مليون سنة من التطوّر الدارويني! شعرتُ من أوّل دروس علوم الكمبيوتر في الجامعة أن الإنسان أثبت باختراعه الكمبيوتر أنه مسكونٌ بما أودُّ أن أسميه «عقدة الآلهة»! أراد هو أيضاً في نهاية المطاف أن يكون مخلوقُه، الكمبيوتر، إنساناً على شاكلته، ليشعر في الأخير أنه صار إلهاً!

بانتظار أن يُحاكي الكمبيوتر الإنسانَ ويتجاوزه، برز سؤال أكثر تواضعاً وإلحاحاً وإثارةً للّهفة العاجلة: متى سيهزم الكمبيوترُ الإنسانَ في الشطرنج؟ لزم انتظار عام 2002 لينتصر كمبيوتر أي، بي، ام: «الأزرق الأعمق» على بطل العالم كازباروف، كيما يطلق البعض على ذلك «نهاية الإنسان». عبارة تخفي في نظري غروراً إنسانياً منافقاً لأنها تعني في الجوهر «بداية الإله»! عقدة الآلهة لم تفارق الإنسان منذ أن خلق الكمبيوتر من التراب. (لأن سيلوسيوم أنسجة الكمبيوتر يُستخرج من الرمل!). راودَتْ هذه «العُقدةُ» الإنسانَ عند اختراع لغاتٍ أرستقراطية راقية لبرمجة الكمبيوتر، أُحِبُّ تسمِيتَها لغات «كنْ فيكون!». أقصد هنا لغات علوم «الذكاء الاصطناعي»، شديدة الكثافة والتعبيرية، مثل لِيْسب (التي صمّمها ماكارثي، في 1956، في نفس معهد «ام، آي، تي» الأمريكي الشهير) وبرولوج (التي صمَّمها كولميروير، في 1972 في مرسيليا). اللغة الأخيرة «تصريحية»: لحلِّ مسألةٍ ما، يكفي «التصريح» بها فقط دون خوض غمار البحث عن طريقة حلِّها وبرمجة تلك الطريقة باللغات الكمبيوترية التقليدية!

هذا الترف! يكفي التصريح بالإشكالية فقط وترك البحث الآلي عن الحل لجيشٍ خفيٍّ من برمجيات علوم المنطق الرياضي المطويّة في ثنايا برولوج! كم كنتُ سعيداً مثلاً، قبيل بضعة سنوات، عندما خطر ببالي أن أستخدم هذه اللغة لحلِّ لغز والدي: «لي عمّةٌ وأنا عمُّها، ولي خالةٌ وأنا خالها.» الذي تحدَّثتُ عنه سابقاً، (والذي أهديه هنا لحنايا لأنه شديد «التماثل الهندسي»!). أرَّقني هذا اللغز منذ أن استعدتُ ذكريات جولتي مع أبي في الخلاءات الرملية المجاورة. كم اجتاحتني الفرحة عندما رأيت حلَّ اللغز على شاشة الكمبيوتر، بمجرد التصريح السرديِّ به، دون الكدح والشقاء وإملاء الأوراق بشخاطيطِ البحثِ اليدويِّ عن الحل! كم تمنّيتُ حينها أن أبعث إيميلاً دافقاً لِ«روح» والدي أجيبُ فيه على لغزه بعد بضعة عشرات السنين! ودَدتُ أن أُعبِّرَ له أيضاً في ايميلي عن غمرة السعادة التي عصفت بي بعد اكتشاف الحلِّ بمجرّدِ أن طلبتُ من عفريتٍ الكترونيٍّ اسمه برولوج، مدجَّجٍ بعلوم المنطق الرياضي والذكاء الاصطناعي، أن يوافيني بالحلِّ هو وحده، قبل أن أغمض طرف عيني! لن أبوح لأحد في هذه الصفحات بحلِّ هذا اللغز الشعريِّ اللذيذ وفاءً للناظم الفاضل الذي أنهك دماغه في اختراعه. سأترك القارئ العزيز يُشمّر عن ساعديه لِيعيش متعةَ عذابِ البحثِ عن الحلّ بالطريقة التي تروق له.

(3)

في «مختبر العوالم الافتراضية الموسّعة» تضاعف إيماني بأن الإنسان مسكونٌ بعقدة الآلهة! زرتُ ذلك المختبر قبل حوالي 4 سنوات لأشتغل مع بعض أعضائه في مواضيع أبحاث مشتركة. لاحظتُ في أول يوم مكثت فيه أن فريقاً من باحثيه يطوِّر منذ سنين برنامج كمبيوتر اسمه «الحياة الاصطناعية»، أو ح.ا من باب الاختصار، يسمحُ للإنسان أن يراقب الكون على شاشة كمبيوتر، مثل إلهٍ يراقبُ الكون من نافذة الأبديّة! يبدأ تشغيل هذا البرنامج باختيار بيئاتٍ طبيعيةٍ محدّدةٍ ما (مدن، قرى، سهول، واحات، جبال.) يصوغُها مستخدمُ البرنامج كما يهوى، يتمُّ تأثيثها بعد ذلك بِبشرٍ متنوِّع، أشكالهم أشبه بدمى لطيفة جذَّابة، يتم برمجةُ أدمغتهم بصفات ومزايا وعيوب الأدمغة الإنسانية، تُحرِّكهم نفس القوانين التي تحرّك الإنسان: الصراع من أجل البقاء، التفاعل مع الآخرين. يهدف البرنامجُ محاكاةَ الحياة البشرية: تتقدّمُ فيه عجلةُ الزمن رويداً رويداً، يمارس البشر خلالها على الشاشة، كلّ في ضوء ملكاتهِ وظروف واقعه، حياةً مثل البشر الحقيقيين: يتفاعلون مع بعضهم في علاقات شتى، يتعاضدون، يتنافسون، يتحاربون، يتناكحون، ينجبون أطفالاً بنفس القوانين الوراثية الجينية للبشر الحقيقيين، يموتون، يشيّدون البنايات، يصارعون ويخرِّبون الطبيعة. تحكم الصدفةُ حياتَهم الافتراضية على غرار حياتنا الحقيقية. يكفي لمشاهدة تطوّر هذه الحياة الافتراضية تركُ عجلة الزمن في برنامج ح.ا تسير بنفس سرعتها الأرضية، أو يلزمُ تقديمُ عقارب الزمن على الشاشة قليلاً أو كثيراً، يوماً أو عدّة سنين، لرؤية كيف تتغيّر وتتقدّم هذه الحياة على المدى البعيد. بفضل ح.ا لم أكن بعيداً من حلمي الأثير بالتنقّل بين ضياع الزمن، جالساً على منضدةٍ تتوسَّطُها قنينة نبيذ سانت استيف، أراقبُ الماضي يسيلُ أمامي في صيغته الأصليّة، أتنقَّلُ في ربوعه من زمنٍ إلى زمن كما يتنقّل المرء ب«الريموت كونترول» من شاشة تلفازٍ لأخرى.

أستولى برنامجُ ح.ا على كلِّ جوارحي، أسرني أسراً: سيرورة حياة بشرِهِ الافتراضيين تتقارب مع حياتنا الأرضية، وتطابقها إلى حدٍّ كبير في كثيرٍ من مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية. قصورهُ المرموق في نظري يكمن في الجانب الثقافي فقط. لعلّه لا يُحاكي بشكل جاد التطورات الثقافية الإنسانية، لأن أدمغةَ البشر فيه ليست مُنمْذَجَةً ومُبرْمَجةً بنفس غنى وتعقيد الدماغ البشري. ثمّة نقصٌ واقتضابٌ صارخٌ في طرائق عمل أدمغتهم تُفسِّرُ سبب ضعف محاكاة ح.ا للحياة الثقافية الإنسانية. صار ح.ا أفيوني منذ رأيته! قضَّيتُ ساعات وساعات أستخدمه للمتعة. أخلق مجتمعات افتراضية، أراقب نموّها وتطوراتها، همومها وأفراحها. أقدّم الزمن قليلاً أو كثيراً، أفحص بعدسة ميكروسكوبية سلوك هذا الشخص أو إشكالات حياة ذاك. إذا ما أثارني أحيانا سلوكُ إنسانٍ ما، أو شعرتُ بعدم فهم معاناته في لحظةٍ ما، أغوصُ في كنهِ دماغه، أعملُ «زوم» لِتفاصيل وضع وتفاعلات برامجه الذهنية في لحظة محدّدة، أقرأُ برمجيات منظوماته الاستنباطية ومسلّماته الحدسية. أغضُّ النظر أحياناً عن حياته الخاصّة جدّاً إذا ما تعلَّق الأمر برغباتٍ غرامية حميمية. أتألمُ لآلامه إذا ما اجتاحهُ الأسى ملاحظاً أن أحزان «وادي الدموع» الافتراضي لا تقلُّ عن أحزاننا الأرضية. سمح لي ذلك بجولةٍ متعمِّقةٍ في أحشاء ح.ا لِدراسة وفهم بُنيتِهِ الكمبيوترية، أساليب عمله، تفاصيل تقنياته وبرمجياته.

اتَّجهَ ناظري نحو ح.ا حالما بدأتُ أتساءل كيف أبدأ الخوض في مشروع حنايا الخاص بإعادة محاكاة السيرة الذاتية للآلهة كمبيوتريا! لم أحدِّث حنايا عن ذلك البرنامج. غير أني طلبتُ منها قبل إنهاء شهرِ زيارتها للمختبر أن تترك لي في بعضٍ من أقراص ال«دي في دي روم» عدداً كافياً من بيانات تفاصيل ومواصفات نماذج مختلفة من الأدمغة التي دُرِست في مختبرهم، بما فيهم دماغي! سألتني: «لماذا؟» لم أجبها! اكتفيت بالقول: «لأسباب ثقافية بحتة! الأسبوع الذي قضَّيتهُ في مختبركم مع كاشف الأسرار فتح لي الشهية لاستيعاب تركيب الأدمغة التي درستموها واختلافات تفاصيلها الصغيرة. أحتاجُ ذلك لأفهم أسرار الدماغ البشري وتنوّعاته بشكلٍ عام!». ابتسمتْ حناياي. قنصَتْ بنظرةٍ أنثوية ثاقبة كلَّ ما يدور في خاطري من خططٍ ومؤامرات! عرِفَتْ أيضاً أني عرفتُ أنها تعرفُ لماذا أطلب منها كلّ هذه المواد. طلبْتُ منها أن تضيف إلى ذلك بعض البرمجيات الخاصة بمحاكاة تفاعل المنظومات الاستنباطية في ضوء آخر اكتشافاتهم. قالت: «عليَّ إذن أن أقضيّ ما تبقّى من أيام هذا الشهر بالشغل لك!» أجبتُ: «لو سمحتِ!» (لهاتين الكلمتين وقعُ لكمةٍ قاضية في لغتنا الغرامية الخاصة، مثل وقع عبارة: «التماثل الهندسيّ»).

لم تُقصِّر حناياي باختيار نماذج متنوِّعة من «قاعدة بيانات» مختبرهم، وبعض البرمجيات التي أبحث عنها. جهَّزتْ بتفصيلٍ ومهنيّةٍ وتفانٍ كلَّ المواد الخامة التي تلزمني مرفَقةً بشرحٍ مفصّلٍ ودليلٍ متقنِ الترتيب يوضِّحُ بطرائق جذّابة كيفية قراءة وفهم واستخدام وشحن كلِّ البرمجيات والبيانات التي أعدَّتْها. شرحٌ معجونٌ بالعشق، لا تُسهبُ فيه وتُنظِّمُهُ وتُسهِّلُهُ بهذه الروعة والإخلاص إلا عاشقةٌ حقيقية. (ما أجدب الحياة دون حناياي!). كتبَتْ بخطِّ يدِها فوق ظهرِ كلِّ «دي في دي روم»: «سريّ للغاية!»، مضيفةً توقيعها بأحرف صغيرة جدّاً: «حناياك».

لعلّ حنايا لاحظت كم صرتُ غائباً عنها في آخر أيام شهرنا المشترك في باريس، وإن كنتُ حاضراً جسديّاً. ثمّة شيءٌ شغل أقبيةَ بالي، انتظرتُ عودتها للندن لأبدأ به! كنتُ أفكِّرُ وأتساءلُ بِصمتٍ وهوس كيف أُوَطِّنُ في ح.ا هذه الأدمغةَ البيولوجيةَ الحقيقية بكل تفاصيلها الصغيرة وطرائق عملها المعقّدة! افترضتُ أن هذه الأدمغة الواقعية التي استطاع مختبر حنايا التجسيد الرقميّ لقواعدها الاستنباطيّة وطرائق عملِها ستكون أدقّ بكثير من الأدمغة التقريبيّة الوهميّة التي يُبرْمَج بها ح.ا، والتي تَختزلُ بكاريكاتورية تعقيدَ الدماغ البشري الحقيقي وتَقتضبُ انتاجاتهُ الغنيّة بشكلٍ جسيم. كلُّ ما كنتُ أتوق له هو عمل جسرٍ صغير لا غير بين جبلين هائلين: برنامج ح.ا (الذي أبدعه فريق علميٌّ شغوفٌ ذو ملكاتٍ تخيّليةٍ عبقرية وطموحاتٍ إلهية)، وأدمغة مختبر حنايا (الذي تمّ دراستُها وبرمجتُها خلال مشاريع دولية وأبحاث كثيفة هائلة التمويل). خطّتي: استخدام برنامج ح.ا، منطلقاً من بشرٍ أضعُ في رؤوسهم هذه الأدمغة الحقيقية، لإعداد سيناريو حياةٍ تبدأُ بمجتمعاتٍ بدائية قبل اكتشاف الإنسان للزراعة مثلاً! الحياة الافتراضية التي ستنبثق من ح.ا بعد اعتماده هذه الأدمغة الحقيقية ستشبِهُ، كما تصوَّرتُ، حياتنا الإنسانية الحالية، ستنتشر فيها ثقافات تشبه ثقافاتنا. يكفي أن أترك بعد ذلك هذه الحياة الافتراضية تسيلُ لوحدِها بضعة آلاف من السنين (سيأخذُ ذلك ساعات أو أيام فقط على الكمبيوتر)، لأراقب خلالها كيف ظهرت وتطوَّرت الأديان في هذه المجتمعات الافتراضية، وكأني أدرسُ وأراقبُ تطوّرَ ظاهرةٍ فيزيائية، أو تغيّرات الطقس الجوِّي، أو اقتصادِ سوق، أو تجربةٍ نووية، أو حربٍ افتراضيةٍ يُحاكيها الكمبيوتر!

(4)

وِداعي لحنايا في محطة قطار اليوروستار لم يكن بنفس موسيقى المرّات السابقة. كان دماغي مستعجلاً للذهاب لموعدٍ آخر. عشتُ معها بكلِّ حواسي عناقَ الوداع ورجفتَه. أشواقي وحسراتي سبقتْ مغادرتَها. كنتُ أدرك أني سأفتقدها بجنون. لكن لم أكن معها كعادتي. قالت لي بكثيرٍ من الحزن في أول إيميل بعد عودتها إلى لندن: «ما إن أدرتَ ظهرك بعد قبلة الوداع حتّى هرعتَ دون لفتةٍ إلى الخلف، أو إشارةِ تحيَّةٍ أخيرة. عبرتَ قاعة اليوروستار "شاخطاً، على طُول". لم تقف منتظراً حتّى يبتعدَ القطار، كما هي عادتك. كنتَ غائباً عني! كنتَ في عالمٍ آخر. أين كنتَ؟ اخبرني أين كنتَ؟» لم أدر كيف أرد! كنتُ غارقاً في التفكير بمشروعها من تلك اللحظة. العودةُ للمنزل كانت أكثر لحظات سنين حياتي الأخيرة خربطةً وفوضى. شعرتُ بالضياع بعد فراق حنايا، بالشوق لها. ذكرياتُ الشهر تملأ دماغي، تطفح من كلِّ أرجاء ذاكرتي. رأسي يشعر بالانفجار.

فردوس، وجهي الآخر، تنظر نحوي بعدم فهمٍ كامل. لم أعد أنظر لها بنفس الأعين. أشعر بالخربطة الجسدية الكاملة. تغيَّر ميكانيكا عمل جسدي وحواسي تماماً. يفصلني عن فردوس شهرٌ عرفتُ فيه الكبت والاحتقان، المدّ والجزر، التهيُّجَ والقمع، العشقَ والحرمان، الظمأَ والقحط. شهرٌ عشتُ فيه ناسكاً حزيناً يبتهل في هيكلٍ آخر، لإلهٍ آخر يجدُ متعتَهُ في رؤية عبادهِ في صلاةِ استسقاءٍ دائمة. فردوس، وجهي الآخر، ظلّي القدَري. لم أعد أنظر لها بنفس المنوال. لم أعد أهواها بنفس القسط. لم أعد أخفقُ لها وحدَها فقط. أفضِّلُ رؤيتَها مزيجاً كاميريائياً من فردوس وحنايا. لا أستطيع أن أخلع حنايا منها. غير أن فردوس هي وحدها من تصغي لآلامي، من تحيى بإيقاعي. هي وحدها التي تعرف كيف تضمِّد جراحي، كيف تهدهد جسدي عندما أتلوّى مثل طائر جريح. هي تعشقُهُ كلّاً، تهبُهُ كلَّ ما تملك، تنصتُ لكلِّ رغباته الصغيرة الدائمة وظمَأِه الدائم، تُنسِّقُه، تضمُّه، تتضمّخُ به، تنهلُ منه، ترويه. هو ملكوتُها، غابتُها، نهرُها، جنَّتُها. فردوسُ «نعَمٌ» دائمٌ لِنهَمِه الذي لا يضمحل، لمغامراتِهِ وطيشِهِ وزلّاتِه، لرغباته الصغيرة المتواترة، للطِّفلِ المدلَّل المختبئ بين جوانحه. تُشجِّعُ نزواته على الدوام، تحتفل بها، تؤجِّجها.

فردوس ليست ظاهرةً صوتيّةً كحنايا. العشقُ معها ليس أحلاماً رومانسيّة أو سيلاً من دموعٍ عاشقة حرّى فقط. ليس نشاطاً تنظيريّاً، فلسفةً ميتافيزيقية، فيلماً هنديّاً. العشقُ معها نشاطٌ عملي، ورشة، ترسانة، هندسةٌ مدنيّة، مصنعٌ للحديد والصلب، تجاربُ نوويّة، مشروعٌ حضاري، إنجازاتٌ ملموسةٌ يوميّة. فردوسُ شريكةٌ حقيقية، عطاءٌ دائم. كنتُ أشعر بخللٍ ما. لأني لا أعرف كيف أغيِّرُ قبَّعةً بأخرى، كيف أنتقل من حنايا إلى فردوس. أرتجف في أعماقي، لا خجلاً من عشقِ حناياي (هي بُعديَ الثاني، نصفي الآخر، عشقي الحزين، قدَري وشغَفِي في نفس الوقت)، بل لأني لا أجيد الانتقال بين كوكبين متباعدين في طرفي مجرة. فردوس تعرف آهاتي الصغيرة، تعرف تنويعات خلجاتي كما تعرف صفحات أقدم ديوان شعرٍ في مكتبتها. ثمّ هي أيضاً خارقةُ الجَمالِ أوَّلاً وأخيراً، كريمةٌ عبقريةٌ ذكيّةٌ في عرضهِ وتقديمهِ لي كما يلزم.

لاحظَتْ أني لم أكن هذه المرّة بنفس التلقائية والصفاء ولظى أشواق العودة بعد السفر، لاسيّما بعد شهرٍ من الفراق. لمحَتْ بعينيها الأنثويين الثاقبتين أني صرتُ بعيداً عنها. أغيبُ في ذكرياتٍ لا تعرفها. لا أصغي لها بنفس الوُجدِ والإعجاب والتركيز. أتظاهرُ بالإصغاء أحياناً دون أن أتابعَ ما تقوله. لا أحكي لها أخباري الصغيرة بنفس الحماسِ والتأليفِ الشيِّقِ والرغبةِ والإسهاب. تسألني أحياناً: «لماذا تبتسمُ لوحدِك؟» أو «لماذا تبتسمُ للملائكة؟»، أتلعثم، أفتري قَصصاً بلا رأسٍ أو ذيل، مُجرْجَرةً من شعرِها في الغالب. ثمّة صراعٌ ما في جوانحي لا يخفي عليها. لاحظَتْ قبل هذا وذاك أني، بعد شهرٍ من الفراق، لم أكن مشتاقاً للتوحُّدِ بها بكثافةٍ وب«أثرٍ رجعي»! اقتربَتْ، توقَّعتْ قُبلةَ شوقٍ عارم، عناقاً اندفاعيّاً، توحُّداً همجيّاً يبرِّرُ ضرورةَ الفراق، يُشجِّعُ على اللجوء إليه بين الآنِ والآن. لم أكن كالعادة، لم أخفق أو أتأجج. قُبلاتي كانت سطحيّةً عجولةً فاترة. لستُ أكثر حماساً من ليلة افتراقنا قبل شهر. فجأة لمحتُ شيئاً لم أره منذ ثلاثين عاماً: دمعتين دافقتين تغمران عيني فردوس في لمحة بصر! حزنٌ يُكنِّسُ وجهها. تبدو فجأةً مثل طفلةٍ صغيرة تدركُ فجأة أنها فقدَتْ أُمّها إلى الأبد.

عندما ترى دموعاً تتفجَّرُ في عيني معشوقتك الأزليّة، لأول مرة في حياتك بعد ثلاثين عاما، لأنها تشعر أنك لم تَعُد تعشقُها كما كنتَ، يعصفُ بك ألمٌ يساوي كلَّ أوجاع العالم! تذكَّرتُ: لم أر دموعها إلا مرّتين فقط، آخرهما إثر فيلمٍ حزين، قبل خمسة عشر سنة تقريباً! شعرتُ بالخجل والحزن يوخزاني بعنف. لعلّ الشك كان سيسحقُها لولا برنامج ح.ا! ما إن رأتني ساعة وصولي أشحن كل قطع «دي في دي روم» مختبر حنايا على كمبيوتري (قبل إخفائهم، لئلا ترى توقيع: «حناياك»)، وبدء تنظيم ملفّات ح.ا بتركيزٍ خاص حتى افترضَتْ أن موضوع بحثٍ علميٍّ يأسر جوارحي حقّاً.

تضعُ فردوس على أحد رفوف غرفتِنا ثلاثة شمعدانات صغيرة. تسكب عليهم قطرات من عطر الفلّ والعنبر والكاذي. تحرق الشمع. لحنٌ رومانسيٌ رقيقٌ ينسابُ من ركن الغرفة. هي جالسةٌ وسط السرير بِثقَةِ إله. فستانُها الحريري الباهر الأنوثة، ملابسها الداخلية الأنيقة، ماكياجها العبقريُّ البساطة، رائحتُها العطريّة الفتّاكة مهرجانٌ للاحتفالِ بالجمالِ والعشقِ والحريّة. فردوسُ تحيى على إيقاعي، مثلما أحيا أنا على إيقاع حنايا! تعرف كيف تصطادني بألوهيّة، كيف تطلق رصاصتها الملائكية في العُنق، كيف تُروِّضُ بإتقان الدبَّ الجريحَ الذي يعوي في أعماقي. جسدُها الفخورُ يُقرفصُ على ساقٍ واحدة، رُكبة الساق الأخرى قريبةٌ من صدرها العاري، تتكئُ عليها وريقاتٌ شعريّة من قصائد تنوي قراءتها لي بِلُغاتٍ مختلفة! هي تعرفُ كيف تعيدني إلى رُشدي، كيف تُدحرجُ بي نحو الهاوية بكلِّ رقّة، كيف تنتصُّب وحدها على العرش. تقرأ لي بصوتها الشاعريّ الموسيقيّ الآسر مقاطع تختارها بعناية لِمحمود درويش، بودلير، بابلو نيرودا، عمر الخيام. أسترخي، أهدأ قليلاً، الشعر يغسلُ ضعفي وأتعابي الصغيرة. أتذكَّر بين الحين والحين حنايا وهي تقرأ «تقرير كاشف الأسرار»! أقارن بين قراءة حوريّتين ساحرتين. إحداهما متدثِّرةٌ بالملايات، يغوص تقريرها في أسرار الوعي والمعرفة، في دماغها هلعٌ عتيقٌ من جلّادٍ ومشانق، جراحُها أكبرُ من جسدِها العذب الرقيق، أحزانُها لا تتَّسِعُ لقلبِ عصفور، لا يرقصُ عارياً في جسدِها إلا صوتُها الساحر. الأخرى، تكره الملايات، تعانق الضوء، نُصوصها المختارة تحفر في اللاوعي والخيال، جسدها وعاءٌ للشعر، للفناء الصوفي، للسفر والحرية. أسترخي قليلاً بعد عواصف شهرٍ هائجٍ جائع. تشعر فردوس أني ما زلت بحاجةٍ لمزيدٍ من الاسترخاء. تغسلُ كلَّ جسدي بلمساتٍ رقيقة، عاشقة، تعرف كيف تخاطب خلاياه خليّةً خليّة. تعرف أين وكيف ومتى تضع أناملها، كيف تجعلني أسيراً دائماً لِثغرها الفاتن! أشعر بالخجل وأنا أقول لنفسي: «كم يلزمُ من قرونٍ لحنايا لتكون فردوس؟». أغرق في الاسترخاء.

أتذكّر حنايا من جديد: لماذا لم تُدلِّك هذا الجسد، تُحرِّره، تتربَّعه، تعتصره، تستنزفه، لماذا لم تمُسَّهُ مرةً واحدة؟ أكاد أصرخ من جديد: «حرام عليك!» مخاطباً حناياي البعيدة. أبكي في قرارتي. يضيع صوتي. تقرأ فردوس مقاطع من امرئِ القيس، رامبو، المتنبي، ايميلي ديكنسون، سعدي يوسف، أراجون، أدونيس. أهدأ كثيراً، أهدأ، أهدأ. لست أدري كيف كان ليَ أن أهدأَ هكذا لولا أفيون الشعر. فردوس تهجم عليَّ كفهد. أدرك حينها أن «نهاية الشعر» أمرٌ مستحيل. أرتمي في أحضانها. أُلملمُ نفسي. أطوفُ كلَّ جسدِها، أقبِّلُهُ بِرقَّةٍ من رأسهِ حتى أخمص قدميه. أرى حنايا تنبثق من كلِّ مكان. أقبِّلُهما معاً، ألتهمُهما باضطراب، ألتهم حنايا في فردوس، ألتهم فردوس في حنايا. أسترخي أكثر فأكثر. الشعر يغمر كلَّ روحي. أضمُّ فردوس، أقبِّلُ حنايا، أضمُّ حنايا، أقبِّلُ فردوس، أضمُّ حنايا فردوس، فردوس حنايا، أضمُّ فردوس، أضمُّ فردوس. أصرخ بصمت: «ليس ثمّة شيءٌ حقيقيٌّ في الكون إلا الشعر، كلُّ ما عداه صنيعةُ الخيال». لا أؤمن إلا بالشعر. لا حظّ لي إلا مع الشعر. أعشقُ الشعر، أعشقُ الشعر، أعشقُ الشعر.

أرغبُ فجأةً بِتدليلِ فردوس وسط المعمعة! أشعرُ أني لم أُدَلِّلها منذ سنين، هي التي لم تتوقف لحظةً واحدة عن تدليلي منذ ثلاثين عاماً! لُغتي الغرامية طريّة، يانعةٌ جدّاً، في أوجِ عطائها، بعد هذا الشهر الذي قضّيتُهُ في أحضان حناياي. أقول لها إنها فردوسي الأزليّ الأبديّ، سعادتي الدائمة! أعبّرُ لها لأول مرّة عن عشقي لإسمِها! أهمس لها، وأنا أقبِّلُ صدغَها، إنها تحملُ اسمها بجدارة. هذا الاسم ذو الأصول الفارسية القديمة: بارادايزا، الذي اجتاح العربية والعبرية وبقية اللغات الشرقية، تسلَّلَ إلى الإغريقية ومنها إلى اللاتينية: باراديسيوس، وما نسل عنها من لُغات. هو اسمٌ فُصِّلَ لِمعشوقتي الخالدة بامتياز، تحملُ مدلولَهُ كما لا يحملهُ إنسانٌ في هذا الوجود! أعترفُ لها: «فردوسيييييييييي، أنتِ، مثلُ مدلولِ اسمكِ تماماً: "الجنَّة"، "حالة اللذة القصوى الخالدة"». تستغربُ من عودتي الرومانسية العنيفة! تقول لي: «تغيّرتَ، لم أعد أعرفك تماماً! كأنّك اشتقتَ لي خلال شهر غيابِك!». أغرقُ في التهام صدغِها وجيدِها للهروبِ من هذا الموضوع. تسألني: «هل اشتقتَ لي؟» أهزُّ رأسي إيجاباً! تقول: «أنفكَ يستطيل مثل بونوكيو!». لم أعد أسمَعُها. أستغرقُ في التهامِها.

أتذكّرُ حنايا من جديد. أودُّ أن أقول لها في هذه اللحظة بالذات: «اللذة لا يمكنها أن تكون افتراضية.» أودُّ أن أخنُقها. أشعر بالرغبة في الانتقام منها. لن أغفر لها أنها لم تبادر باحتضاني هي وحدها مرَّةً واحدة. لم تتجرأ أن تُعبِّرَ، مرَّةً واحدة بِحُريّة، عن ضراوةِ هذا العشق العارم الصادق الذي يوحِّدُنا. هي تستقبلُ فقط، تنتظرُ فقط، ترفضُ فقط. ومع ذلك «أضفتُها» بُعداً ثانياً يُهيمنُ على حياتي بنفسِ هيمنةِ فردوس. لم أُضِفْها في الحقيقة: كنتُ ناقصاً دونها. أحتاجُ هذا البُعد. لا يمكنني أن أحيا دون هذا البُعد. أنا لستُ أنا دونَ هذا البُعد.

أرثي فردوس: هي في غاية البراءة. تواصلُ نفسَ نمطِ حياتنا وطقوسها العريقة بكلِّ صدقٍ وعطاءٍ وتفجُّر. أواصلُ أنا أيضاً نفسَ نمطِ حياتِنا أكثرَ أو أقل، أتفاوضُ معه قدرَ ما أستطيع، لكني صرتُ إنساناً آخر. أرثي فردوس مرّتين: عندما أخفي عنها حنايا، فأنا لا أُخفي عنها نزوةً عابرة. أُخفي عنها بُعداً ينتصُّ بجانبها، يتكاملُ وإياها، يتعامدُ وإياها. أشعرُ بالحيرة الشديدة، بازدواجيّةٍ غريبة ليست ازدواجيةً حقيقية، بتمزُّقٍ هو أقرب إلى الثراءِ منه إلى التمزُّق. لأني أعشقُ بُعدَي حياتي معاً، أعشقُهما قدْرَ ما أستطيع. أعشقُهما بِجهدٍ جهيد. لكني أعشقهما بِجنونٍ وقوَّةٍ وتفانٍ لانهائي.

أتوتَّرُ كثيراً. تشعر فردوس أني سقطْتُ من جديد في مناطق مطبّاتٍ هوائية، تلاحظ غياباً مفاجئاً جديداً. تستدير. أتوثّبُها. إتّحادٌ جسديٌّ كثيفٌ لا يخلو من تصفية حسابٍ مع غائبةٍ بعيدة. حيوانيّةٌ نبيلة. جنونٌ ما. لا أريدُ أن تنتهيَ هذه اللحظة. تستدير نحوي من جديد، تُقدِّم لي كلَّ فردوسها وحناياها كما تجيدهُ هي وحدها برقَّةٍ وتفانٍ. أعشقُ الشعر، أعشقُ الشعر، أعشقُ الشعر. أراها أخيراً كما أعشق أن أراها: مسترخيةً، أعينُها الزرقاءُ الساحرةُ ضاحكةٌ جذلى، مغمورةٌ بالَّلذة والفرح والسعادة الكثيفة. أنسى الكون. أشعر بالراحة الخالصة. أشتُمُ القدر الذي لا يجعلني أرى حنايا في هذه الهيئة بالذات. أتذكَّرُ بعض السعادات الانفراديّة الصغيرة لحنايا. أتوتَّرُ من جديد بِعُنف. أجدُ صعوبةً هائلةً في إخفاء ما يعتمل في سريرتي. يخطر ببالي لأوّل مرّة أني أخون حنايا مع فردوس، مثلما كان يخطر ببالي طوال شهر باريس أني كنتُ أخون فردوس مع حنايا! تستغربُ فردوس من مداهمةِ التوترِ لي في هذه اللحظات بالذات. تسألُ: «أين أنتَ من جديد؟ ماذا يحدثُ لك هذه الأيام؟» أخترعُ إجابات سخيفةً صارخة.

تُخرِجُ فردوس قنينة «بومرول»، أرقى نبيذٍ نعشقُهُ معاً. كأسان نتمضمضهما ببطء. تفاجئني أيضاً: تخرج قطعة شوكولاتة من ماركة بلجيكية، معطَّرةً برحيقِ خمرِ السانسير ومذاقِ الزبيب. نفس نوعِ أوَّلِ هديّةٍ حملَتْها لي من ميونيخ إلى مرسيليا، بجانب تُحفتين يدويّتين إثنولوجيتين جميلتين أحضرَتهما والدتها من جزرٍ أندونوسية، طرَّزتهما فردوس بمحفظتين حريريتين نقشت عليهما: «فردوسكككككككككك». أعلِّقُهما حتى اليوم على يميني ويساري، في جداري مكتبي الأبيض. هما حرزي الدائم من كلِّ قحطٍ وألمٍ ومصيبةٍ وسوءِ حظ! أتذكّر: في أول عشقٍ لنا، في غرفتها الجامعية في مرسيليا، مضغنا معاً نفسَ هذا النوع من الشوكلاتة، مزجناه في رحيقينا، تبادلَهُ ثغرانا ببطء في عمقِ قبلةٍ طويلة لامنتهيةٍ وعناقٍ كثيف. هاهي تُعيدني سنيناً كثيرة إلى الخلف. تجرُّني نحو لحظة البدء. تعرفُ فردوس كيف تستعيد بذكاء عرشَها الضائع. كيف تخرِجُ أوراقَها الرابحة. فردوس قصيدةٌ دائريّةٌ عبقريّة. فردوس أنبلُ الغاويات. أعشقُ الشعر، أعشقُ الشعر، أعشقُ الشعر. أتذكَّرُ فجأة أنواع الشوكلاتة التي تُحبُّها حنايا، أستعيدها وهي تلتهمُ أوَّلَ قطعةٍ أهديتُها بعد وصولها المطار. أستعيدُ رائحةَ وصولِها وأنا أحتضنُها في المطار، أستعيدُ عبقَ عرَقِ الآلهة. أشعرُ باللوعة القاتلة. أشتاقُ بجنون لحنايا. أنسى فردوس التي أضطرمُ في حناياها في هذه اللحظات. أغرقُ في عرَقِ الآلهة. أبكي في أعماقي شوقاً لاستنشاقه. لا تسمعني حنايا. لا تسمعني فردوس.

عندما رأتني فردوس غارقاً في برنامج ح.ا، تنفَّستِ الصعداء. أيقنتْ أن سبب تغيُّرِ سلوكي منذ عدتُ من باريس، وربما قبلها بقليل هو هذا البرنامج. سألتني: «ماذا تُحضِّرُ هذه المرّة؟» شرحتُ لها فحوى أبحاثي الجديدة: محاكاة السيرة الذاتية للآلهة! صرخَتْ: «واااااو»! أضافتْ: «لأول مرّة في حياتك تبدأ أبحاثاً علمية مفيدة!» (مفهوم «الفائدة» من وجهة نظر شاعرتي الصغيرة لا علاقة له بالجدوى الاقتصادية أو العلميّة). ردّيتُ: «بحثٌ مفيد؟ ألأنهُ سيدور في عوالمك الميتافيزيقية الأثيرة؟ بحثٌ لا يهمُّ إلا أنصاف المجانين، في الحقيقة!». ضحكَتْ، قبل أن تضيف: «من يدري! ستحتاج في بحثك هذه المرّة لأميرة أنصاف المجانين!».

أعشقكِ منذ 30 عاماً أميرةَ أنصافِ المجانين!

(5)

لم أتوقّف خلال ثلاثة أشهر من محاولة تصميم جسرٍ برمجيٍّ يترجم وينقل أدمغة مختبر حنايا من لغات وصيغ ومعايير ونظم برمجيات مختبرها إلى نظائرها في لغات ونظم برمجيات مختبر ح.ا. ثلاثة أشهر! سهرٌ متواصل، سلسلةٌ لانهائيةٌ من أقداح القهوة المركَّزة، عيونٌ حمراء، سيمفونيةٌ من تأوهاتِ الخيبة، من لعنِ الحياةِ والكون، من مواويل سبِّ «العَرْعَرَةِ» لليمنِ وفرنسا، من شتمِ هذه المغامرةِ المجنونة، من تورُّمِ العينين أمام شاشةٍ كريستاليةٍ سائلةٍ صمّاء. ثلاثةُ أشهر قبل أن أنهي برمجة ما يُشبِه «المترجم والمحوِّل الفوري» الذي يسمح بأقلمةِ وتوطينِ كل المواد التي أعدَّتها لي حنايا في ثنايا برنامج ح.ا. فردوس كانت معي أثناء ذلك قلباً وقالبا. حنايا تسكنُ حناياي. فردوس سعيدةٌ لأنها تفهم وتتابع هذه المرّة ما أقوم به من أعمال علمية. تنتظر النتيجة بفارغ الصبر، تنتظرها أكثر مني على ما يبدو، تُهِمُّها بشكلٍ خاص. تشجِّعني دون توقّف، تفتح لي أحضانها كلّما جنَّحَتْ دورتي الدمويّة، وحنَّتْ لاستعادةِ لياقتها العشقية بعد خرائب دمارِ شهرٍ متكهربٍ مقدَّس. بين الآن والآن أيضاً تختارُ فردوسُ نفسَها اللحظةَ المناسبة لـ«اغتصابي»! تعشقُ اغتصابي: تعرف متى تهجمُ عليّ بِرقَّتِها الجذريَّة كي نتنفَّسَ قليلاً، ونستعيدَ راحةَ دماغينا من جديد، لكنها لا تعرفُ أنها لم تعد تهجم عليّ وحدَها! ثمّة معشوقةٌ أخرى صارت ملتصقةً بها تماماً. متعامدةً، متقاطعةً، متنافرةً، متكاملةً معها تماما. لا تعرفُ فردوس أنها صارتْ بُعداً واحداً فقط من بُعدَين، أقدِّسُهما معاً، أخونُهما معاً، لا أخونُهما معاً، أخون الأولى بالأخرى، ولا أخون أيّاً منهما في نفس الوقت.

عندما أنهيتُ دمجَ مواد مختبر حنايا في برمجيات ح.ا، بدأتُ أصمِّمُ بيئات وعوالم متناثرة لبدء سيناريو الحياة الافتراضية: غابات استوائية، سهولاً جرداء أو مترعةً بالعشب والحيوانات المتنوعة، واحات، مستوىً حضاريّاً يُشبهُ إلى هذا الحدِّ أو ذاك ما قبل عصر الزراعة بقليل: تجمّعات سكنية صغيرة بنمطِ حياةِ وأدواتِ وملابسِ ومساكنِ ذلك العصر. وضعتُ عقارب بدء الزمن في برنامج ح.ا على يومٍ ما في عام 9 ألف قبل الميلاد، 11 ألف سنة تقريباً قبل اليوم!

حان موعد البدء! العاشرة مساء. فردوس تفتح قنينة شمبانيا! لم أرد أن أراقبَ تطوُّرَ مجتمعاتي الافتراضية يوماً بعد يوم: يلزمني بالطبع أن أحيا 11 ألف سنة لأرى العالم الافتراضي يصل إلى عام 2005 بعد الميلاد،! لم أرد أيضاً أن أنطَّ من قرنٍ لقرن. فضّلتُ أن أهرول في مزلقة الزمن نحو عام 2005 مباشرة لأرى كيف أضحت حياة عوالمي الافتراضية اليوم. هكذا أنا: أحبّ الترف، أعشق لغات «كن فيكون»، أهوى كلَّ ما يفاجئني بقوّة، ما يكتسح كلّ إعجابي وعشقي بعنف. أمرتُ عقاربَ ساعة ح.ا أن تُريني العالم الافتراضي في عام 2005 بعد الميلاد! أردتُ من البداية رؤيةَ معتقداتِهِ الدينية ودرجةَ شبهِها بمعتقداتنا الحالية. يُثيرني ذلك بشكلٍ محمومٍ عاجل. سآخذ الوقت اللازم بعدئذٍ لأعيد عقارب الزمن الافتراضي إلى الخلف شيئاً فشيئاً، كيما أدرس بتأنٍ وتدقيق السيرة الذاتية لظهور الأديان ونشوئها وتطوُّرِها.

(6)

البرنامج يدور بسرعة الكمبيوتر الصاروخية. يشتغل لوحده، يطوي عجلة الزمن بسرعة مجنونة. السنين تُختزَل في ثوانٍ! إحدى عشر ألف سنة ستنطوي في ليلةٍ واحدة. للديكور في أحاسيس شاعرتي الصغيرة بعدٌ ساحر شديد الإلهام والإثارة. فردوس في أوج خصوبتها واستثارتها الروحيّة والجسدية! تقاومُ هذه اللحظات السريعة المارقة: تبتلعني على السرير بِشبق، ببطءٍ منهجيّ، بتأنٍ مبدعٍ عنود. هذا الزمنُ (الذي يمخرُ في كوكبٍ افتراضيٍّ يدور حول نفسه بسرعة خارقة، داخل منزلنا) يأسرُ شاعرتي حدَّ الجنون، يُهيِّج مخيّلتها، يؤجج انتظارها، يشعلُ حواسها، يثير مقاومتها. ما ألطف الحياة وأكرَمها عندما تَهبُ المرءَ معشوقةًَ كفردوس، شاعرةً حقيقية! ساعة، ساعتان. أتنقّلُ خلالهما طويلاً بين معشوقتي الحاضرة ومعشوقتي الغائبة، أسافر في معشوقتي الغائبة، في معشوقتي الحاضرة .. أتمزَّقُ، لا أتمزَّق. فجأة أتذكَّرُ الآية القرآنية العظيمة: «والشعراء يتبعهم الغاوون»! أشعرُ برغبةٍ هائلةٍ عنيفة بفردوس كما لو كنت أراها لأوّل مرّة. نتوحَّدُ برقَّةٍ وضراوةٍ في نفس الآن. أضمُّها بإيقاعٍ هائجٍ متسارع. أشعرُ أني تغيَّرتُ كثيراً، لم أعد بنفس إيقاعاتي الغريزية التي لا تميل إلى الهيجان والتسارع. ثمَّةَ فوضىً ما، ارتباكٌ داخليّ، شيءٌ من العنفِ لا أستطيعُ السيطرةَ عليه، خوفٌ ما من أن تدركَ فردوس مدى اضطرابي وتغيُّراتي الروحيّة والجسديّة معاً، خوفٌ من أن يخطر ببالها أني خنتُ ثلاثين عاماً من الإخلاص والإعجابِ المفتون بها، من العشق اللامحدود لها. أشعرُ برغبةٍ غريبةٍ في امتلاكها، في إبهارها، في إنهاكها. ثمّة تطرُّفٌ عجيبٌ في توحُّدنا هذه الليلة. حيوانيّةٌ ما. عشوائيةٌ جميلة، غير جميلة. إيقاعاتٌ متنوِّعةٌ متضادَّة.

تُبهتني شريكتي الفيزيائية، فردوس. أدينُ كثيراً لِشريكتي الروحيّة، حنايا. أحاول أن أنساها. أنساها. لا أستطيع أن أنساها. أضمُّها. أسمعُها. لا أسمع إلا هي، رقّتَها، حزنَها، أشواقَها، دموعَها، شهقاتها، أقدِّسُ شهقاتها، أحتضنُها، أشعر بأظافرها تحوم في ظهري، تتغلغله. أثب على فردوس بهيجانٍ أكثر. لا أستطيع أن لا أرى حنايا فيها. يُرهقني فجأة هذا الاضطراب، هذه الصدمات الكهربائية المباغتة. أتذكَّرُ في هذه اللحظة بالذات الشاعرة ايميلي ديكنسون: «فجران في صباحٍ واحد، يعطيان فجأةً ثمناً للحياة!»، أشعر بالسكرة، ليس للحياة ثمن! نُمنا متعانقَيْن مثل سنواتِ عشقِنا الأولى. نمتُ بلذَّةٍ لا تخلو من اضطراب. أصحو بين الحين والحين. فردوس غارقةٌ في سريرِنا الشاسع، مُتكوِّرةٌ في لحافِهِ المحشوِّ بالريش، يلُفُّها كرسالةٍ مطويَّة. رائحةُ دفءِ جسدِها العطريّ تُهدِّئُني، تُثْملُني. «أتشعبطُ» بها أثناء النوم! أتذكَّرُ «لو سَمحْتَ» حنايا التي تمنعُ الوصولَ لهذه اللحظة! كيف لي أن أقول لها إن عظمة العشق تكتنزُ في هذه اللحظة بالذات التي يحميك خلالها دفءُ جسدِ مَن تتشعبطُ به مِن كلِّ الأوجاعِ والمخاوف؟ صحونا بُعيد الثامنة صباحاً. الزمن الافتراضي لم ينطو بعد. نفطر في بلكونة فيلتنا. البحر الأبيض المتوسط يصحو ببطء أمامنا. خليطٌ غامضٌ من الغيوم البيضاء والداكنة يشوب السماء. الخريف رماديٌّ طريٌّ ناعمٌ يَغسلُ إرهاقَ البارحة. عقارب الزمن الافتراضي توشك على الانتهاء. فردوس ترتجف أكثر مني وقد اقتربَ موعدُ النتيجة!

بيب بيب! رنَّةُ الكمبيوتر تؤشر بأن عقارب الساعة أنهت طيّ الزمن. الحياة الافتراضية تبدأ حركتها بسرعتنا الأرضية الطبيعية. العوالم الافتراضية تستفيق معنا في صباحٍ خريفيٍّ جميل. صُدِمتُ وأنا أرى النتيجة! أديان عالم 2005 الافتراضي لا تشبه أديان عالمنا المعاصر في شيء. نظرةٌ سريعةٌ لكل ثقافات المجتمعات الافتراضية كشفت هذه النتيجة المُرَّة: ليس ثمّة دينٌ أو معتقدات غيبية في أي بقعة من هذه المجتمعات الافتراضية! ليس ثمّة هياكل دينية، أو أضرحة عبادةٍ، أو بيوت صلوات في أي مكان! عالمٌ متطوِّرٌ جدّاً، شديدُ المدنيّة، يهيمنُ عليه كليّةً العلمُ والنظام والقانون، خالٍ تماماً من الثقافات القبليّة والتكتليّة والعبادات والمعتقدات الروحية! أمّ الجن! لعلّي أحاكي هنا حياة أهل القمر أو كوكبٍ بعيد. مُحاكاتي انتهت إذن بنتيجةٍ باطلة، مغايرةٍ تماماً لواقع الكرة الأرضية في عام 2005، حيث تهيمنُ الأديان والمعتقدات الغيبية على معظم دول العالم، عدا قلَّةٍ منها فقط! تجربتي فاشلةٌ من أساسها إذن! أشعرُ بالخيبة! خطر ببالي سريعاً أن أبعثَ ايميلاً (رسالة الكترونية) لِحنايا لأبوح لها أوَّلاً أني أكافح كالمجنون منذ 3 أشهر لبدء المشروع الذي اقترحتْهُ لي، ولِأطلب منها ثانياً أن تساعدني على استيعاب لماذا وصلتْ محاكاتي إلى نتيجة عكسيّة، مخالفةٍ لكلِّ التوقعات.

فوجئت بفردوس تتدخَّل! وضعتْ عقاربَ ساعة ح.ا، هي وحدها، في منتصف الطريق الذي قطعه الزمن هذه الليلة: 5000 سنة قبل الميلاد! 4000 سنة بعد لحظة البدء التي اخترتُها لانطلاق واقعنا الافتراضي. قلتُ لها: «عبثاً! ثمّة في كلِّ الأحوال خطأٌ جوهريٌّ في برمجتي، أو في منهج هذه المحاكاة الكمبيوترية، لأن عام 2005 الافتراضي لا علاقة له إطلاقاً بعام 2005 المعاصر». ردَّتْ: «لهذا السبب بالذات أنا أكثر تهيُّجاً وشوقاً لرؤية ماذا حدث في منتصف الطريق. ثمّة سحرٌ دفينٌ في هذا البرنامج!». لزِمتْنا إذن خمسة ساعات من الانتظار تقريباً! عشقٌ صباحيٌّ طفوليٌّ رائقٌ لذيذ، دون طقوسٍ قبْليَّةٍ أو بعْديَّة، أمام بلكونتنا المفتوحة على نسمات البحر الأبيض المتوسط. سباحةٌ مشتركةٌ في الساحل المجاور لفيلَّتنا. نذهبُ للاستحمامِ معاً مثل أوَّلِ سنوات حياتنا المشتركة. وجبةُ غداءٍ خفيفة. كأسٌ دهاقٌ من نبيذِ سانت جوليان. نوارس صاخبةٌ جذلى. سفنٌ بعيدة. سعادةٌ هائجةٌ خفيَّة.

(7)

بيب بيب! فردوس تهرع قبلي نحو الشاشة. تفتِّشُ أحياء ومدن عام 5000 قبل الميلاد، تراقب حياة البشر. أساعدها في تشغيل برامج الإحصاء الآلية التي تعطي النتائج الكونيّة الشاملة بشكل سريع. هي مثلي في أوج الشوق والإستغراب والانتظار. نتيجةٌ مذهلة غريبة: ثمّة ديارُ عبادة، ثمَّة معتقداتٌ دينيّة هنا وهناك! حوالي 70 في المائة من البشر ملحدون تماماً! معظم الثلاثين في المائة الباقين مؤمنون بِ«البطاقة»: أيمانهم إنتقائيٌّ، «علميٌّ» خالص. يعتبرون معظم المعتقدات في أديانهم خرافية، لكنهم يلجأون للإيمان بالآلهة في لحظات الحاجة والخوف من المرض أو الفشل أو الموت. لا يمارسون الطقوس الدينية إطلاقاً خارج تلك اللحظات. المؤمنون الحقيقيون في كلِّ تلك المجتمعات يقتربون من خمسة في المائة فقط من مجموع السكَّان بالكاد! الأكثر إثارة: الأديان المعتَنَقةُ لا تُشبِه أدياننا من قريب أو بعيد! في كلِّ الأديان الرسميّة، ليس ثمّة جحيم! هناك جنّة فقط للطيبين من البشر. الشريرون لا يُبعثون من قبورهم! «أرواحهم ثقيلةٌ تلتصقُ في الجسد، تتبدَّدُ في جيفَتِه»، حسب المعتقدات السائدة! لا يوجد خلافٌ بين الآلهة والشياطين في كلِّ تلك الأديان! تمّ حلُّها بِصُلحٍ كونيٍّ في معتقداتهم قبل قرون! الحيوانات تُبعثُ جميعها إلى الجنَّة! مثلُ الرجالِ الذين ينعمون في مقصورات مكتظَّةٍ بالحوريات الساحرات، للنساءِ أيضاً مقصوراتٌ يملؤها «حوريّون» شديدو الجمال والرجولة والإثارة، يخدمنَهنَّ ليلَ نهار، يهبْنَهُنَّ الدفءَ والعشقَ واللذَّةَ على الدوام. (تُعلِّقُ فردوس على ذلك بهذه العبارة التي رعشَتْني كلفحةِ تماسٍ كهربائي: «جنَّاتُهم، على الأقل، تحترمُ مبدأ "التماثل الهندسيّ"!»)

فردوس في أوجِ سعادتِها وتوهُّجِها بهذه النتيجة، فيما أشعرُ بالفشل والهزيمة! ليس لأني ضدَّ هذه الأديان. بالعكس، أراها متطوِّرةً جذّابةً إلى حدٍّ ما، أكثرَ ارستقراطيةً وحضارةً وديموقراطية، لا تخلو من اللطفِ والبراءةِ في الغالب. بل لأنه ليس لِهذه المحاكاة ناقةٌ ولا جمل فيما أصبو إلى دراسته! ما أهفو إليه لن يستنبِطَ أو يستشفَّ منها قيدَ بعير. ثلاثة أشهر من الشغل المدمِّر أنتهت بمحصِّلةٍ مغلَقةٍ صمّاء لا علاقة لها بتاريخ كرتنا الأرضية. لحسن حظّي أني لم أتصل بعدُ بحنايا. يلزمني أن أسرد لها بالتفصيل كلّ الظواهر الغريبة التي جاد بها سيناريو ح.ا، لتنوِّرني على علم، لِتُقوِّمَ مُنْحَنى بحثي، لتكتشفَ جذرَ المشكلة! لم أعد أشعر باليأس والخيبة! توجّهتُ لكتابة ايميل يشرح لحناياي نظام عمل ح.ا، يُفصِّلُ ما عملتُهُ بمواد مختبرها وكيف حشرتُها في منظومات ح.ا، ويسردُ منعطفات هذا السيناريو الذي لا يُسمنُ بحثي أو يُغنِيه من جوع.

فردوس تعيد عقارب ح.ا قروناً قليلةً للخلف لمعرفة تاريخ هذه الأديان وكيف وصلتْ إلى ما وصلَتْهُ! تصرخ بعد أقلِّ من نصف ساعة: «وجدتُها!». أتوقّفُ عن الكتابة، أهرعُ نحوها: «ماذا وجدْتِ؟». نبيٌّ غيَّرَ مجرى كلِّ الأديان التي كان يعتنقها الناس، ظهر قبل عدّة قرون من 5000 قبل الميلاد. برهن فيزيائياً أنه لا يمكن أن يكون هناك جحيم! فردوس تشرح لي ما قرأَتْهُ في «سَفَر انفجار الجحيم»، أحد أسفار دِين ذلك النبي المسرودةِ كلِّها بلغةٍ رياضيّةٍ علميّةٍ مذهلة!:

(((سَفَر انفجار الجحيم

النظريّة: طالما هناك دِينان على الأقل في هذا العالم، فمفهوم الجحيم مستحيلٌ فيزيائياً!

النتيجة التطبيقية: بما أن ثمّة أكثر من دِين في معمورتنا، إذن ليس هناك جحيمٌ في الآخرة: الجنّة مصير الإنسان!

برهان النظرية: 1) كلّ دِينٍ يرى أن مصير من لا يؤمن به الجحيم. ذلك يعني أن جميع البشر سيذهب إلى الجحيم، لأن أ) ثمّة أكثر من دِين في معمورتنا، ب) لا يمكن أن يكون هناك دينٌ أفضل من آخر إلا في عقلية من يؤمنون به.

2) يقول كلُّ دِين إن مساحة الجحيم محدودة، وإن طاقتها الحرارية تصل إلى أقصاها عندما يَصِلُها مجموعُ عددِ الكافرين به (لِنُسمي هذا المجموع: س).

3) بما أن عدد البشر الذين سيصلون إلى الجحيم أكبر من س، كما برهنا في 1)، فدرجةُ حرارةِ الجحيم ستتجاوزُ حدَّها الأقصى. إذن الجحيمُ مهدّدةٌ، حسب قوانين الطاقة الفيزيائية، إما أ) بالتمدُّد للبرودة أو ب) بالإنفجار بسبب تجاوزها درجة حرّارتها القصوى.

4) بما أن حجم الجحيم ثابتٌ في كل الأديان، غير قابلٍ للتمدُّدِ الفيزيائي، فالجحيم مدانةٌ فيزيائياً بالانفجار.

لذلك فقط: الجنّةُ وحدُها مصير البشرية! (و.ه.م.ا) (وهو المطلوب إثباته) .)))

نفس ذلك النبيِّ أقنع أتباعه، قبل أن تخترقَ فكرتُهُ كلَّ الأديان في القرون اللاحقة، بأنه استلم رسالةً من الوحي تُشعرُ أبناء «أرض البوار» بأن صُلحاً كونيّاً تمّ عقدُهُ بين الآلهة والشياطين. الآلهةُ غفرَتْ للشياطين عصيانَها وتمرُّدَها الشهير إثرَ ظهور الإنسان على الأرض، والشياطين اعتذرت للآلهة، قبلت أن تتقاسم حبّها مع الإنسان، وقرَّرَتْ العودةَ لطاعة الآلهة!

ثمّ أضافت: «لعلّ ذلك النبي لبّى بذكاء حاجةً موضوعية قويّة برزت في أوساط كلِّ المؤمنين بالأديان منذ عشرات السنين قبل نبوءته!» سألتُها: «أي حاجة؟». ردَّتْ: «منذ عشرات السنين، لم يتوقف المؤمنون بالمطالبة بتصالحٍ ديبلوماسيٍّ كونيٍّ بين الآلهة والشياطين! استخدموا لذلك كلَّ الوسائل المدنيّة التقليدية: اعتصموا في كلِّ الديار الدينية، أضربوا عن الطعام والصوم والعبادة، خرجوا في مظاهرات نقابيةٍ مدوِّيَة في كلِّ أرجاء العالم الافتراضي ليعلنوا رفضهم القاطع للصراعات «الطفوليّة». (على حدِّ تعبيرهم) التي تدور بين جبابرة السماء منذ فجر الأبدية. طالبوا في مظاهراتهم حدّاً للعداء بين الآلهة والشياطين الذي اندلع بعد خلق الإنسان. هتفوا شعارات تصرُّ أن على الشياطين قبول تقاسم محبة الآلهة بينها وبين الإنسان، وعلى الآلهة الغفران للشياطين لِغيرتها بعد ولادة الإنسان ومروقها إثر ذلك عن الطاعة.

فردوس: «برنامجك منجمٌ خالدٌ للخيال الذي أعشقه! سأقضي ما بقى من العمر في متابعة أحوال هذا الكون الافتراضي الزاخر، سأحيى فيه، سأراقب تطوّراته يوماً يوماً، سأهاجر للحياة فيه! سأطلبُ رسميّاً اللجوءَ الميتافيزيقي فيه!». تحتضنني بعرفانٍ وولَه. دموعُ الفرحة في وجهِها الشغوف المتألق أنسَاني أرقَ الأشهرِ الماضية، منحني سعادةً لا حدَّ لها. واصلتُ كتابة الايميل لنصفي الآخر، حنايا، مضيفاً له ما سمِعْتهُ من تفاصيل جديدة حول تاريخ هذه الأديان، علّها تُساعدها في فهم ضلال مسعاي، وانزلاقهِ في كوكبٍ آخر!

(8)

فردوس تُقدِّمُ وتؤخِّرُ مؤشِّر عجلة الزمن في ح.ا باحثةً، بين 5000 قبل الميلاد و2500 بعد الميلاد، عن اللحظة التي اختفت فيها هذه الأديان من معمورتنا الافتراضية! أواصل كتابة إيميلي الطويل. أدحرجُ فيه بين الفقرة والفقرة عباراتٍ شديدةَ العشق تؤجج أشواق حناياي البعيدة. فردوس تصرخ، بعد أقلِّ من ساعة:

ـ 4329 قبل الميلاد!

ـ ماذا حصل؟

ـ أهم عام في هذه الأرض الافتراضية!

ـ ماذا حصل؟

ردَّدْتُ بشوق.

ـ هزيمة الكمبيوتر للإنسان في الشطرنج! إستقالةُ الآلهة!

ـ لا أفهم!

ـ لم يبق إلا دِينٌ واحدٌ في مطلع هذا العام. أختفت بقية الأديان قبل ذلك رويداً رويداً. في واحد يناير من ذلك العام هزم الكمبيوترُ بطلَ العالم في الشطرنج! ألقى آخرُ أنبياءِ آخرِ الأديان على آخر المؤمنين بِدِينِه «خطبة الوداع». شرح فيها أنه أوّل نبيٍّ عاطلٍ عن العمل في تاريخ النبوّات! الملاك الذي يربطه بالآلهة جاءه بالخبر الكارثة: برلمان الآلهة، مجلس وزرائه، كلُّ هيئاته التشريعية والتنفيذية استقالت دفعة واحدة في اجتماعٍ لاهوتيٍّ كونيٍّ تاريخيٍّ حاسم! كبيرُ الآلهة أرتجلَ خطاباً حزيناً أمام حاشيته الإلهية في العالم الأعلى، قبل أن يدير ظهره للأبدية، قال فيه:

((أقدِّم استقالتي من ربوبة هذا الكون! الإنسان الذي أحببته كما لم أحب أحداً في الوجود مثله جفاني، ازداد غروراً يوماً بعد يوم! لم أتوقّف عن عتابه ولومه في الألفيات الأخيرة لِهجرِهِ لي أكثر فأكثر، لمرُوقِهِ وشعورِهِ بأنه الواحدُ الأحد، الفردُ الصمد. أما اليوم، فبعد انهزامه من ربيبه الصغير، الكمبيوتر، من سيوقفُ غطرستَهُ وشعورَه بالربوبية؟ هزمني اليوم، يوم أنهزم من الكمبيوتر بالشطرنج! هاهو ينهزم ممن خلق، مثلي تماماً. ألم أخلقهُ على شاكلتي؟ لم أكن سعيداً منذ الأزل وأنا أراه يدير ظهره لي أكثر فأكثر. لعلي صرتُ ضحيّة صورتي المجرّدة (التي كانت سبب نجاحي وشعبيتي في أوساطِ بني الإنسان منذ أن كفّوا عن تجسيدي بالأصنام والمعابد الوثنية). لكن ما العمل؟ الغائبُ عن العين غائبٌ عن القلب! هاأنذا أغيب عن قلب محبوبي الأوحد! كان فيما مضى يتقرّب مني ويتفاعل معي ليل نهار. لا يتوقّف عن التوجه نحوي فقط. أما الآن، فقد استعاض بي ولم يعد بحاجة لي. إذا مرض يتّجه إلى العيادة، المستشفى، المختبر. لم يعد يبتهلُ لي عند النوائب والكوارث الطبيعية، عند البراكين والزلازل أو أحداث المرور: «صناديق الضمان الاجتماعي» أخذت موقعي. شبكات أنترنت والدردشات الالكترونية ألهتهُ عني، غوتهُ عن الصلاة والعبادة. صار الإنسان مُقرفاً. أتعبني كثيراً. يتساءلُ حولَ كلِّ شيء، يناقش في كلِّ شيء، يرفضُ كلَّ شيء.

شجرة المعرفة اللعينة أبعدتْهُ عني. هذا ما كنت أخشاه منذ أن صنعته بيدي. أمرتُهُ أن لا يقطف ثمرتها لخوفي الشديد من العاقبة! هاهي العاقبة أمامي الآن ك«عين الشمس» (كما يقولُ حبيبي الصغير الذي لا يرى في هذا الكون إلا شمساً واحدة)، ك«عيون الشموس»، كما أفضِّلُ القول أنا، رئيس آلهة السموات والأرض: هو يطير الآن إلى القمر والكواكب المجاورة، أقماره الصناعية تملأ سمائي، تلسكوباته تفتِّشُ كلَّ أصقاع مجرّاتي، موجاته الكهرومغناطيسيّة تلوِّثُ فضائي. هو يصنع الروبوت، يشحنه بالمشاعر والعواطف والمعارف، ليثير غيرتي، لينافسني. يصنع الكمبيوتر ليتجاوزَ نفسَه، ويتجاوزني. كلّما ثقُلَ وزنُ دماغِه، كلّما صِرتُ خفيفاً في ناظريه، أو «فرضيّةً لا فائدةَ منها» كما قال أحدَّهم. لم أعد أطيقه، لم أعُد أطيقه! أمسى لا يفكِّر إلا بحُريَّته، يحبُّ الحرية، يعشقُها إلى ما لانهاية!J’en ai marre! (قالها بالفرنسية) ،J’en ai ras le bol! لو كانت الحريّة امرأة لأحرقتُها أمام عينيه بنيراني الموصدة، من فرط غيرتي منها!

كم صار حسوداً متعنِّتاً مغروراً الآن! لم يعد بحاجةٍ لي إطلاقاً! لم يعُد هذا الولد المارق الضال بحاجةٍ للميثولوجيا، للحلم، لم يعد حتّى بحاجةٍ لأن يشعر أن ثمّة قوّةً لا مرئيةً تتجاوزهُ في هذا الوجود. لا شيء يقف في طريقه! أراد أن يخلق هو نفسه ربيبه الإلكتروني الذي يتجاوزه! ياله من مخلوقٍ لا يعرف الوفاء! صار ثقيل الظل، لا يُحتمل! لم أعد أنفعه في شيء، صرتُ بالنسبة له مثل شيخٍ متقاعد، مثل قميصٍ قديم. عليّ إذن أن أنسحب. أعترف بالفشل الذريع الكامل! باي، باي.))

فردوس في نشوةٍ وتوهُّجٍ يقتربان من التشنّج بعد سماع الباي باي الإلهي الأخير! تكتبُ، وهي تذرفُ الدمع، نصّاً جديداً عنوانه «استقالة الآلهة». تبدأ بالأسطر الأخيرة من النص خوفاً من أن تنساها:

((الموكب الإلهي يغادر الملكوت الأعلى نحو مملكة العدم. الملكُ يُديرُ ظهرَهُ للكون. أعينُ الأبديةِ مغرورقةٌ بالدمع! العالَمُ، بلا أساطير، يرتعدُ في زمهرير الوُحشة، يموتُ من البرد.

«الإله لم يعد أكثر من حلم. البشر وحيدون على هذه الأرض!»))

فردوس تغادر صالة الكمبيوتر باتجاه مكتبها لكتابة نصّها من البداية. هي في أوج إلهامها وجذوتها. أواصل كتابة ايميلي لحناياي. أبعثُه. فردوس تعود نحوي بعد كتابة أسطرها الأولى، شديدة التهيّجِ والجذل. تفتح قنينةً من نبيذِ بومرول، تذهب للاستحمام لتعود طازجةً كباقةٍ من فلِّ شهر يوليو (تمّوز). لعلَّها ستحتفلُ بي كما لم تحتفل بي من قبل، لتشكرني على أعظم هدية منحتُها: تذكرة السفرِ لحضورِ احتفالِ استقالةِ الآلهة، في 1 يناير 4729 قبل الميلاد! هي لا تعرف «خارطةَ طريق». هندسةُ العطاءِ غريزتُها. ترتمي عليّ كما لم ترتمِ من قبل، كأنها خرجتْ من السجن أو عادت من هِجْرةٍ بعيدة. تقول لي: «أرغبُ أن تُقبِّل نهديّي!» أقبِّلهما طويلاً بتَفانٍ ورقَّة. أغرقُ، أغيبُ فيهما. أقول لها: «أرغبُ أن تقبِّلي جسدي كلّاً وتُمسِّديه!» أسافر في بساطٍ سحريّ نحو جزرٍ بعيدة. أزدادُ حقداً على حنايا. أسألها: «كيف يجوز الحديثُ عن العشق دون عطاء؟» أدعو أن يأتي اليوم الذي تعشقني بهذه الطريقة. أشعر بالخجل من دعائي. آلامُ حنايا أكبرُ من هذا الدعاء الساذج. أقولُ لنفسي: «كان بإمكان حنايا أن تكون هكذا، وربما أكثر، لو لم تعصف بحياتها أحداثٌ ما أحتاجُ لمعرفتِها أوّلاً!» يعصفُ بي الشوقُ والعطفُ والرثاءُ والعشقُ الجارف لحناياي البعيدة. وبقايا الحقدِ أيضاً. أنتقمُ منها بتوثُّبِ فردوس.

أشعر فجأة أني أخونُ حنايا بشكلٍ أو بآخر، لا أحترمُ آلامَها ومعاناتها على الأقل! ما أبشعني وأجبنني وأنا أنتقمُ منها بهذا الشَّكلِ الحيوانيّ! كيف يحلو لي أن أرقص في النعيم، إذا جاز لي أن أقول ذلك، وهي تُصلِّي كلَّ يومٍ في الجحيم؟ من ينتقمُ من أحّدِ بُعدَيْهِ بالبُعد الآخر؟ لا أستوعبُ أني لم أستطع حتى اليوم «إجبارَها» أن تشرح لي ما حدث في حياتها. لمتُ ضعفي وأنانيتي: لماذا لم أكسر بعدُ حاجزَ صمتِها؟ كيف أستطيعُ أن أحيا بشكلٍ طبيعيٍّ دون أن أستوعب ما يدورُ في أعماقها حتّى اليوم؟ تأنيبُ ضميرٍ حادٌّ يغشاني فجأة. أنتظرُ أوَّلَ لقاءٍ قريبٍ لي بحنايا في أوّلِ مدينةٍ سيجمعنا فيها لقاءٌ علميٌّ مشترك لأحتضنَها، لأستنشقَها، لأقرأَ ما يختبئُ في حياتها من أسرار بكلِّ شراسةِ «كاشف الأسرار» وصرامتِه ودقّتِه العلميّة، لأُفرِغَ كلَّ ما في عصبونات دماغها من أسرار، لِأُقدِّسَها، لأهَبَها كلَّ ما في العشقِ من رقّةٍ والتهامٍ وتوحُّدٍ وعطاءٍ وفناء. أتوتَّرُ من جديد، أتوتَّرُ بشدّة.

فردوس تحيى في عالمٍ آخر. تعتبرُ يومَ كتابتها نصَّ «استقالة الآلهة» أهمَّ أيّام حياتها الإبداعية! تحتفلُ به، بي. تنتشلني من توتّري بذكاء خارق، تعيدني لحظيرتها بكلِّ ما تمتلك من عبقرية. خطرَ ببالي هذه العبارة: «ربما كان الكهنة، كما قالت حنايا ذات يوم، أعرَفَ الناس بخارطة الدماغ، لكن الشعراءَ بلا شك أدراهم بخارطة الحواس.» تقول لي (هي الشاعرةُ العبقرية الرائعة التي لا تثرثرُ كثيراً مع ذلك وقت العشق) ونحن في منتصف توحّدٍ طويل:

ـ طبيعيٌّ جدّا أن يصلَ برنامجك لنتائج تخالف كلّ التوقُّعات!

ـ «مُش وَقْتُه» يا بِنْت!

أحاولُ تغيير الموضوع بتدليلِها من جديد! يُسعفني اسمُها الذي لا أملُّ التعبيرَ عن الإعجابِ بروعتِه، والذي تُغرقني باللذّة عندما أتغزَّلُ به. أقول لها، في ثنايا قُبلةٍ مُسعِرَة، إني اقتنعتُ بفضلِها أن تعريفَ شارل فورنييه للفردوس: «الموضعُ الذي تتحقّقُ فيه الرغبة باكتمال» صائبٌ، دقيقٌ جدّاً. تُقاطعني: «أُفضّلُ تعريف نيتشه: "الفردوس هو الموضعُ الذي تسمقُ فيه شجرةُ المعرفة!"» (أتذكَّرُ شجرةَ معرفتي، حنايا، التي أموتُ إعجاباً بروعةِ اسمها أيضاً). تعودُ فردوس من جديد لموضوعها الفكري الذي حاولتُ تغييرَه قبل قليل لأنه لا ينسجم مع موسيقى هذه اللحظات الحسيَّة الخالصة. تقول:

ـ البشر الذين بدأتَ بهم السيناريو لهم أدمغةُ أهلِ هذا الزمن، ينتمون لهذا العصر، لهم عقليّةٌ مدنيَّةٌ وعلميّةٌ متحضِّرةٌ في الغالب، لا ينظرون للعالم مثلما كان ينظر إليه إنسانُ ذلك الزمن. ليس لهم روحُ زمنِهم. لا تستغربْ إذن أن يُشيِّدوا حضاراتهم بسرعة خارقة، أن تكون أديانهم أكثر كياسةً ومدنيَّة، أن تحرِّكَها عقليّةٌ نقابيّة وعلميّةٌ رياضيّة. لعله يلزم أن تنطلق مجتمعاتك الافتراضية من بشرٍ لهم أدمغةُ إنسانِ ما قبل 11 ألف سنة، كما كان تماماً قبل أن يكتشف الزراعة. إنسانٌ يعيش على الصيد والقطف، شديدُ الفضول وحبّ الاستطلاع، لا تنام عيناه إذا لم يرَ أوّلاً ماذا يوجد خلف التلِّ المجاور، يسافر على الدوام من أرضٍ لأرض وإن بدأ يميلُ لمزيدٍ من الاستقرار ويمتلكُ ويتوارثُ معارف قيّمةً عن خصوصيات محيطِهِ وبيئته.

ـ «أَقُل لِك: مُش وَقْتُه يا بنت! » ليست هذه أنسب اللحظات للحديث عن .

تضيف دونما اكتراث:

ـ لذلك شكَّلَ الحيوانُ كلَّ شيء بالنسبة إليه، هاجسَهُ وهوسَه، جنَّتَهُ وناره، عدوّه وخليله (لا تنس أن الإنسان روّض الكلب قبل 70 ألف سنة ليحميه ويساعده عند الاصطياد!).

- ربما ليست هذه أيضاً أنسب لحظةٍ للتذكير «بأن الإنسان روّض الكلب قبل 70 ألف سنة»؟

ضحكَتْ! واصلَتْ، وهي في أوج إبداعها وتألُّقِها الفكريّ والجسديّ معاً (ثمّة بشرٌ موهوبون يستطيعون بتفوّق أداء مهمَّتين معاً في نفس الوقت! لستُ منهم لسوء الحظ):

ـ إنسان تلك الأزمنة كان يُقضِّي وقته في البحث عن الحيوان، يهرب منه، لا يفكِّرُ إلا فيه. إذا اصطاده وأكله شعر أنه شفط منه القوة المخفيَّة فيه. الحيوان بالنسبة له نظيرُه ومكمِّلُه، مثل الليل والنهار، الضوء والظلام، السماء والأرض. الحيوان في منظورِ ذلك الإنسان البدائي هو الكلُّ في الكل، العبدُ وإلإله، مثارُ الإعجاب والخوف والرغبات، هو الحياة، مرفق العمل، السوق، المطعم، الخليل، الحارس. هو القوة الخارقة، المارد، الحلم، الأمل، الأسطورة. هو النصف الثاني، الوجه الآخر، لا يعبدُ إلا إياه، لا يعبدُ إلا إياه. لا أعبدُ إلا إيّاك، لا يعبد إلا إياه، لا أعبدُ إلا إيّاك.

أغمضَتْ عينيها. عادتْ لصمتها هي التي تفضِّلُ استخدام نبرات حناياها على نبراتها الصوتية. غابت بعيداً. تنهَّدَت، ثمّ واصلتْ على غير عادتها شهقاتٍ رقيقة، مدوِّيةٍ بين الحين والحين. لستُ أدري ماذا كانت تقول. تهيّأ لي أني أسمع ما يُشبِهُ: لا أعبدُ إلا إيّاك، أعبدك حيواني، أعبدك، أعبدك، أعبدك فُلّي، حبيبي، حياتي، عمري، أعبدك، أعبدك، أعبدك.

بين شعارِ حنايا: «جوِّعْ معشوقَك يتبعُك!»، وشعارِ فردوس: «انعِمْ معشوقَك يتبعُك!» تيّارٌ كهربائيٌّ يتطلَّبُ مرونةً في الشرايين، وأسلاك مقاومةٍ عصبيّةٍ متينة.

توجَّهتُ في آخر الليل نحو الايميل. ردُّ حنايا كان ينتظرني منذ ساعات. كان كعادته رقيقاً عاشقاً، «يُجنِّنُ من رقَّتِه»، حسب تعبيرها المفضّل. غير أنها سخرَتْ قليلاً من المنهج الذي استخدمتُهُ في تشغيل ح.ا!

قالت:

((حبيبي!

أصبتَ باختيار هذه الأدمغة الحقيقية لِمحاكاتك. ليس ثمّة حلٌّ آخر إذا أردتَ خلق بُعدٍ ثقافيٍّ حقيقيٍّ في حياة مجتمعاتك. غير أن هذه أدمغةُ بشرٍ من عصرٍ حديث. مسلماتهم الحدسيّة، ملكاتهم الذهنيّة، ومعارفهم العلميّة التي صاغها 11 ألف عام من التطور، لا تصلحُ أن تكون أدمغةَ أوّلِ المجتمعات التي تستهلُّ بها محاكاتك! كيف لك أن «تضعها في رؤوسٍ» بدائية لم تعش هذا التطوّر؟ (أنت، حبيبي، لا «تضعُ دماغاً في جسدٍ»، كما قلتَ، أنت تكسو الدماغ بجسد، تُلبِسُهُ ثوباً لا غير!) كيف لمحاكاتك أن تكون معقولة في هذه الحالة؟. محاكاتك، حُبّي، تُشبِهُ بالمقلوب فيلم «الزوّار» الذي يحكي حياة نفرَين من القرون الوسطى تناولا مسحوقاً سحريّاً قذفَ بهما للحياة في القرن العشرين!

عليك أن تبدأ، حبيبي، بإنسان بدائيٍّ ذي دماغٍ بدائي. يلزمك أن تحذف من الأدمغة التي استخدمتَها كلَّ الملكات والمسلمات الحدسيّة والمقدرات التجريدية والمعارف الحديثة التي تطوَّرَتْ بشكلٍ هائل بعد اكتشافِ الزراعة، ثمّ استخدام الكتابة، حتى عصرِ العلوم الحديثة والمجتمعِ المدنيّ. أقترح لك أن تنطلق من نفس هذه الأدمغة، بكلِّ تعقيداتها وتفصيلاتها الضرورية، لكن بعد أن «تُنَظِّفَ» من «قاعدةِ بياناتها» كلَّ ما لا ينتمي لثقافات عصورها. سنتبادل، عِشقي، بالايميل، إذا أردتَ، بيانات دماغٍ أو دماغين، سنقتلعُ من مسلماتِها الحدسية وملكاتها الذهنيّة بشكلٍ يدويٍّ كلَّ ما لا ينتمي للعصور البدائية. عليك بعد ذلك برمجةَ تعميمِ المثالين على مجموع أدمغة «قاعدة البيانات» دفعةً واحدة!

أشتاقُ لك، قلبي!

حناياك))

فديتكِ معشوقتي الخالدة، حنايا! ردَّيتُ على الايميل سريعاً، معلِّقاً:

((فلّةُ قلبي!

ربما ذلك لا يكفي! يلزمني أيضاً أن أضيف خصائص مرتبطة بسلوك إنسان تلك العصور: تنقُّلَه الدائم، حبَّ استطلاعه الشديد. يلزمني أيضاً أن أضيف مسلَّماتٍ حدسيّة خاصة بإنسان تلك الأزمنة، تترجمُ ما يمثلُهُ الحيوان لذلك الإنسان (تذكَّرتُ ما قالته فردوس، سكبتُهُ في ايميلي بالحرف الواحد). لعلَّ الحيوان في أعين إنسان ذلك الزمن هو الكلُّ في الكل، عبدُهُ وإلاهُه! مثارُ إعجابه وخوفِهِ ورغباتِه، هو حياتُه، مرفقُ عملِه، سوقُه، مطعمُه، خليلُه، حارسُه. هو القوة الخارقة، الحلم، الأمل، الأسطورة.))

ردّت معشوقتي: «ملاحظة رائعة، شديدة الجوهرية! كيف خطر ببالك ذلك؟».

فديتكِ معشوقتي الأبديَّة، فردوس!

لو سألتْني حنايا «متى خطر ببالك ذلك؟» لظننتُ أن «كاشفَ الأسرار» غرس جهاز تنصُّتٍ في دماغي يرفع لحنايا تقارير متواصلة.

الفصل الخامس

السيرة الذاتية لِـ« اللا أشياء الصغيرة»

(1)

بدأتُ على الفور التفكيرَ في تنفيذ البرنامج الذي رسمَتْهُ حنايا: إعادةُ قولبةِ وهيكلةِ الخرائطِ الكمبيوترية للأدمغة التي بحوزتنا وتصفيتِها من الرؤى والمسلّمات الثقافية المكتسبة حديثاً، لِتصبحَ بدائيةً بما فيه الكفاية، أقربَ ما يُمكن من أدمغة بشرِ ما قبل 10 ألف سنة! مشروعٌ جنونيٌّ بالكمال والتمام، لا يتجرأُ مناوشته إلا مغامرون مهووسون انتحاريّون من الطراز الأصيل! تبادلتُ مع حنايا الايميلات دون توقف. عشرات يوميّاً. أسئلة، حوارات، مناقشات حول العلوم الذهنية، حول البرمجيات الكمبيوترية. ايميلات ممزوجةٌ بعشقٍ خالص يزدادُ رقّةً وغنىً مع تقدُّمِ الأيام ومع تطوُّر مغامرةِ بحثِنا المشترك. 5 اشهر من العمل الثنائي الدؤوب الرائع عرفتُ فيها أكثر من أي وقتٍ مضى كم حناياي شديدةُ الصرامة والانضباط في طرائق بحثِها، كم هي دقيقةٌ في مواعيدها، ألمعيّةٌ، لذيذةٌ بشكلٍ مرعب، مذهلةٌ أقصى ما يكون.

قرَّرنا التالي: حنايا تشتغل في العمق، وأنا في المساحة. هي تُفنِّدُ نماذج قليلة من الأدمغة، تُصفِّي من منظوماتها الاستنباطية القواعدَ والمسلمات الذهنية المتطورةَ والحديثةَ الاكتساب، وتضيفُ لها قواعد استنباطية ومسلمات حدسيّة تنسجمُ وروحَ عصرِ ما قبل بدء الزراعة بقليل. وأنا أعمِّمُ نتائجها: أبرمجُ على الكمبيوتر اختياراتها وتعديلاتها وإضافاتها لتَشملَ مُجملَ أدمغةِ قاعدةِ البيانات التي بحوزتنا. أحاول أيضاً تشكيلَ بيئات طبيعية متنوعة مناسبة أوزِّع البشر عليها، كي يتقدَّم ويتطوّرَ التمثُّل الكمبيوتري لبرنامج ح.ا بشكلٍ غنيٍّ معقولٍ عميق.

فردوس من جانبها في غاية السعادة. وجدَتْ ما تشتهيه! العوالمُ الافتراضية التي يصنعها ح.ا في صيغته السيريالية السابقة التي أدت إلى «استقالة الآلهة» تُناسبها في الصميم. تتوقف فردوس في هذا العام أو ذاك، قبل الميلاد أو بعده، قبل «استقالة الآلهة» أو بعدها. تراقبُ ما يدور، تُسجِّل، تُعلِّق، تضحكُ حدّ الثمالة، يأسرُها الذهولُ هنا، الإعجابُ هناك. تنضحُ صفحاتٍ أدبيةً مثيرةً آسرة. لم أرها هكذا، منذ زمن، كثيفةَ الإبداع دافقةَ الشغف، تشتغلُ بهذه الوتيرة. تحتفلُ باكتشافاتها وإبداعاتها عبر توحُّدٍ جسديٍّ يُذهلني على الدوام، تصبُّ فيه كلَّ شاعريَّتِها، رغباتِها العارمة، ميلِها الفطري لإسعادي بدون حدود، شعورها بالعرفانِ لما يحمِلُ لها برنامج ح.ا من متعةٍ واكتشافات، وكلِّ جنونِها وعشقِها للتحرُّرِ والحريّة.

قبل أن نبدأ، حنايا وأنا، السيناريو الجديد لِ ح.ا تأكَّدْنا، بفضلِ استخدام برمجيات بحثٍ كمبيوتريٍّ شاملٍ دقيق، أن كلَّ البَشرِ الذين أعَدْنا غربلة وتشكيل أدمغتهم ليست لديهم أية مفاهيم مكتسبة حول «العالَم الآخر» والآلهة، أو أيّة مفاهيم دينية من هذا القبيل. بعدها تركنا عجلة الزمن في برنامج ح.ا تسيرُ ببطء. حنايا تلصق عينيها على شاشة كمبيوترها في لندن، وأنا في مرسيليا. نُقدِّمُ الزمنَ معاً بنفس المقدار، نناغمُ متابعتنا لما يدور في عوالمنا، نتبادلُ التعليقات السريعة في دردشةٍ مفتوحةٍ على أنترنت، وعِبْر سَيْلٍ من الايميلات والاتصالات الهاتفية. نحتاجُ لِبعضنا كما لم نحتجُهُ يوماً من قبل. نراقبُ بِدقَّةٍ ميكروسكوبية هائلة كيف يحيا بشر مجتمعاتنا الافتراضية، كيف يفكرون، كيف يتفاعلون مع الكون، كيف تسير يوميات حياتهم. نكتشفُ أشياء كثيرة. نتفاعل، نتفاعل، نتفاعل . نعشقُ بعضنا أكثر من قبل. أدركتُ في لحظةٍ مباغتة استنتاجاً يُشبِهُ الاستنتاجات النهائية لتقارير التثبيت الجنائية: لم أعد أستطيع أن لا أفكِّر بحنايا دقيقةً واحدة! تدعوني حنايا لرؤية مشهدٍ ما في حياة إحدى قرى عوالمنا الافتراضية: «أتمنى لو كنتَ تشاهدُ ما يدور بجانبي الآن، في نفس الوقت!». كنتُ أودُّ أن أقول لها: «وأنا أيضاً معشوقتي الخالدة أتمنى ذلك. خذيني أشاهدها معك، بجانبك، قربك، فوقك، تحتك، داخلك، أمامك، خلفك!». لكني لا أستطيعُ البوح مع حنايا، لا أستطيع معها إلا أن أكبتَ ما يخطر ببالي.

(2)

أثارتنا، حنايا وأنا، ونحن نراقب يوميات بدايات حياة أفراد مجتمعاتنا الافتراضية، العلاقةَ الخاصة لهؤلاء الناس بالموت! تعيشُ المجموعةُ منهم موتَ أحد أعضائها بأسىً ورُعبٍ بالغَين لأن الميّتَ نكبةٌ فادحة على ذويه، خسارةٌ مباشرةٌ على مجموعتهِ الصغيرة، يُهدِّدُها اختفاؤه بالضعف والزوال. لاحظنا بوضوح أنها تعيش ألم فراقه بشكل تراجيدي يفوق بما لا يقارن أحزانَنا وآلامنا نحن أبناء العصر الحديث (الذي تُعوِّضُ فيه صناديقُ الضمان الاجتماعي عائلة الفقيد وتضمن لها حياةً أقلَّ حرماناً وفقراً!).

كتبَتْ لي حنايا بالايميل: «توقَّفْ عِشقي عند أي فرد وهو في مأتم! إستنطقْ دماغَه بِتمعُّنٍ وهو يرى أمامه جثّةَ قريبٍ له قضى نحبه! فكِّكْ ثنايا منظوماتِهِ الاستنباطية في تلك اللحظة، ستراها تعيش قلقاً عاصفاً، ربشةً لا تُضاهيها ربشة! الفقيدُ بالنسبة لها موجودٌ وغير موجود: هو، من ناحية، أضحى جثّةً فقط! كتلةً من لحمٍ وعظام لاغير! مادةً فاسدةً، سامة! جيفةً متعفِّنة ليس إلا! وهو من ناحية أخرى موجودٌ بذكريات أقواله وتفاعلاته، فرحِهِ وحزنهِ وسعاداته الصغيرة، يستعيدُ الجميعُ مزاجَه وطبيعتَه في الحياة، كيف كان يحيى وماذا كان سيقول في هذه اللحظة أو تلك. ثمّة، حبيبي، ربشةٌ ذهنيّةٌ كاملة، تَشقْلُبٌ معرفيٌّ جذري عندما ينتقلُ «الملفُّ الشخصيّ» لهويّةِ الفقيد في أدمغة ذويه من المنظومة الاستنباطية الخاصة بالأحياء إلى تلك الخاصة بالجماد!»

بالفعل، أصابت حناياي في الصميم! ثمّة فوضى ذهنيةٌ لاحظتُها وأنا أفكك بالمجهر الكمبيوتري آليات عمل دماغِ كل من يَفقدُ قريباً له: تُقدِّم المنظومة الاستنباطية الخاصة بانسكلوبيديا الذهن تقاريرها عن كينونة الفقيد كما لو كان موجوداً، وترفضهُ المنظومةُ الاستنباطيةُ الخاصةُ بالكائنات الحيّة لأنه لم يعد ينتمي إليها. كلُّ ذلك في لحظاتٍ جنائزيةٍ سوداويّةٍ تكتسحها مشاعرُ الخوفِ والشجنِ والألمِ والحسرةِ والحزنِ القاتل. لاحظتُ أيضاً ازديادَ التناقض والفوضى الذهنية عندما يمر طيف الفقيد في الأحلام الليلية لأقاربه: يشعرون حينها كما لو كان حيّاً «في مكانٍ ما»! عندما يتذكرونه في أحلام اليقظة يختلجهم أيضاً مثلُ شعورٍ دائم بأنه حيٌّ «في مكانٍ ما»! ثمةّ شيءٌ غادر الجسدَ لحظة الموت إذن، موجودٌ حالياً «في مكانٍ ما»، يعودُ بين الحين والحين. لم يجد الدماغ تشبيهاً لذلك أفضل من استعارة «النفخة»! نفخة الهواء التي تغادر الجسد أثناء الزفير. غير أن «النفخة» التي تغادره عند الموت نفخةٌ لامحسوسة، لها، في الحقيقة، رائحة العدم! أختزلَ فيها الدماغُ البدائي كلَّ جهلِهِ لقوانين البيولوجيا، كل جهلِهِ لتركيبهِ هو نفسِه: «الخصمِ والحكَم» كما يقول المتنبي، منبعِ الخيال والتفكير، والتفكير في التفكير أيضاً، مايسترو قيادةِ أعضاء الجسد وحركتِه وتفكيرِه ومشاعرِه، ربِّ كلِّ ملكاته العقليّة والحسيّة التي اعتدنا أن نسميها الروح!

أوّلُ استنتاجاتنا الكبرى، حنايا وأنا، هو أن مفهومَ العالمِ اللامرئي والحياةِ الأخرى بعد الموت اختراعٌ بدائيٌّ للدماغ البشري، تفسيرٌ عتيقٌ راوَدَه كَحُلم: أمام ساطورِ الموتِ القاهر لا ملجأَ للإنسان غير الحلم! («إجازتهُ أحلامُه»، حسب عبارةٍ لِفردوس أنتزِعُها من سياقٍ أدبيٍّ مختلف). استوعبتُ في الحقيقة بفضلِ الكمبيوتر كيف تأسَّست فكرةُ الحياة الأخرى والآلهة على أنقاض خرائب أقدامِ الموت. تذكَّرتُ فردوسَ التي قالت يوماً: «من رَحمِ الموت وُلِدَ عالَمُ الأرواح والكائنات الخفيّة!» أو أيضاً: «العالَمُ الآخر منتوجٌ اشتقاقيٌّ للموت»! أدركتُ أيضاً أن كلَّ ما نكتشفُه ونبرهنُه بجهدٍ جهيد، حنايا وأنا، يبدو أحياناً بديهيات في أعينِ شاعرتي الصغيرة. ما يُمتِعني شخصيّاً هو مقارنةُ عبارات حنايا وفردوس: عندما تقول حنايا: «الجثّة كتلةٌ ماديّةٌ تُرهب الدماغ، تستحوذُ كلَّ منظوماته الاستنباطية وتربشها!» تقوله فردوس بطريقتها: «الجثَّةُ وداعٌ جذريٌّ للحياة، قصيدةٌ سوداء تستبيحُ المشاعر، تثيرُ أطلال ذكريات منحوتةٍ في الأغوار». عندما تلاحظ حنايا أن الجثّة تبدو، لِأدمغة من فكَّكَتْ والتقطتْ رؤاهم الوجودية من أبناء مجتمعاتنا الافتراضية، مثل «فريسةٍ اعتدت عليها قوَّةٌ قاهرة!». أتذكَّرُ فجأة فردوس التي ربما قالت بدل ذلك «فريسة اعتدت عليها براثين القَدَر»!

ثم راقبْتُ مع حنايا بِدقّةٍ هائلةٍ أدمغةَ أقارب الموتى وما يدور في خواطرهم. (أو في منظوماتهم الاستنباطية كما تحب حنايا أن تقول). راقبنا كيف تتصوَّرُ أدمغتهم عالَم الأرواح والكائنات الخفية اللامرئية التي اخترَعتهُ من محض إبداعات وتوهمات عصبوناتها لا غير! لم تكتفِ في الحقيقة باختراعه فقط، هاهي تموضِعُهُ حيثما تستحب، تتفاعلُ معه دون توقف، تموتُ من أجله، تتقاتلُ في سبيله. الأدمغة تُموضِعُ «عالَمها الآخر» حيثما تهوى وتُفضِّل: يروقُ للبعضِ رؤيته وراء المحيط، في أرضٍ من ذهب، سماؤها لؤلؤٌ وجبالها جواهر. يروق للبعض الآخر رؤيته في السماء، أو في أعماق البحر، أو تحت الأرض أحياناً، أو في جزيرة قصيّةٍ لا عودة منها. ثمّ يبدأ كل دماغٍ بالتنظير حول هذا العالَم اللامرئي الجديد: يبدو لجميع الأدمغة التي تَلصَّصنا عليها وحلّلنا طريقة تفكيرها أنه عالَمٌ أكثرُ عدلاً (لسببٍ لم نستطع تفسيره) من عالَمِنا الأرضي! في أذهان الجميع: الأرواح تنتظرنا هناك، تُفكِّرُ فينا على الدوام، تراقبنا أيضاً.

ما أثارني وحناياي في نفس الوقت هو أن مفهوم الفاعلِ اللامرئي، أو الآلهة، بزغ في نفس اللحظة، من نفس الظروف، من نفس القلق الوجودي والرعب أمام الدمار والموت! قرأنا مثلاً بعض أدمغة البشر الذين يعيشون قرب البحار: لم يتوانوا، منذ أن بدأتْ عجلةُ الحياة الافتراضية بالدوران، في الاعتقاد بأن ثمّة حوتٌ خفيٌّ هائل مسئول عن الفيضانات يختفي أسفل البحر! أهل الجبال يظنون أن ثمّة طائرٌ كاسرٌ خفيٌّ مسئولٌ عن المطر والرعد يختفي فوق الجبال. لأهل الغابات والصحاري أيضاً آلهتهم، قواهم اللامرئية التي تفسّر كل الظواهر الطبيعية التي لا يستطيعون تفسير أسبابها . للجميع: الموت بالتسمُّمِ سببُهُ الفاعل اللامرئي، تَهدُّمُ السقوف أيضاً. أضحى الفاعل اللامرئي السبب الخفي لِكل ما لا يعرف الإنسان تفسيره: الصُّدفَة، الجراثيم، البراكين، المطر، العواصف، الموت. صار يملأُ كلَّ الثقوب المعرفية لأجدادنا المساكين.

ذُهلنا تماماً، حنايا وأنا، ونحن نلاحظ أن مفهومَي الآلهة والأرواح اندلعا في نفس الوقت تقريباً. تلاحما وتآزرا معاً ولم يوجد أحدهما لحظةً واحدة دون الآخر! في كلِّ الأدمغة التي استنطقناها: الأرواحُ تحيى قرب الآلهة، تُمثِّلنا أمامها، تُدافع عنا. ليس علينا معشر البشر إلا أن نطلب من الأرواح مزيداً من العون والتدخل. ليس علينا غير استجداء الآلهة وكسبها وإغرائها والتملق لها بالهدايا والأضحيات وكلِّ وسيلةٍ تسمحُ بالتقرُّبِ منها. (حنايا ترسل لي بالإس.إم.إس، ونحن نلاحظ ذلك، التعليقَ التالي: «المجد والخلود للرشوة والفساد!») لاحظنا معاً: يكفي أن يتدمَّرَ سقفٌ في منزل (لأسباب طبيعية بحتة) أو تحدث كارثةٌ هنا أو هناك للاعتقاد بغضب الآلهة وحاجتهم للأضحيات.

سعادةُ التفاعل مع حنايا ليس لها حدود. شعرتُ في خضمِّها وكأني أحقِّق بِشكلٍ أو بآخر حُلمي المجنون في السفر بأعلى من سرعةِ الضوء لرؤيةِ الماضي في صيغته الأصيلة! لرؤيةِ ما حدث يوماً في ضواحي البدايات! كم تسكرني دوماً عباراتٌ مثل: «مفتاح المعرفة يكمن دوماً في رؤية الأصل، البداية». أو «النهر يُعرف من ينابيعه». أو «وحدهم التافهون يكتفون برؤية النتائج دون البحث عن الأسباب». طلَبَتْ حنايا أن نراقب بشكلٍ خاص طقوسَ تقديمِ الأضحيات، وأن نفتِّش بعمق خفايا وأقبيةِ المنظومات الاستنباطية لأدمغة البشر أثناء أدائهم هذه الطقوس، لِنستوعب كيف تُفكِّر حينها وماذا تنتظر من ذلك! راقبتُ حسب توجيهاتها بشراً يُقدِّمون أضحيات في طقوس تُشبهُ ابتهالات صلوات الاستسقاء (وإن كانت عجلةُ زمنِ عالمنا الافتراضي مازالت قبل أكثر من 8 ألف عامٍ من الآن.) لاحظتُ التالي: إذا هطل المطر بعد تقديم الأضحية زاد الإيمان بالآلهة، وبتواجد الأرواح بشكل ملموس ودائم في المكان الذي قُدِّمتْ به الأضحية! يتحوّل المكان إلى معبدٍ مقدّس! ما أثارني هو السلوكُ الغريب للدماغ إذا لم يهطل المطر بعد الأضحية! لا يشكُّ الدماغ بمعتقداته، لا يعيدُ النظرَ بمفهوم الأضحية وعلاقتها بهطول المطر. بالعكس! يعتقدُ بدل ذلك أن الأضحية لم تكن دسمةً بما فيه الكفاية، لم تنل إعجاب الآلهة والأرواح، وأن عليه أن يفكِّر بتقديم أضحيةٍ أفضل!

أكَّدَتْ حنايا أنها لاحظت نفس الظاهرة! راقبنا معاً، هي في لندن وأنا في مرسيليا، بدء ظهور المعابد في نفس الأماكن التي قُدِّمتْ بها الأضحيات. صارت موطناً للطقوس والعبادات. أثارنا بشكل خاص بدء ازدهار النقوش والفنون التي صار محورها الرئيس تمجيدَ الآلهة والتقرب منها، وإبراز المناسك والطقوس الدينية الجديدة. ثمَّ واصلنا تقديم الزمن رويداً رويداً سعيدَينِ بأن حياة هذه المجتمعات الافتراضية تبدو غيرَ بعيدةٍ عمّا دار في حياة أجدادنا الأول في العصور الخالية! واصلنا عِبْرَها قراءةَ روايةِ السيرة الذاتية للآلهة فصلاً فصلاً. كُلَّما تقدّمَ الزمنُ كلَّما رأينا أن الآلهة والأرواح تؤثِّثُ أكثر فأكثر عوالمنا الافتراضية. القلقُ والخوف والمرض والحروب والحاجة تُذكي اللجوء إليها على الدوام. تتحوَّل شيئاً فشيئاً المركزَ العصبيَّ لِلتفاعلات الغيبية للإنسان، والقطبَ الذي تدور حوله وساويسه وأحلامه، شكواته وأحزانه، توسّلاته ودعواته. تتحوّل أيضاً مركزَ كثيرٍ من تساؤلاته وتخيُّلاتِه. حلَّلنا كثيراً من الأدمغة، عصرناها دماغاً دماغاً: كلّها تتساءل دون توقف: إلى أي حدٍّ تُشبِهُ هذه الآلهة الخارقة الحيوانات الضارية المفترسة؟ ماذا تشاهد؟ كيف ترانا؟ كيف تُقيِّمُ سلوكنا الأخلاقي، مثل السرقة والغش؟ ما علاقة ذلك بالكوارث؟ هل تغضب منا إذا لم نكن أمناء مع الآخرين؟

(3)

لا أتذكَّرُ في أيّ لحظةٍ محدّدة من فصول قراءة هذه السيرة الذاتية، أو في أية ليلةٍ من ليالي حواراتي الكثيفة مع حنايا، وصلتُ إلى استنتاجٍ مباغت، شديدِ الاستراتيجية! لم أستنتج بالطبع أني أعشق حنايا عشقاً صادقاً خالداً تزداد ضراوته يوماً بعد يوم. ذلك أمرٌ بديهيٌّ مفروغٌ منه. ما أدركتهُ فجأة هو أني لن أستطيع الحياة دونها! أشواقي لها أمسَتْ تُعذِّبُني كلَّ يوم. يلزمني رؤيتها على الدوام! تذكّرتُ، في معمعان حواراتنا ذات ليلة، أغنيةً لأبي بكر سالم بلفقيه تحبِّها حنايا مثلي: «شلِّنا يا بوجناحين إلى عند المحب حتى في الشهر ليلة»! خطر ببالي أن أبعث لها بالإس.إم.إس نفسَ هذا المقطع مستبدلاً عبارة «في الشهر ليلة!» بِ«في اليوم ليلة!». لم أتجرأ أيضاً! حنايا كتلةٌ من المشاعر الرقيقة ذات الحساسية المفرطة التي يلزم التواصل معها بطريقةٍ خاصةٍ جدّاً. ثمَّ خطر ببالي أن أصنع، مثل نحّاتي عوالمنا الافتراضية، تمثالاً لأبي جناحين! أن أقدِّم له الأضحيات ليسعفني، ليأخذني لأحضان حناياي فوراً.

لو كنتُ مثل سكّان العوالم الافتراضية لَبنَيْتُ فعلاً معبداً لأبي جناحين في حديقةِ منزلِنا في مرسيليا، لأني استلمتُ إس.إم.إساً مفاجئاً من حنايا يحتوي على: «لماذا لا نلتقي في فينيزيا؟». لم أفهم كثيراً! طلبتُ منها الشرح. ردَّت: «افتح الايميل!». فتحته لأجد: «أشتاق لك عشقي بجنون! لم نلتق منذ 9 أشهر! أشياء كثيرة حدثت خلال هذه الأشهر. نحتاج أيضاً أن نكون معاً لمتابعةِ دراسة هذه العوالم الافتراضية التي تستحوذ على كل شغفنا وتفكيرنا وأبحاثنا العلمية. ليس هناك مؤتمرٌ علميٌّ مشتركٌ قريب، أو دعوةٌ جامعيةٌ تلوح في الأفقِ لنا معاً في نفس المدينة. أقترحُ إذن أن نلتقي إذا أحببتَ في فينيزيا! لا تنس أن تأخذ معك كمبيوترك وكلَّ ملحقاته لنواصل مشاهدة ودراسة هذه العوالم من حيث نتوقف قبل السفر! سأحكي لك أيضاً كثيراً عن حياتي التي لعلك لم تفقد الرغبة في معرفة بعض تفاصيلها! لديَّ رغبةٌ هائلةٌ بالبوح هذه المرة!»

الفصل السادس

حُلمَان

(1)

عندما اختارت حنايا أن يكون لِقاؤنا القادم في مدينة فينيزيا، البندقية، شعرتُ أن حياتي ستنقلبُ رأساً على عقب! ما كان ينتظرني في الحقيقة أكبرُ وأفتكُ من حياةٍ تَتشقْلَب: «بكارةٌ مفاجئة»، عشقٌ جذريّ، متعةٌ عنيفةٌ تُغيِّرُ موازين القوى العاطفية، حياةٌ جديدةٌ ستبدأ بِ«أثرٍ رجعيّ» بعد ذلك اللقاء على الفور. فينيزيا كلمةٌ رومانسية تهمسُ للزائر بِرقَّة: «عُدْ ثانية!»، تُترجَم بالعربية، لسببٍ أجهله، ب«البندقية»، رمزِ العنف والقنص والطرد والتهديد. سألجأُ إذن للاسم الرومانسي لأني لا أطيقُ مُرادِفَهُ العربيّ الرادع، مثلما لا أطيقُ أن يُترجمَ بالعربية اسمُ أجملِ قطعِ الشطرنج وأكثرِها شموخاً وفعاليةً واكتساحاً وحضوراً: «الملكة»، باللفظ الذكوريّ العبوس: «الوزير»، أكثر وظائف الحياة رضوخاً وتمثيلاً ونكداً وتفاهة. لم أحدِّث حنايا أبداً عمّا تدلُّهُ فينيزيا في لاوعيي العميق أو عن ذكرياتي فيها، لأقولَ إنها اختارتها عمداً لشيءٍ في رأس يعقوب! الحق أني زرتُ فينيزيا مرّتين، كلّاً منهما تُلخِّص مرحلةً في حياتي تختلفُ عن الأخرى وتُلغيها تماماً.

وصلتُ فينيزيا في شتاء 1977 بعد مجيئي للدراسة في فرنسا بنصف سنة. كنتُ أدرسُ حينها اللغة الفرنسية في مدينةٍ أرستقراطية، في معهدِ لغةٍ كثيرِ التألق والفاعلية. رأيت إعلاناً لرحلةِ بضعة أيام لفينيزيا يُنظِّمها مكتبٌ سياحيٌّ بأسعار خاصة لطلبة المعهد. لم أتردّد لحظةً في تبذير كل ما ادَّخرته من نقود، لهذه الزيارة. ثمّة مدنٌ، تقعُ في مقدمتها القدس وفينيزيا وسمرقند (صبّاحكَ فلٌّ، عمر الخيّام!)، راودَتْ أحلامي منذ الصغَر، لم أكن لِأتأخرَ ثانيةً عن زيارتها وإن كلّفني ذلك ما كلّفني. قرأتُ كثيراً عن فينيزيا منذ زمَن، تمثَّلتُها في مخيِّلتي قطعةً قطعة. كانت أشواقي جامحةً لرؤيتها، لاستنشاقها، للتسكُّع والانغماس الكليّ في أزقَّتها وأرصفتها وشواطئها. تَوجَّهنا بالباص كتلةً سعيدةً من طلبةٍ أجانب: عصبةٌ من يابانيين يصعبُ الحديث معهم خارج المواضيع المبتذلة والصيغ التقليدية، أزواجٌ من أصدقاء حميميين من ألمانيا الغربية وشمال وجنوب أمريكا ليس هناك أملٌ باختراقهم من قريبٍ أو بعيد، وسمراء لطيفة من أحد أفقرِ وأفسدِ دولِ أفريقيا التي تنافسُ اليمن بجدارة.

كان مقعدي بجوارها بالضرورة. تبادلنا الحديث بكل الكلمات الفرنسية التي نمتلكها، بحماسٍ وطيبةٍ وسعادة. صرخنا إعجابنا معاً أمام التنوُّع الطبيعي الأخّاذ المتجدّد ونحن نتعرجن بين البحيرات والسهول المنسّقة والقمم الثلجيّة، نعبرُ جبال الألب، نرمق قمة «الجبل الأبيض» الشاهقة، قبل أن نصل إلى الريف الإيطالي المتميّزِ الآسرِ هو الآخر. لم نتوقف عن الدهشة ونحن نرى الأخضر والأزرق والأبيض يذوبُ في ألفِ عناقٍ وعناق، في ألفِ إدغامٍ وإدغام، في ألفِ توحّدٍ وتوحّد. لستُ أدري إذا كان بإمكان ما حدث لي بعد ذلك مع جارتي العزيزة أن يتكرّر في حياتي يوماً، لو لم تكن قِبلتُنا فينيزيا، ولو لم أكن أحيى حينها مرحلةَ «جاهلية العشق» وتقلُّبات علاقاتها العاطفية الصغيرة: في منتصف ليلِ رحلتنا بالباص وجدتُ نفسي أقدِّمُ أصابعي بلاوعي باتجاه خاصرة جارتي. استغربتُ: لم يوقظها ذلك أو يزعجها كثيراً. تملْمَلَتْ قليلاً، ليس إلا. تماديتُ إلى حدٍّ ما، اقتربتُ شيئاً فشيئاً. لم أزعجها أكثر من قبل. (لم أجد بالطبع أدنى رغبةٍ في تقبيلها لأني لا أقبِّل إلا من أحبُّ حقاً، من أعشقُ فعلاً. القبلة في قاموسي العاطفي عروةٌ وثقى، صلاةٌ شديدة القدسيّة.) لعلي كنتُ رقيقاً معها كما لاحظتُ لأنها استحبَّتْ تَقدُّمَ غزواتي. ثُمّ متعةٌ صغيرةٌ طازجة رغم الظروف الميكانيكية الصعبة وشروطها البهلوانية. ما أثار استغرابي بعد ذلك هو أن جارتي أخرجتْ من حقيبتها مسبحةً قضَّتْ كل زيارتها لفينيزيا تعدُّ حبّاتها حبّةً حبّة، وكأنها تستغفر شيئاً ما، مُرسِلةً نحوي نظرات شديدة التناقض يختلطُ فيها الخجل بالشكر والحمد والتوبيخ والرغبة.

ليتني لم أزر فينيزيا تلك المرة! ليس لأن قصورها ومتاحفها وكنائسها الناهضة من الماء لم تدخل بمزاجي. ليس لأن الضفاف والقنوات والسفن والقوارب (الجناديل) والمراسي المتناثرة بين كل خطوة وخطوة لم تمتلك حواسي تماماً. بالعكس. كانت فينيزيا أكبر من أحلامي. غير أن فينيزيا لا تُزار بهذه الشاكلة. لا يهبطُ المرء في فينيزيا وحيداً إلا إذا كان ينوي الانتحار. هي خُلِقتْ وصُمِّمتْ لعاشقَين فقط. لذلك وجدتُ نفسي حزيناً، أتسكَّعُ في زقاقها وحاناتها يصرخُ في جوانحي جوعٌ عاطفيٌّ قارس. أرثي نفسي وأنا أراقبُ تلاصق العُشّاق، حواراتهم، عناقهم، قبلاتهم المارقة أو العميقة. تُغازِلُ نظراتي كلَّ الفينيزيّات الحسناوات تقريباً. جمالُ فينيزيا الرومانسي لم يُذكِ في وجداني غير الإحساس بالبؤس والأسى. سِحرُها أكربَني. كنتُ أسمع أجراس كنائسها أصداءً لآهاتٍ سماوية. أشعر أن صمتَها الموسيقي يَلُفُّني كَكَفن. كلُّ شيء فيها يستفِزُّني تماماً لأنه خُلِق لمشاهدة وعبور وابتسامة عاشقَين لا غير: غروبُ الشمس في ساحة سانت ماركو وانعكاس أضوائها على جدران قصر الدَوقَة، بلاط شوارعها، قناطرها، معكرونة أزقّتها، جناديلها (ذات المقعدين في الغالب) التي تحلُّ محلّ السيارات والحافلات. أشعر أني أبدو فيها منبوذاً ضائعاً متطفِّلاً لا محلَّ لهُ من الإعراب.

(2)

زرتُ فينيزيا مرّةً ثانية، بعد سنتين من ذلك، مع فردوس. كنّا طالبين في بداية حياتنا الدراسية في مرسيليا (التي وصلَتْها فردوس من ميونيخ قبل أشهر) يجمعنا عشقٌ بحجم الكون ورغبةٌ عارمة باكتشاف العالَمِ والتسكُّعِ في كلِّ أرجائه. يجمعُنا عشقُ الشعر والموسيقى والمتاحف والآثار والحريّة. رأيتُ فينيزيا بأعين أخرى وأنا أصل بالقطار، ملتصقاً بفردوس، إلى المحطة المركزية التي تواجه «القناة الكبرى». شعرتُ هذه المرة أنه لو كانت هناك جنَّةٌ أرضية فلن تكون إلا في ملكوت هذا الأرخبيل الذي تسيلُ الموسيقى والعشقُ في كل أرجائه. ثمّة إيقاعٌ وعشقٌ ينبعث فيه من كلِّ شيء: من صمتِه الساحر، لازوردِه العميق، مروجِه المائية، أعمدَتِه وقُبَبِه ولوحات متاحفه، سمائه الصدفيّة، نسماتِ شواطئه السعيدة. توحَّدتُ تماماً مع هذه المدينة التي تزدوج فيها المتناقضات بتكاملٍ متناغم: «فينيزيا قطعةٌ من الشرق سقطَتْ في هذه الديار» كما قال أحد الفلاسفه. تمتزجُ أجناسها المعمارية الشرقيّة والغربيّة بانسجام كيماويٍّ يناسبني في الصميم. تتوحَّدُ فيها كل التناقضات إذا جاز لنا أن نرى تناقضات حقّاً فيما نسميه عادةً بالتناقضات: الخراب والموت يُهدِّدُ بنيان هذه المدينةِ العائمةِ على الماء، التي تولد فيها الحياة وتتفجَّرُ كل يومٍ من جديد. أزقَّتها تنتقل فجأة من الظلمات والظلالِ الداكنة إلى الضياءِ الراقصِ المتفجِّر. هي «مقبرة الطحالب» وأطلال السنين، وهي عنقاء تنبعث من رمادها لِتنفتح دوماً على الحداثة والمستقبل والمعمار الحديث. ثمَّة سحرٌ باطنيّ في هذه المدينة التي حجَّ فيها الأدباء والفنّانون بكل مشاربهم وألوانهم، والتي وَجَد فيها نبيُّ المُلحِدين، نيتْشَه، لَذَّةً في سماع قدّاس الكنائس! تسكَّعتُ مع فردوس فيها كلّ يومٍ حتّى مطلع الفجر. تأسَّستْ مداميك حياتنا على إيقاع هذه المدينة تماماً. لم نتوقّف عن لَوكِ ذكرياتها المجنونة. كنا نشعر وكأن ممارسة العشق فيها، بكل أوضاعهِ وتنوعاتهِ واستيهاماته ورجفاته، بتطرفٍ واستدامة، واجبٌ مدَنيٌّ ثقافيٌّ تاريخيٌّ حضاريٌّ إنسانيٌّ شاعريٌّ دينيٌّ مُقدَّس.

إلهي، لماذا اختارت حنايا هذه المدينةَ التي عرفتُ فيها الشقاءَ المدقع والسعادةَ القصوى؟ لماذا اختارتها هذه المرَّة لهذا اللقاء القدريّ الذي يأتي بعد 4 سنوات من علاقةٍ عاصفة اجتاحت حياتي يوماً بعد يوم، وتفاعلٍ وصل ذروته اليوم ونحن نشتغل معاً على برنامج ح.ا وعوالمه الاصطناعية المذهلة! حدَّدَتْ حنايا موعدَ لقائنا: 17 إبريل 2006! ستصلُ مطار ماركو بولو قادِمةً من سكنها في لندن قبلي بعدَّةِ ساعات! المكان: فندق دانييلي، أجمل فنادق فينيزيا المواجهِ، من ناحية، لجزيزةِ سان جورجو والبحيرةِ الشاطئية «لاجونا» (التي يتعانق فيها البحر الادرياتيكي بمياه قنوات المدينة) والمتاخمِ، من ناحية أخرى، لقصر الدوقة والكاتدرائيةِ ذات القُبَبِ الإسلامية الخمس، مركزِ فينيزيا العصبيّ وقلبِها النابض. غرفتان متجاورتان! كدتُ أتشاءم من هذه النزعة الانفصالية لولا أن ثمّة إشاراتٍ معاكسةً خفّاقة: ستصل حنايا لموعدنا قبلي، لأوّل مرة! قالت لي برسالةٍ إلكترونية (ايميل) إنها ستنتظرني على أحرِّ من الجمر، وإنها ستأخذُ أروع البخور والعطورات العُمانية، وإنها تعشقُني بضراوة. ثمّ حكت لي في ايميلٍ أخير، قبل مغادرتها لندن في الصباح الباكر، حلماً غريباً (لم أعرف كيف أفسِّره) أيقظها من النوم قبل أن تسرده بالايميل بقليل.

(3)

مسرح حُلمها مدينةٌ أودُّ تسميتها «عاصمة الكبت والجلافة»، العكس النموذجي لفينيزيا. لها بعض ملامح قابول والرياض وصنعاء ومسقط. مدينةٌ جبليّةٌ كاسرة بلا شواطئ أو حدائق أو منتزهات أو خلاءات رملية. حيثما تُولِّي فيها فثمّة أعين «مطاوع» أو عسكري أو مُخبرٍ يُراقبك. الحُكَّام في تلك المدينة كوكبةٌ من لصوص وحيتان وعقارب وماسحي أحذية يقضّون وقتهم في نهب خيرات البلد ومضاعفة أملاكهم يوماً بعد يوم، والمحكومون غوغاء في الغالب، ينظرون إلى الأرض وينفثون رممهم إلى السماء، يقضُّون وقتهم في السخريّة من جوعهم وحرمانهم، وفي تنكيد ومراقبة وخنق بعضهم بتفانٍ رهيب. في حُلم حنايا كنت أسكنُ في بلدٍ بعيدٍ عن «عاصمة الكبت والجلافة»، مدينةِ مولِدها وسجنِها الدائم. أشواقُنا ولوعتُنا في الحلم كانت لا تقلُّ عن أشواقِنا ولوعتِنا في حياة الواقع. قالت لي حنايا إنها ستهرب بالخفاء من بيتها إلى فندقٍ في أطراف تلك المدينة، يلزمني أن أذهب إليه لنختلي ببعضنا!

الوصول إلى مدينتها لم يكن بالأمر السهل. ألف حاجزٍ وحاجز منعني من الاقتراب من مشارف المدينة، من مركزها، من أطرافها، ثم من باب الفندق. عند رؤية كل حاجز (تنينٌ هائل، وحوشٌ ضارية، ثكناتٌ عسكرية، قاطعو طريق، جمارك.) كنت أتصل بحنايا بالتلفون المحمول لأسألها كيف أتجاوز الحاجز. حنايا شعلةُ ذكاءٍ وعبقرية. منحتْني الفكرةَ المثلى في كل مرة. تمازجَ في كلِّ حلٍّ اقترحَتْهُ التمويهُ البيولوجي والكيماوي، بتقمُّصِ الشخصيات، بالرشوة والمكر والدهاء والاستعطاف. غير أن زيارة غرفتها في الفندق كان الأصعب! الحل، كما قالت: «الرشوة النافذة، دون نقاشٍ وفي كلِّ الاتجاهات». لفيف دولاراتٍ لِمسئولي الاستقبال في الفندق، لِحارس مدخله، لِحارسِ المصعد، لِعمّال المطعم. جعلَتْهم يبتسمون لي بإجلالٍ وتقدير وأنا أصعد باتجاه غرفةِ معشوقة قلبي الخالدة. احتضانٌ بحجم اللهفة واللوعة التي عشناها منذ آخر لقاء. قبلاتُ عناقٍ ساخنة، دموعُ فرحٍ وعدمِ تصديقٍ بنجاح هذا اللقاء المستحيل في عاصمة الكبتِ والجلافة! غير أنّا سمعنا طرْقاً على الباب بعد دقيقتين فقط.

فتحتُ الباب! عامل نظافةٍ يقف بعيداً مني على بعد 3 خطوات. يبدو مسحوقاً جائعاً يحمل كل هزائم الدنيا فوق كتفيه الضامرين. تفحَّصتُهُ سريعاً: كان رثّ الملابس، نحيفاً، قصيراً، أحول العينين، يتلعثم، يُخرجُ كلماته بصعوبة. تمتمَ بأعلى صوته، بكلِّ ما يستطيعهُ من إفصاح: «إخرجْ من الغرفة حالاً وإلا سأعمل فضيحةً الآن! سأصرخُ ملء الفندق والشارع بأنك في غرفة فتاةٍ ليست زوجتك أو أختك أو ابنتك!». ردّيتُ وأنا أمدُّ له ضعف المبلغ الذي منحتُهُ لزملائه: «هي كلُّ هذه الكلمات الثلاث معاً، وأكثر من ذلك!». رفضَ! أبتعد خطوةً أخرى للخلف حتى لا أنطَّ فوقه من الغضب. تشبَّثَ بِعماد السلَّم وهو يستعدُّ للهروب والصراخ في نفس الوقت. لم يرفض المبلغ لشموخٍ أو عزّةِ نفس. بالعكس، كان أسوأَ عمال الفندق، أجبنَهم، أكثرَهم لصوصيةً وتلصصاً وسرقةً لروّاد الفندق. كان في أشدِّ الحاجة للمبلغ أيضاً. لكنه، فقط، محرومٌ من الحب، عدوٌّ للحب، عاجزٌ عن أدائه تماماً. مشروعه في الحياة أن يعمل المستحيل، كلما أستطاع، لِمنع الآخرين من الاختلاء والمناجاة والمنادمة والعشق. أدركتُ وأنا أقرأ ايميل حنايا أن بإمكان الإنسان، لبُلُوغِ معشوقته، تجاوزَ كل الحواجز الضارية، شراء ومغالطة أبشع العسكر والطغاة، تحاشي أعتى السباع والكواسر. لكنّ «قربوعاً» صغيراً واحداً فقط يستطيع بجدارة أن يمنعهُ من احتضانها!

استفاقت حنايا مذعورةً من الحلم، قبل أن تُرسل لي ايميلها، وتطير باتجاه فينيزيا.

حاولتُ مراراً في مخيَّلتي أن أرسم ملامح عامل النظافة الذي حوّل ذلك الحلم إلى كابوس. خطر ببالي أنه ربما لا يشبه في المظهر بُعبعَ ومدمِّرَ حياتها، شهاب البوحديد، «سلطان الصغير»، الذي لمَّحت لي باسمه ذات يوم، والذي كان وسيماً، شديدَ اللباقة كما أعتقد، لانهائيَ الثروة في كلِّ الأحوال. لكنه توأمه الروحي في السفالة والضعف والقمع.

ما لم أتجرأ قولَه لحنايا إلا بعد 3 أيام من لقاءنا في فينيزيا، هو أني حلمتُ في نفس تلك الليلة حلماً يعاكسُ مسارَ حلمِها وإن شاركَهُ في شيءٍ واحد فقط: مسرحِ أحداثه، «عاصمةِ الكبت والجلافة»! كنتُ أقود سيارةً فارهة في نفس تلك المدينة أو في مدينةٍ تُشبِهها تماماً، بجواري حنايا ملفوفةٌ بخمارٍ يُغلِّفُها من أقصى الرأس لأسفل القدمين. نبحثُ فيها شارعاً شارعاً، زقاقاً زقاقا، ضاحيةً ضاحية، عن خلوةٍ بسيطة نستطيع أن نتعانق فيها بهدوء. عبثاً! لا خلاءَ ثمّةَ في أي سنتمتر مربع. «حمرانُ العيون» والوشاةُ أعينٌ ساهرة للدفاع عن الشقاء والكارثة! انبجس الحلّ في حلمي أيضاً من عصبونات دماغ حنايا، عبقريّتي وألمعيّتي الصغيرة. طلبَتْ مني، عند اقتراب موعد الغروب، الاتجاهَ إلى ربوةٍ في قلب المدينة، تمرُّ حولها كلّ الطرق الداخلة والخارجة تقريباً. لم أفهمها! لا يوجد موقعٌ أكثرُ انكشافاً وجلاءً من هذه الربوة!

تساءلتُ أكثر من مرَّة: لماذا لم ينهب أحد ضباعِ السلطة هذه الربوةَ ليبني له قصراً عليها! عرفتُ الردّ من حنايا: يعتقد الجميع هنا أن جثَّةَ ساحرٍ كبير مدفونةٌ في ذروة الربوة. لِروحهِ (التي تحومُ فوق الربوة صباحاً ومساءً) مقدراتٌ انتقاميّة مدمِّرة! ثمَّة اعتقادٌ شعبيٌّ راسخٌ منذ عشرات القرون: من أقام سكناً فوق هذه الربوة سيصاب بالبلاء والهلاك المبين والعذاب الأليم حتى يوم الحشر. وصلنا الربوة! قالت لي حنايا: «حاولْ صعودها بالسيارة أكثر ما تستطيع!» ردَّيتُ: «ستكونُ سيّارتُنا مكشوفةً أمام الملأ، أكثرَ من أي مكانٍ آخر!». قالت: «لذلك أقول لك: أصعدها حتى القمّة! أعرفُ أهلَ هذه المدينة أكثر من أي إنسانٍ آخر: لن يتجرأ أحدٌ المجازفةَ والاقترابَ ممن يتجرأُ صعودَ هذه الربوة. سيقولون إنه السلطان أو الرئيس أو الملك (سيّان!) أو ولي العهد: إبنهُ أو أخوهُ (سيّان!) أو قائدٌ عسكريٌّ أمنِيٌّ شديدُ النفوذِ والتسلُّط والأهميّة. إبصرْ حولك: نظراتُ سكّان هذه المدينة أفقيّةٌ دائماً! الجميعُ يمرُّ مطأطئ الرأس قرب هذه الربوة!». صعدتُ الربوةَ بالسيارة بصعوبةٍ كبيرة، لكني صعدتُها! فاوضتُ مكاناً مستوياً لإيقافها. فوجئتُ! حنايا نفسها تُبادر: تبسطُ مقاعدَ السيارة، تُحوِّلها أسرَّةً مائلة، هي التي تتقوقع وتهربُ أبداً إذا دقَّتْ ساعةُ العشق. تخلعُ ثيابها وثيابي في نفس الآن! لم أصدق ما يحدث! تخلعُ ثيابنا معاً هي التي لم يكن «التماثلُ الهندسيُّ» في العشقِ يوماً ميزتَها الكبرى!

تضعُ سي. دي. روم «الفصول الأربعة» لأنطونيو فيفالدي! عشقٌ ملائكيٌّ بطئٌ لا يمارسه إلا الأرستقراطيون من العشَّاق. «عاصمةُ الكبتِ والجلافة» تمتلئُ فجأةً سفناً ومرافئَ ونسماتٍ بَحْريّةً عليلة. أسرابُ سنونو تملأ الفضاء. أنتقلُ مع حنايا من فصلٍ لفصل، من الشتاء إلى الصيف، من الخريف إلى الربيع، من الفصول الأربعة إلى الفصول الأربعة. أضواءُ «عاصمة الكبتِ والجلافة» ترقصُ مع تماوجات حنايا. روحُ الساحر المحلِّقةُ فوق الربوة أيضاً. الجبالُ تردِّدُ أوتار نوتاتِ كمانِ «القسيس الأشقر» ذي الأصابع الإلهية. سعادةٌ كثيفةٌ، مفاجئةٌ، بلا رحمة. شعرْنا فجأة أنا انتصرنا أخيراً على «عاصمة الكبت والجلافة» التي أضحت في أعيننا، إلى الأبد، أجملَ وأروعَ وأحلى مُدنِ العالم.

ثمَّةَ تفصيلٌ صغيرٌ جداً في حلمي، شديدُ الأهمية والجوهرية: كان القمرُ قبل مغادرتنا الربوة في كبد السماء، في أكمل دائريَّتِه! حدَّقتُ مليّاً أكثر من مرة لأصدِّق ذلك. أمعنتُ النظر في محيطه المكتملِ النقي، في عراجين تضاريسهِ الداخلية البهيّة: كان بالهيئة التي أحلمُ تقديسَهُ بها! لا يمكنُهُ أن يكون أكثر اكتمالاً ورقَّةً وضياءً من ذلك! لأشرحَ نفسي: أعشقُ القمر بجنون، أنا ابن مدينة عدَن التي لا يحتضنها في هذا الكون برقّةٍ وعشقٍ إلا القمر. قضّيتُ طفولتي العدنيّة أنام فوق سقف منزلنا تحت القمر، أناجيه، أحدِّقُ فيه وفي بساطِ نجومهِ الساحرة ساعاتٍ طوال كلّ ليلة. (أتساءل أحياناً لماذا أسماني والدي: شَمسان، اسمَ الجبالِ البركانية القابعةِ في شواطئ خليج عدَن، فيما يكفيني في هذه الدنيا التحديق بقمرٍ واحدٍ فقط!). أضحتْ علاقتي بالقمرِ حميميّةً جدّاً. أحتاجه بقوّة. أُسعَدُ بمجرَّدِ رؤيته. ثمَّ حقدتُ عليه كما لم أحقد على كائنٍ آخر، لسببٍ بسيط: أمتعُ خرجاتي السريَّة (في مساءات الخلاءات والكثبان الرمليّة، «الأكواد»، المحيطة بعدَن) مع معشوقةِ سنواتِ مراهقتي، كلُّ قبلاتنا المرتجفةِ الطويلةِ العاشقةِ جدّاً، لم تمر آنذاك ليلةً واحدةً تحت قمرٍ شديدِ الاكتمال! كانت تنقصُهُ دوماً شذرةٌ ما هنا، شُطفةٌ ما هناك. كما لو كان يسخرُ مني، يَستفزُّني، يُنغِّصُ حالي! بدأ «حقدي» على القمر من تلك اللحظة! ثمّ تجذَّرَ وترسَّخَ عندما لم تمر ليلةُ عشقٍ كبرى مع فردوس (في كلِّ ليالي عشقِ أسفارنا الكثيرة في سواحل جنوب فرنسا أو الجزر اليونانية، في جنوب أفريقيا أو جزر المحيط الهادي البعيدة، في سيناء أو صحراء الأردن.) تحت قمرٍ خالصِ الاكتمال!

الفصل السابع

في كنيسة سان فيدال

(1)

حوارٌ مع فردوس يسكنني أبداً:

ـ اين ستسافر هذه المرة؟، سألَتني.

ـ فينيزيا!

ـ ماذا قلتَ: فينيزيا؟

ـ نعم!

ـ لماذا؟

ـ اجتماعات علمية دولية هامة!

ـ كنتُ أظنُّ أن فينيزيا مدينة الشعر والفن فقط!

ـ آه، يحدثُ أحيانا!

ـ ألم تعِدني أنك لن تزرْها مرةً أخرى إلا معي؟

ـ آه، نعم!

ـ ربما كنتَ تقصد أنك لن تعد إليها خارج المهمات العلمية إلا معي.

ـ آه، نعم . بالطبع!

ـ لستَ ثرثاراً كثيراً.

ـ يحدثُ أحياناً.

ـ ليس لديك ما تقوله لي قبل السفر؟

ـ سأفتقدكِ كثيراً.

ـ فقط؟

ـ أعبدكِ إلى مالا نهاية!

صمتَتْ طويلاً! سمعت مني هذه الجملة مليون مرةٍ من قبل، بنبراتٍ تختلف عن هذه المرة. هي تعرفني في هذا الوجود أكثر من أي إنسانٍ آخر. حسرةٌ تتوغّلُ نظراتها على حين غرّة. تسألني:

ـ هل قرأت الشاعر الإيطالي روبرتو جيوفاني؟

ـ لم أعد أقرأُ الشعرَ كما تعرفين!

ـ له قصيدةٌ مؤثرة، اسمها: «بدأ وأنتهى في فينيزيا!»

ـ آه!

ـ لم تسألني ماذا بدأ وأنتهى في فينيزيا؟.

ـ .

ـ لا تودُّ معرفة ذلك؟

ـ لا أدري .

لِفردوس كثيرٌ من الكبرياء الذي يمنعها أن تُذكِّرني أنها قضّت كلَّ حياتها ثانيةً ثانية مكرَّسةً لعشقي فقط، وكثيرٌ من الرأفة التي تمنعها أن تصبَّ عليّ اسئلةً استفزازيةً تلصُّصيّة حول هذه الرحلة، وكثيرٌ من الرغبة التي تراودها لِتكون، في هذه اللحظة بالضبط، انتحاريةً مدجَّجة بالديناميت والقنابل تتفجَّرُ في أحضاني قبل أن أغادر المنزل. تضمُّني بشدّة. ترتمي على كتفي طفلةً جريحةً مسلوبة. يطوي تنفُّساتِها وجعٌ من فصيلةٍ لم أرها من قبل. أقبِّلُها بحرارة. أرمقُ عينيها وأنا أغادر باب الحديقة. أعرف أنها ستبكي كما لم تبك أبداً. لعلي أبكي مثلها، لكن بلا دموع. أنا مثلُ أمي: لا تسيل دموعي على الخدّين إطلاقا. لا تداعب سطح مقلتي أبداً. هي مياهٌ جوفيةٌ ساخنة تسيلُ في الأحشاء. تنهمرُ، عندما تنهمرُ، في جوفٍ بلا قاع.

(2)

أَصِلُ فينيزيا في نهاية العصر! باص المطار يتوقف في ساحة روما، على بعد نصف ساعة من الفندق. أعبر جسر ديلبريفو، حدائق باباديولي، كنسية سان نيكولا، ثمّ تتوالى عشرات الأسهم والإشارات في أطراف الأزقة باتجاه ساحة سان ماركو. أجرجِرُ حقيبة السفر، أتقدّمُ معها بنعال الريح في سلالم، جسور رخامية، ممرات ضيقة، أزقة مراوغة، ساحات، بنايات من الطراز الغوطي الفينيزي ذي النكهة الشرقية البهيجة. شعاري المقدّس في كلِّ خطوة: الخط المستقيم أقرب مسافةٍ بين نقطتين! نشوةٌ غامرة تكتسحني وأنا أتقدّمُ نحو هذا الموعد القدري الذي أموت لهفةً بانتظاره. قوّةٌ باطنيةٌ غريبةٌ تجتاح كلَّ خلايا جسدي. أبِسبَبِ هذه المدينة التي تُحرِّكُ في لاوعيي مشاعر ساحرة، لا أجدها في مكانٍ آخر؟ كل شيءٍ فيها يقودني نحو العشق والتناغم والرغبة والتوحد والفناء. أم هي اللذَّة الغزيرة التي سالت في حلم البارحة على الربوة التي تنتصُّ على بؤرةِ «عاصمة الكبت والجلافة»، وعلى بؤرة رغباتي في نفس الوقت (منذ انتهاء ذلك الحلم)؟ أم هو هذا العشق المحموم الذي أخذ في الأشهر الأخيرة منحنىً يهرول نحو الأعلى بسرعةٍ أُسيَّة: حنايا أضحت تستبدُّ على كلِّ عصبونات دماغي، تهيمنُ على خلايا حواسي وجسدي، تحتكر كلّ إرهاصات وتفتُّقات وافرازات غددي اللمفاوية واللخامية؟ أم هي هذه العلامات والبشائر الاستثنائية التي تفتح النفس: حنايا تصل لمدينة لقائنا قبلي هذه المرة، تنتظرني في موعدٍ هي من اقترحتْهُ وهندَسَتْ برنامج أسبوعهِ العسليّ الواعد؟ أم هو عظمة وروعة التفاعل مع حنايا عن قرب، لمواصلةِ متابعةِ ودراسةِ تمثُّلِ برنامج ح.ا ونتائجه المثيرة؟ أم هو، باختصار، هذا المغرب الألسيوني[1] الذي يتوغل في سماء فينيزيا الزرقاء الصافية؟

أصِلُ ساحة سان ماركو. نفسُ الدهشة الكليّة التي تأسرني عندما أجد نفسي وسط الساحة، بين برج الجرس (كومبانيل) و«باب الورق» الذي يفصل الكاتدرائية عن قصر الدوقة! تماثيل ونقوش «الأسد أبي جناحين»، رمز فينيزيا الرسميّ، تتناثر في كلّ أرجاء الساحة! أراه يغمزُ لي وكأنه يقول بفخر إنه لبّى ندائي وأنا أرتّل أغنية أبوبكر سالم بلفقيه! أرى لوحة إعلان، قرب برج الجرس، لأوركسترا ستعزف في كنيسة سانت فيدال «الفصول الأربعة» لفيفالدي! (بين هذه المدينة و«القسيس الأشقر»، ابن أحدِ عازفي كمانِ في ساحة سان ماركو، حبلٌ سريٌّ لا ينفصم)! قلتُ لنفسي: «إشارةٌ قدرِيَّةٌ طيّبة! ها هو زمن الخيرات: سأدعو حنايا للكنيسة، سأهمس لها بين فقرات الأوركسترا بكلِّ تفاصيل حلم الربوة!».

أصلُ الغرفةَ رقم 313، المجاورةَ لغرفة حناياي. جارتي الغالية تنصتُ لِحشرجة فتح موظف الفندق للباب، تتأكد أنها سمعتهُ يحطُّ حقيبة سفرٍ فوق منضدةٍ صغيرة، قبل أن يقفل الباب ويغادر. تدركُ أني وصلْتُ. تتوقّفُ عن كتابة صفحاتٍ طويلة بدأتْها منذ أن وصلتْ الغرفة، قبيل الظهيرة بقليل.

أغتسلُ سريعاً، أزيل بدقائق إعياء السفر، أجهِّز نفسي لموعد العُمر.

أقرعُ الباب المجاور لغرفتي من جهة اليسار!

الغرفة مقصورةٌ مخضلّةٌ بمزيجٍ كيميائي ملائكي من بخورٍ عمانيٍّ وعطورٍ شرقية وغربية، لا تمتلك سرّ مهنة تركيبها، وصيغ جودتها وتناغمها إلا عبقريتي الصغيرة. هاهي في أحضاني، كائنٌ من الموسيقى والعطر. عرَقُ الآلهة. (لعلَّ هذا أفضل تعريفٍ لها). فستانٌ من الحرير الأسود المصبوب على جسدها العبق، الإستثنائي الرشاقة. احتفلَتْ بالأسود لأوّلِ مرة أمامي! أسودٌ مهذَّبُ الإثارة، شديدُ الرومانسية، يغريني كثيراً. قالت لي يوماً، فيما بعد، وهي تسرد لحظات هذا اللقاء الخالد:

«قرعتَ باب غرفتي وفي عينيك كل أشواق العالم. أحتضنتُكَ بنفس الشوق وذات اللهفة. أعرفُ وتعرف مثلي أن إثنين لم يمرّا يوماً بأعتى من تلك اللهفة التي أذكتها سنوات أربع من العشق المتصاعد المتأجج يوماً بعد يوم. تعانقنا قرب الباب طويلاً، قبّلنا بعضنا بعمقٍ، بتفانٍ، بذوبان. ثمّ أنزويتُ في طرف السرير غيرَ مصدِّقةٍ أني أحيا سعادة رؤيتك. اشتقتُ لك هذه المرة بضراوةٍ لا حدود لها. كنتُ مثل عروسٍ تتضارب فيها مشاعر متناقضة أمام عرسٍ حلمتْ به، خافتْ منه، احتارتْ في أمره. احتجتُ أوّلاً للتسكّعِ والتماهي في ملكوتك كلّ هذه السنوات الأربع، كيما يضمحلّ قليلاً الخوفُ من هذه اللحظة التي تعيدُ لي ذكريات كابوسٍ طالما أرعبني، (ولا أودّ الحديث عنه كثيراً). لزمني كلُّ لقاءات وتفاعلات أربعة سنين لئلا يعصف بي خوفٌ لا أمَلَ في التفاوض معه!»

(3)

عانقتُها بكلِّ رقة الدنيا. رمقتُ على منضدةِ الغرفة المجاورة للسرير ورقات كثيرة يسيل عليها حبرٌ أزرق دقيقُ الأحرف، نادرُ الخربشات، كثيفُ الكلمات، وكأنها قد لاكتها وحفظتها عن ظهر قلب منذ سنوات. ستناولني إياها بعد 3 أيّامٍ فقط! صفحات مكهربةٌ صبَّتْ فيها كلَّ بوحِها وأسرارِها الدفينة، كلَّ تناقضاتها وأوجاعها العميقة. ذُبْنا في قبلةٍ طويلةٍ كتلك التي اعتدنا عليها في بدء كلِّ لقاءاتنا. حاولتُ بعد ذلك أن أتقدَّمَ في ملكوت جسدِها أكثر. «خارطة الطريق» ما زالت بالمرصاد! اللعنة! شعرتُ أننا سنكرر تَلَعْثُمَ لقاءاتنا السابقة وسعاداتها الداكنة، وأني سألجأ كالعادة للتأوهات والمناورة والاستعانة بالصبر والدعوات والتفاؤل البليد. لو قرأتْ حنايا خريطةَ دماغي في تلك اللحظة لوجدَتْ كلَّ عصبوناتها تستنكر الظلم والاستبداد، تصرخُ بصوتٍ واحد: «هذه المرة، عشقي الخالد: لا!». تنفَّستُ قليلاً لألملم صبري. عاد لي هاجس: «لو سمَحْتَ!». تخيّلتُ نفسي أُطرَدُ كلّ ليلة من غرفتها، على إيقاع نبرات هاتين الكلمتين، لأُقضي ليلي أشتمُ هذا الجدار الذي يفصل غرفتينا.

ثمّ كان التالي: ردَّدَتْ كلُّ خلايا جسدي بصدق، بتداخلٍ وارتباكٍ وسرعة، هذه الكلمات المضطربة البريئة، التي تدفَّقتْ لِوحدِها دون ترتيب أو إعدادٍ مسبق: «الشفقة بي عشقي الخالد! أحتاج فقط أن أصدِّق أني اتّحدتُ بك ولو ثانيةً واحدة! أتوسلك ذلك، لا أكثر ولا أقل! يلزمني أن أُصدِّقَ ذلك! لن أحتمل اليوم عدم توحُّدِنا ولو ثانيةً واحدة!». كان توسُّلاً صادقاً ساذجاً، يخرج من قعر القلب، بنبرات تقترب من البكاء، يختلج فيها الخوف من تكرار رفضها لي، بالرجاء والقرف والحزن والعشق والرقة الخالصة.

أتركُ حنايا تواصل سردها لِلحظاتِ هذا اللقاء الخالد، كما حدَّثتني بذلك فيما بعد:

«ثمّ كانت هناك تلك الرقّة المنهمرة من عينيك، التي لا تُقاوَم. وذلك الإخلاص والصدق والعشق الذي تعتَّقَ وتطوّرَ منذ أربعة سنين. كان هناك أيضاً شَعْرُك الذي مازال مبلَّلاً قليلاً، عطرك الهادئ، وهجومكَ المباغت شديد الرقة.»

الثانيةُ التي توسّلتُها من حنايا تحوَّلت دهراً من السعادة والملَذَّات! شلّال رغبةٍ يرفضُ أن يتوقّف. لذّةٌ أنيقةٌ، ممتلئةٌ، طويلةٌ، مفاجِئة. فرحٌ يملأ الأضلاع! ثمّ تذهب حناياي إلى الحمام لتغتسل. استنكرتُ ذلك، لأن رائحة العشق أقدسُ من أن تُغسل. قلتُ لها: «يلزم أن نتضمَّخ بهذه الرائحة!» . فجأة لاحظتُ أثناء غيابها في الحمام شيئاً أثار كلَّ دهشتي، سأعرف أسبابه لاحقاً عندما تبدأ حناياي بالبوح: بقعة دمٍ صغيرةٍ على السرير! قبلَتْ رأيي: لم تغتسل هذه المرة من آثار العشق بعد أن واصلناه من جديد، بسعادةٍ وجرأةٍ وثقةٍ أكبر. كنتُ معها بكل خلايا جسدي، خليّةً خليّة. نسيتُ الرحلة، الجوع، الإعياء. كان أعظم من عرس، أقدس من طقوس، كلّ ثانية منه مختومةٌ بأصدق عشقٍ وأكثفِ لذّة. انتقمنا فيه من الماضي. لم نتوقف عن الانتقام من الماضي حتى آخر الليل. انتصرنا على «عاصمة الكبت والجلافة» في أرض الواقع، مثلما انتصرنا عليها في علياء الربوة في حلم الليلة السابقة. ثمّ نمنا في مطلع الفجر عاريين متشعبطين ببعض كطفلين شديدي الغبطة والسعادة. (أثمَّةَ سعادةٌ في الحياة أكبر من هذه؟) كلّما صحوتُ ثانيةً واحدة عبرتُ بأطراف أصابعي بلا وعي جسدها اللميس، لأُصدِّقَ أنها لم «تطردني» هذه المرة بعبارتها الهمجيّة الرادعة: «لو سمَحْتَ!».

فكَّرتُ أكثر من مرّة بمفاجأة بقعة الدم على بطانية السرير مخفياً دهشتي قدر ما أمكن! استغربتُ من ذلك. لم تكن بالنسبة لي، من قريب أو بعيد، هدفاً بحدِّ ذاته، لأني ومعشوقتي الصغيرة حنايا تجاوزنا عمر أغشية البكارات. ناهيك أن هذا الغشاء السيئ الذكر أمسى في مجتمعاتنا الشرقية الغايةَ الأولى للحبِّ الذكوري، وبؤرة وساويسه الشيطانية السافلة. مجرَّدُ ذكر هذا الغشاء يعيد في ذهني القصص التي سمعتها عن أولئك الذين يبدأون، قبل المجامعة، بتفتيش الفخذين بالمصباح الكهربائي للتأكد من الوجود الفعلي، غير الاصطناعي، وغير القابل للشك أو التأويل، لذلك الغشاء! أو أولئك الذي يقيسون رجولتهم بعنف خوضهم معركة تمزيق غشاء البكارة، ومقدار انهمار سيل الدم، وعمق وثخونة الجراح التي يخلِّدونها . الله أكبر! دون الحديث عن كلّ العادات الشرقية المتعفِّنة التي لم تتزحزح بعد، مثل إحضار بطانية فضّ البكارة بعد المجامعة مباشرة أمام لجنة تحكيم مهنيّة من الشيخات المتخصصات، لِمشاهدة وفحص خريطة انتشار الدم فيها، ودراسة وتقييم شكلِهِ ولونِهِ وكثافتِهِ ونوعيّتِه، قبل الغطرفة والرقص الجماعي للاحتفال بعيد فضّ البكارة على إيقاع لعلعة السيوف، أو الرصاص، أو (في عصرنا اليوم، عصر الحداثة والتكنولوجيا) تحت باقات الألعاب النارية!

لكن كيف لي أن أبدأ أنا، في هذا العمر، بكارةً جديدة، لم أبحث عنها بشكلٍ خاص (وإن يلزمني أن أعترف هنا، وإن من باب الخجل، بأني كنتُ سعيداً جدّاً بعذريّةِ معشوقة قلبي الخالدة!)؟ سأنتظرُ من حنايا لحظةَ البوحِ التي وعدَتْني به لأفهم أسرار ذلك. أو بالأحرى سأنتظر صفحاتها الزرقاء المنسوخةَ بِحِبر فينيزيا الشهير التي اشترتهُ حال وصولها كما يبدو، لِتنسخ به أسرار حياتها وآلامها الكبرى!

صحونا على لفحات شمس فينيزيا وهي تعبرُ زجاج نوافذ غرفتنا. عشقٌ طازجٌ على الريق. ظننتُ في البدء أنه فاجأها، أو أنه كان متسرّعاً إلى حدٍّ ما، أو أنها لم تستحبّهُ هذه المرة. «بالعكس، بالعكس تماماً! كان لذيذاً رائقاً جدّاً!»، كما ستقول ذات يوم، بعد فترةٍ من ذلك. زيارةٌ لفينيزيا طوال اليوم. عبرنا فيها بالسفن الصغيرة القناة الكبرى، توقّفنا في أهم مفاصلها، قبل الوصول إلى سواحل «الليدو» على البحر الأدرياتيكي، والعودة لمركز المدينة. ثمّ في الثامنة مساءً دعوتها لسماع أوركسترا «الفصول الأربعة» في كنيسة سان فيدال، قرب «جسر الأكاديمية». حكيتُ لها تفاصيل حلم الربوة بين فصول الأوركسترا! صُعقتُ وأنا أسمعها تردُّ: «حبيبي، كلماتك تشعلني! الاستسلام لك لذّةٌ لا حدود لها! رغبتي محمومةٌ بالتوحد بك!» الدائرةُ التي يقعُ في طرف قطرها هذا الردّ الأنيق، وفي الطرف الآخر: «لو سمحْتَ»، مساحتُها حُزمةٌ مكتظّةٌ من السنين الضوئية المربّعة.

عُدنا الفندق بعد عشاء رومانسيٍّ خالد في أحد مطاعم ضفة سكافوني المقابلة لبحيرة «لاجونا». واصلنا الانتقام من الماضي عشقاً. صحونا طريّين عذبين كما لو كنّا قد وُلِدنا من جديد. ما اختلف عن ضحى البارحة هو رغبة حنايا بأن نواصل متابعة برنامج ح.ا. من حيث توقفنا، بدل الخروج للتسكّعِ في أزِّقةِ ومتاحف فينيزيا هذا اليوم!

(4)

أين توقّفنا في الواقع، حنايا وأنا، في رحلتنا مع تمثُّلات ح.ا؟ آه، كدتُ أنسى برنامج ح.ا تماماً، بعد يومٍ تاريخيٍّ من العشق الكثيف في أحضان حبي الخالد. أين توقَّفنا إذن؟ أما زالت تُهمُّني حقّاً يوميات الحياة الافتراضية وتاريخ الآلهة؟ ألا أفضِّل أن أستثمر كلَّ ثانية باستنشاق عرَقِ الآلهة فقط، وترك دراسة سلالتها لمن يحبُّون؟ لعلّ آخر ما لاحظناه، قبل وصولنا لفينيزيا، هو أن أدمغة البشر التي صنعَتْ مفهومَ الفاعل اللامرئي بدأتْ تتساءل دون توقف عن ماهيته، عن شكله، كيف يرانا، ماذا يُقرِّر في هذا الظرف أو ذاك، ماذا يريد منا في هذه اللحظة أو تلك؟ لم يكن سهلاً لي دراسة ذلك لوحدي: ثمّة عددٌ هائلٌ من القرى وأشباه المدن الصغيرة، في هذا العالم الاصطناعي الشاسع! يستحيل عليّ دراسة وتحليل أدمغة بشرها نفراً نفراً. لحسن حظّي أن مواصلة متابعة برنامج ح.ا سيتمّ بمعيّة حنايا. لأني وصلتُ إلى مفترقٍ يصعب عليّ التقدّم فيه دونها!

حنايا جالسةٌ أمام منضدةٍ عليها بضعة أقراص رقميّة مُدمَّجة، كوبان من الشاي، وكمبيوتران محمولان التحما، هما أيضاً، في شبكةٍ كمبيوترية وكأنهما جسدٌ واحد! مياهُ بحيرةِ لاجونا الزرقاء الهادئة، المواجهةُ لزجاج نوافذ الغرفة، ناصعةٌ جدّا في هذا الصباح الفينيزي المشرق العبق. وحدها صفارات السفن تتخلَّلُ بين الفينةِ والفينة الهدوءَ الموسيقيّ لِمدينة التناغم. ذراعي يحيط حناياي بِوَلهٍ وحنان. أُحدِّقُ فيها أكثر من تحديقي في شاشة الكمبيوتر التي صارت تثير فيّ الغيرة والسأم لأنها تستحوذُ معبودتي وتسرقُ كلَّ تركيزها. مشروعي في الحياة لم يعد متابعة تمثّلات ح.ا ومجتمعاته الافتراضية! مشروعي هو أن نصطلي، حنايا وأنا، عشقاً، ونتفجّر توحُّدات، وننهالُ على بعضنا مبادراتٍ ومفاجآتٍ وتجديداً لا يتوقّف.

هي تُوجِّهني كدماغ، تحتكرُ كلَّ انتباهي ورغباتي. تطلب مني، أنا الذي أجيد استخدام برمجة الكمبيوتر للبحث عن ظاهرةٍ ما، أن أبرمجَ بحثاً شاملاً لكلِّ أدمغة بشر مجتمعاتنا الافتراضية لانتقاء من لديهم ملكات متطورة في عمليات «الدمج المفاهيمي» الذي يتكئ عليها الخيال الإنساني (والذي تحدّث عنه «ملحق كاشف الأسرار»)! بدأت حنايا بدراسة واستقراء مناطق تخيُّلِ دفعةٍ من البشر أفرزَهُم لها ذلك البحث. أرادت أن تعرف كيف يتصوّرون آلهةَ تلك الأيام الخالية؟ كان الجواب واحداً: إله ذلك الزمان مزيجٌ من ضوارٍ وكواسر وحيتان متنوعة: حيوانٌ هائلٌ بقرون عملاقة، بجناحين مفروشين، بِذَيل حوت! قوَّةٌ حيوانيةٌ كليّةٌ مُركّبة تتوحّدُ فيها كلُّ القوى والملكات! أي بكلمةٍ واحدة: كاميرياء!

لكلِّ من درسناه من العينات البشرية كاميرياءه الأثيرة. بعضهم عارم الخيال، يراها وحشاً بألف رأس، بشدق تمساح، وابتسامة ديناصور. (تذكّرتُ بعرفان صديقي العزيز الأسد أبا جناحين الرابض في علياء برج الجرس ومعظم واجهات ساحة سان ماركو.) كنتُ مشدوهاً مأخوذاً وأنا أرى كيف تجيد حنايا تفتيش اللاوعي المختبئ في الأزقّة المظلمة في الدماغ، وكيف تُسلِّط أضواءها الثاقبة على كائنات كاميريائية عتيقة تملأ أقبيته: ضوارٍ يكفي رؤيتها ليستفيق من قرارة النفس رعبٌ آتٍ من ليل الأزمان السحيقة، أشدُّ وأعتقُ وأفتكُ رعب. أرهبني ذلك الاكتشاف! وجدتُهُ، كما شرحت حنايا، ينسجمُ مع طبيعة الدماغ البشري الذي يصنع تخيّلاته عبر دمج مفاهيم ورموز متجانسة مختلفة في فضاءٍ مفاهيميٍّ واحد! ينسجم أيضاً مع ما يمثِّلُه الحيوان من بؤرةٍ تستقطبُ كل إعجاب وخوف وحاجة إنسان ما قبل عصر الزراعة، أو بعده بقليل. حنايا لا تتوقف عن إذهالي. تعرف، بعد دراسة عيّنات أولئك البشر، أين تختار المناطق السكانية التي ستجلي لنا تطوُّرَ الظواهر التي نوَدُّ دراستها.

تتراقص أصابعها على مفاتيح إشارات الكمبيوتر فيما أداعب بأصابعي كتفها الرقيق العاري، طابعاً على شفتيها قبلةً بين الآن والآن. عطرُ جسدِها يُذكي رغباتي. تساءلتُ من جديد: لماذا لا نتوقف عن هذا التلصّص على تاريخ منشأِ الآلهة ونقضّي كل ثانيةٍ في عناق بعضنا؟ بدأتُ أمِلُّ في الحقيقة هذه التمثلات الكمبيوترية الغارقة في خبايا الروح، بعد أن ذقتُ عذوبةَ جسد عشقي الخالد، وإن كنتُ أعرف أنه لم يكن بإمكاني بلوغَ جسدِها قبل أن تبلغَ هي أغوارَ روحي وتفكِّكَ أسرار دماغي. حرَّرتُها من «خارطة طريق» جسدها مثلما حرّرتني من «خارطة طريق» روحي الذي كان تبعيّاً منغلقاً أسيراً قبل ذلك.

قادتني فجأة نحو قريةٍ كبيرةٍ رأت فيها شابّاً نحّاتاً ماهراً يمتلك مقدرات «دمجٍ مفاهيميٍّ» متميّزة، ومهارات يدويّة نادرة في نفس الوقت! كان ذلك الشاب قد نحتَ، بعيداً عن أعين القرية ولزمنٍ طويل، كاميرياء من الطين الأحمر لها قرون وعل، وأجنحة نسر، وجسد أسدٍ مفتولٍ مهيب! ثمّ حملها ذات يوم ليعرضها على سكّان القرية. كاد الجميع يخرّون سجّداً من شدّة الذهول والإعجاب! قلوبهم ترتجف أمام هذا الصنم البديع. أمام هذا التجسيد المادي لإلهٍ لم يتوقفوا عن محاولة تخيُّلِه! بدا لهم أيضاً أن هذا الشاب مسكونٌ ب«نفخة» من ذلك الإله. لولاها لما أستطاع صناعة هذا الصنم العبقري! دعوهُ بعد ذلك لكلِّ حفلة ولادة ليتباركوا بحضوره. وضعوه في مركز دائرة رقصاتهم أثناء أمسيات احتفالات حمدِ الآلهة، تحت ضوء القمر، بعد كلِّ اصطيادٍ عامر أو موسمٍ خصيب. زاد إيمانهم أيضاً أن قريتهم مختارة من الكاميرياء، تنظرُ نحوها الآلهة بأعين خاصة! كبرتْ أحاسيسهم بالأفضلية وزاد روح التعصُّب لكينونتهم «المتميّزة»! عاشوا طقوس عبادة الكاميرياء بأحاسيس عِرقيَّة تُوحِّدهم كمجموعة أكثر فأكثر، تضمُّ شملهم، تثير نشوتهم، تعمِّق «هويّتهم».

ثمّ وجَّهتْ حنايا انتباهي لشخصٍ آخر: جار النحّات! أكثر المتفانين إعجاباً بالصنم. شابٌ صغيرٌ متوقِّد النظرات، شديد الحساسية. كان انفعالياً جدّاً بطبيعته، لاسيما عند رؤية الكاميرياء. كان يعشقها فعلاً، ويغير من إعجاب الآخرين منها! كان ساذجاً، بريئاً، مسكوناً بها، مشدوداً إليها بوعيٍّ أو بلا وعي، ليل نهار. يتخيَّلُها أحياناً أمامه وهو بعيدٌ عنها. يبكي عند التحديق بها، يُغشى عليه أحياناً، يتمتمُ عباراتٍ محمومة، غير مفهومة، قبل أن يستفيق فجأة وكأنهُ حطّ من عالمٍ آخر! خرج ذات يومٍ للغابة المجاورة. ثم عاد بعد ساعات يجري نحو القرية، شديدَ الحمرة، متهيِّجَ الأعصاب كنبيٍّ في حالة وحي، كصوفيٍّ في حالة ارتياع ورجفة، ك«شامان» في حالة تواصلٍ مع الأرواح والآلهة. الجميع ينظر له برهبة وقلق، ينبهر من حالته وشكله! افترش الأرض في حالةٍ صوفيّة تشبه الصُّرع أوحتْ للجميع أنه مسكونٌ في تلك اللحظة بقوىً لا مرئية! كان يصرخ: «رأيتها، رأيتها!» ردَّدَ الجميع: «رأى الكاميرياء التي ترفرف في سماء الغابة! رآها بأم عينيه!» هو وحده المحظوظُ برؤيتها، المسكونُ بها، المعجونُ بنفختها! هو وحده من يستطيع التفاعل معها، الحديث وإيّاها. هو من يمكن الاستعانة به للوصول إليها! بفضلهِ لن ترفض الآلهة طلب أحد من أبناء القرية إذا كان هو الوسيط.

صار قديسهم! بدأوا يدعونه وحدَه لحفلات الولادة واحتفالات مواسم الخصوبة، ناسيين النحّات تماماً. إعتقدوا أكثر من أي وقتٍ مضى أن صنم الكاميرياء نفسه مسكونٌ بنفحةٍ من الإله الذي يحيى في الغابة، تجسيدٌ ماديٌّ له. يكفي رؤية القديس في حالة ارتياعٍ ورجفة وهو يشاهد الصنم ليتأكد الجميع أنه يُخفي جذوةً من روح إلاههم العظيم الذي تجلّى للقديس في الغابة. فسَّرَتْ لي حنايا ما يحصل بكلماتٍ بسيطة. قالت لي: «الأحداث المتمثَّلة في الدماغ تُنشِّطُ نفسَ المنظومات الاستنباطيّة التي تُنَشِّطُها الأحداث الواقعيّة المعاشة.» لم أفهم! وضَّحتْ: «المناطق الدماغيّة التي تشعر بالألم، على سبيل المثال، تتقاطعُ في أنسجة الدماغ مع المناطق الدماغيّة التي تتمثَّلُ الألم. لذلك نشعرُ بالألم عندما نسمعُ أو نرى أمامنا ألمَ الآخر، أو في فيلم سينمائي، أو عند تمثُّلِ ألَمِهِ أثناء قراءةِ عملٍ أدبي». أضافت: «ثمة بشرٌ مناطقُ تقاطعِ المشاعر وتمثُّلات المشاعر لديهم أكبرُ حجماً من الآخرين. يكفي أن يتمثلوا شيئاً ليعتقدوا بوجوده فعلاً!» ثمّ أردفت: «كثيرٌ من الحالات الصوفية التقليدية تمسُّ بشراً من هذا الفصيل!».

حنايا تجرُّ أنظاري نحو شخصٍ ثالثٍ يدخل اللعبة: جارُ جارِ النحّات! شابٌ ذكيٌّ، شديد الغيرة، واسع الطموحات. كان ماكراً أيضاً، يعرف الوصول إلى مآربه ببرجماتيةٍ وشطارة. دخل في تفاعلٍ مع تمثال الكاميرياء يختلفُ عن تفاعلِ جارِهِ الصوفيّ: شرح للجميع أنه يمكنهم اللجوء للكاميرياء عند المرض، عند الجوع، عند الحاجة. علَّمهم صيغاً للتوسل لها وطلب العون منها. تحدَّثَ أيضاً عن أوامر تصله من حضرة الكاميرياء لجميع سكان القرية بعدم الغش، بالتعاون في السرّاء والضراء. أذهل الجميع حقّاً بنظرياته، بمقولاته الحكيمة! ارتفعت قيمته في أعين أهلِ القرية، ولجأ الناس إليه لأنه كان حاضراً يتفاعل مع كلِّ حاجة عمليَّةٍ ماسّةٍ لهم. يعرفُ كيف يُنظِّمهم ويُوحِّدهم، كيف يتوسَّط بينهم وبين كاميرياء القرية، كيف يشرح لها ظروفهم الصعبة، رغباتهم الملحّة، كيف يهدهد قلقهم ويعدهم بالحلِّ اليقين لكلِّ صعوباتهم وأزماتهم الحياتية. مشكلته الوحيدة أن مهنة الكاهن سهلة التعلّم، لا تحتاج إلى ملكات ومواهب فطرية كمهنة النحات أو الفنان المعماريّ أو الفارس العسكريِّ الشجاع. لاسيما وأن صاحبنا لم يكن يودّ أن يَعرقَ ويكدحَ كَثَورٍ لِيشتغلَ فلاحاً، أو طبَّاخاً، أو حرفيّاً بسيطاً أو حفّار قبور. (لعلّهُ يكفي في الحقيقة أن يكون المرء كسولاً، وبارعاً في التأثير الاجتماعي على الآخرين في نفس الوقت، ليصير كاهناً إذا أراد!).

حنايا تلفتُ أنظاري للاعبٍ رابع يدخل المسابقة: الجارُ الرابع للنحّات! التقط كل صيغ وطقوس الكاهن، تعلّمها خلال أسابيع عن ظهر قلب. أدرك أن عليه إذا أراد أن يكون كاهن القرية الأوحد أن يتحالف مع رئيس القبيلة! لعلّهُ كان أوّل من أكتشف أن الكاهن دون الحاكم لا يساوي شيئاً، وأن كلّاً منهما يحتاج عضويّاً للآخر. كرّر كلَّ ما قاله جارُهُ للآخرين من صيغٍ دينية، مارس نفس طقوسه، مضيفاً لها الفتوى التالية: «الكاميرياء تأمر أهل القرية بطاعة رئيس القبيلة والرضوخ لكل رغباته على الدوام. طاعتُها من طاعتِه. هو ظلُّها المقدس في هذه القرية!» حماهُ رئيس القبيلة، عيَّنهُ الكاهن الرسميَّ للقرية، المسئول عن كلِّ طقوسها. واعتبر جاره الأول مجنوناً، والثاني مُدَّعياً، والثالث لصّاً، وأمر بقتلهم على التو!

الفصل الثامن

سلطان الصغير

(1)

كنتُ أشعرُ، منذ عناقِ حنايا في غرفتها بفندق دانييلي بفينيزيا قبل 3 أيّام، أن شيئاً محوريّاً في حياتي يتغيَّرُ جذريّاً لحظةً بعد لحظة! هذا العشقُ الذي كان هوائيّاً، روحيّاً، أضحى الآن عضويّاً، يسكنُ الأنسجة! ثلاثة أيام من العيش معاً جعلَتْ إعجابي بها وعشقي لها يتجاوزان كل إعجابٍ وعشق. لعلَّ ترمومتري الأدق لقياسِ ذلك هو ممارسةُ الحبّ (الذي يستحيل عليَّ مقاربتُهُ إن لم يكن مفعماً بالعشقِ القويِّ الصادقِ الخالص.) مثلها تماماً، أعشقُ التوحُّدَ معها بجنون. لا نودُّ التوقُّفَ عن هذا المنسكِ المقدّس. تقول لي: «لو كنّا نعيش مع بعض لقضَّينا كلَّ وقتِنا توحُّداً!» أهامسُ نفسي بعفويّةٍ وخجَل: «ثمّة أيام الدورة!» ثمّ أراجعُ نفسي غيرَ متأكدٍ أن عنفوان انجذابنا سيضمحِلُّ كثيراً في تلك الأيام. الحقُّ، لم أشعر يوماً بمثل هذه الرغبة العاصفة التي لا تتوقّف، وكأنا كنّا نحاول أن يلتحم جسدانا أبداً، وأن نستعيد ب«أثرٍ رجعيّ» كل السنوات المهدورة التي سبقتْ هذه الأيّام الثلاث. غير أني لا أعرف شيئاً تقريباً عن حياة هذه المعشوقة التي صارت تأسرني وتمتلكني كلّاً بعد أربعة سنوات من لقائنا الأول في المجمع العلميّ بضاحية أورسيه الباريسية! أجهلُ كلّ تفاصيل سيرتِها تقريباً، باستثناء الشذرات النادرة التي حكتها لي باقتضاب وكتمان في لقاءاتنا السابقة في الدعوات والمؤتمرات العلميّة.

سيتغيَّرُ كلُّ شيءٍ الآن! حنايا تمدُّ لي أوراقَ البوحِ التي كانت مُنهمكةً بكتابتها قبل 3 أيّام، بانتظار وصول عاشقها الأبديّ لِغرفة الفندق. لم أستطع إخفاء لهفتي لقراءة هذه الأوراق الجميلة المنسوخة بالحبر الفينيزي الأزرق، بِخطٍّ رهيفٍ مُكتظٍّ كأعشاب مرجانية. خطُّها ليس جميلاً بالشكل المتعارف عليه (هو أقرب لخطِّ فنانٍ منه لخطِّ أستاذٍ في مدرسةٍ ابتدائية)، لكنه شديدُ الاتساق، شديدُ التميُّزِ بأحرفه ذات العراجين الراقصة، شديد النقاء والرقّة . يبدأ بالتالي:

((أنتظرُ وصولك، عِشْقي! هاأنذا منذ أكثر من ساعتين أتنقَّلُ، داخل هذه الغرفة الفارهة، بين رؤوس مثلثٍ محتدمِ الأشواق: 1) سريري الذي أستلقي عليه لأواصل كتابتي، بانتظار مجيئك، 2) ركن الغرفة على يمين السرير حيث أُذكي شذرات بخورٍ مُنقّعٍ بالعطر، أعرفُ كم تُحبُّه كثيراً 3) ونافذةُ الغرفة التي أحدِّق منها طويلاً في زرقة بحيرة اللاجونا ومنحنيات رقصات النوارس.

ما أصعب البوح عندما يقف الخوفُ بعبعاً في مدخل الحنَك! ما أضنى كشف خفايا الذات عندما تتحوَّلُ الأليافُ العصبية لمفاصل اليد إلى أسلاك شائكة! الخوفُ غولٌ يلتهمني منذ الصغر! بسببه عتَّمتُ عليك حياتي وأخفيتُ عنك كل أوجاعها ومنعطفاتها وأسرارها. أحتجتُ لكلِّ هذه السنين الأربع لأهزمهُ أوّلاً، قبل أن أصلَ إلى هذه اللحظة الكريستالية التي أنوي أن أسرد لك فيها حياتي من طرفها إلى طرفها. سأسردها بنفس تلقائية وشفافية رسائلنا، بنفس لغة الحبّ والصدق التي تنهمرُ رائقةً مدرارةً في مراسلاتنا ودردشاتنا اليومية على أنترنت. تعرفُ مثلي حبيبي: لغةُ العشق سيلٌ من الكلمات الرقراقة التي لا تحتاج إلى رتوشٍ أو تلميعٍ أو تنميقات. ها أنذا الآن، عشقي الخالد، أحدِّق طويلاً من شرفة النافذة بانتظار مجيئك! الشمس تغادر رويداً رويداً مركز السماء باتجاه الأفق. بعد ساعات ستغرقُ في صدْعِه، ستودِّعُ نصفَ الكرة الأرضية نحو نصفها الآخر. شيءٌ ما سينقلب أيضاً في حياتي رأساً على عقب في نفس تلك اللحظة! شيءٌ ما في حياتي سيدور 180 درجة بالاتجاه المعاكس! لا تستطيع أن تتخيّلَ حبيبي كم أخاف من ذلك كثيراً وكم أهفو إليه في نفس الوقت!

أعود نحو السرير من جديد. أعرف أني لن أرفضك هذه المرة! أشعر كأني أستقيم الآن على كرسيٍّ رابطةً عُنقي بِحبلٍ وثيق. أفكِّرُ بهوس في تلك الثانية القدريّة الصغيرة التي سأركل فيها الكرسي ليهرول نحو مرقص العدم! أرتجف لمجرد تصوُّرِها! أنتظرها بقلقٍ ورغبةٍ في نفس الآن!

«كي أحيا من جديد يلزم أن أموت أوّلاً!»

كي أحلِّق في الفضاء يلزم أن أتحرّر من قيود الجاذبية الأرضية!

تعبر أمامي وأنا استلقي الآن على السرير بانتظارك كلُّ سيرةِ حياتي التي تجهلها تماماً! تتداخل عدّة أسئلة في رأسي في هذه اللحظة: كيف تفسِّرُ سلوكي معك في كلِّ لقاءاتنا السابقة؟ أتعتقد أني أستغلّكَ لِمُتعتي الصغيرة، لكني لا أمتلكُ الرغبةَ في عشقكَ والتوحُّد بك والفناء في أحضانك؟ أأبدو في عينيك أنانيةً، ساديّةً تتلذّذ بِجرْحِك وتعذيبك واصطلائك بِلاءاتٍ صمّاء جنونية؟ كيف صمدتَ بجانبي وصبرتَ عليّ رغم صعوبة الحياة معي بسببِ شِدّة حساسيتي المفرطة؟ لماذا نقتربُ من بعض أكثر فأكثر رغم المسافة والماضي الذي يفصلنا؟ لماذا يتحوّلُ كلٌّ منا منفى الآخرِ، مَرْفَأه، ووطنَهُ المفضَّل؟ لماذا يلتهمنا هذا العشق الذي ينمو يوماً بعد يوم، ولم يعد ثمّة شيءٌ يتوقّف في طريقه؟

أعود من جديد لشرفة النافذة لأهربَ من معترك هذه التساؤلات! أثارتكَ دوماً علاقتي بنوافذ الغرف التي التقينا بها، لاسيما في لقائنا الأخير في ضاحية أورسيه الباريسية! تساءلتَ عن سبب رغبتي الدائمة بالوقوف في النافذة، للتحديق طويلاً في الأفق والفضاء والإصغاء لموسيقى الصمت والعدم! اعلمْ حبيبي أنها عادةٌ تأصَّلتْ وترعرعَتْ منذ طفولتي! كنتُ أهربُ بفضلها من آلامي، أسافرُ خلالها في عوالم خيالية (اخترعتها لسعاداتي الصغيرة) لا تشبه في شيء عوالم الواقع الكئيب. ثمّ اعلمْ عشقي أني قضَّيتُ كلَّ عمري واقفةً أمام نافذةِ غرفةٍ تحتلُّ مركز تفكيري الآن! غرفتي القابعة في قصر عمّي سلطان البوحديد في مسقط! هي البؤرة التي انسجنَتْ فيها كل حياتي، الجذور التي شكّلتني ولم استطع التخلص من سجنها حتى اللحظة، المحور الذي تدور حوله كل تأملاتي وذكرياتي. فيها أغيب عندما تراني أحدِّقُ في البعيد، منها أبدأ وإليها أنتهي. لأبدأ بوحي إذن من بدء البدايات، من هذه الغرفة، أو بالأحرى من ذلك القصر!

(2)

القصر مساحةٌ تتجاوز الحدَّ البشري، يحيطها سورٌ هائلٌ قبيح من الخرسانة المسلّحة المكسوّة بالرخام، يحجب كلَّ شيءٍ في القصر عن الخارج تماماً. القصر ثراءٌ صارخٌ فاحش، دون بُعْدٍ جماليّ، دون إبداع، دون تاريخٍ أو جلالٍ ما. قصرُ بدوٍ خرجوا من وعثاء الصحراء، ليغتسلوا فجأة بأمواجٍ من دولارات البترول، وأمطارٍ من القطع الذهبية. مئات الخدم في كل مكان، طباخون، منظفون، مخبرون، ماسحو أحذية، عساكر، سائقو سيارات، أتباع ومرافقون وحاشيات. القصر فيلات فارهة متصلة ببعضها بممرات وسلالم كهربائية (كأنك في مطارٍ أو سوبرماركيت!)، عمارات رسمية عديدة تراقب وتدير بشكلٍ رسميّ أو غير رسمي كل أمور البلد، سلطنةٌ داخل السلطنة تنطبخ فيها كل السيناريوهات، تتنصّتُ على كلِّ همسةٍ ولمسة، تتَّصِلُ بشكلٍ مباشر ببورصات العالم وأهم إداراته الأمنية والسياسية والمالية.

القصر لا يخلو من خِيامٍ بدويّة الكترونية شاسعة، تُحيطها الجِمال في تصميمٍ يُشبِهُ البادية، معدّة للحفلات واللقاءات العامة، لأفراح وأتراح سكان القصر وحشمه. قطائف اصفهانية في كل رواقٍ وغرفةٍ وخيمة. صالاتُ مطاعم ومسابح وقاعاتٌ للبولينج والألعاب الالكترونية. مئات الشاشات التلفزيونية والسينمائية من آخر طراز تتوالى ببذخ في كل غرفةٍ ورواقٍ وخيمة. صالاتٌ زجاجية بالأضواء الالكترونية يمارس فيها سيّدُ القصر هوايته الأرستقراطية المفضّلة: جمع السيارات القديمة أو الفخمة النادرة. غابات نخيل طُرِّز سعفُها بالمصابيح الكهربائية لتكون شعلةً من الضوء، هيكتارات لِركوبِ الخيل والفروسية، مراعٍ للحيوانات والطيور النادرة، ومطارٌ خاص لربِّ القصر، الأفعوان الأكبر، عمّي العزيز سلطان البوحديد. القصر أقبيةٌ عميقة، شديدة السريّة، تخفي أرشيفات حسّاسة عن الحياة الخاصّة لأهل السلطنة لاسيما النافذين منهم، مستودعاتٌ لأرقى النبيذ وأفضل الكحول، لأفخر سيجار كوبا، ولأنواع مختلفة من الملذّات والرفاهية الفاجرة. القصر يخلو من الكتب والمجلدات! أشجاره وآثاثه وبلاطه وقطائفه بلا ذاكرةٍ أو تاريخ. ثمّة بيانو واحد في بهو أحد قاعات الاحتفالات يعزف عليه كلَّ مساء شابٌ إنجليزيٌ مستوردٌ لهذه المهمة فقط.

القصر عائلات متشابكة تتداخل بزواج الأهل والأقارب بشكلٍ شديدِ التعقيد والبدائية والحشبكة، تعيدُ خلق نفسها من جيلٍ لجيل بقبحٍ أكبر، بمزيدٍ من البلادة والضعفِ والكسل. كلُّ من في القصر عمٌّ لي (حتى إثبات العكس) أو نسَبٌ من ذات القبيل. مع ذلك، لم يتوقف جميعهم عن تسميتي «بنت الغريبة» لأن أمي انجليزية! يحبّوني وأحبهم بالتأكيد. هم أهلي وذوي رغم عدم ميلي لهاتين الكلمتين الفضفاضتين. أتشاطر معهم نصف جيناتي في كلِّ الأحوال. ثقافتي، لغتي، وضحكات طفولتي تشكَّلتْ بهم، منهم، ومعهم. لكني لم استسغ منذ المهد نمط حياتهم! ثمة جينات في تركيبي كانت تتأفف من طقوس حياة القبيلة، ترفض على الدوام أن تنتمي لنفس القطيع، لنفس الجوقة التي تلغي الفرد وتصهر الذات في مَتْنِها باسم العِرْق والحسَب والنسَب! النفاق دين القصر. الكلُّ يحبُّ الكلَّ ويكرهُه ويمدحُه ويحسدُه ويسبُّهُ في الخلف. ثمّة خصوماتٌ وثأرٌ لا ينام في الصدر، بين هذا وذاك. أحقادٌ صامتةٌ تظلُّ متأججةً تحت الرماد. لا تظهر على السطح إلا الابتسامات الكاذبة، الود والتفخيم والمدح والنفاق، والحبّ الأسري الفضفاض المتطرّف. الكلُّ يخضع لجهازٍ خفيٍّ يقمع الذات ويشجّع على الكذب والنفاق والمغالطة. جهاز ساهمت في تأسيسه التقاليد والأعراف والدين والعلاقات العائلية وثقافة الإذلال والخضوع والكسب السريع، وضرورات النفوذ والسلطة والغناء الفاحش.

القصر سجنٌ عشتُهُ سنوات طويلة ولم أستطع أن أفلت من خنقهِ وتداعياته حتى الآن! نافذةُ غرفتي فيه كانت متنفسي الوحيد على العالم! منها كنت أحدِّق طويلاً في سماء مسقط الزرقاء، وسحبها البيضاء النقية. أهرب فيها من كلِّ ما كان يواجه نافذتي من خريطة القصر: نافورةُ الماء الرخامية أسفل غرفتي صارت منبعاً لضجيجٍ لم أعد أحتمله! الخيمةُ الهائلة المواجهة للغرفة يساراً أضحت تثير تشنُّجي: تمنّيتُ ذات يوم (بعد جُرْحٍ لن يندمل، سأحدثك عنه، عشقي الخالد، بعد قليل! جُرحٍ دمَّرَ حياتي! لعلّك تدفع أنت الآن أيضاً بعض ثمنِهِ بشكلٍ أو بآخر!) تمنّيتُ أن أرى سُكَّان القصر جميعاً متكدِّسين داخل تلك الخيمة، بعد أن أضع أسفلها طاقماً أنيقاً من الديناميت والقنابل! جاراج السيارات الضخم المواجه لغرفتي يميناً أمقتهُ بشكلٍ متميّز: منه تنطلق سيارة الليموزين الفارهة التي تقلني للمدرسةِ مُحاطةً بالحرس، واليه تعيدني بعد ذلك! تصوَّرْ حبيبي: هكذا قضَّيتُ سنوات طفولتي: لا صلة لي بالعالم الخارجي، إلا أثناء الذهاب إلى المدرسة فقط، محاطةً بالحرس! الرقابة حولي كانت في أوجها بشكل خاص. كاميرات خفيّة في غرفتي تتنصَّتُ عليّ. تلفوني مراقبٌ على الدوام. لا أستطيع الاتصال خارج القصر. الإتصال بأمِّي في لندن أكبر المحرّمات وآخر المستحيلات! كنتُ أسكنُ في نفس طابق بنات عمي سلطان الذي كان يُعاملني كإحداهنّ دون شك. لا يفرِّقُ بيني وبينهنَّ في شيء. ربّما لِحبِّهِ لأبي، شقيقه الأثير، الذي غدر به مع ذلك (عندما هرب من العمل الديبلوماسي ليعيش مع معشوقته الإيرانية في ضيعةٍ كاليفورنية). أو ربما لأني تلك التي كان بإمكانها أن تكون بنت حُبِّهِ الوحيد عندما كان طالباً بلندن، لولا أن أمّي فضَّلتْ عليه أبي! من يدري، لعلّهُ انتقم من أمّي في الاستيلاء عليّ ك«رهينة» في قصره، واعتبر ذلك تعويضاً لـ«كرامته» الجريحة!

ما أسوأ حياة أمي وما أغزر خيباتها! هي أيضاً ضحيّة النفاق والكذب، منذ مولدها! وُلِدت في لندن إثر حبِّ قسيسٍ كاثولوكي ايرلندي لِشابة انجليزية! قد يبدو ذلك اعتياديّاً جدّاً، لا يستحق الذكر، لولا أنه يحرَّم على القسيس أن يتزوج ويمارس الجنس في دين المسيحيين الكاثوليكيين! فضيحةٌ كبرى لزم إخفاؤها! ليواصل العاشقان حبَّهما السريّ، تخلّصا من مولودتهما بعد ولادتها بإعطائها لامرأة طيّبة فقيرة! عاشت أمي طفولتها في ظروفٍ شديدة الشحّة. كي تكسب حياتها وتواصل دراستها، لم تتوقّف عن العمل والمثابرة والسهر! تعرَّفتْ على أبي في الجامعة في حفلةٍ طلابية غنائية يسارية لدعم حركات التحرر في العالم الثالث. كانت أمي مناضلة يسارية شديدة الحضور في القطاع الطلابي الجامعي. كانت أيضاً آسرةً، كثيرةَ الجمال! أحبّت أبي رغم أن عمّي تعرف عليها قبله، حاول التقرُّبَ منها كثيراً، ومغازلتَها بكلِّ الطرق. بعد تطوّرِ حبِّهما وعلاقتهما عاش والدايّ في شقّة مشتركة بلندن. مثل كل الشباب الثوريين، ومعظم جيل ما بعد ثورة 1968 الشبابية في أوربا، فضّلا الحياة المشتركة دون وثيقة زواج! ثمّ قرّرتْ أمي أن تسافر مع أبي لعمان عند مغادرته لندن، وأن تسانده في نضالاته الثورية لإسقاط النظام! دفعت أمي الثمن غالياً عندما تخلّص منها والدي في عمان، بدعمٍ وتدبيرٍ وتخطيط من عمّي. عادتْ خالية الوفاض للندن. لم تستطع رغم كل جهودها استعادتي أو حتّى رؤيتي، لعدم وجود اثباتٍ رسميٍّ بأنها أمي! (ثمة بشرٌ يعشقهم سوء الطالع وتهواهم الخيبات والهزائم مدى العمر!). ناضلت أمّي طويلاً لاستعادتي، عبثاً! قبل أن يحدث لي ما سأحكيه لك بعد قليل: زواجي بشهاب، «سلطان الصغير»!

عندما أضعتُ أمي، كنتُ في الثامنة من العمر. كنا نعيش معاً في صلالة في قصر جدّي الذي خلّف تسعة وثلاثين إبناً من زوجاته السبع! (كانت تلك السنوات برفقة أمي في صلالة، مدينتي المفضلة، أحلى سنوات حياتي قاطبة). بعد سفرِ أمي، ومغادرة أبي للعمل سفيراً، انتقلتُ للقصر الجديد لِعمّي، في مسقط. فراق أمي واختفاء كل أخبارها وما تلاه من حملات عدائية ضدها ومن غسيلٍ سلفيٍّ لِدماغي ورقابةٍ دائمة، كانت أول جراح حياتي التي ستكون مرتعاً خصباً للجراح كما ستلاحظُ بعد قليل. مالم تدركه أمي إلا متأخراً جدّا هو أن أبي (الثوري المتمرّد) وعمي (القبليّ الرجعيّ) نسختان من نفرٍ واحد! فرغم كل ما يقوله عمي عن أبي من نقد وسبّ، رغم تذكيره المستمر بماضي أبي الثوري الماركسي، وبلامبالاته وعدم احترامه للتقاليد والأعراف وتمرده الدائم، رغم ذلك هما توأمان حقيقيان، بشكل مذهل لا يخطر على بال! اكتشفتُ ذلك في العاشرة من العمر عندما كان أبي سفيرا في فرنسا (بعد أن أغراه عمّي بالتنصّلِ من الثورة العمانية والغدر بآخر مناضليها). زاره عمي ذات يوم، بشكل مفاجئ، أثناء رحلةٍ سريّة متعدِّدة المآرب قام بها إلى باريس، وأخذني معه إليها لرؤية والدي!

تخلَّص عمّي من حرسه بعد وصولنا مطار باريس، وتوجُّهِنا إلى فندق أرستقراطي فخم في ساحة الكونكورد. أتصل بأبي ليقول له إنه وصل فرنسا في زيارة مفاجئة خاصة، غير رسمية، وحدّد موعداً معه في شارع الشانزليزيه، أمام مقهى الدروجستور، على أقدام «قوس النصر»! لم يقل أكثر من ذلك! لن أنسى طوال حياتي ذلك اليوم! كانت سعادتهما بلقائهما تفوق كلّ سعادة! وصلا المقهى بنفس اللباس تقريباً دون ترتيبٍ مسبق: عمِّي، حامي حمى الأعراف والدين والتقاليد، تخلَّى عن زيّه العماني التقليدي. وأبي تخلَّى عن ربطة العنق والبدلة الأنيقة الرسمية! وصلا يرتديان قميصين بنفس اللون، بنفس الزرارين المفتوحين في الأعلى، بنفس السلس الذهبي المكشوف في الصدر! لبسا نفس البنطلون الجينز، نفس النظّارة الشمسية السوداء التي تحجب نصف الوجه عن العالم!

هما هنا دون رقيبٍ أو عتيد، خارج كل موعدٍ حكومي أو رسمي، في لحظة طفولية نادرة جدّاً، بديا خلالها سعيدَيْن بشكلٍ لن أنساه مدى العُمر! هما هنا بعيداً عن الحرس، القبيلة، الأعراف، عن الأدوار الرسمية، عن الحقوق والواجبات، عن ألقاب الفخامة والمعالي وسعادة السفير. لحظة نادرة لم أعرفهما فيها، تخلّيا فيها عن كلِّ قناع! لم أعرف عمّي، ذلك الذي عندما أسمع كلمة: «طاغية» تبادر صورته إلى دماغي حالاً، ولا أبي، الذي كلّما أسمع كلمة: «ممثل سينمائي» تبادر صورته هي الأخرى! هما مراهقان هنا في وضح النهار، في ركن خفي في طرف الشانزليزيه، يقرعان كؤوس ويسكي الشيفاز، يغازلان نفس الجارة الشقراء في الطاولة المقابلة، تتابع عيناهما بشراهة أجساد نفس الحسناوات وهنّ يعبرن الشارع! يقهقهان بهستيرية أحياناً، يسخران من كل شيء في الوجود: من أبيهما، من البلاد، الدين، الإله، السلطان، زوجاتهم، مني، ومن نفسيهما! كفرٌ لا يخطر على بال من حامي حمى الدين في هذا البلد، ومن شقيقه العزيز، الممثل الرسميّ للدولة! لم أرهما سعيدين كذلك اليوم مع ذلك!

(3)

طوال حياتي في القصر لاحظتُ كم كان عمّي يحب أبي ويحنُّ لرؤيته! لعلَّهُ لذلك كان يتَّصل بي يوميّاً ليسأل عن أخباري واحتياجاتي مهما كانت مشاغله وأتعابه! لعلي أيضاً كنتُ أحبّ عمّي سلطان بشكلٍ أو بآخر، وإن كنتُ أشعر أحياناً بالخجل من ذلك!

ـ كم علامتك في امتحان الرياضيات الأخير؟، سألني ذات يوم!

ـ 99 من 100!

ـ سأتصل حالاً بمدرستك لتحويلها إلى 100 من 100، سأتصل الآن!

ـ لا، لا داعي! (هو واثقٌ أنه يستطيع تحقيق كل رغباته في الحياة بمجرد الهسّ على أرقام لوحة مفاتيح تلفونه!)

ـ ماذا تحتاجين إذن؟

ـ لاشيء، لاشيء!

قطعاً، لم أقل الحقيقة! كان بودّي أن أردّ عليه: «أحتاج أن أهرب منك! أن أرحل نحو الأرض الموعودة، أرض حريّتي! أحتاج أن أرى أمي بعد هذه السنين! أحتاج أن أخرج من السجن!» من هذا السجن الذي يحكمهُ جلّادٌ أنيقٌ يعرف كيف يوجِّهُ أسئلته بطيبةٍ وإغراءٍ واهتمامٍ يُذكي نرجسيةَ الآخر. فسؤاله عن الرياضيات بالذات لم يأت من باب العبث! كان يعرف كم أنا مغرمةٌ بها منذ طفولتي! ربما لأنها أيضاً أروع وسيلةٍ للهروب منه، من القصر، ومن حياتي الشقيّة المخنوقة. بدأ عشقي للرياضيات في مدرستي الإعدادية النموذجية في مسقط. كان لنا مدرِّسُ رياضيات عراقي متميّز، درس في أمريكا. كان يقدِّم دروسه بسعادةٍ جليّة، بِلغةٍ أدبيَّةٍ أنيقة، بشغفٍ صوفيٍّ وبراعةٍ نادرة. لاحظ مدى متعتي أثناء حصص الرياضيات، وشدّة سرعة تجاوبي معه وردّي على أسئلته. شجّعني كثيراً. لكنه فوجئ ذات يوم بمبادرة لم يوجّهني إليها، لم يتوقّعها، أو تخطر بباله!

حملتُ له ذات صباحٍ ربيعيٍّ دفتراً جميلاً، لم أتفنَّن أو أتغزّل يوماً في نقش صفحاتٍ كصفحاته. ملأته ببراهين ابتكرتها لوحدي لنظريات الهندسة الإقليديسية التي تعلّمناها في تلك السنة، تختلف جذريّاً عن براهين المقرَّر المدرسي. اكتشفتُ لبعض تلك النظريات أكثر من برهان أيضاً! قضّيتُ ليالٍ طويلة أفكّر في اختراع تلك البراهين، أقولبُها وأقلِّبُها في كلِّ الاتجاهات، أصيغُها بلغةٍ رياضية أنيقة، أنسخُها بتأنٍ وحبٍّ وإتقانٍ مثالي. كنتُ سعيدةً وفخورةً إلى حدٍّ ما بما عملته. أعتبرتُهُ مع ذلك حدثاً غير ذي أهميّةٍ عالية، لولا أن تفاعل مدرِّس الرياضيات واستقباله لعملي أذهلني كثيراً وشدّ من حماسي وحبي لهذه المادة. بدأ حصة الرياضيات ذات يوم قائلاً إن لديه تصريحاً «تاريخيّاً» خطيراً دعا لِسماعهِ مدير المدرسة، وبعض مسئولي أكاديمية العاصمة! قال أمام الملأ بصوتٍ احتفاليٍّ وتهيئةٍ مُخرَجةٍ بعناية: «تعرَّفتُ خلال حياتي الطويلة على إثنين لهما مواهب استثنائية في علوم الرياضيات! أحدهما كان زميلاً لي في المدرسة الثانوية في بداية الخمسينات في بغداد، درس معي في أمريكا أيضاً. هو الآن أمريكي الجنسية وأحد أهم الخبراء الاستراتيجيين في الجيش الأمريكي في علوم الرياضيات التطبيقية وتصميم الأسلحة الاستراتيجية! والثاني .»

قبل أن يُعرِّف بالثاني، فتح دفتري الذي أعطيته قبل أيام من ذلك! أحمررتُ حال رؤية الدفتر، أزرققتُ أيضاً وتضرَّجتُ بكلِّ ألوان قوس قزح ربما!

أدركتُ مع مرّ السنين كم أعشق الرياضيات حقّاً، كم أعتبرُها موسيقى الوجود، دماغَ الكون! كنت أرى كلّ شيء في الحياة قابلاً للتجريد الرياضي! آمنتُ مع مرّ السنين أنه يمكن كشفُ وتحديدُ وسردُ كلِّ كينونةٍ في الوجود بِلغة الرياضيات، عبر دالّاتها ومعادلاتها ونمذجاتها ومفاهيمها المتأقلمة مع كلِّ كينونةٍ ماديّةٍ أو روحيّة! لا يهمّ أن تكون الكينونة نسمةً أو عاصفة، إلكتروناً طائشاً أو مجرّة، مساراً حلزونيّاً أو إهليجيّاً، حزناً عميقاً أو نبضة عشقٍ جيّاشة، بركانَ غضبٍ أو قُبلةً عميقة، عفريتاً هائجاً أو نملةً تتسكَّعُ على خرطوم فيل! لا يهمُّ أيضاً أن تكون الدالّات والمعادلات متناغمةً كرقصة فالس، عشوائيةً كرقصة رووك، أو رتيبةً كرقصات الموسيقى الالكترونية. هي وحدها ما يُجلي ويُحدِّد أسرار الأشياء وأشكالها، طبيعتها وتجلّياتها، سيرورتها وصيرورتها. هي روحُ الأشياء، رمزُها وكلماتُها المستخدمةُ في لغةِ ودماغِ الإله! أيقنتُ تماماً أنه بدون الرياضيات يبدو الكون عُتمةً داكنة، وتصبح الحياة أشبه ب«عمياء تُخضِّب أصابع مجنونة»، حسب المثل الشعبي.

كانت الرياضيات منذ تلك الأيام جنوني اللذيذ، ملاذي الآسر، هوسي الخالد! لعلّها، ربما، أجملُ متعةٍ يمكن ممارستها في السجن! بالنسبة لي كانت أفضل أفيونٍ مباركٍ خدَّرَ دماغي وسمح لي بالعيش بعيداً عن القصر الذي كنتُ أحيا في قدسِ أقداسِه مع ذلك. بفضلها مرّت سنين حياتي فيه أقل وحشيّةً ووطأةً وكآبة! ثمّ كنتُ أعرف أيضاً أن دفاتر الرياضيات، التي أملأها يوميّاً بشغفٍ وحبٍّ وفير، لا تُهمُّ خفافيش القصر كثيراً! لا يُفتِّشها جنود ظلماته إطلاقاً كما فتّشوا ذات يوم دفتر يومياتٍ شرعتُ في كتابته سرّاً وأنا صغيرة! عثروا على يوميّاتي التي أخفيتُها بعناية بين أمتعةٍ وأوراق، في مكانٍ يستحيل اكتشافه! استدعاني عمّي لذلك! هزَّأني، منعني أن أكتب «صفحاتٍ هزيلةً فارغةً» من هذا النوع مرّة أخرى. تسربلَتْ عيناه ببريقِ تهديدٍ داكن من النوعِ الذي أرتعشُ حال رؤيته! أدركتُ وأيقنتُ فيما بعد، بألمٍ لا حدود له، أنهم يفتّشون كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في غرفتي أثناء غيابي، وأن عليّ أن أسجّل يومياتي في صفحات ذاكرتي لا غير، طالما لا يمتلكون على كمبيوتراتهم برمجيات «قارئ ذكريات»، توجِّهُ أجهزةَ لاقطاتٍ الكترونيةٍ تتشعبطُ بالجمجمة، لتفتيشِ أرجاء الدماغ بحثاً عن الذكريات واليوميات المطمورة.

ـ ماذا تحتاجين إذن؟، سألني ربُّ خفافيش القصر بالتلفون، ذات يوم!

ـ أن أدرس الرياضيات في جامعة أوربية!، أجبتُ.

جنّ جنونه! صعق من الهلع! جاء بشحمِهِ ولحمِه يهرعُ نحو غرفتي متفجِّراً من الغضب. صرخ: «سأحضر لك جامعات أوربا وكل علماء الرياضيات إلى القصر، لكنك لن تسافري لأرض الدعارة! لن تكوني يوماً مثل أمّك الباغية!».

ألقى لي محاضرةً غاضبة عن الشرف، عن الدين، عن العزّة والكرامة! . ما أسفله!

(4)

السفرُ للدراسة في أوربا وأمريكا لأبناء القصر، غيري، حقٌّ روتينيٌّ مفروغٌ منه، لا يستحق أدنى نقاش. أحدهم عاد من الدراسة في الخارج بعد أن أكملتُ الثانوية العامة بقليل. اسمه: شهاب. (أفضِّل أن ألقبه «سلطان الصغير»). هو، مثل معظم سكّان القصر، أحد أبناء أعمامي الغفيرين. كان يختلف كثيراً عن سلطان الكبير شكلاً وسلوكاً، لكنه أدرك منذ عودته من الدراسة، أن من عقال عمّي فقط يستطيع تفريخ وتجنيح كل رغباته وأحلامه الوفيرة. أيقن أن عليه إذا أراد تحقيق طموحاته الشاسعة أن يكون مُفضَّلَ ربِّ القصر، ومختارَه الأول. لذلك تقرَّبَ من سلطان بكل الطرق والوسائل، أرضاهُ ونفَّذَ أوامرَه بحماسٍ وولاءٍ ودقّةٍ مليمترية. صعد اسمه في أسهمِ بورصةِ القصر في برهةٍ صغيرة. صار عمّي يناديه دوماً، يتكئ عليه في مآرب أكثر فأكثر صعوبة واستراتيجية. صار مصطفاهُ الأثير بسرعةٍ ملحوظة، كما يبدو للعين المجرّدة! كان يأتي لزيارة عمّي كثيراً وبانتظام. لم أعبأ به في بادئ الأمر أو أعطه أي اهتمام، وإن كان مهذَّباً، وسيماً، حسن المطلع بشكل مرموق. لكن عمّاتي وزوجات عمّي وبعض بناتهن لم يتوقفن عن التلميح لي بإعجابه بي! «هو الأحق بك!»، كما قلنَ! «لأنه يستحيلُ على سلطان أن يسمح لك بالزواج من خارج العائلة. ومقارنةً بأولاد العم الآخرين هو الأفضل، الأوسم، ذو الأسلوب المهذّب والأخلاق الرفيعة والمستقبل الواعد». أقلقتني تلك التلميحات والهمسات الملتوية. صارت تضغطُ على أعصابي أكثر فأكثر. حاولتُ التعرُّف على «مرشّح القصر». استحال ذلك بسبب الأعراف والتقاليد، وحامي حماها، عمِّي العزيز، الذي يقف دوماً في المرصاد إذا ما انتهكها منتهك!

كي يستأثرَ شهابُ باهتمامي، دبَّرَ مغامرةً «مراهقةً» صغيرة، نصف ناجحة! كنتُ ذات يوم مع «وفدٍ» يضمُّ اثنتين من بنات عمي في طريقنا لحفلة زواج، تحيطنا سيارة الحرس الخاص. جاء شهاب فجأة بسيارته الفارهة قرب الموكب، كأنه مكلّفٌ من ربّ القصر بالإشراف عليه! ثمّ نفّذ خطّته: طلب مني أحد حرّاسه، قبل دخولي حفلة الزواج، أن أقابل شهاب الذي ينتظرني في سيارته على بعد أمتار، ويود أن يوجِّه لي «سؤالاً في الرياضيات بعيداً عن الأعين»! استغربتُ كثيراً، أثارني هذا التحدّي المفاجئ، هذا «السؤالُ الرياضي الذي يوجَّهُ بعيداً عن الأعين»! حتّى الرياضيات في القصر تصبحُ عملاً سريّاً يُهمسُ به همساً في الكواليس! توجَّهتُ نحو سيّارته بمعزلٍ عن الأنظار، بتلقائيةٍ وخجلٍ وحبِّ استطلاع، ورغبةٍ خفيّة نصف ماكرة بالتعرّف على «مرشح القصر» وسماع سؤاله في الرياضيات! لم أكن أتوقّع أن شهاب «سيختطفني» حينذاك، ويقودني بسيارته في رحلة طويلة تخرجني من مسقط باتجاه المدينة التي يعرف كم أحبها: صلالة!

أوقفني وسط تلك الرحلة لمشاهدة البحر! هاهو يرمي بي فجأة في أحضان السفر والحريّةِ والبحرِ الذي أعشقه بجنون! لم يفكّر أحدٌ في القصر غيره يوماً كم أفتقد البحرَ ومدينةَ طفولتي، أنا التي أحيا منذ سنين طويلةٍ أسيرةً في سجنٍ داخل السجن، مُراقبةً داخل قصرٍ مُلغَّمٍ مغلق! البحرُ، كما تعرف، نقطةُ ضعفي المُثلى، دوائي الناجع! غسلَ فيَّ بلحظات سنيناً من الإعياء والملل وقهرِ الحياة بين القضبان، أسكرني حدَّ الثمالة! جلس شهاب قربي في شاطئ البحر. كان يخاطبني بِرِقَّةٍ وأدبٍ جم. حدّثني طويلاً عن نفسه. عن شعوره بالغربة في العائلة! (دقّ في الوتر الحساس بمهارةٍ فائقة!). شعرتُ أنه يشبهني تماماً. وثقت بكل ما يقوله، وبأن كلَّ واحدٍ منا، بشكلٍ ما، مرآةٌ للآخر! نجح في الاستيلاء المفاجئ على مشاعري أنا التي لم أحب رجلاً قبل ذلك اليوم. أعلن عن استيائه الشديد لعبارة «بنت الغريبة» التي تُطلق عليّ وتلاحقني دوماً، وعن استنكاره لعدم السماح لي بالتواصل مع أمي!

بعد الحديث عن أمي مباشرةً أودعَ شهابُ في شفتيّ هزَّةً كهربائية أنيقةً رقيقة، اكتشفتُها بخجل، تذوَّقتُها بمزاجٍ سعيد، عرفتُها لأول مرّة في حياتي: قبلة خفيفة دافئة، أسرَتني كثيراً وأشعلت في كلِّ خلايا جسدي أحاسيس غريبة، لذيذة، صعبة الوصف، شديدةَ السحر، كان لها في الحقيقة وقعُ العاصفة! صدَمتْ كلَّ ثقافتي السلفيّة الصارمة التي كانت تمنعني من مجرّدِ التفكير بها، من عدم مشاهدة أيّ فيلمٍ تتسرَّبُ فيه قُبَلٌ صغيرة، من عدمِ قراءةِ معظمِ القصص والروايات (تصوّرْ، عِشقي الأوحد، كنتُ أعتقدُ أن قراءةَ نجيب محفوظ نوعٌ من الفسق والفجور، فما بالك بإحسان عبدالقدوس!) غير أن هذه القُبلَة سرَتْ في دمي مثل الأوكسجين! أدركتُ كم يحتاجُها جسدي مثلما يحتاجُ الماءَ والغذاءَ والنسمات العليلة. عليّ أن أعترف عشقي: أحببتُ تلك القُبلة! ما أسعدَ أن تتناثرَ وتشتبكَ كلُّ لحظات الحياة في ثنايا نسيجٍ من قُبَلِ العِشق الصادق!

ذكَّرني شهاب بعد ذلك ببيت جدّي الكبير (رأس العائلة) في صلالة، الذي قضَّيتُ فيه أحلى سنوات طفولتي، قبل أن يأخذني بالسيارة في اتجاهه وهو ينشد بصوتٍ رومانسيٍّ رخيم: «قفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزل!» كان استقبالُ جدّي (الذي يأتي لزيارتنا في مسقط في الأعياد فقط) لنا رائعاً، شديدَ التأثير والحميمية! بكيتُ طويلاً عندما استعدتُ بعض ذكرياتي مع أمي وأبي، وتفاصيل أجمل سنين حياتي في ذلك المنزل الذي أعشقه كثيراً والذي لم أعد إليه منذ سنين طويلة. أحسستُ، عشقي العظيم، في نهاية ذلك اليوم القدَرِيّ أني وجدتُ فجأة فارسَ أحلامي، أميري الساحر، وأني مستعدةٌ أن أهب له كلَّ حياتي!

تغيّرَ كل شيءٍ في آخر الليل بعد وصولنا منزل جدّي بقليل! حطّ عمي سلطان بطائرته الهيلوكبتر الخاصة مع عُصبةٍ من أعمام أشاوس ترتعدُ شحومُ بطونهم، تُكشِّرُ شواربُهم، وتشتعلُ نيرانُ الغضبِ في أعينهم الحمراء. فقدَ سلطان اتزانه وهدوءه الأسطوري كما يبدو واضحاً: صفع شهاب أمام الملأ بعد أن سبَّه بكل الأوصاف! أما أنا فقد تعرّضتُ لأكثر من الصفع. أغدقني بالإهانات. شتمنى وأُمِّي لأننا «عارٌ يُلطِّخ تاريخ العائلة إلى أبد الآبدين»، كما قال! آه، عشقي الجارف، كم يكون الجرحُ شديدَ النزيف، بالغَ العمق، عندما تتحوّلُ سكرةُ الحبّ وسحرُ القبلة، في لمحة برق، إلى صفعات وإهانات! ثمّ أخذني معه بالطائرة إلى مسقط دون تأخر، رغم إصرار جدّي على بقائنا في صلالة. الإهانات تضاعفت حال وصولي القصر! لزم التأكد من «سلامتي» سريعاً! حشدٌ شرسٌ من العمَّات والخبيرات المتخصِّصات الآتيات من خارج القصر فَحَصْنَ عورتي غصباً للتأكد من وجود غشاء بكارتي! عرفتُ يومذاك ألعنَ شقاءٍ وأتعسَ مَذلَّة! كنتُ مثل طائرٍ جريحٍ ينتفضُ من الألم، طائرٍ مذبوحٍ يفقدُ آخر أنفاسه! فضَّلتُ الموتَ على البقاء في هذا الجحيم الذي قرّرتُ أن أهرب منه بأيّة طريقة! تمنَّيتُ حينها في قرارة نفسي لو أستطيع أن أنتقم من القصر بوضع كلِّ سكانه في الخيمة المواجهة لغرفتي، لِشوائهم فيها فوق باقةٍ جميلةٍ من الألغام والديناميت!

(5)

ظلَّ عمي غاضباً من شهاب، لولا توسُّطُ جدّي وعمّاتي والاعتذار «البليغ» الذي قدّمه شهاب له. كتب له رسالةً مطرّزةً بعبارات الولاء والحمد والامتنان، نظَّم فيها لِـ«فخامته» أيضاً قصيدةً جاهلية تمدحُ طيبة قلبهِ «التي تذيب الجبال، وتسجدُ لها الأممْ» وسماحته «الأشهر من نارٍ على علَمْ». أعجَبَتْ هذه القصيدةُ المِيمِيّةُ العصماء عمّي وهدَّأتْ من روعهِ قليلاً! (لم أكن أعرف قبل ذلك أن لِعمّي ميولاً شعريّةً قويةً لأدب عصر الانحطاط). اقترحَ كلُّ من توسَّطَ مع عمّي التعجيلَ بزواجي من شهاب، لإنهاء آثار وتداعيات ما حدث. وافق ربُّ القصر! كنتُ سعيدةً بشكلٍ أو بآخر لأني سأبدأ حياةً جديدة، وإن كنت أعرف أني لن أغادر القصر إلا من عمارةٍ لعمارة. قلقٌ وخيبةٌ غريبان اعتوراني أشدّ فأشد مع اقتراب موعدِ الزفافِ الذي لن يحضره أو يسمع به أبي أو أمي! تذكّرتهما بحسرة ليلة الزفاف، كثيراً جدّاً، كما يتذكّر الإنسانُ أعزّ مفقوديه قبل ساعات موته. لن أسرد تفاصيل الحفلة. سأذهب عموديّاً إلى لحظة المصيبة، لحظة الصدمة الكبرى، دون مقدّمات ولا فواصل!

كنت أحبّ شهاب حتى ليلة الكارثة! لِأُبَدِّدَ خوفي من مفاجآت تلك الليلة، تذكَّرتُ كثيراً رقّةَ قُبلةِ البحر. كنتُ أتمنى أن تبدأ «ليلةُ العُمْر» هذه بطوفانٍ من تلك القُبلات البحريّة اللذيذة، أن تكون كثيفةَ الرومانسيّة، مترعةً بالكلمات الغرامية الرقيقة. تذكَّرتُها قُبلةَ البحر طوال يوم الحفلة! أيقنتُ أنها قادرةٌ على مسحِ الندوبِ التي خلَّفتها مغامرةُ سفرِنا لصلالة، على تضميدِ كلِّ الجراح، وإزالةِ كل الآلام والمخاوف!

الصدمة الكبرى بدأت عندما استهلّ شهابُ اختلاءَنا في غرفتنا الزوجيّة بِلَوْمي على عدم رفضي لِقُبْلَته البحريّة! لم أفهمه بالطبع! شرح نفسه: استنكرَ كيف قَبِلتُ منه تلك القُبلة ونحن لم نتزوَّج بعد! لم أفهم أيضاً! ألحقَ لومَهُ بتوريات واتهامات مبطّنة وتشكيكات لا تخلو من الاستفزازية حول شرَفي وطهارتي! اللعنة! بدأت أفهم! انغلق كل شيء في دماغي عندما لاحظتُ فجأة أنه، مثل عمّي، يحتقر المرأة، يفقد احترامه لزوجته حال معاشرتها، يعتبرُ الجنسَ اغتصاباً وليس علاقةً رقيقةً بين إنسانين يُجسِّدان بها عشقَهما، يحتفلان به معاً، واحِدان، في صلاةٍ متكافئةٍ متناغمةٍ ثنائيةٍ ـ واحدة! أدركتُ أيضاً أنه لم يستحب رؤيةَ استعدادي (رغم قلقي وتوتري الذي سترْتُهُ قدر ما أستطيع) وانتظاري لِعناقهِ في «ليلة العُمْر» بأعين مشتاقة مفتوحة! لم تعجبه تلقائيتي وانبساطي في هذه الليلة التي طالما حلمتُ واشتهيتُ أن تكون فردوسيّةً خالدة، عاصفةَ الحميمية، فيما أضحَتْ ألدَّ كابوسٍ عرفتُهُ في حياتي! فهمتُ أخيراً: كان يريد أن أغمض عينيي، أن أنقبض وأقرأ آيات الكرسي بصمت، وأفتح فخذيّ كي ينهي مأربهُ بأسرع وقت، قبل أن يرشَّ القصر بشذراتٍ ساخنةٍ كثيفةٍ من دم فض البكارة، تولولُ عند رؤيته القبيلةُ من طرفِ السلطنةِ لطرفِها الآخر.

دخلنا، بعد استنكاره لعدمِ رفضي قبلتَهُ البحرية، في نقاشٍ وجدلٍ حاد اضطررتُ أن أدافع خلاله عن نفسي، أنا التي أمقت من الأعماق الدفاعَ عنها بشكلٍ عام، فما بالك، عِشقي الأبديّ، في اتهامات حقيرةٍ بليدةٍ كهذه! صدمَهُ رفضي وعنادي، ومقارعته بِلغةٍ لم يتوقّعها! صفعني في الوجه هو الآخر في لحظة غضب! هكذا مارس رجولته كما تعلَّمَ أبجديَّتَها منذ المهد! أراد أن يُحدِّدَ قواعد العلاقة بين السيّد والعبد من أوّل لحظة، أن أبدأ عمراً جديداً من القهر والمذلّات من أوّلِ ساعات شهر العسل! ما أبشعَ «ليلة العُمر»، عِشقي الأبدي، عندما تحلمُ بها رومانسيةً ساحرة، وتراها شنيعةً نكداء! ما أمرَّ شهر العسل، حبيبي، عندما يُستهلُّ بِصفعةٍ مدوِّيةٍ خالدة! انغلقتُ تماماً. احتقرتُهُ، كرهتُهُ إلى الأبد! كرهتُ لحظة الجماع بشكل تراجيدي! أقسمتُ في أعماقي أن لا يصلني يوماً. في كل الأحوال، كنتُ منغلقةً جافّةً بشكلٍ فيزيائيٍّ فطريّ يستحيل معه أن يدخلني! لن أنسى، حبيبي، تلك الليلة الكارثية طوال حياتي! طيفُ أُمّي وفشلُ زواجِها راودني بشدّة. تعاساتُ وأوجاعُ معظم نساء القصر وبؤسُ حياتهم الزوجية الكئيبة سكنَتْني ككابوس، ملأتْني خوفاً من الحياة الجديدة التي تنتظرني! هاهو شهاب يتَّهمني بأنه «ليس الأوّل!» لمجرّدِ أني لم أرفض قُبلتَهُ البحريّة ولم أبرطم وأتضايق وأتفّف منها؛ لِمجردِ رؤيتي، في أول لحظةٍ لاختلائنا، مستعدَّةً لِتسليمهِ جسدي بسعادة، مقابل أن يغمرني بمشاعر غرامية وحبٍّ حقيقي!

لن أنسى مدى الحياة بعض عباراتهِ المأثورة في لِيلةِ الكارثة: «من علَّمكِ هذا؟»، «من علّمكِ رغبات وسلوك بنات الليل؟» لم يحرم نفسهُ أيضاً من إيصالِ تقزُّزي لِذروتِهِ وهو يقول: «بعينيكِ الشهوة، مثل أمُّك الانجليزية!» (أمّي التي لا يعرفها، ولم يرَها مرّةً واحدة!) لم أشعر في حياتي بالرعب مثل تلك الليلة، لأنها كانت صورةً ملخَّصةً لما ينتظرني! تساءلتُ: أأستحقُّ حياةً أشدَّ مأساوية من قبل؟ كان جسدي وشرفي قبل الزواج مِلكي وحدِي على الأقل، أمّا الآن فَثمّة من استولى عليهما ليمتهنهما كيفما يشاء!

لم يستطع أن يُجامعني أيضاً في الأيام اللاحقة، لأني صرتُ أمقتُ الجنس، أرتجفُ كطيرٍ مذبوح عندما تدقُّ ساعته. أكرهُ من الأعماق مجرّدَ الحديثِ عنه. ناهيك أن كلّ ليلةٍ كانت أسوأ من سابقتها، تبدأ عادةً بمحاولة اغتصابٍ مُهينةٍ فاشلة! لا يعرف شهاب كيف يستهلُّ ليلته بكلمةٍ طيّبةٍ تُعيدُ بناء بعض خرائبه! في كلِّ الأحوال، ثمّة شيءٌ تخربطَ إلى الأبد منذ أن شكّكَ بي في أوّل ليلة وصار يشتمُ أمّي ويناديني ب«بنت ال.» (لا أتجرأُ ذكرَ بشاعةِ كلمتِه)، هو الذي أبدى استياءَه، في مغامرتهِ الرومانسية التي قادني بها إلى صلالة، لِلقب «بنت الغريبة» الي يُطلِقهُ عليّ القصر! لم أعد أستطيع تغيير مشاعري تجاه شهاب: صرتُ اعتبرهُ جباناً، وغداً صغيراً احتقرُهُ بامتياز!

يلزمني أن أعترف: لم يكن شهاب ضعيفاً جنسيّاً! بالعكس. لعلّ تجاربهُ مع عاهرات الأثرياء لم تكن قليلة. لم يبدُ عليه سيماءُ القلقِ وعدمِ الثقةِ من نفسه. لكنه لم يعرف كيف يقترب مني! كنتُ أرفضُ عنفَهُ بقوّة. تحوّلتُ إلى نَمِرةٍ شرسة بشكلٍ يخالفُ طبيعتي الرقيقة اللينة. لعلي ورثتُ من أبي وأمي جينات التمرّد ورفض الضيم وإن ساد مظهري الهدوءُ والرقّةُ الدائمة! تعلَّمتُ أيضاً (عندما لا يكون شهاب عنيفاً، وتبدو عليه رغبةٌ جارفةٌ يستحيلُ تحجيمُها وإضمارُها وكبحُ جماحِها) إطفاءَ رغبتِهِ بِمنهجيّةٍ ومهنيَّة! لبلوغ ذلك كنتُ أستخدمُ كلمات محدَّدة لا يستحسنُها كثيراً، أو ألجأُ إلى نوعٍ مُعيّنٍ من الحركات أو السلوك أو التقوقع الذي يستفزُّهُ بشكلٍ أو بآخر. تنحرفُ حينها دورتُهُ الدموية من مسارها نحو الأوعية الدموية في الخصيتين، باتجاه مناطق الغضب في أعلى الدماغ! ألاحظُ ذلك بارتياحٍ وفرَج! أحمد الله كثيراً! تعلَّمتُ أيضاً أن أرمقَ لحظات انطفائهِ الجنسيّ النادرة كي لا أرفض التوحُّدَ معه حينها، وأن أجعلَهُ يشعرُ أنه هو نفسه سببُ عجزِهِ عن الجماع! ليس صعباً على المرأة قيادةُ أوركيسترا مسارِ خذلانِ جسدِ الرجل، أو إخصاءُ فحولته، كما أشعر! انتقمتُ منه هكذا على إيقاع «دالّةٍ رياضية جَيْبِيَّة»، أقصدُ: عبر مناورات مدٍّ وجزر أذلَّتْهُ كثيراً، وزادتهُ قساوةً وشراسة. صرنا لذلك منحنيين متوازيين لا يتقاطعان أبداً، أقصدُ: وضعتُ بيننا شعرةَ معاوية جعلَتْهُ لا يثقُ بنفسهِ أمامي، بل يخشى جماعي أيضاً، وإن دفعتُ ثمن ذلك غالياً: ليالٍ عاصفة يشتعلُ فيها عنفاً وحقارة.))

عرفتُ وأنا أقرأ هذه العبارات في أوراق حناياي الخالدة، أنها، منذ أوّل أيام زواجها الفاشل، تعلَّمتْ أن تكون عبقريّةً في تطريز جسدها بالأسلاك الشائكة! تذكَّرتُ لقاءنا الأخير في باريس الذي ذقتُ فيها الأمرَّين من وعثاء خارطة الطريق التي صمَّمَتْها بعبقريتها الرياضيّة، فرَضَتْها عليَّ، ودافعتْ عنها بنجاحٍ قاتل. تواصل حناياي بشفافيتها القصوى وروحها الطاهر الرائع:

((ما أضعف ثقة الرجل بنفسه عندما يخذلُهُ جسدُه! ما أتعسهُ أمام هاجس عدم الانتصاب! يزدادُ هلعاً من احتضار الرغبة، من ضُعفِ الانتصاب حتى وإن كان وافرَ الفحولة كشهاب! غير أن شهاب كان ذكيّاً مناوراً أيضاً: كي ينجحَ في جماعي ويتلافى العار أمام القصر، حاول أن يُغيِّرَ من طباعي «النَّمِرِيَّة» (حسب تعبيره) التي أرهقته فعلاً. صار ليِّناً معي ليروق لي ويستطيع دخولي ولو مرَّةً واحدة! قال لي إنه يريد أن يفتح صفحةً جديدة من علاقتنا! استغلّيتُ لحظات ضعفهِ وتذبذبهِ هذه بذكاء! ذكّرتُهُ بِوعدهِ لي بالسماح بالاتصال بأمّي! بدأ يرتبك في الحقيقة، يشعرُ بالحرج أمام القصر لعدم فضِّ بكارتي بعد أيام من الزواج، ويأملُ مني أن أفهمَ ذلك وأن أساعدَهُ على قضاء حاجته دون تأخر! ليبدأَ استراتيجيته الجديدة اقترح لي أوّلاً أن أتصل بالخفاء بأمي التي حصل على رقم تلفونها وأعطاني إياه. لم أصدِّقْ عَرْضَه! لم يعد يخطر ببالي إمكانية تحقيق هذا الحلم! كدتُ أشعر بالامتنان لشهاب لولا أنه سرَّبَ في نفس اللحظة عبارةً نفعيَّةً قذرة أثارت كلَّ تقزُّزي: «بشرط واحد: أن تُرخِّي طَبْعَكِ معي!» هززتُ رأسي بعينين طائعتين كي لا يُلغي مقترح الاتصال! زادتْ كراهيتي لهُ بشكلٍ بُركانيٍّ دفين! دقَّ أرقام التلفون لوحده وناولني السمّاعة!

عرفتُ الانسيابَ المتميّز لِنبرات أمي وهي تردُّ: «هالووو!». لا أصدِّق! هي ذاتها بِنفسِ أوتارِها الصوتيّة العذبة الصافية التي لم تغادر أذني منذ عشرة سنين، بِنفسِ لهجتِها الأكسفوردية شديدةِ النقاء! أجهشتُ بالبكاء من شدّة التأثر والدهشة! تلعْثَمتُ عند ِسماع نبراتِها، مثلَها وهي لا تُصدِّقُ أنها تسمع صوتي بعد سنين طويلة! ثمّة لحظات في الحياة تنعقدُ فيها اللسانُ وتضيع الكلمات من فرطِ هولِ المفاجأة! خطرتْ لي حينها فكرةٌ ملهمةٌ: أن أوقف مكالمتي سريعاً وأقول لأمّي إني سأتصل مجدّدا بعد دقائق، علّها تُفكِّرُ بتسجيل مكالمتي الثانية. احتجتُ في الحقيقة أيضاً لاستراحةٍ صغيرةٍ أربطُ بها جأشي، أستعيدُ أنفاسي، أرتِّبُ أفكاري سريعاً قبل مواصلة الحديث! طلبتُ من شهاب عندما أوقفتُ الاتصال أن يسمح لي بالاختلاء بأمي بضعة دقائق، لأني مرتبكةٌ وبحاجةٍ إلى الوُحدة قليلاً كي أستطيعَ الحديث معها! وافق وهو يُلاحظ رجفتي وانهمار دموعي من صعقةِ المفاجأة، مكرِّراً عبارته النبيلة الراقية: «لا تنسِ! بشرطٍ واحد: أن تُرخِّي طبعَكِ معي!»

لخَّصتُ لأمي في مكالمتي الثانية كلّ آلامي في دقائق مكثَّفة. شرحتُ لها رغبتي العنيفة بالهروب من هذا القصرِ، المستنقعِ النتن. تألَّمتْ لمعاناتي وإن ناسبها كثيراً سماعُ هذه العبارات التي تنتظرُها منذ دهر. شرحَتْ لي أنها لم تتوقف منذ سنين على النضال لاستعادتي مستخدمةً منظمات حقوق الإنسان والسبل الديبلوماسية. لكنها فشلت لمهارة القصر في شراء ذوي النفوذِ والخبراء في كبحِ الفضائح، ولأن القانون لا يعترف حتّى بأنها أمي!

أدركتُ سريعاً أن مكالمتي هذه (التي كانت تُسجِّلُها فعلاً) ستساعدُها بشكلٍ حاسم في مساعيها دون شك. طلبَتْ مني أن أصمدَ قليلاً لأنها تستطيعُ الآن أن تشهرَ مأساتي واستغاثاتي، وأن تُقلِقَ القصر الذي يخشى الفضائح الدوليّة الصارخة. قلتُ لها إنَّ «جسدي مضرَّجٌ بالضرب والجراح!». لعلّ هذه العبارة التي اخترعتُها ستلعبُ دوراً أشدَّ حسماً في إخراجي سريعاً من القصر! الحقُّ، لم يكن جسدي حينها مضرَّجاً بالجراح، لكني كنتُ أدركُ مسبقاً أنه سيكونُ حتماً كذلك في الأيام القادمة التي تنتظرني مع شهاب! إذ لم «أُرَخََِّ طبعي معه» كما اشترط! لذلك زاد عنفاً وهوادةً بعد «خيانتي» للوعدِ، كما قال! صارعْتُهُ بجرأةٍ وتحدٍّ أكبر وكأني أُشعِلُ عنفوانَهُ وأثيرُ هيستيريّتَهُ وأشتهي جراحَهُ بِطيبةِ خاطر! أو كأني كنتُ أُطبِّقُ حرفيّاً، بشكلٍ ما وبلا وعي، بيت الشاعر الذي قال:

                    «وللحريّةِ الحمراء بابٌ       بكلِّ يدٍ مضرَّجةٍ يُدَقُّ!».

في القارة الأوربية المجاورة مَرَّت الأشياءُ بسرعةٍ خارقة، بعد أن أشهرَتْ أُمّي المكالمةَ التلفونية حالاً! الصحفُ والمنظمات الإنسانية، التي كانت على علمٍ بملفِّي منذ سنين، استقبلَتْ المكالمةَ التلفونية بإدانةٍ ووجومٍ واستنكارٍ شديد! اضطربَ القصرُ وتزلزلتِ الأرضُ تحت أقدامِ سيِّدِه! أرّقَتهُ التصريحات المدويّة للصحفِ البريطانية الجادّة، وبشكلٍ خاص المناورات الإعلامية للصحف الصفراء (لاسيما «ذي سُنْ») التي تمتلك خبرةً مدهشة في تفجير الفضائح وتحريكِ وشدِّ سخط الرأي العام. القصر الذي يتنفّسُ على إيقاعِ موسيقى الكتمان لا يحبّ الفضائح الدوليّة! حقدُ سلطان علىَّ وعلى أُمّي، التي باتت كمن تنتصرُ عليه بأثرٍ رجعيّ، يغلو يوماً بعد يوم! القصر يرتجف! لاسيما أني كنتُ معذَّبةً جريحةً بشكلٍ ملحوظ!

وفدٌ من منظمات حقوق الإنسان والصحفيين البريطانيين يصلُ عمان بشكلٍ مفاجئ، يطبُّ على باب القصر، يطلبُ مقابلتي! القصر يرتجف! مفاوضاتٌ ديبلوماسية خفيَّة انتهت بحلٍّ «يحفظُ ماءَ الوجه»: وافقَ القصرُ على سفري لزيارةِ أُمّي «التي كانت مريضةً» كما يُقال، والعودة بعد ذلك! سفرٌ بلا رجعةٍ بطبيعةِ الحال! طلبتُ الطلاقَ على التو من المحاكم الإنجليزية التي وافقت عليه، فيما أُعتبرُ حتى الآن زوجةَ سلطانِ الصغير في الأعراف والقضاء العماني! سلطان الصغير الذي سقطَ إلى الدركِ الأسفل في دائرة المغضوب عليهم في القصر، لأجلٍ غير مسمّى! لأجلٍ طويلٍ جدّاً كما أتوقّع!

ماذا حصل لي بعد بدء حياتي الجديدة في لندن (التي أستطيعُ فيها على الأقل كتابةَ يومياتي بِحُريّة)؟ إذا أحببتَ، عشقي الأبديّ، معرفةَ ذلك فقد أحضرتُ لك مُجلَّدين من اليوميات التي أكتبها منذ وصولي لندن، يوماً بعد يوم! يكفي، حبيبي، أن تطلبهما مني بِرقَّةٍ الآن، لتشاهدَ فيلمَ حياتي منذ وصلتُ لندن لحظةً لحظة، ولِتتوقَّفَ على الأقل من اتهامي بالكتمان! غير أنه يلزمك لقراءتهما دهرٌ كامل!))

الفصل التاسع

بهجةٌ ماكرة

(1)

سيتغيَّرُ كلُّ شيءٍ الآن في علاقتي بحنايا! ليس بسبب أوراق البوح التي لم تكشف لي فقط هولَ جراحِ طفولتِها وعمقَ آثارِها طويلةِ الأمد، بل بَرهنَتْ لي من جديد ما استشفَّيْتُهُ من أوّل لقاء: عظمةَ حنايا، شفافيّتَها المثلى، روعةَ روحِها، صلابتَها! لكن بسبب مُجلَّدَي اليوميات التي حدَّثتْني عنهما ووعدَتْني باعطائهما لي «إذا طلبتُهُما برقَّة»! فحنايا اليوم، التي صرتُ أتمحورُ حولها، موجودةٌ فيهما فقط، وليس في أوراق البوح التي قرأتُها مع ذلك بكلِّ تركيزٍ وتأثُّر، وحفظتُ أصغر تفاصيلها عن ظهر قلب.

سأطلُبهما بكلِّ رقّةِ الأرض إذنْ، هَاذين المجلَّدين! طلبتُهما! لا أستطيعُ أن أكون أكثر رقّة. ردَّتْ:

ـ لماذا لا نواصلُ أوّلاً مشاهدةَ تمثُّلات برنامج ح.ا ومتابعةَ تطوّر منشأ الآلهة من حيث توقّفنا؟

ـ يكفيني ما شاهدناه! يكفيني رؤية هذه الكاميرياء التي اندلع منها مفهوم الآلهة! تكفيني تلك اللحظات الجذريّة التي شاهدتُ فيها ظهورَ الكهنة وتأسُّسَ الأديان، كيف دخلتْ حياة الإنسان وتشبَّثَتْ به أكثر فأكثر، كيف تسلَّلتْ لتكون حاضرةً معهُ في كلِّ ثنايا آلامه ومعاناته وتطلّعاته وتخوّفاته وأحلامه، كيف ارتبطت عضويّاً بالحاكم وأضحَتْ دوماً أصلبَ درعٍ وأنجع وسيلةٍ لِلحفاظ عليه. ما تبقَّى ليس أكثر من «تطوّرٍ وانتقاءٍ» تاريخيٍّ بطيءٍ طويلٍ دائمٍ في المفاهيم والمعتقدات، تأقلمَ وتكيّفَ مع كلِّ ظرفٍ وزمنٍ وإقليم، مع طبيعةِ تركيب دماغِ الإنسان وحاجاته الاجتماعية الجوهريّة. ليَصلَ بتلك المفاهيمِ والمعتقداتِ أخيراً إلى ما وصلَتْ إليه اليوم.

ردَّتْ حنايا بإصرار:

ـ ينبغي أن نُقدِّمَ عجلة الزمن في ح.ا لِنُشاهدَ هذا التطور، لبرهنتِه، ولنراقبَ مدى انطباقهِ فعلاً مع تاريخ بشريةِ كوكبِ الأرض!

ـ شاهدي ذلك لوحدك، واشرحي لي الملخّص لاحقاً! لا يشدُّني شيءٌ الآن أكثر من قراءة مُجلدَي يومياتك! هما أهمُّ من أيِّ موضوعٍ فكريٍّ أو اكتشافٍ علميّ، بالنسبة لي! أريد أن أعرفكِ أنتِ، كما أنتِ عليه. كلُّ ما عدا ذلك في الحياة هيّنٌ جدّاً، لا يستحوذني كثيراً.

علَّقَتْ بنبرةٍ مبتسمةٍ لا تخلو من السخرية:

ـ تُبالِغُ كثيراً! ألا تكفيكَ، حبيبي، أوراق سيرة طفولتي التي قرأتَها؟ ألَمْ تقل قبل قليل أنك تحب الاكتفاء باللحظات الجذريّة فقط؟

أجبْتُ بنبراتٍ صمّاء:

ـ حنايا اليوم إنسانٌ يحيا في عالمٍ مختلفٍ آخر. أريد أن أعرف كيف بدأتْ وعاشَتْ حياتَها في هذا العالم الجديد، كيف تفاعلتْ واصطدمتْ واندمجتْ معه، حتى لحظة لقائنا في هذا الفندق! أكرِّرُ عِشْقِي، دون مبالغة: لا شيء أهمُّ من ذلك بالنسبة لي!

(2)

مُجلّدا يوميات حنايا يلتهمان ربع حقيبة سفرها تقريباً! صفحاتهما مطبوعةٌ على الكمبيوتر: حنايا تفضِّلُ استخدام الكمبيوتر على القلم لإمكانية نقل ايميلاتها وإس.إم.إساتها لليوميات مباشرة دون نسخِها من جديد، لإدراج بعض الصور في اليوميات أحياناً، لِسهولةِ البحث عن كلمات نصِّها وتصحيحِها بشكلٍ آلي، لِسرعةِ وتلذُّذِ أصابعها بالرقص على لوحة المفاتيح التي لا تحتاج حنايا لمشاهدتها أثناء الطبع (تحدّقُ غالباً في الشاشة، في الأفقِ والبحيرةِ المواجهة، تنظر نحوي أحيانا.) كلُّ يومٍ (عدا أيّام قليلة تبدو غير ذي شأنٍ في منظورِ حنايا) يُشكِّلُ فصلاً في اليوميات، يُستهلُّ بتاريخ اليوم، وبعنوانٍ خفيفٍ أحياناً (بين قوسين طائرين) إذا مرّ في ذلك اليوم حدثٌ بارز. كلُّ فصلٍ يتوزّعُ على فقرات. فقرةٌ أو فقرتين في الغالب، لا تتجاوز الخمس إلا نادراً. كلُّ فقرةٍ تُكرَّسُ لِحدثٍ متميّزٍ ما تودُّ حنايا تأريخَه، لِتعليقٍ لذيذٍ على حدثٍ ما، لِفكرةٍ بديعةٍ خطرتْ ببال حنايا، لِمهمّةٍ أنجزَتها أو شغلَتْها، لايميلٍ أو إس.إم.إس ذي أهمية في أعين صاحبة اليوميات، لِلقاءٍ أو حديثٍ تلفونيٍّ مهم، لِخاطرةٍ ما أثارتْهَا أو أضحكَتْها كثيراً. تبدأُ كلُّ فقرة بتحديد الساعة، والدقيقة أحياناً، التي يرتبطُ بها محتوى الفقرة.

أقرأ يوميّاتها على السرير بِتمعُّنٍ وانهماك. هي جالسةٌ وحدها أمام كمبيوترينا تشتغلُ في برنامج ح.ا باستغراقٍ تام. تُقدِّمُ عجلةَ الزمن، تدعوني أحياناً لِمشاهدة التطوُّرات المفاجئة لِلعوالم الافتراضية. أعتذرُ، سأسمعُ استنتاجاتها وخلاصاتها حول تمثّلاث ح.ا لاحقاً. بين الآن والآن نتوقف عن انهماكَيْنا المختَلِفين (هي في ماضي الآلهة، وأنا في ماضيها) لِنجدَ أنفسنا متوحِّدَيْنِ على الفراش أو أمام المرآة، مثل جِسمَين أسيرَيْن لِقوّةِ جاذبيّةٍ ساحرةٍ جبّارة. يُحدِّق كلٌّ منا بأعين الآخر أثناء التوحُّدِ بِرقَّةٍ لامتناهية، يذوبُ في ملكوته. نزدادُ تفاهماً وتناغماً من عناقٍ لآخر، من توحُّدٍ لآخر. لا يفكِّرُ كلُّ واحدٍ إلا بإسعاد معشوقهِ بتوحُّدٍ كثيفٍ دائم، وبِنُخبةٍ من «القُبَلِ القاتلة»: هكذا نُسمّي نوعاً من القُبلِ الحميمية العميقة، الأحادية الجانب، أو الثنائية (شديدةِ الاحترامِ لِمبدأ «التماثل الهندسيّ»)، التي نموتُ تَلَذُّذاً أثناءها.

اندمجتُ منذ الصفحات الأولى بشكلٍ لا حدَّ له بحنايا وأنا أشاهدُ حياتَها تسيلُ أمامي بجلاءٍ وتركيزٍ ومكاشفةٍ عميقة! أدركتُ من بدء قراءتها أن حنايا كتبَتْ هذه اليوميات لها وحدَها، أفضَتْ فيها كلَّ ما يختلجُ في نفسها ولاوعيها الدفين! عبَّرَتْ فيها في كلِّ فقرة، بوضوحٍ ونقاء، عن أعمقِ وأدقِّ أحاسيسها! هاأنذا إذن، عبر المنشور الضوئي لهذه اليوميات، أشاهدُ ألوان طيف كلِّ لحظةٍ هامّة من حياة معشوقتي الخالدة، أرى أقبية روحها تتجلّى تحت الأضواء الساطعة، أراقب رعشات وخلجات وتذبذبات وتصادم الجُسيمات الذريّة الأوليّة لِمشاعرها ورغباتها الصغيرة. أيحقُّ لي أخلاقيّاً ذلك؟ ألا يلزمُ أن أعْبُرَ يوميّاتها، بشكلٍ زجزاجيٍّ سريع، لأمتلك صورةً ماكروسكوبيةً، عامّةً جدّاً، عن حياتها، دون التلصُّصِ الميكروسكوبيّ البطيء في تفاصيل حياتها الشخصيّة؟

منذ بدايات اليوميات لاحظتُ بدهشة أن حنايا تعيش في عالَمين في نفس الوقت: فكريّاً وعلميّاً وثقافياً تندمجُ بامتياز في عالمها الغربيّ الجديد (هي مجنونةُ جديدِ السينما، المعارضِ والمسرح. مغرمةٌ بالمتاحف. أبحاثُها العلميّة تأسرُها ليل نهار.) لكنها تحيا نفسيّاً في عالم صباها. كلُّ ما تراهُ وما تُعلِّقُ عليه في اليوميات، حول أي موضوعٍ تقريباً، يقودُ دوماً إلى عُمان، إلى الطفولة، القصر. كلُّ أحاسيسِها ومشاعرِها في اليوميات تنبعُ من (أو تصبُّ في) طفولتها، تؤدي إليها بشكلٍ حتميّ! ليس هناك أفضل من حنايا وهي تصفُ في أوراقِ البوحِ الحبالَ التي تربطُ كوعيها بالطفولة، عندما تتحدَّثُ عن غرفتها في القصر: «هي البؤرة التي انسجنَتْ فيها كل حياتي، الجذور التي شكّلتني ولم استطع التخلص من سجنها حتى اللحظة، المحور الذي تدور حوله كل تأملاتي وذكرياتي. فيها أغيب عندما تراني أحدِّقُ في البعيد، منها أبدأ وإليها أنتهي.» بتلخيصٍ شديد، ثمّة انشطارٌ مثيرٌ في كينونة حنايا: «بناؤها الفوقيّ»، أو سقفُها، يُحَلِّقُ في آخر الإبداعات العلمية والثقافية لعالمها الغربي، فيما «بناؤها التحتيّ»، أي قاعدتها الأرضية الثقيلة، مغروسٌ في الرمال المتحركة لماضيها الحزين في عُمان.

ما أذهلني منذ بدءِ تصفُّحي لليوميات هو شبكةُ العلاقات الاجتماعية الهائلة التي نسجَتْها حنايا منذ وصولها للندن، وكأنها تنتقمُ من سنوات الوُحدة والانغلاق التي عاشتها في عُمان! أعادت في لندن العلاقةَ مع كلِّ من أحبَّتهُم من أصدقاء المدارس في عُمان ومعارِف طفولتها، مع بعض أقاربها في القصر الذين أحبتهم وأحبُّوها. حوَّلتْها إلى علاقةٍ دائمةٍ عبر الاتصالات الهاتفية المنتظمة، والمراسلات (بواسطة المسافرين فقط، دون استخدام البريد الرسميّ!) وتبادل الهدايا والاحتياجات الشخصية، عبر اللقاءات الطويلة الحميمية إذا مرَّ أحدهم في لندن أو تواجدَ في مدينةٍ تزورها حنايا لِمهمةٍ علميّةٍ ما. في كلِّ اللقاءات تقريباً، تجرُّ حنايا الحديث بلاوعي معهم نحو ذكريات الطفولة، عالم الصبا. لم تكتفِ بإعادة حياة ماضيها ب«أثرٍ رجعيّ»، بل نسجَتْ علاقات لا حدَّ لها مع زملاء الدراسة الجامعية في لندن، ثم مع زملاء العمل في المختبر العلمي، مع العمانيين والعرب والإنجليز المحيطين بسكنها، أو الذين تصادفهم هنا وهناك. أغلبُها علاقات دائمة، تتطوّرُ يوماً بعد يوم!

حنايا تنذرُ نفسها للجميع بتفانٍ ووفاء، تتفاعلُ مع أعزائها دون توقّف، تُقدِّس التفاصيل والذكريات الصغيرة المشتركة معهم، تُفاجئهم بِهديَّةٍ غير متوقّعة، بِتهنئةِ عيدِ ميلاد بالإس.إم.إس في الثانية عشرة مساء، بزيارةٍ في لحظةٍ مؤثّرة، بباقةِ ورد. لا أدري كيف تجدُ حنايا، بجانب نشاطِها العلمي واهتماماتها الثقافية (لاسيّما متابعة كلِّ جديد السينما) الوقتَ لتنميّةِ وتكثيفِ هذه العلاقات بالتزامٍٍ دينيّ، وكيف تستطيعُ، في معمعان مهامها المهنيّة، الانضباط في التواصل واللقاءات والاتصالات الهاتفية بِدِقَّةِ ساعةٍ حائطيّة.

«عرَقُ الآلهة» فضاءٌ متعدِّدُ الأبعاد، ماكينةُ علاقاتٍ اجتماعيةٍ بامتياز! لعلها احتاجتْ أن تكون كذلك لِمقاومة بؤسِ ماضيها والانتقامِ من خنقهِ ورقابته، للتفاعلِ والتفجُّرِ اليوميّ، لاستيعاب ماضيها في عمان إذا كانت قادرةً على استيعابه، للحياةِ باتجاهِ المستقبلِ والهروبِ من دوّامةِ الماضي ومتاهةِ سجونِهِ القاتلة. شعرتُ بالتقزُّمِ والخجل: وجدتُ نفسي بكلِّ علاقاتي القديمة والحديثة في البلدان التي أحيا بها (أنا الذي طالما فخرتُ دوماً بكثافةِ وتجَذُّرِ واتساعِ وأصالةِ هذه العلاقات) أشبهَ بِجزيرةٍ باهتةٍ مطمورةٍ في أرخبيل علاقاتها وصداقاتها!

كنتُ قد لاحظتُ هذا البعدَ الاجتماعي الجوهريّ لمعشوقتي، في كلِّ لقاءٍ لي بها في ندوةٍ أو دعوةٍ علميّة. رأيتُها تعيشُ علاقاتها بِكلِّ حواسها، بِلذّةٍ وتفانٍ: تُغادرُ لندن بحقيبةِ سفر وتعود إليها بثلاث! تُقضّي معظم وقتِ فراغِها، خلال أيّام الندوات والدعوات، لِلبحث عمّا يُسعِدُ أصدقاءَها من هدايا أو أمتعةٍ سألوها أن تشتريها لهم! هنا في فينيزيا أيضاً، منذ أوّل تجوالٍ لنا، تتوقَّفُ حنايا بين كلِّ خطوتين أمام المعارض والأسواق وكأنها تريد نهب المدينة! تشتري، هنا وهناك، عدداً من أقنعة كرنفال فينيزيا، من ريشات وعلب الحبر الفينيزية الشهيرة، من قنينات المعاملِ الحرفيّة العريقة، وأشياء صغيرة رمزيّة أخرى! من جانبٍ آخر، معظم ما عليها من خواتم وشالات وأساور، وكثيرٌ من أمتعتها الشخصيّة أيضاً، هي في الغالب هدايا استلمتْها من أصدقائها، تعتزُّ وتفخرُ بها، تعتبرُ مجرّدَ حِملِها سعادةً كبيرة، بشارةَ خيرٍ وحسن طالع!

لاحظتُ في اليوميات كم يثقُ بحنايا أصدقاؤها ويبوحون لها بمعاناتهم وأسرارهم. وجدتُ في بعضِ الصفحات خفايا الحياة الشخصية لعددٍ منهم وإن كنتُ أدركُ أنه لا يحقُّ لي قراءة ذلك! أدهشني عمقُ تفاعلِهم معها، قوّةُ تواصلِهم وصِدْقِه. رأيتُ صورَ كثيرٍ منهم في اليوميات. أحببتُ بعضَهم من أوّلِ نظرة! شدَّني معظمُهم، تمنيتُ وقرّرتُ التعرّفَ عليهم، الالتحامَ الحميميّ بِنُخبةٍ منهم، وكأني بذلك سأعرفُ وسأعشقُ حناياي أكثر! اكتسحتني رغبةٌ عنيفةٌ بالاندماجِ بكلِّ الفضاء الاجتماعي لِحنايا، بالحضور في كلِّ أنحاء مجالِها المغناطيسي الشاسع، برؤيتها قربهم، تتفاعل معهم، تخدُمهم، تُصغي إليهم. ثمة دفءٌ في ذلك يسحرُني لِسببٍ أجهله! ساورتْني رغبةٌ آسرة في أن نُنظِّمَ، حنايا وأنا، حفلةً ضخمة، على سفينةٍ كبيرة تنتقلُ بنا من بحر المانش إلى مرسيليا، ومن صلالة إلى عدَن، ندعو إليها أعزّ أصدقاء حنايا وأصدقائي. سأعرِّفُها على أصدقائي بفخر، سأتعرّف على أصدقائها باهتمامٍ خاص، سأرتبطُ بهم بعد ذلك مثلها. كتمتُ حلمي بالطبع، لأنه مشروعٌ ضخمٌ لسنا مستعدّين له بعد. لكنهُ صار هدفاً مقدَّساً لحياتي سأجاهدُ لتحقيقهِ ذات يوم، دون أن أبوح بهِ لها الآن بالتأكيد.

في يومٍ وليلةٍ طويلة التهمتُ الأجزاء الأولى من مجلد اليوميّاتِ الأوّل، بتدقيقٍ وتركيزٍ وحميمية. ثمّ قفزتُ في صباح اليوم التالي إلى الفصول الأخيرة من المجلدِ الثاني، الخاصة بالسنوات الأربع الأخيرة التي دخلتُ خلالها حياتها، لأقرأ ما كتبَتْهُ عني! وجدتُ كثيراً من العبارات الرقيقة حول علاقتنا منذ أشهرها الأولى. أمانٍ حميمية تتسرّبُ هنا وهناك. (أدهشتني هاتين العبارتين التي خاطبتني بهما في يوميّاتها ولم أسمعهما منها بعد: «أتمنى أن أعيش معك كلّ ثانيةٍ من عُمري»، و«أحلم أن أموت في أحضانك!»). أهمُّ فقرات ايميلاتنا ودردشاتنا على الأنترنت تحتلُّ حجماً أكبر فأكبر في تعليقاتِ ويومياتِ الأربع السنين الأخيرة. بعضُ حواراتنا وتفاصيل لقاءاتنا المباشرة، في كلِّ مدينةٍ التقينا بها، مسرودةٌ بحميميةٍ تؤجّجُ مشاعري، لا أمِلُّ إعادةَ قراءتها. لاحظتُ، عبر يومياتها، كيف كان حبُّنا يكبر ويكبر، وكيف تحوَّلَ عشقاً عملاقاً يفترسنا يوماً بعد يوم! كانت حنايا تُعلِّقُ على كلِّ ما يدور بيننا بصراحةٍ ورقّةٍ مذهلتين، تُفضِي أحلامَها وآراءَها بشفافيةٍ وصدق، أوّلاً بأوّل!

ثمّ توقّفتُ سريعاً عن التجديف في صفحات الأربع السنوات الأخيرة، لأني فقدتُ متابعةَ خيطِ يومياتها وأنا أنطُّ هكذا بضعة سنوات إلى الأمام: اختلفتْ حياتُها وهمومُها اليومية كليّةً عمّا كانتهُ في السنوات الأولى التي قرأتُها. ظهرتْ أسماء وشخوص جديدة لم أرصد بدايات دخولها في ملكوت حياة حنايا. بعضها بدأ يُهمُّني (أو بالأحرى، يُغيظني جدّا!) لأنه يُغازل أو يَتغزَّلُ بحناياي! عدتُ القهقرى لأواصل قراءة يومياتها من حيث توقّفتُ في المجلد الأول، لأرى بتدقيق بدء ظهور كلِّ اسمٍ جديدٍ مُغرمٍ بمعشوقتي وأتابعَ تطوُّرَ علاقتِهِ بحنايا أوّلاً بأوّل. أردتُ هكذا أن أشاهدَ السيرورة الخطيّة لِفيلم حياتها كاملاً، دون استعجالٍ أو تقفُّزٍ ولهث.

في مساءِ خامسِ أيّامِنا في فينيزيا شرعَتْ حنايا بتلخيصِ ما وصلتْ إليه وهي تتابعُ تطوّرات عوالم ح.ا الافتراضية. لم أكن مكترثاً في الحقيقة بسماع ذلك. لم يعُدْ للسيرة الذاتية للآلهة قيمةٌ كبيرةٌ الآن بالمقارنةِ بالسيرة الذاتية لهذه التي تملأُ وجودي عشقاً وسعادةً وقُبَلاً قاتلة. أفضِّلُ قراءةَ يومياتها، أجدُ فيها حميميَّةً ولَذَّةً متزايدتين، وإن تَلوَّتْ في أعماقي أثناء القراءة، بين الحين والحين، مشاعر غريبة، لم تساورني من قبل، لها في الغالب نكهةُ الغيرة!

(3)

تُلخِّصُ لي حنايا ما وصلتْ إله وهي تتقدّم في برنامج ح.ا. شرحَتْ لي أن قرى وأشباهَ مدنِ العوالم الافتراضية انتقلَتْ، بعد تقديمِ عجلةِ الزمن في ح.ا، باتجاه بداياتِ حياةٍ حضريَّة: صار الإنسانُ يُجيدُ صناعةَ بعض الحِرف، يُمارسُ الاصطيادَ بمهارة، يُطوِّر أساليب مواصلاته، يستثمرُ اكتشافهُ لِلنار، يتعلَّمُ من مدرسةِ الحياة يوماً بعد يوم، يُخفِّفُ من أعباءِ ضنك العيش بفضلِ الاختراع: إبنِ ملَكَةِ الخيال، أدهشِ ملَكاتِ دماغِهِ الفريد. ثمّ هاهو يفتحُ صفحةً جديدةً من حياته مع اكتشافه للزراعة وبداية الحياة الحضريّة!

تتطوّر العوالم الافتراضية بشكلٍ سريعٍ مذهل حينها، يتغيّرُ الإنسانُ فيها بشكلٍ جذريّ، كما تقول لي حنايا! لم يعد يحتاجُ، كي يعيش، لأن يُقضّي حياتَهُ لهثاً وراء حيوانٍ مارق، أو لأن يتضوَّر بحثاً عن كلأٍ شحيح! هاهو يستقرُّ قربَ مزارعِه وحقولِه، يُروِّض الحيوانَ ويحوِّلُه أليفاً، يُشيِّدُ المُدن، يستلقي على ظهرهِ، عاقداً رُكبةً فوق أخرى باطمئنان وخدرٍ ودَلال، يُفكِّرُ ويُنظِّر، يُغنّي بِطَرَب، يُمارسُ الفنونَ ومختلفَ أشكالِ التعبيرِ عن أحاسيسِه ورغباتِه، يُهيمنُ على الكون أكثر فأكثر بقوّةِ خيالِهِ وعبقريّةِ اختراعاته واكتشافاته!

تَغيَّرَ مفهومُ الآلهةِ في دماغِ الإنسان مع هذه التطورات رويداً رويدا! لم يَعُدِ الحيوانُ مثارَ إعجابِه كما كان سابقاً، لم يَعُدِ الحيوانُ إلاهَه! صار إلهَ نفسِه! زاد إعجابُهُ بذاته أيضاً بعد أن أصبحَ ملكَ الكون، مُشيِّدَ المدن، قاهرَ الحيوان، القادر على تدجينه وتربيته واصطياده وإسقاطه في فخاخه وحبائله. صار حفيدُ توماي وأوروران ولوسي يعشقُ نفسه بنرجسيّة، يشعرُ بقيمتهِ الفريدة واختلافهِ عن بقية الكائنات: يبني لِموتاه الأضرحة، يضعُ قربهم الورود والهدايا. أعطى الإنسانُ حينها، كما لاحظتْ حنايا وهي تتجوَّلُ في كلِّ أصقاع العوالم الافتراضية، لِلآلهة شكلَهُ هو نفسَه بعد أن صار امبراطور الكونِ وبانِيه! أنْسَنَها تماماً: تحوّلَتْ تماثيلُ الكاميرياء التي نحتَها في كلِّ مكان، شيئاً فشيئاً، إلى أصنام إنسانية: الأجنحةُ انقلبت إلى عضلات ضخمة، الذيلُ إلى عرش، الشعرُ الكثيفُ إلى تاج. جعلها تُراقبُ وتسيِّرُ حياته الأرضية، وتُهيمنُ في نفس الوقتِ على «عالمٍ آخر» أثَّثهُ كما يحلو له: جنّاتٌ تُثيرُ دهشتَهُ وأحلامَه، تكتظُّ بأنهار اللبن و«السَّمن الجبليّ» وكثبان الفاصوليا (في معتقدات البقاع الافتراضية التي يسيل لعاب أهلِها أمام اللبن و«السَّمن الجبليّ» والفاصوليا)، بِجبال الكافيار و«كبد البطِّ المسمّن» وأنهار النبيذ والشمبانيا (في معتقداتِ بقاعِ هواةِ هذه المآكل والمشارب)، وهلمَّ حُلماً. لِتُبرهنَ ذلك، أرتني حنايا على الشاشة آخر تطوّرات القرى الافتراضية التي كانت تعيش في عصر ما قبل الزراعة عندما درسناها معاً قبل بضعة أيّام. هاهي قد تحوَّلتْ الآن إلى مدن حضريَّة متينة، بعد مرور بضعة آلاف السنين في عجلة زمن ح.ا! ذُهلتُ فعلاً وأنا أرى الأصنام الإنسانية تؤثِّثُ كل بقاع العوالم الافتراضية، تملأ الأرض، تختلف من أقليمٍ لإقليم. تمثال الإله في بعض البقاع أمٌّ ضخمةٌ بثديين هائلين يتناثر حولها الأطفال مثل الجراد. تمثالهُ في بقاع مجاورة أبٌ قويٌّ ذَكَرُهُ أبديُّ الانتصاب.

ثمَّ أرتني حنايا كيف أزداد دور الأديان في حياة الناس وكيف تحوَّلت إلى مؤسسات رسميّة، تعجّ بالكهنة، مع تحوّلِ المدنِ الافتراضية إلى ممالك! تسلّلتْ الأديان حينها، وتسرّبتْ وولجتْ وانغلَّتْ واخترقتْ كلَّ شيء: كلَّ أوجهِ العلاقات والطقوس الاجتماعية، الشرائعَ والأخلاق، تفسيرَ كلِّ الظواهر الطبيعية، توطيدَ مصالح الحاكم والحديث بإسمه. دُهِشتُ من جديد (رغم أني كنتُ أودُّ أن تتوقَّفَ حنايا لأواصل قراءة اليوميات) وأنا أرى مفهومَ الأرواح والآلهة يملأُ حياةَ البشر أكثر من قبل! هي الآن في كلِّ مكان لتهذيبِ الإنسان بالحديد والنار، لِتنظيمِ العلاقاتِ الاجتماعية، تعاقبُ أبداً، تقبَلُ الأضحيات والهدايا، تبيدُ كلَّ من يعصي أوامرها.

لاحظنا، حنايا وأنا، تنوُّعَ الأديان من منطقةٍ لأخرى في هذه العوالم الافتراضية التي صارت أكثر اتساعاً وتعقيداً: الآلهةُ، في المجتمعات المدنيّةِ الزراعيةِ الخصبة، شديدةِ الحضريّةِ والتطوّرِ الفكري، منظومةٌ تعدُّدية تعيش في أبراج عاجيّة أو في قمم جبليّة، لها برلماناتها وتفاعلاتها وحواراتها وأمزجتها وحياتها الخاصة التي لا تختلف كثيراً عن حياة بني البشر. هي في المناطق الصحراوية الجافّة تميل أكثر فأكثر للوحدانية والتفرُّد واللانهائية واللون الصحراوي الواحد. لكن، في كلِّ الأحوال والأقاليم، جوهرُ كلِّ الأديان وبرنامج عملِها واحدٌ لا يتغيَّر: تأثيثُ عالمٍ آخر للحياةِ بعدِ الموت؛ تصميمُ مفهومٍ للآلهة يملأُ حياةَ الإنسان ويوجِّهُ سلوكَه، يُسيطرُ على مشاعره، يُخيفُه ويُخضعُه؛ تثبيتُ ثقافةٍ تقتحمُ أسسَ تربيتهِ ورؤيتهِ للعالم منذ ولادته، تحدِّدُ وتنظِّمُ حياتَهُ الأرضية على إيقاعِ الخوفِ من السماء.

قالت لي حنايا إنها ستتابعُ الآن دراستها للعوالم الافتراضية في الأربعة أو الثلاثة ألف سنة الأخيرة! عبّرتُ لها عن إعجابي الشديد بخلاصاتها، تمنيّتُ لها حظّاً سعيداً، قبل أن أغرق من جديد في بقيّةِ يوميّاتها بِلهفةٍ وشغَف. استراحةٌ عاشقةٌ، قبل ذلك، كافَأْنا خلالها جهودَنا الفكريّةَ بِلذَّاتٍ جسديّة بدأَتْ تزدادُ طولاً وتنوَّعاً وقتلاً. أضحى لنا في هذا المضمار تقاليدٌ نحرص على الوفاءِ لها، على تطويرِها وتقديسِها أبداً، على استخدامِ الخيالِ والبحثِ لتكون أكثر رعشةً وكثافة. حنايا، مثلي، تعشقُ العطاء والبحث والحريّة والدهشة! لعلّنا بفضلِ ذلك نتقدَّمُ في عِشقنا بسرعةٍ مذهلةٍ خارقة.

(4)

ثمّ تغيّرتُ كثيراً وأنا أقرأ يومياتها في سادس أيّامنا في فينيزيا! صرتُ انتقائياً جدّاً: أنطُّ فوق بعض فقرات أحاديثها وذكرياتها مع بعض أصدقائها لاسيما الإناث منهم، أقفزُ فوق كثيرٍ من مهامها العمليَّة والمهنيّة، أختزلُ وأُسرعُ في تصفُّحِ بعضِ الخواطر (وإن كانت تهمُّها أحياناً، أو تعيدُ لها ذكريات جراحِ طفولتِها!) لكني بالمقابل أتوقَّفُ بدقَّةٍ وتمعن وكثب عند أسماء أهمِّ أصدقائها، لاسيما الذكور منهم، المتكررةِ هنا وهناك! أعيدُ القراءة مرّات ومرّات لِمراسلاتها مع بعضهم محاولاً أن أكتشف بلصوصية، إذا جاز القول، شيئاً ما بين السطور! أحاولُ تقديرَ وتخمينَ مدى تواجدِهم وأهميّتِهم في حياتها! أرتجفُ وأغيرُ عندما ألاحظُ أن بعضاً منهم يراها في هذه الحياة أكثر مني، إذا ما حسبتُ عدد ساعات رؤيتهم لها! تذكّرتُ فجأة أني لم أُبْلَ بالغيرة منذ الأزلِ تقريباً! لم تعتريني الغيرة منذ معاشرة فردوس إلا قليلاً جدّاً! ليس لأني لم أهب فردوس، منذ بدء تعارفنا، كلَّ ما أستطيعُهُ من عشق، لكن لأني لم أحتج معها للغيرةِ تقريباً، لأني صرتُ، منذ فجر علاقتنا، أوّلَها وظاهرَها، آخرَها وباطنَها! ولأنها صارت، منذ بدء حبِّنا، تدورُ في فلَكي، تُسبِّحُ لي وحدي، لا تُفَكِّرُ إلا بي، ربّها الأوحد!

آه، فردوس! لماذا أهملتُها الآن، لماذا لم أعد حتّى أتذكَّرُها وأنا أغوص في ثنايا يوميَّات حنايا وتفاصيلها اللامتناهية؟ لماذا ودَّعتُها ببرودٍ قبل ستة أيّام وكأني أودِّعُها إلى الأبد؟ خطرَتْ بِبالي عبارةٌ قرأتُها ذات يومٍ في روايةٍ لم أعد أذكُرُها: «الإلهُ ألغى تعاقُدَهُ مع الحَمَلِ ليُعيدَ اعتبارَهُ للريح!» ألذلك ألغيتُ تعاقدي مع حَملي الوديع، فردوس، معبودتي الوحيدة طوال ثلاثة عقود؟ أم لأني صرتُ أتماهى بالآلهة أنا نفسي! مثلها، لم أعد أكتفِ بعشقٍ واحد، بل أريد كل عشقٍ لي وحدي!

شعرتُ بالغيرة لأني وجدتُ نفسي حبّةً صغيرة في مسبحة علاقات حنايا! أردتُ هكذا أن تتمحورَ كلُّ حياتها حولي! أن أكون مركزَ كلِّ ثانيةٍ في حياتها! اللعنة! استولتْ عليّ فجأة رغبةٌ في امتلاك حنايا مثلما امتلكتُ قبل ذلك فردوس. أردتُ أن أطوِّقَ حنايا في مجالِ جاذبيَّتي وحدي لا شريك لي، أن أكون بالنسبة لها الكلَّ في الكل، الواحد الأحد، الفرد الصمد! موجةٌ عارمةٌ من الغيرةِ تجتاحني أكثر فأكثر ونحن نسبَحُ كلّاً في فلكِه (هي في برنامج ح.ا للتجسّسِ على تاريخ الآلهة، وأنا في تفاصيل يوميّاتها للتجسُّسِ على تاريخها): صرتُ أتحسَّسُ من سماع رنَّةِ أي إس.إم.إس يصل تلفونها، أفزُّ أحياناً! يصلها سبعون إس.إم.إس يوميّاً، ربما! وعددٌ شبيهٌ من الايميلات، في أغلب الظن! تساءلتُ: كيف يمكنُها أن تتذكَّرَ عبارات رسائلي وايميلاتي وإس.إم.إساتي (مثلما أحفظُ كلَّ ما تكتُبُهُ لي عن ظهر قلب) بين جحافل هذه الإس.إم.إسات والايميلات والتلفونات التي تصلُها، بِغَضِّ النظر إن كانت لأغراض مهنيّةٍ أم لا، إن كان مصدرُها صديقاً أو صديقة! أتساءل دوماً: ماذا لو وصلَها الآن إس.إم.إس رقيقٌ عاشق يُدغدغُ أحاسيسها فعلاً، يستأثرُ وجدانَها، يجعلُها تنساني بضع لحظات، أو تَركُلُني قليلاً إلى الخلف.

هكذا التهمتني الغيرةُ وأنا أتقدَّمُ في يوميّات حنايا، رغم أني لم أجد في كلِّ ما قرأتُهُ غير علاقات زمالات أو صداقةٍ ومعزّةٍ لا غير! لم أجد في حياة حنايا علاقةً واحدة يمكن تسميتُها حبَّاً! لعلَّها بعد «سلطان الصغير» أغلَقَتْ، كما يبدو ولأجلٍ غير مسمّى، كلَّ بابٍ للغرام! كلّما واصلتُ القراءة كلّما وجدتُ نفسي أحترقُ غيرةً أكثرَ من قبل من بعض الأسماء المحدَّدة المتكررةِ كثيراً، لِمجرّد ملاحظتي أنهم يرونها طويلاً أحياناً، أو لأني أيقنتُ أن عدد ساعات لقائهم بها تتجاوز فعلاً ساعاتي بكثير، أو لأن بعضهم «تجرَّأَ» (أستخدمتُ، دون خجل، هذه الكلمة في حواري مع نفسي) على مغازلَتَها! كثيرون، كما رأيتُ في أعطاف يوميَّاتها، غازلوها عبر الايميلات والرسائل والإس.إم.إسات. تغزَّل بها أيضاً كثيرون آخرون وأحبُّوها أحياناً. بديهيٌّ ذلك بطبيعة الحال: هي خارقةُ الجمال، متميّزةُ الروعة. لكنّها لم تهتم بأحدٍ حقّاً! أكتفَتْ بتجاهُلِهم ليس إلا! تُعلِّقُ حنايا في يوميّاتها على ذلك قائلة: «أمقتُها هذه الايميلات والرسائل والإس.إم.إسات! لا أدري ماذا عملتُ في هذه الحياة لأُبلى بها! يعلمون أني لا أُلوِّحُ بأي مظهر إثارة، لا أبحثُ عن حب، لا أهتمُّ بمغازلتهم إطلاقاً. لماذا يعاملوني هكذا؟ لماذا لا يحترمون مشاعري؟» وتقول في تعليقٍ آخر: «كم أشعر بالغيظ! صرتُ أبكي بمرارة عندما تصلني أيّ رسالةٍ كهذه، تجعلني أشكُّ من سلوكي، من حركاتي، من نفسي!»

لاحظتُ بنوعٍ من عدمِ الرضا، إن لم أقل بشيءٍ من الغضب، أنها لم تكن صارمةً قاسيةً معهم كما كنتُ أفضِّل! تساءلتُ: لماذا اكتفتْ بتجاهلهم؟ لماذا لم ترفضهم بضراوة؟ ثمّ ازداد غيظي وأنا أواصل قراءة سلسلات المغازلات العنودة للمراهقين البلهاء الذين لا يملُّون انتظار ردودها (التي لن تصلهم مدى العمر)؛ للدونجاوانيين من ذوي النفوس الكسيحة الذين يعتقدون بشكلٍ مثيرٍ للغثيان والسخرية بأنهُ يكفي أن يواصلوا رسائلهم الصلفة عبر الأثير لِتسقط حنايا «في الجيب»، عاجلاً أم آجلاً؛ للحالمين من كبار المحرومين الذين أرثيهم وهم يضيعون لياليهم هباءً في الشوق إليها لم أقبلْ، أكثر فأكثر، أنّ حنايا لم تكن قاسيةً معهم جميعاً بشكلٍ جليٍّ ساطع، وأنّها اكتفتْ بتطبيقِ «نظريّة التجاهل» وتركتْهم يستمرّون بانتهاك حريّتِها وهدوءِ مشاعرِها، وأنها لم ترفضْهم جميعاً بِضربةِ سيفٍ واحدة! فقاقيعُ سوداء من رواسب نفسي الجوفية تصعدُ نحو السطح! شياطين الغيرة تقهقه في خرائب روحي الداكنة. تذكَّرتُ فجأةً عبارةً صادفتُها في نصٍّ قديم: «إلهُ الغيرةِ لا يريدُ أن نعشقَ بعض! يريدُ كلَّ العشقِ لهُ وحده!»

(5)

تدعوني حنايا لِشرحِ ما توصَّلَتْ إليه من نتائج وهي تخوضُ في تمثُّلاتِ برنامج ح.ا. أوقفُ قراءتي بمضض. أسمعُها بِنصفِ أُذْن. لديَّ كثيرٌ من الأسئلة، حول يوميّاتها، أحبُّ دحرجتَها قبل مواصلة السيرة الذاتية للآلهة! تقول:

ـ قدَّمتُ عجلةَ الزمن في تمثُّلات برنامج ح.ا. قليلاً إلى الأمام. العوالمُ الافتراضيةُ تصلُ الآن عصرَ الكتابة، ثورة لا تقلُّ أهميّةً عن ثورةِ الزراعة! الدماغُ البشريُّ يزخرُ بفضلِها بِملكَات ذهنيّةٍ تجريديّةٍ راقية، تُغِيِّرُ حياتَهُ ونظرتهُ للوجود. هاهو الآن يستخدمُ آخرَ أعظمِ اكتشافاته: الرمزَ المجرَّد، الحرف! يُخلِّدُ تفكيرَهُ على الورق بوسيلةٍ تجريديَّةٍ عبقرية: الأبجدية! يبدأ أبدعَ وأعلى مراحلِ حياتِه: عصر الكتاب! الكتابُ هو الانتقالُ من الشفهيّ المنسيّ المؤقت، إلى الذاكرةِ الجماعية المخلّدة، إلى الثابتِ الذي لا يتزحزح، إلى المطلق. الإنسان لم يعد يحتاج الآن إلى اللغة التصويرية المرئية البدائية لنقشِ أفكاره عبر الرسومات والأيقونات والتماثيل. انتقل من المرئي المباشر نحو اللامرئي المجرّد، انتقل من الفاني إلى الخالد. إلهُهُ أيضاً لم يعدِ الصنمَ المرئيَ الذي يُمكنُ أن يُكسَر، لم يَعدِ الشمسَ المرئيّة التي لا تفكِّرُ ولا تَكْتُب. إلههُ صار بِمقامِ عصرِهِ الجديد: مُطلَقاً، مُجرّداً لامرئياً، يُمطِرُ كتباً ومصاحف. إلهُهُ الجديدُ وُلِد مع الأبجدية وبالأبجدية.

تُضيفُ حنايا، فيما أنتظرُ أن تقتضبَ أو تتوقَّفَ لأُزَحْلِق أسئلتي حول يوميّاتها:

ـ لاحظتُ وأنا أراقب ح.ا أن اختراع الكتابة في العوالمِ الافتراضية حدثَ في ممالك تراتبية عريقة وحضارات قديمة تقعُ الصحراءُ في قلبِها أو على تخومِها! الإلهُ الذي اندلعَ منها كان وحدانيّاً لانهائيّاً مثل الصحراء، لهُ رتابةُ لونِها، لاحدودَ لِتواجدِهِ ومُلكِه، يضربُ متى ما أراد، كيفما أراد. يَعِدُ لمن يؤمنُ به ويُطيعهُ بالواحاتِ والجناتِ الخضراء الممطرة التي تُسِيلُ لعابَ ابن البادية. في عوالم ح.ا الافتراضية ظهر هذا البطلُ الخارق، الذي سيكتسحُ وسيُكنِّسُ بالسيف (وبفضلِ الكتابِ قبل ذلك) ما سبقَهُ من آلهة، لِيُلبِّي في نفس الوقتِ حاجةَ قبيلةٍ مطرودةٍ من ديارها، كُهّانُها أساطين في اختراعِ الأساطير. لِيُحافظَ الكهنةُ على هويَّةِ قبيلتهم المشرّدة خلقوا لهم تاريخاً وأصولاً أسطوريّةً تُوحِّدُ شتات قبيلتَهم المطرودة التائهة، تُوهِمُها بأفضليّتها العِرْقيّة. صمَّموا صورةً كاملةً للوجود أدّعوا أنها الحقيقة الحقّة، وضعوا في مركزها إلهاً مطلقاً مُجرَّداً لامرئيّاً، موجوداً في كلِّ مكانٍ ولحظة، في المادةِ والفراغ، في الشيء واللاشيء، يتكلّمُ كلَّ اللغات، يعلمُ السرّ والجهر، يخلقُ المصائر، يستطيعُ أن يدَمِّرَ الكونَ بلمحةِ برق وأن يخلقَ مليونَ كونٍ مثلهُ بأقلِّ من ثانية. صمَّموهُ بهيئةٍ عبقريّةٍ كاملة تستقطبُ كلَّ المنظومات الاستنباطية في الدماغ، تُذهِلُها وتأسَرُها وتُرهِبُها بشكلٍ كليٍّ مثاليّ.

(6)

قاطعتُها قائلاً: كلُّ ذلك مهمٌّ جدّاً، ممتعٌ جدّاً! أرغبُكِ بِقوّةٍ الآن، عِشقِي!

قبَّلتُها بعمق، خلعتُ ملابسنا، هي مثلي تماماً لا تملُّ توحُّدنا! لم أفضّل مع ذلك أن نتوحَّدَ ودماغي مشغولٌ بالأسئلة التي أودُّ تسريبَها حول اليوميات. ستشعرُ حينها أني معها وبعيدٌ عنها في نفس الوقت. قلتُ لها بعد عناقٍ طويل:

ـ أذهلَتْني يوميّاتك، بُنْيَتُها، أسلوبُها، خصوبتُها!

نظرتْ نحوي بتمعُّنٍ واستنفار! كرَّرتُ:

ـ أحبُّ عالمكِ، تجذبني اهتماماتك وأخبارك اليومية، أتمنى أن أرى أصدقاءكِ، أن أندمج بمحيطكِ يوماً! أسعدَتْها عبارتي، لكنها لم تبتسم. أنتظرَتْ أن أواصل، وكأنها شعرتْ أني أريد أن أقول أشياء أخرى. أضفتُ:

ـ لاحظتُ أيضاً أن عُشّاقَكِ كثيرون!

أحمرَّتْ بشدّة، انكمشتْ وتقوقعتْ، أرتعَشَتْ، صارت بين أحضاني قطعةَ ثلج، ظهرتْ تجلطاتٌ غريبة وندوباتٌ ميكروسكوبيةٌ مفاجئة على بشرتِها اللميسة. نسيتُ أنها شديدةُ الحساسية، وأنها الآن، بعد سماعِ هذه العبارة، مثل فراشةٍ أسفل عجلات مجنزّرةٍ حربيّة! شعرتُ أنها لم تفهمني! حاولتُ إصلاح هفوتي. أقسمتُ لها أنها عبارةٌ طيّبة أقولُها لكثيرين ممن أحب، لِأُعبِّرَ لهم عن إعجابي بخصوبةِ علاقاتهم الاجتماعية. هي مدحٌ خالص، لأن عكسها: «لا يعشقك أحد!» أسوأ شتيمةٍ يمكن توجيهها لابن آدم! أقسمتُ لها أن ذلك ما أعنيه بالضبط. مازالت باردةً كقطعة ثلج، ترتعشُ في أحضاني، وأنا أعيد شرحي وقسمي مرّةً تلو أخرى. بعد أن هدأتْ قليلاً واقتنعتْ بصدق ما أعنيه، قالت لي إن تلك الرسائل تزعجها، تؤلمها، وأنها صارت تبكي قهراً عند وصول أيّ رسالة من ذلك النوع (كما قرأتُ في اليوميات). سألتُها:

ـ لماذا لا توقفي كلَّ مُغَازِلٍ منهم بعد أوَّلِ رسالةٍ له؟

قالت:

ـ أفضِّلُ أن أتجاهلم باستمرار! ينتهون دوماً بالخيبة والإحباط، يتوقَّفون لوحدِهم كما أثبتَتْ التجربة!

ـ ربما كان ذلك الحل المناسب في بلدان كعُمان واليمن. أفهمُ أن المرأة هناك لا تحب كشف مغازلةِ الرجلِ لها حتّى لا يَنظر لها الآخرون بشك، بسبب النفاق العام هناك، والاتهام الديني لها بصناعة المكائد العظيمة! لكن هذا يُعتبرُ هنا انتهاكاً للحريّة الشخصيّة، ويمكنك بسهولة أن تقولي: لا، دون تخوّف!

ـ هذه طريقتي! أفضِّلُ التجاهل! هكذا أنا.

ـ سيبدو لهم أنك لا تملِّين قراءةَ رسائلهم! سيواصلون، سيَحْلَمُون. أخاف أن يظنُّوا أنك تستطيبين هذه اللعبة!

ـ ليظنُّوا ما يريدون!

ـ لكنك مضطرّة أن تقرأي أشياء لا تحبيها، مع ذلك. ليس ذلك طبيعيّاً!

ـ أعرف ذلك، أفضِّلُ تجاهلَهم في كلِّ الأحوال! لا أحب الدخول بحوارٍ معهم حول رسائلهم في أيِّ لحظة.

ـ أخاف أن يشعروا أنك تقرأينهم ببهجةٍ ما!

ثمّ أضفتُ لأُحمِّسَها على رفضِهم سريعاً:

ـ أو لعلكِ وقعتِ بلا وعي في فخِّ هذه البهجةِ الماكرة!

صمتٌ عميق! تنظرُ حنايا نحوي بأعين لا تُصدِّقُ ما سمعَتْهُ مني. تنهضُ من السرير بغضبٍ صامت. تتركني عليه وحيداً. ثمّ تقول:

ـ أنت شكّاكٌ، استفزازيٌّ، مُرعِب!

(7)

ثلاثة كلمات مجرمة، بِنبراتٍ عنيفة، لا رجعة فيها! صعقتُ، لم أستطع أن أنبس بِكلمةٍ واحدة، بِحرفٍ واحد، من هولِ الصفعة! لم أسمع شتماً لي كهذا، ولو مرَّةً واحدة! صدَمتني هذه المفارقة: من أعشقُها في الوجود أعظمَ عشقٍ تصفعني أكبر صفعةٍ في حياتي! لا أدري كيف وماذا أَرُد! ليس لي أي صاعٍ أو باعٍ في علوم الصراعات الزوجية! لم أعرف مع فردوس إلا النعمة والدلال الدائم. العباراتُ الحادّة والشتمُ المفاجئ ليسوا من مفردات قاموسها! شعرتُ بالعجزِ والضعفِ والانهيار!

انبطحتُ على بطني في السرير هامداً خامداً، ظهري ومؤخرتي العارية تواجهُ سقفَ غرفةِ الفندق! يتلوّى داخلي وحشٌ جريح. لو كنتُ أعرف البكاءَ لانهمرتُ بكاءً لِأنجو من الاختناق! (أنا مثل أمي، كما قلتُ سابقاً، تُدمي دموعي في الشروخ القعريّة لِنفسي الجريحة، بعيداً جدّاً عن المُقْلَتين!) صمتٌ كئيبٌ يلفُّني كَلَحْد. غِبتُ في ظلمات الخيبةِ مقهوراً، مصدوماً!

هذه الفتاةُ الرقيقة، ذات الأخلاق الرفيعة، تستخدمُ فجأةً لُغةً مباشرةً، قاسيةً، سوقيَّةً إلى حدٍّ ما، تقتربُ من البذاءة! لعلَّها بسبب ماضيها بالتأكيد، بسبب المناطق الموبوءة في نفسها جراء صراعاتها مع «سلطان الصغير»، بسبب القصر، تعتورُها حساسيةٌ مرضيَّة إذا ما لاح خلافٌ ما في الأفق، أو أقتربَ الحديثُ من تخومِ الغيرةِ والشكوكِ الذكوريّة! تتحوّل «نَمِرَةً» بشكلٍ مباغت، كما قال «سلطان الصغير»! تخدُشُ بمخالب مؤلمة، لمجرد شمِّها لروائح «التشكيك والاستفزاز»، حسب تعبيرها! في غياهب انبطاحي توقَّعتُ أن تُشفقَ بي حنايا! أن تُمرِّرَ أصابعَها على ظهري لأخرج من الصدمة! أن تُدلِّلَني قليلاً! تعوَّدتُ كثيراً على ذلك بفضل ثقافة فردوس التي يكفي أن تراني مغموماً، باهتاً، «مُكَعْنَناً»، لِتُزيل نكدي بعشقٍ وحنانٍ ومنهجيّة. لا أسمع حولي صوتاً يُناجيني عن قرب. لا أشعر بِلمسةٍ رقيقةٍ في ظهري، أو قُبلةٍ قرب أذني، أو نَفَسٍ عطريٍّ يُدغدغُ خياشيمي. لا تقترب مني حنايا بشفقةٍ وحِنِّية. تتركني هكذا في العراء كما يبدو. أتألم بشكلٍ حادٍّ شنيع. لا شيء في الحياة أكثر خنقاً وفتكاً واستنزافاً وإبادةً من صقيع هذا العراء.

لا أدري كم مرّ من الوقت وأنا أنزف في غياهب انبطاحي. ثمّ بدأتُ أهدهدُ نفسي لوحدي لأوّل مرّة، أهدأُ قليلاً. حاولتُ ترتيب أفكاري لاحتواء الأزمة! ما أصعب ذلك لمن أعتاد مثلي على تهدئةٍ رومانسيةٍ ناجعة من ساحرةٍ كفردوس! بدأتُ أنظِّمُ الكلمات التي سأقولها للخروج من أول أزماتنا، أأخذُ الوقت اللازم لِصياغتِها وسبكِها وترديدِها. ثمّ همستُ بها بصوتٍ خطيٍّ سائل، كلُّ نبراتِهِ صدقٌ وإخلاص:

«عِشقي! أنا لستُ خصماً لِتتحدَّثي معي بهذه اللغة! أنا عاشقُك الأبديّ لا غير! أنا أنتِ، وأنتِ أنا! علِّميني دوماً إذا كنتُ خاطئاً! أشرحي لي كلّ شيء، سأتعلم منك ما تريدين! علِّميني مليون شيءٍ في هذه الحياة! لكن دعيني أعلِّمكِ شيئاً واحداً على الأقل: عندما نختلف على شيءٍ ما، يلزمنا أن نتعانق بقوة! «العناق هو الحل!»، هكذا تُحلُّ الخلافات بين العاشقين! عانقيني الآن دون تأخر! عانقيني بقوّة! أسألك ذلك باسمِ عظمةِ عشقِنا وصدقِه!

همستُ خطابي بصوتٍ حميميٍّ يفطر القلب. شعرتُ أنه يصعبُ أن يقول المرءُ كلمات أكثر غراماً ورقّة لاحتواء أوّل نزاعٍ له مع معشوقته الخالدة! لم تسقط حنايا، رغم ذلك، في فتنة عباراتي. لم تُعلِّق أو ترد بحرف. لأنها لم تكن موجودةً قربي. حملَتْ حقائبها وغادرتْ الفندق وأنا في طيّات انبطاحي وهذياني. تركتني أتلوّى ككلبٍ جريحٍ فوق سرير الغرفة!

اللعنة! حنايا نَمِرةٌ مباغتة فعلاً! ملاكمٌ يوجِّهُ اللكمةَ القاضية لِلخصم قبل رنّةِ جرسِ بدءِ المباراة. ثمّة ضعفٌ وخوفٌ قرير في كلتا الحالتين! تعلََّمَتْ من ثقافةِ القصر والصحراء أن «المنتصر هو الذي يبدأ بِطعنِ خصمِه في الظهر ويهرب»! أدركتُ أخيراً كارثيَّةَ أزمةِ حنايا: القصرُ بعبعُ حياتِها الأبديّ! استفاقت كلُّ ذكرياته الآسنة لمجرد خلافٍ بسيطٍ في وجهات النظر طرأ بيننا، لمجرّدِ عبارةٍ ملتويةٍ قُلتُها بحسن نيّة. ثمّة عذاباتٌ حاصرتْها منذ الطفولة تخنقُها من جديد. لم تعِ بعدُ حتّى الآن أننا نحيى في عالمٍ لا علاقة له بِقصرِ طفولتها وجراحِهِ النفسيّة العميقة! أعرفُ أنها مفرطة الحساسية لكني لم أتوقّعها بهذه الدرجة المرَضِيّة! مسكينةٌ حنايا، كسيرةٌ خائفةٌ سوداويّة، بِقناع نَمِرةٍ لا غير! ستظلُّ أبداً محاصرةً بسلاسل ثقافة القصر وذكرياته، توزِّعُ الآخرين في «خاناته»، ستظلُّ أبداً ضعيفةً منكسرة، وإن لوَّحتْ بين الحين والحين بمظاهر القوة والتمرّد! أخذتُ تلفوني من المنضدة الصغيرة المجاورة للسرير لأتصل بها سريعاً، لأعتذر لها عمّا سبّبتهُ لها من ألم كي تعيَ في الحال أني رغم عيوبي لستُ سلطان الصغير، لأُردِّد لها العبارات السحريّة التي انبثقتْ وأنا في أغوار انبطاحي وأوجاعي كي تعودَ إثر سماعها في الحال!

رأيتُ إس.إم.إسين في علبة بريد تلفوني، كتبَتْهما وهي في طريقها للمغادرة.

إس.إم.إس 1) غادرتُ لأني لا أحتملُ أن أراك في نفس «خانةِ» سلطان الصغير! تلومني مثله، بنفس لُغتِه! حرَّكتَ كلَّ ما هو آسنٌ في أعماقي، أيقظتَ كلَّ ما امقتهُ في الحياة! قرأتَ يومياتي بشراهة، كضابط استخبارات، رغم إدراكك أنها يومياتٌ شخصيّةٌ جدّاً! النتيجة: ها أنت تنبش جروحي القديمة، تستخدمُ نفسَ لغةِ صانعِ تلك الجراح: سلطان الصغير! ثمّ ماذا أعرف، أنا، عن يوميّاتك أنت الذي تتمشدقُ بالحديث عن ضرورة احترام مبدأِ «التماثل الهندسي»؟ لماذا لم تُحدِّثني عن يوميّاتك مرّةً واحدة وأنت تقرأ يوميّاتي بِنَهَم! لا أدري هل أحببتَ فتاةً يوماً قبلي، أو هل تحبُّ الآن غيري؟ هل غازلتَ قبلي؟ لم تقلْ لي هل طردتَ من غازلوك حالاً، هل اكتفيتَ بِتجاهلهم أيضاً، أم سالَ لُعابك فرحاً ونرجسيّة؟

وقعَ هذا الإس.إم.إس على جمجمتي كمطرقة، كسرَ لي عظمَ الكوع أيضاً! جعلني أصطدمُ مع نفسي، أسقطُ في بئر تناقضات حياتي إذا كانت فعلاً تناقضات! جعلني أُجرِّمُ ازدواجيتي التكاملية إذا كان فيها ما يستحقُّ التجريم! (برطمتُ وأنا أتذكَّرُ وجهَ ِديونيسوس، الإلهِ البوهيميّ الذي وُلِد مرَّتين، إلهِ ربطِ المتناقضات عند الإغريق: الموت والحياة، الإغريقيّ والأجنبي!) بدأت أشكُّ من ذاتي، من شرعيَّةِ بُعدَي حياتي اللذين لن أكون أنا بدونهما مع ذلك. هاأنذا لاشيء بدون حناياي! أردِّدُ: «عاملَتْني ككلبٍ وهربَتْ!». أشعرُ بالفشل الكامل! ألمٌ كليٌّ لا رجعة فيه، لم أعرفهُ يوماً من قبل، يدوسني، يعصرني، يطحنني. خاتمةٌ مثيرةٌ للرثاء والشفقة: أجد نفسي وحيداً في غرفة فندق دانييلي في فينيزيا، شخصٌ بلا وجه، لا يَستحقُّ أن تُضاء له شمعة واحدة!

سألتُ نفسي سؤالاً لم يخطر بِبالي لحظةً واحدة: بماذا أختلفُ عن سلطان الصغير إذن؟ ألم تقع حنايا في براثن سلطانٍ جديد أشدّ مكراً وجوراً من السلاطين المباشرين؟ كيف كان لي أن أنسى أن هذه الصغيرة، التي أعاتبُها لِكونِها لم تصرخ في وجهِ من غازلها، ذاقت الأمرّين في حياتها، لم تعشق أحداً قبلي، كانت عذراء قبل أيامٍ فقط! لماذا أسعدني بشكلٍ خاص أن تكون عذراء؟ هل انسلختُ فعلاً من ظلاميّة ثقافة طفولتي، أم مازالتْ أشباحُها تعربدُ في جوانحي؟ غضبتُ من حنايا لأنّها لم تشهر السيف بوجهِ من غازلها، بانتظار مجيء شمسان، نبيِّها الموعود! في حين كنتُ أنعمُ بِعشقٍ هادئٍ دام ثلاثين عاماً، دون أن ألوم نفسي على ذلك لحظةً واحدة. عشقٌ «بدأ وانتهى في فينيزيا» على حدِّ تعبير فردوس، مثلما بدأ وأنتهى أيضاً في فينيزيا عشقُ حنايا! عشقان يحتضران في نفس المدينة: أليس ذلك دليلٌ على احترامي الكليّ لِمبدأَ «التماثل الهندسي»؟ هاأنذا أخيراً وحيدٌ كما يليق بي أن أكون! وحيدٌ كحيوان، وحيدٌ كإله! (أرسطو: كي تحيى وحيداً، يلزمكَ أن تكونَ حيواناً أو إلهاً).

إس.إم.إس 2) تبحثُ بِشغفٍ منذ زمن عن معرفةِ تاريخِ الآلهة، فيما الإجابةُ موجودةٌ في جمجمتك، في بُنيةِ دماغك!: من ابتكرَها لهُ دماغٌ مثل دماغك، ينضحُ بالكلمات المبطّنةِ والوعدِ والوعيد، وهو يقولُ هذه العبارة: «أو لعلكِ وقعتِ بلا وعي في فخِّ هذه البهجةِ الماكرة!» التي لا تخطر إلا على بالِ أمكرِ الماكرين! لهُ دماغٌ مثلُ دماغِك، خلقَها لِتكونَ على شاكلتِهِ (لكن بحجم اللانهاية)، صمَّمها كما يريدُ أن يكونَ هو نفسُه: الكلَّ في الكلّ، المعشوقَ الأوحدَ للجميع في كلِّ ثانية، إلهَ الشعرِ والرياضيات، إلهَ الغِيرةِ والشك، عالمَ الأسرار وتفاصيل اليوميّات، عالمَ ما تكبتهُ الأنفس وما تُخفيه الصدور.

*   *   *

ملحق الرواية

بقية «تقرير كاشف الأسرار»

تواصل حناياي:

((ترميك هذه الهمسات الصوفيّة في تضاريس تناقضات والدك الذي كان توفيقيّاً بشكلٍ لا يخطر على بال! لعلّه استطاع أن يغرس فيك حُبَّهُ للذات العليا، لكنه لم يستطع منع استغرابك من شدّة توفيقيَّتِه وقبولِهِ لما تسرده الكتب الدينية دون نقدٍ أو تساؤل! يكفي أن تكون الصفحة الأولى من أي كتاب يقرأه شديدة التميُّز في التسبيح المفرط والحمد الكثيف للذات العليا والتغني العاشق بها، كي يقبل كلَّ ما تبقّى من صفحات الكتاب! تذكّرتَ عندما سألته في صغرك: «كيف يجوز تأليه كل صحابة الرسول، وتقديمهم كنماذج مثلى فيما لم يتوقّف بعضهم عن غدرِ وتدميرِ البعضِ الآخر، في حروبٍ تهدفُ الوصول إلى السلطة؟» كان ردّه قاسياً مؤلماً ومخيباً في نفس الوقت! كرَّر أمامك بيت شعرٍ من «الزُّبد» تُلزِمُك قبولَ ما جرى دون نقدٍ أو نقاشٍ أو تساؤل:

          «وما جرى بين الصحاب نسكتُ       عنهُ، وأجرُ الاجتهادِ نُثبِتُ!».

لم يكن والدُكَ سعيداً عندما كان يسمعُ منك مثل هذه التساؤلات الصغيرة! كان ذلك يخيفه ويستنفره! كيف لك إذن أن تبوح له بالتساؤلات الكبيرة، تلك التي كانت تعتوركَ إثر أحاديثك مع صديقك الحميم في المدرسة: «ج»، الذي كان ألمعيّاً موهوباً بشكل لا حدَّ له. سرد لك «ج» ذات يومٍ حواراً مجرّداً اخترعه لوحدهِ بين اثنين، «س» و «ص». «س» لا يؤمن بفاعل غيبي لهذا الوجود، و«ص» يؤمن بذلك. يقول «س» لِ «ص»:

ـ فرضيّتُكَ هي أن هناك فاعلٌ خارجي لهذا الكون، وفرضيتي أنه لا يوجد. إذا أردتني أن أؤمن بفرضيتك فأتني بدليلٍ ملموس لاقتنعَ به!

يردُّ «ص»:

ـ الفاعل الخارجي يأتي بالشمس من الشرق فأتِ بها من الغرب!

يُعلِّقُ «ج»: ما قاله «س» هو قاعدة سليمة للحوار. غير أن ردَّ «ص» يُخفي في نظري ثلاثة مغالطات فظيعة: 1) «ص» لم يأت ببرهان. كرَّر فرضيَّتَهُ وكأنها مسلَّمة (الفاعل الخارجيّ «هو» الذي يأتي بالشمس من المشرق!)، طاعناً بالقاعدة المتكافئة للحوار. 2) طلب من «س» (الذي لا يؤمن بفاعل خارجي) برهاناً لا ينسجم مع فرضيَّة «س»، بل ينسجم مع فرضيَّة «ص» هو نفسه، لأنه برهانٌ يتطلَّبُ تَدخُّلَ فاعلٍ خارجيّ! 3) علاوة على ذلك، طَلَبَ «ص» من «س» برهاناً يستحيل عليه تحقيقه هو نفسه، لأن قوانين الطبيعة والحركة في الكون غير قابلةٍ للمسِّ والتغيير!

تأرجحْتَ في طفولتك بين توفيقيّة والدك التنويمية وعدائه للتساؤل، وبين تساؤلات «ج» النابضة وتحليلاته المنطقيّة ورفضه للانصياع للردود التقليدية دون تمحيصٍ وجدل.))

لا تصدِّقُ ما تسمعه! كم نجح أبو الكشوف في الولوجِ إلى أقبيةِ ذاكرتك المطمورة الأكثرِ غوراً وظلمة! كم تعمَّقَ في التوغّلِ في قيعان دماغك، والقراءةِ لِما كان يعتمل في سريرتك وأنت في حضرته! تواصلُ حناياي. أصغي لها بذهولٍ كامل. دماغي مركِّزٌ على كلِّ ما تقولُهُ حرفاً حرفاً. حواسي ذائبةٌ في لمعةِ عينيها، جمالِ ثغرِها، شذاها الفاتن.

((تقاذفتك الأمواج المتلاطمة: الفاعل الغيبي يجتاح كل دماغك، يرعبك تماماً، يغريك كثيراً بما يَعِدُك به، يثير إعجابك بقوّته وجبروته وامتلاكه كل المقدرات، يستحوذك قلباً وقالباً. قصصه ومواصفاته تأسرُ دماغك على الدوام، تطمُّهُ طمَّاً. التفاعلُ معهُ يُغريكَ في كلِّ لحظة. ومع ذلك لا تتوقف عن التساؤل حوله، عن الشك بوجودِه! تتناسى كلَّ شكوكك به في لمحة بصر كلما شعرت بالخوف من مصيبةٍ تلوح في الأفق، أو من فاجعة متوقّعة: حربٌ أهليّة على سبيل المثال! تُقِرُّ فجأةً بوجود تلك الذات العليا كما لو لم تشك بوجودها لحظةً واحدة، تتوسَّلها، ترتجف في أعماقك طالباً رحمتها، تتلو لها في قرارة نفسك أجمل الأدعية التي تعلَّمتها في طفولتك. ترجوها أن تغفر ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر دفعةً واحدة، أن تُنهي مرض أُمِّك وتعافيها بأسرع وقت، أن تحمي أباك من أي مكروهٍ قد يصيبه في رحلته البعيدة، تتوسّلها أن توقف على التو هذه الحرب الأهلية التي تسحق مدينتك المسكينة، وأن لا تحلَّ على منزل عائلتك قذيفةٌ أو صاروخ في هذه اللحظة أو تلك. هكذا أنت، تتقرَّبُ، تنحني وتتضرَّع للذات العليا كلّما اجتاحك الرعب والهلع والحاجة!

الحقّ أنه لا يمكنك أن تتصوّر فاجعةً أو شقاءً يحلُّ بك أو بقريب أو عزيز دون «فاعلٍ» خفيٍّ يُقرِّر ويُخطِّطُ ويُنفِّذ ذلك. تتوسَّلُ ذلك «الفاعل» الشفقة، الرحمة، الستر. أنت تماماً مثل سائق التاكسي، جارك في الشارع، الذي يعزي دوماً عدد زبائنه اليومي إلى إرادةِ وبركةِ ذلك الفاعل. إذا ما كثُرَ عددُ زبائنه شكرَهُ على كرمه واهتمامه به، وإن قلُّوا لَامَه في قرارة نفسه على تفضيله لأحد منافسيه من السائقين ومنحهِ زبائن أكثر، سَأَلَه الغفران والمسامحة والرزق. يجدُ صعوبةً في فهم مدلول «الصُّدفة». لا يمكنه أن يتصوّر أن ثمّة قوانين رياضية في «نظرية الاحتمالات والإحصاءات» تسمح بتقدير وتحديد عدد رُكَّابِهِ اليوميّ، في أسوأ وفي أفضل الاحتمالات، في ضوء عدد التاكسيات والزبائن وحركة المرور، دون أن تكون ثمّة حاجة لإقحام فاعلٍ خارجي. تماماً مثل زهر النرد: ليس هناك حاجة لإقحام فاعلٍ خارجي لتفسير الحصول على رقم 2 أو 6 في واجهته عند رمْيِهِ على طاولة. ثمَّةَ احتمال بنسبة السُّدس، 6/1، لِيكون الرقمُ الأول أو الآخر هو رقم الواجهة.

«وراء كل ظاهرةٍ فاعلٌ» في المسلمات الحدسيّة البدائية للدماغ التي تكوّنت طوال ملايين السنين، قبل اكتساب المعارف العلميّة الحديثة! إذا لم تعرف الفاعلَ فالجبّار الأعلى يملأ الفراغ، يردم كل ثُقب، يُرمِّمُ كلَّ خلل. استغلَّ الفقهاء والرهبان والكهنوت ذلك من أمدٍ سحيق، وما زالوا بالطبع. خذ مثلاً حديثاً جداً: أعاصير التسونامي الأخيرة في أندونيسيا وتايلاندا ومحيطهما. مائة وخمسون ألف إنسان سحقتهم الأعاصير البحرية العاتية. أمام التساؤلات المكتظة: «أين العدل والرحمة في هذه العذابات والكوارث؟» كان ردّ الكهنوت: «ما حصل ثوابٌ للصالح، عقابٌ للطالح!» يعرف الكهنة أن عبارات كهذه تزيد لدى مستمعيها الخوف والرهبة من الفاعل الغيبي. ذلك كل ما يُهمُّهم!))

تتوقّفُ حناياي. تسألُني: «هل تعرف أن الكهنة هم أكثرُ الناس درايةً بخارطة الدماغ البشري، وأعرفُهم بمخاوفه وضعفه ورغباته، وأفطنُهم بطرائق السيطرة عليه ومحاصرته، وأذكاهم بالاستيلاء على كلِّ اهتماماته؟.»

لم أجب، وإن كانت نظراتي تقول لها: «لا أعرف ذلك، لكني سأعرفه الآن، حُبِّي!» تمْتَمْتُ قرب أُذنِها عبارةً تذيبُها بشكلٍ خاص: «فديتُكِ عشقي!» تواصل:

((لا يهمُّهم عبثيَّة إقحام الغيب في ظواهر طبيعية تحصل منذ الأزل، قبل ظهور الإنسان على الأرض وبعده، تطمُّ كلَّ ما يعترض طريقها، خلا أو لم يخل من الوجود البشري. لا يهمُّهم أيضاً أن يخلو تفسيرهم من أدنى منطق! إذ كيف يمكن استخدام نفس الإجراء (التسونامي) كردٍّ على سلوكين متناقضين: صالح وطالح؟ لا ينقص إذن إلا الدعاء بزيادة كوارث التسونامي لأنها (في ضوء تفسيرهم) رمزُ العدلِ الإلهيِّ المطلق! الحقّ، لا يختلف منطق تفسيرهم هذا عن منطق هذه العبارة المخبولة: «ثمّة امرأتان، الأولى لا تمارس الجنس لتظلَّ عذراء، والثانية تمارس الجنس لتظلَّ عذراء!» كما قلتُ لك قبل قليل: المسلماتُ الحدسيّة لدماغك البشري، مثل دماغ سائق التاكسي، صاغها التطور والانتقاء خلال أزمنة بدائية عتيدة سبَقتْ نظريات الاحتمالات الإحصائية والمعارف العلميّة الحديثة التي يلزم اكتسابُها وتعلُّمها في المدرسة. عندما يقترب منك الشرّ لا تستوعب لماذا يصل نحوك أنت بالذات، ترى خلف ذلك «فاعلاً» بالضرورة، دون استيعاب أنه طالما كان هناك احتمالٌ بأن يقع عليك، فأنت مرشّحٌ له مثل غيرك، كأنك في لعبة يانصيب لا أكثر ولا أقل! أو لعلّك، وأنت على مقربةٍ من مصيبةٍ أو حادثةٍ ما، تقول لنفسك بلاوعي، وأنت تكيل دعواتك الداخلية ببرجماتية وانتهازية حميمتين رائعتين: «إذا وُجِدَ ذلك الفاعل الخارجي حقّاً فربما سيُشفق عليّ ويستجيب لدعواتي هذه وأنا أتوسَّله بهذا الرجاء الذي يُذيب القلب. وإن لم يُوجَد فلن أخسر شيئاً بأدائي هذه الصلوات!». قطعاً، أنت حفيد أجدادك الأول الذين عاشوا في الغابات والسافانا الأفريقية. علَّمَتْهُم الحياة أنه من الأفضل توقُّعُ سبعٍ غير موجود على عدم توقُّعِ سبعٍ موجود. لذلك كانوا بالطبع يركضون بأقصى سرعتهم إذا سمعوا حفيفاً غريباً بين أوراق الشجر. أدمغتهم امتلأت هواجساً وخوفاً من الفاعل الخفي، من سطوهِ ومكرهِ وجبروته.))

سجَّلتُ ملاحظات عابرة: «لا أحبّ كثيراً هذا المُنْحنى في التقرير! لعلّه صائبٌ فيما قالَهُ، لكنه تحوَّلَ عند حديثه عن جاري، سائقِ التاكسي، مَدرسيّاً، مُباشراً، تلقينيّاً جدّاً. ليست هذه لُغتي المفضّلة!»

تواصل حناياي:

((ثمّ تعود المياه إلى مجاريها، تستعيد والدتك صحّتها، وتنتهي الحرب الأهلية دون أن يمس منزلك أذى. تعود شكوكك إلى السطح من جديد، بخجلٍ وهوسٍ وعناد. مثلُ كل دماغ، بوعي أو بلا وعي، تتساءل من جديد في لحظات هدوئك عمّا إذا كان هذا الفاعل الخارجي موجودٌ فعلاً. تشعر بالخجل عندما تخطر ببالك مثل هذه الأسئلة، لأنك تعلَّمتَ من ثقافتك أن تخجل من ذلك، تعلَّمتَ أن تعتبر مجرّد التساؤل حول ذلك رجسٌ من عمل الشيطان. الحقّ أن هذه التساؤلات تفرض نفسها بوعي أو بلا وعي، لأن هذه هي طبيعة المنظومات الاستنباطية في كل دماغ: تنشط دون توقّف لمجرّد سماعها بأي معلومةٍ كانت. تُحلِّلُ كلُّ منظومة ما تسمعه حسب تخصصها، تتفاعل مع بعضها. تنتهي معاً بقبول المعلومة أحياناً، بدحضها أحياناً، أو باعتبارها فرضيّة إلى هذا الحدِّ أو ذاك، دون أن تمتلك المقدرة على البثّ بها سلباً أو إيجاباً. غير أنك تكتم تساؤلاتك في قرارة نفسك. تخنقها غالبا. تمنعها من التسرُّب هنا أو هناك. تُحاربها أحياناً. مجرّد التفكير بها هرطقة وشر. ذلك ما تُعلِّمك ثقافتك! ثم أنت قبل هذا وذاك لا تعرف كيف تخوض في هذه الفرضيات أو تتعامل معها. لا تمتلك معارفك معلوماتٍ جادّة تساعدك في الردّ إيجاباً أو سلباً على أسئلةٍ من العيار الثقيل كهذه.

ستتذكَّرُ مليّاً هذه اللحظات الهامة من حياتك بعد بضعة عشرات السنين من طفولتك، على بُعد ستة ألف كيلومتر من مسقطِ رأسِك، في مختبر الأبحاث الذي تعملُ به: تقولُ لك سكرتيرةُ مختبرِك ذات يومٍ إنها أهدَتْ لإبنها في عيدِ ميلادِه العاشر نُسخاً فاخرةَ الطباعة من كلِّ الكتبِ السماوية لِيقرأها، لِيسألها عمّا لا يفهمه، ولِيقولَ لها ما الذي يريد عملَه بعد قراءتها!

تسأله بعد أسابيع: «ما رأيك بها؟» يردُّ عليها: «قصصٌ سحريَّةٌ مثيرة، لكنها غير ممتعة!»))

طلبتُ من حناياي التوقّف عن القراءةِ قليلاً. سجَّلتُ في وريقاتي: «ها هو أبو الكشوف يعودُ من جديد إلى صلبِ ما كنتُ أفكِّر فيه أمامه! غير أنه يتحدَّثُ ببرودٍ شديد وجفافٍ كثير عن كتمي لتساؤلاتي وخنقي لها ورقابتي الذاتية على كلِّ سؤالٍ يخطر ببالي! ثمَّة خطأٌ جوهريٌّ في تحليل أبي الكشوف: هذه الرقابة الذاتية التي أرَّقتني فعلاً أهمُّ بكثير من "صراع الجبابرة" الذي بالغ أبو الكشوف في الحديث عنها. هاهو يُخيبُ ظنّي تماماً: يكتفي فقط بالإشارة العابرة إلى هذا الحصار الذاتي العام الذي يقتلُ التساؤل والتفكير، ويُحوِّل الإنسان إلى أداةٍ تُعيدُ صناعةَ الثقافةِ السائدة وتؤبِّدُها! ثمَّ (من يدري!)، لعلَّ فكرةَ "طردِ الشيطان" الذي بالغ أبو الكشوف في الحديث عنها ليست أكثر من دعوةٍ مجازيَّةٍ إلهية لِممارسةِ القطيعةِ والرفض اللذَين بدونهما لا تتقدَّمُ الحياة؟ أليست "لا" لغةُ الروح و"نعم" لغةُ الجسد؟ ألا تعلِّمُنا ثقافتُنا أن لا ننطقَ إلا "نعم"، لغةَ القطيع، لغةَ الخَروفِ والخُضوعِ والانسحاق، وتمنعُنا من نطقِ "لا"، لُغةِ الروح والعلمِ والعقل، لغةِ القطيعةِ والرفضِ والتقدُّم؟»

شعرتْ حنايا أني أكتب ملاحظاتي بتركيزٍ بالغ. أرادتْ أن تمنحني الوقتَ اللازم لصياغتِها خارج دوّامةِ ظلِّها الآسر ومركزِ جاذبيتها المكين. نهضتْ، غابتْ في المطبخ لِعمل شايٍّ مغربيٍّ بالنعناع. وضعتْ شريطاً موسيقيّاً لفيروز. واصلتُ تسجيل ملاحظاتي: «يؤسفني حقّاً أن لا يتوقَّفَ أبو الكشوف طويلاً، بعد كلِّ مقدماته الموسوعيّة الطنّانة الرنّانة، عند هذه اللحظات التكوينية لشخصيّتي، وأن لا يُتابع آثارها على تركيبي الذهني! أنتقدُه بشدّة: عندما تمنعني ثقافةٌ ما من أن أتساءل، أشكّ، أنتقد، أرفض. فهي تمنعني من أن أكون إنساناً. عندما تَقتلُ ثقافةٌ ما روحيَ النقديةَ المتسائلة بدل أن تُعلِّمني كيف أمَحِّص، أحلِّل، أنتقد، أرفض. فهي تُعلّمني كيف لا أتجرأ، كيفَ لا أفكر، كيف لا أكون إنساناً، كيف أكون إمَّعَةً على الدوام!

ثمّ لا أستوعبُ كيف يكتفي أبو الكشوف بسرد سؤال سكرتيرتي لابنها: "ما رأيك بتلك الكتُب؟" دون التعليق على ذلك! تحريرُ وتفجيرُ طاقات العقلِ الإنساني يكمُنان في هذه اللحظة الجوهريّة بالذات، في هذا الاحترام العميق لِشخصيّة الطفل، في هذه التنمية الجبّارة لروحِهِ الحُرّة المستقلّة، في هذا السؤال الجذريّ: "ما رأيك؟ "أشعرُ بنوعٍ من الغضبِ من أبي الكشوف: كيف لا يُكلِّف نفسَه عناءَ التوقُّفِ مليّاً عند هذا السؤال المقدَّس الذي لم يُوجَّهْ لي في طفولتي مرّةً واحدةً: "ما رأيك؟." كيف لا يُقارن ذلك برقابتي الذاتية وكبحي لِجماح تساؤلاتي وخنقِها في المهد؟»

تعودُ حنايا بكأسين من الشاي. تلاحظُ أني غير مرتاحٍ من شيءٍ ما في التقرير! تبتسمُ بِرقَّة. كنتُ أتمنى من حناياي أكثر من هذه الابتسامة الملائكية، لاسيّما في هذه اللحظة التي اعتراني فيها نوعٌ من الخيبة من تقريرِ أبي الكشوف ومن تقاعسِه وقصورِه حيث لا يلزمُ التقاعسُ والقصور. أختتمُ ملاحظاتي بهذه العبارة: «أن يُوجَّهَ لك هذا السؤال، أو لا يُوجَّهَ لك (وتقتلَهُ أنت نفسك إذا تلوّى في طيّاتك!): تلك لحظةُ ولادةِ كينونتين في مفترقِ طريقين متباعِدَين!» لا تسألني حنايا ماذا كتبتُ. تستلقي بهدوء، أضعُ رأسي على صدرِها الشذيّ في نفس موضعهِ الأثيرِ. أغرقُ في دوَّامة مجالها المغناطيسيّ. أنسى المصائر والكينونات، الأسئلة والإجابات، التقصير والخيبات، البدايات والنهايات، الكون والزمن، باريس وعدَن. تُواصل القراءة:

((ما يُحبطك عن الاستغراق في هذه التساؤلات أو حتى مغازلتها قليلاً هو الإجماع العام في كلِّ أرجاء محيطك بوجود هذا الفاعل الخارجي، بل في أنه أساس كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتك. يحاصرُك هذا الإجماع العام من كل جهة، يطفئُ تساؤلاتك منذ أولى لحظات تشكُّلِها، يضغطُ عليك في كلّ لحظة، في كلِّ مكان، يطمُّ دماغك. يردِّدُ أمامك: الفاعل الخارجي موجودٌ بشكلٍ حميمي في كل شيء: الموت، الولادة، النجاح، الفشل، المرض، الصحة. اللغة حافلةٌ بذكر الفاعل الغيبي والاحتفاء به. اللغة موطنه الأثير. الصيغ اللغوية الأكثر تكرارا، الشعر والأغاني، كلّ مقدّمات العبارات ونهاياتها ومنعطفاتها، جميعها تُذكِّرُ وتُشيد به، تُسبِّح له، تربط كلَّ صغيرة وكبيرة في الحياة العامة والخاصة بمشيئته، تعزي كلَّ فضلٍ له، وكل مكروهٍ لإرادته. كل طقوس الحياة الاجتماعية المحيطة بك، التي تُمارسها أنت أيضاً، شئتَ أم أبيت: الولادة، الزواج، الشعائر، الأعياد، الموت. حمدٌ متواصلٌ له، ترديدٌ دائمٌ لصفاته الجليلة واحتفالٌ متواصلٌ بتعاليمه وسننه في الحياة. المنزل، المدرسة، المعابد والكنائس والمساجد، تُعلِّمك وتكرر لك مليون مرّة أقوال الفاعل الغيبي، أوصافه، أسماءه، تعاليمه، تذكِّرُكَ به في كل لحظة، تكرِّر وصف عظمته اللانهائية لمسمعِك عبر المواعظ والخطب وأيقونات الكنائس ونداء المآذن، عبر جبهةٍ من الأجهزة الإعلامية المتقنَة المتمرِّسَة، وعبر منظومة «متعدِّدة الوسائط»، شديدة التنوّع والفعالية، خبيرة بشكلٍ خاص في الدماغ البشري، بضعفِه وميولِه ورغباته: الكتب والإذاعات المرئية والمسموعة والصحف والإشارات والإعلانات والخواتم والملابس وألف رمزٍ ورمز.

تصوغُ جميع هذه المؤسسات والوسائل والرموز دماغك كما يحلو لها، تملؤه حدوداً وجمارك، تمنعه من التساؤل، تضخُّه بإجابات مسبقة على كلِّ شيء تقريباً، تغرس إجاباتها وسطهُ كمسامير، تملؤه رؤىً جاهزة حول الحياة والدنيا، حول جدول أعمال يوم القيامة، حول يوميات الحياة بعد الموت (التي لم يَعُد منها أحد حتى الآن، كما أعرف) بكلِّ طقوسها وأجنداتها وتفاصيلها الصغيرة. تُحوِّلُ كلُّ هذه المؤسسات والأجهزة الثقافية والإعلامية دماغك إلى بناءٍ ينسجم مع مخطَّطها، مع تصوراتها، مع اختياراتها. كل شيءٍ حولك يكرِّرُ أمامك هذا الإجماع القاطع الذي ترضعُهُ منذ الطفولة، تتعلَّمُهُ من أوّل لحظات وجودك، يترصّد لك في كل مكان. لعلّك، كما أعرف، لا تجهلُ عبارة إسْمِنْ، شقيقة انتيجون، وهي تقول: «أنا ولدتُ في تِيْبْ، لا أستطيع أن أفكّر وأسلك إلا مثل أهل تِيْبْ!». من تكون إذن أمام هذا الإجماع الكوني الشامل؟ لعلك تتساءل أحياناً، أو ربما لا تتساءل مطلقاً، إن لم تكن تواجهُ منظومةً وجيهةً من الفيروسات الثقافية الفاعلة التي كان لها أن تتأبَّدَ وتستفحل وتتوغّل في كلِّ شيء مع مرور الزمن، أو إن لم تكن ضحيَّةَ مؤامرةٍ ذهنيّةٍ مشروعةٍ حصيفة ازدادت نجاحاً وإحكاماً قرناً بعد قرن!))

قاطعتُ حنايا، سألتها:

ـ مؤامرة تتطوَّر؟ فيروسات تتأبَّد؟ كلامٌ كبيرٌ جدّاً! لماذا لا يُدلي «كاشف الأسرار» برأيه في ذلك هو نفسه؟

ردَّتْ بهدوء وهي تراقبني مشدوهاًـن غارقاً في متابعة تقرير أبي الكشوف كلمةً كلمة.

ـ ليست هذه مُهِمَّتُه! ذلك يخرج عن قدراته واختصاصاته. هو يقرأ ويترجمُ جوهر ما يدورُ بخاطرك في لحظةٍ ما، يتفاعلُ معه ويُنظِّرُ حوله من وجهة نظر علميَّة بحتة. هو ليس «عالمُ غيوب»، أو «منجِّمُ تاريخ» أو باحثٌ يؤرِّخُ ما دار فعلاً في الماضي (إذا كان دماغك يجهل ما دار ولم يفكِّر به أمام أجهزة المختبر).

«مؤرخٌ لما دار فعلاً في الماضي»! آه، حنايا تمسُّ بهذه العبارة أدقَّ وأبعدَ أحلامي السيريالية: السفرُ بِسرعةٍ تفوق الضوء بحثاً عن الأشعة التي تحمل تفاصيل الماضي، من أجل رؤية التاريخ كما حدث فعلاً وليس كما يُروى، من أجلِ كتابة محضر الحقيقة التاريخية المجهولة، من أجل التمييز بين ما كتبه الكهنة عن الكون والتاريخ، وبين الكون والتاريخ في عريهما المطلق! فأنا لا أمتلك إشكالاً إلا مع الكهنة فقط! أما الذات العظمى فهي تملأني أبداً، أعشقها منذ أن غرس والدي حبَّها في عمق أعماقي منذ نعومة أظافري.

ـ كيف يمكن إذن البحثُ عن الحلقة الضائعة، معرفةُ السيرة الذاتية لِل«مؤامرة» إذا كانت مؤامرة فعلاً، دراسةُ تطوُّرِ «الفيروسات» إذا كانت ثمّة فيروسات؟ كيف يمكن الوصول للماضي في صيغته الأصيلة؟

سألتُ حنايا بعفويّة، كطفلٍ يجد كل الإجابات في ثغر أمه!

ـ لا أعرف! لماذا تسألني أسئلةً إعجازية تتجاوز مقدراتي؟. لماذا تهرب من مواجهتها أنت نفسك وتنتظر من التقرير أن يحمل لك كلَّ شيءٍ على صحنٍ من ذهب!

ثمّ أضافت فجأة هذه العبارة:

ـ لعلّ تلك مهمّتك! لماذا لا تبحث عن سيناريو علمي يُبرهِنهُ الكمبيوتر لإثبات أو دحض ذلك! أنا قدّمتُ لك عبر كاشف الأسرار كلَّ ما أستطيعه. الردُّ على بقيّة أسئلتك هو مهمتك أنت فقط، من باب احترام مبدأ «التماثل الهندسيّ»! ألا تحلم برؤية «الصيغة الأصلية للماضي» منذ أمد، كما قلتهُ لي دوماً؟ الوصول إليها مهمَّتُك الآن، أنت الذي تتحدّث دوماً عن احترام مبدأ «التماثل الهندسيّ»!

«سيناريو علمي يُبرهِنهُ الكمبيوتر!» حنايا تفتح لي موضوع أبحاث لم يكن في جدول أعمالي، لم يخطر ببالي أيضاً! تستعمل لذلك وتكرِّرُ لفظ استعارة «مبدأ التماثل الهندسي» التي استخدمها معها من باب الحذلقة والمناكفة الغرامية، لِأُعَبرَّ من خلالِها عن لومٍ عميقٍ صارخ لخارطة الطريق التي تفرضها عليّ! ثمّةَ في ردِّها تَحَدٍّ مُقنَّعٍ بِشكلٍ أو بآخر!

ليس هذا فحسب: هاهي تبادر وحدها بتقبيلي، لأوَّلِ مرّة منذ ثلاثة سنوات! تُقبِّلني دون أن أكون أنا البادئ! لم أُصدِّق ما يحدث! تُقبِّلني في هذه اللحظة بالذات التي تفتح لي فيها موضوع أبحاث سيهوي بي في بئرٍ بلا قاع، سيأسرني أسراً، سيُغيِّرُ نظامَ حياتي، حياةَ فردوس، وحياتَها هي نفسها. عانقتُها بحرارةٍ وتكهرُب. تصوَّرتُ أن كل أحلامي بالإتحاد بها ستتحقّق الآن، في هذه اللحظة! أيقنتُ أن كلَّ هذه اللذة المؤجلة حتى إشعار آخر ستتفجَّرُ بعد لحظات. عبثاً! مسامير خارطة الطريق ثابتةٌ لم تتزحزح عن مواقعها سنتمتراً واحداً. كان مع ذلك عناقاً طويلاً عميقاً شديد العشق والإثارة. لم تنهيهِ إلا هذه الرصاصة القاتلة: «لو سمحْتَ!».

ـ وبقية التقرير إذن؟، سألتُها بخيبة جليّة.

ـ غداً.

وضعتُ الملايات على حناياي المضطجعة كطفلة. غَرَقتْ في النوم بعد ذلك بثوانٍ. حملتُ جسدي الحزين نحو الباب. رمقتُها تحتضنُ التقرير. تمنَّيتُ لو كنتُ محلّه. ماطلْتُ وأنا أغلق الباب آملاً سماع كلمتيها الرحيمتين: «قُبْلة أخيرة!».

عبثاً!

فكّرتُ طويلاً في موضوع البحث الذي تقترحهُ حنايا! ثمّة تحدٍّ مستحيلٌ فيه، لأنه يعني، لِمن يعرف المدلولَ العلمي لكلماتها، استخدامَ الكمبيوتر وعوالمه الافتراضية، بمنهجٍ رياضيٍّ تجريديٍّ خالص دون الانطلاق من أية فكرة دِينيَّة أو علميَّة مسبقة، في تمثُّلِ ومحاكاةِ ورصدِ كيف نشأت الأديان، كيف تطوَّرت، ولماذا وصلت إلى ما وصلت إليه. مشروعٌ فرعونيٌّ بطبيعة الحال، سيكسر كُوعي وأكواع آلافٍ من أمثالي. لكنه في نفس الوقت المقاربة البشرية الوحيدة الممكنة، في رأيي، لمشروع السفر العفريتيّ بأسرع من الضوء لرؤية الماضي في صيغتهِ الأصلية!

*    *    *

حنايا في أوجِ تألُّقها وانبساطها. عليها فستانٌ مخمليٌّ بنقوشٍ زرقاء وخضراء توحي بعروسة البحر. مثل الليلة السابقة هي في أوجِ عبَقِها وسنائها ورقّتِها ورومانسيتها. أستلقي قربها، يتوسّدُ رأسي ساعِدَها العبق. أشعرُ بسعادةٍ كثيفةٍ عامرة، عنيفةٍ جدّاً. أتمنى لو تستمرّ فلّةُ قلبي في قراءةِ تقريرِ كاشف الأسرار ألفَ ليلةٍ وليلة. تواصلُ من حيث توقَّفتْ:

((تتساءلُ بين الحين والحين: أصحيحٌ كل ما تسمعه؟ ثم تصمت من جديد. تصمتُ طويلاً. من أنت، وما تساؤلاتك وشكوكك أمام إجماعٍ شموليٍّ كهذا، أمام سلطةٍ كهذه؟. ألستَ أنت نفسك، كلُّ ثقافتك، جزءاً من هذا الإجماع، تكريساً لسلطته؟ أليس هو الذي صاغ رؤيتك للكون والحياة والتاريخ، دون أن يكون لك شأنٌ في ذلك؟ خذ مثلاً هذه السماء التي لا تملُّ التحديق بها. ألم تتعلَّم أنها قُبَّةٌ زرقاء تتعلَّق عليها الكواكب والنجوم؟ هي أولى السماوات السبع، كما يُقال لك! كم شعرتَ بالاستغراب عندما قرأتَ في كتاب علميٍّ ذات يوم أنه لا توجد سماء زرقاء البتة إلا في توهمات دماغك لا غير. هذا اللون الأزرق الذي تراه، ينتج بسبب عبور الضوء في الغلاف الجوي الذي يحيط الكرة الأرضية والذي لا يزيد سمكُهُ عن بضعة عشرات من الكيلومترات فقط. لا زرقة بعد ذلك. لا سماء أيضاً: ثمَّةَ مجرات تسبح في الفضاء اللانهائي الفسيح لا أكثر ولا أقل. الأرض قطرة في محيط هذا الفضاء.

لو كنت في القمر أو المريخ لظننت أن كوكبَ الأرض جزءٌ من السماء! أليست بعضُ المسلمات الحدسيّة لأدمغتنا توهّمات مبرَّرة ومعارف بدائية تجاوزَها العلم الحديث؟ خذ أيضاً التاريخ! معظم تاريخ الإنسان الذي تدرسه، إن لم يكن كلّهُ تقريباً، غير علميٍّ هو الآخر. يبدأ أسطوريّاً منذ بدء بداياته: الكتف الأيسر الأعوج الذي انبثقت منه أمّنا حواء، الحيَّة التي سوَّلت لها ولآدم الرغبة في مضغ الثمرة الممنوعة. يتواصل على نفس الإيقاع منذ الماضي السحيق الذي تُحدِّثك عنه المدرسة، منذ أيّام أجدادنا العمالقة ذوي الأقدام الهائلة والقامات السامقة! ألم تثق تماماً بسبب المدرسة بأن أجدادك الأُوَل كانوا فعلاً عمالقة؟ في حين أن كلَّ الجثث والهياكل والقبور والموميات الموجودة لكل سلالات الإنسان المتواصلة من توماي وأوروران ولوسي إلى بدايات أومو سابيانس، إلى عصور الفراعنة، إلى أجدادنا الحديثين في الألفيات الأخيرة، كلُّها تؤكِّدُ العكس. لم يتجاوز الإنسان القديم طول الإنسان الحديث إن لم يكن في الغالب أقلّ طولاً، ناهيك أن دماغه كان في كلِّ السلالات القديمة التي سبقت الإنسان الحديث أقلّ حجماً ووزناً وملكات مما هو عليه الآن. الإنسان يميل غالباً لتمجيد الأجداد، لتعظيم مقدراتهم، لِ«المزايدة الميتافيزيقية» كما يقول نيتشه، عند الحديث عن لحظات البدء والأجداد الأوَل. ألستَ خليطاً من جيناتهم؟ ألا تجدُ في ذلك التمجيد ظلالاً نرجسيّة تدغدغك وتثيرك؟ كم ستشعر بالقرف لو حدّثتك طويلاً عن أجداد بؤساء جياع، ضعاف مساكين، أنهكَتْهُم آلام الحياة وضرورات الصراع من أجل البقاء. لكنك ستمتلئ إثارةً وفخراً لو حدّثتك عن أجداد كلهم عناترة بن شدّاد، يهزم الواحد منهم في المعركة مائة من أعدائه، تنكسر السيوف على عظامه الفولاذيّة، يُناكح أربعين حسناء في ليلة واحدة.

يتدحرج نحوك تاريخٌ ممرّدٌ من أساطير: سفينة نوح؛ أهل الكهف؛ أنبياء التوراة الذين مشوا فوق الماء، صارعوا الفراعنة بِنَفرٍ من قبائلهم الهاربة، هزموا إمبراطور جيشِ أكبرِ وأهمِّ قوِّةٍ في العالم (بمقاس أمريكا اليوم)، ولم تُذكَر أسماءُهم مع ذلك من قريبٍ أو بعيد في أيِّ مخطوطةٍ قديمة لتلك الإمبراطوريّة العظمى التي اعتاد أهلُها كتابةَ أتفهِ قصصِ حياتهم على أوراق البَرْدِيّ؛ ثمّ الملك سليمان الذي كان يُخاطب الحيوانات والجن. قصصُهُ أذهلتك كثيراً في طفولتك. لاسيّما حكاية العفريت الشهير الذي حمل له قصر ملكة سبأ من بلاد سدِّ مأرب إلى القدس في أسرع من رمقة عين. تثيرك أبداً تلك الملكة العطريّة التي لم تتربّع إلا على عروش الأساطير. تربشك أبداً قصّة هذا القصر. هل عاد يوما بعد أن تركه العفريت في القدس؟ أين كان موقعه؟ أيّ قوانين فيزياء يخضع لها طيران ذلك القصر الذي عبر فضاء شبه جزيرة العرب بأسرع من الضوء؟.))

رجوتُ حنايا الانتظار قليلاً لتسجيل الملاحظة التالية: «أبو الكشوف يستعرضُ عضلات موسوعته! كان بإمكانه أن يمرَّ سريعاً على كلِّ هذه المعارف المفيدة جدّاً!»

تواصل حبيبتي:

((يتوالى عبور التاريخ اللاهوتي أمامك: تستحوذك بجنون العذراء التي أنجبت طفلاً! حكايتها تذهلك أيّما إذهال. طفلها الذي سيعود للحياة من جديد يوماً في المستقبل، قبيل يوم القيامة بقليل، يُربِكُك كثيراً! مثل المسيح الدجّال، الذي أثاركَ في الطفولة خبرُ وصولِه قبيل يوم القيامة! آه، يوم القيامة! كم تخيَّلْتَ سيناريو ذلك اليوم الرهيب كما تعلَّمْتَهُ في المدرسة: النفخ في الصور، خروج الأجساد من الأجداث كالجراد المنتشر، الأرض التي تخرج أثقالها، دكّ الأرض دكّاً، الأحصنة الطائرة التي تعدو ضبحاً وتوري قدحاً، السماء المكشوطة، مجيء الرب والملائكة صفّا صفّاً، ثمّ مجيء جهنم بسبعين ألف زمام، يجرُّ كلَّ زمام سبعون ألف ملاك! آه، جهنم بأصفادها وأهوالها وقيرانها وصديدها، جهنم التي كلما دخلَتْها أجساد جديدة كلما صرخت: «هل من مزيد؟»!

تنساب كل قصص هذا التاريخ على نفس الوتيرة: تلتصق بالذاكرة الجمعيّة من جيل لجيل كالمغناطيس الملتصق بالحديد لأنها تخالف توقعات الذهن الفطريّة، تفاجئها، تُثيرها، و«تغتصبها» في مجالٍ محدَّد: البقرة المقدّسة، الناقة الصالحة، الإسم المائة، هدهد سليمان والحيوانات التي تتحدَّث، النبي الذي مشي على الماء، العذراء التي أنجبت طفلاً، الشجرة التي لا يجلس تحتها إلا نبي، التفاحة المحرّمة التي تسمح بالوصول للمعارف الخفيّة.))

توقَّفَتْ حناياي. علَّقَتْ: «لا أدري لماذا تأسرُ مثل هذه المعلومات الدماغَ بسهولةٍ وعذوبة! التجاربُ المختبريّة كثيرةٌ جدّاً. يكفي أن تسردَ أمام أيِّ إنسانٍ لفيفاً من معلومات متنوِّعة، بعضها مؤلَّفةٌ على تلك الشاكلة الشاذّة التي تخالفُ الانتظار البديهيَّ في مجالٍ واحدٍ فقط (مثل: قطَّة تتوجَّهُ كلَّ يوم إلى آخر محطَّةٍ في المترو، تَخرجُ للتفسُّحِ، ثمّ تعودُ أدراجها بنفس المترو إلى منزلِها؛ شيخٌ صالحٌ إذا غضبَ مات في نفس اليوم شابٌّ من شبابِ القريةِ التي يعيشُ فيها؛ امرأةٌ طاعنةٌ في السنّ تختفي عن كلِّ الأنظار ليلةً كاملةً كلَّ شهر؛ رجُلٌ يتحدَّثُ مع أرواحِ الموتى.) عندما تطلبُ ممن أصغى إليك أن يُعيدَ ذكرَ ما سردْتهُ له، لا يستذكرُ منهُ عادةً إلا هذه الشاكلة الشاذّة من المعلومات فقط التي تظلُّ وحدها منطبعةً في ذاكرته. تلتصقُ مثل هذه المعلومات بالذاكرةِ الجمعيّة وتتأبَّدُ من جيلٍ لجيل. خذ مثلاً: "تفاحة نيوتن"، صرخة: "وجدتُها!" لارخميدس! تتسلَّلُ وتتخلَّدُ مثل هذه القصص الوهميّة حتّى على تخوم القوانين العلميّة!»

قلتُ لها بِنظراتي: «فديتكِ عشقي!». قرأتْني فلَّةُ قلبي، ابتسمَتْ بِسعادةٍ جليّة، واصلَتْ:

((لا تدري متى سيمرُّ العلم على هذه الأكداس المتكدِّسة من التاريخ الأسطوري. تتساءل ماذا سيبقى منها بعد التنظيف العلمي والتمحيص والفحص، من سيبقى من أولئك الذين يمتلكون أكثر من قبر، وأولئك الذين لم توجد لهم حياةٌ إلا في الكتب الدينية فقط، ماذا سيبقى من تاريخٍ مترعٍ بالخرافات. كلُّ هذا التاريخ المزركش بالقصص اللاهوتية، كل هذا الإجماع الثقافي العام بوجود فاعلٍ ميتافيزيقي، يصارع تساؤلاتك، يخنقها، يهزمها. كيف يمكنك أن تتساءل والجميع حولك واثقٌ من الإجابة، يُردِّدها أمامك مليون مرّة؟ يلزمك دماغٌ هائلٌ وذكاءٌ غريزيٌّ متميّزٌ لترفض الإجماع الذي يحيطك. يلزمك عقلٌ فطريٌّ أكبر من العقل المكتسَب من هذه الثقافة، لئلا تسقط تحت تأثيرها! لن تمتلك يوماً دماغ اينشتاين وهو يتساءل، يرفض، يتحرّر من قيود الفيزياء التقليدية. لن تمتلك يوماً دماغ النبي محمد الذي اقتنع منذ طفولته بسخافة عبادة الأصنام التي يمارسها الجميع حوله. ما العمل إذن؟ أعليك أن تصمت، تخنق تساؤلاتك، وتكتفي بزراعة طماطم في حديقة منزلك؟. أنت قطعاً لا تبحث في هذه الحياة عن أي سلطةٍ أو جاه. لا تفكِّر بقصرٍ أو بثروة. غير أنك مهووسٌ أبداً بمعرفة الحقيقة. هذا أنت وهذه طبيعتك! تبحث عن الحقيقة النقيّة الخالصة أبداً. تعشق مضغَ ثمرتِها الممنوعة، ثمرة شجرة العلم والمعرفة، شجرة الحقيقة! كم كان الكهنةُ مخلصين لحلمهم الظلاميّ القديم عندما قرَّروا منع مضغ هذه الثمرة! هم يعرفون من فجر التاريخ أن التهامها هو نهايتهم، هو مفتاح حريّتنا وإنسانيتنا. لذلك منعوها!))

صرختُ: «ستوب من فضلِك!» سجّلتُ في وريقاتي الصغيرة: «قال أبو الكشوف: "حريّتنا وإنسانيتنا"! ها هو يتَّخِذُ موقفاً! يضعُ نفسهُ "معنا" في الجهة الأخرى من أصدقاء الظلمات! ثمّة خطأٌ منهجيٌّ في برمجتِه على الكمبيوتر! لعلَّ من برمجَ أبا الكشوف فضح، ببراءةٍ أو بدونِ وعي، اختياراته الشخصيّة العلمانية وهو يدحرجُ "ضميرَ المتكّلم" خطأً! أُفضِّلُ شخصيّاً أن أرى أبا الكشوف فيلسوفاً يسمو على الانتماءات الحزبية أو القبلية أو الدينية، على أن أراه مناضلاً منحازاً في هذا الصفِّ أو ذاك.»

تواصلُ حبيبةُ قلبي:

((غير أنها ثمرةٌ صعبةُ المنال! لذيذةٌ بشكلٍ خرافي! للوصول إليها يلزمك السفر! للإمساك بها يلزمك التحرّرُ من قيودك، الهروبُ من سطوة الإجماع الثقافي على دماغك. يلزم البحث والمكابدة طويلاً، يلزم السفر بعيداً، في الحاضر والماضي، في الجغرافيا والتاريخ! أنت تعشقُ السفر، في الحقيقة! تعشقهُ لأسباب شتّى. لا تُحِبُّهُ بشكلٍ خاص بسبب قول الشاعر «سافرْ تجدْ عِوضاً عمَّن تفارقهُ.» أو لِمفاضِلِهِ السبع التي عدَّدها الإمام الشافعي! لا تُحبُّهُ أيضاً بسبب سعدي يوسف: «إن القطارات تصفِرُ، ما أجمل السفر! إن البحيرة تفضي إلى النهر، والنهر يفضي إلى البحرِ، ما أجمل الرحلة!» بالطبع، السفرُ الذي تتحدَّثُ عنه ليس سفر الهروب، أو سفر البحث عن لقمة العيش. السفرُ الذي تتحدَّث عنه أهمُّ بكثير من متعةٍ أرستقراطية، أو نعمةٍ لذيذة، أو لجوءٍ إجباري، أو تجديدٍ للطاقة لا بدّ منه. هو ضرورةٌ حياتيةٌ جوهرية: عدم السفر يعني بالضرورة التخثّر، الموت.))

مذهلٌ جدّاً! كاشفُ الأسرار يواكب في تقريره حركة تفكيري ويوازي اتجاهاتها بِدِقَّةٍ هائلة! هاهو يبدأ الحديث عن السفر، مثلي تماماً عندما كنتُ تحت مجهر أجهزته! بعد أن استذكرتُ وصيَّةَ والدي ومفهوم الروح والكائنات غير المرئية التي اجتاحت دماغي وضغطَتْ على كاهلي في الطفولة، انتقلتُ للتفكير بما حصل لثقافة طفولتي بعد سفري للدراسة في فرنسا، والعمل فيها. تجوَّلتُ في تفكيري في العوالم والثقافات التي عرفتُها بعد السفر. استعدتُ بعض لحظاتها التأسيسية. بفضلها أضحت ركائز ثقافة طفولتي نسبيّةً جدّاً، بالغةَ الهشاشة، رخوةً تماماً. فقدَتْ طابعها المطلق. ما أصوبَهُ إذن! ما أدقَّ كاميراته وكمبيوتراته وهي ترصدُ حركة تفكيري وتتفاعل معها بتناغمٍ مذهل!

تواصلُ حناياي:

((لعلّ الإنسان اعتنق السفر منذ الأزل لأن الولع به منقوشٌ في جيناته! لم يتوقّف عن الرحلة والسفر منذ عرف نفسه. الحقّ أنه لم يتحوّل حضريّاً متمسكاً بأرضهِ ومدينتهِ إلا مؤخراً جدّاً، منذ ممارسته للزراعة قبل عشرة ألف سنة فقط. أي منذ فترةٍ ضئيلةٍ جدّاً من عُمْر نوعنا البشري على هذه المعمورة. قبلها، سافر الإنسان أبداً، سافر على الدوام. من مهده الأول في أفريقيا انطلق إلى كلِّ ربوع الأرض، وصل ديار الشمال الثلجية وأطراف أستراليا وأمريكا. أرغمته شحّة الموارد على السفر والتنقل الدائمين. أكسبه ذلك أيضاً قوىً جسدية وذهنية كبيرة بفضل تعدُّدِ الأغذية وتنوُّعِها، بفضل أثر التكيّفِ مع بيئات مختلفة، بفضل معاشرة ومناكحة بشرٍ من أجناس متباعدة. وهبَهُ كل ذلك ملكات ومقدرات على المقاومة والتكيّف والحياة الأفضل. مبدأ «التطّور والانتقاء» غازل وفضّل بالضرورة من سافر وهاجر على من انكفأ على نفسه وتقوقع. أختار حتماً من جاب الأرض على من ركد ونخَّر. لذلك نحن اليوم أحفاد أولئك الذين كان السفر موطنهم الدائم. لذلك أيضاً تُفتِنُنا دوماً فكرة السفر، تثير في لاوعينا روائح سحريّة غامضة، يسيلُ لعابُنا عند الحديث عن الرحلة، ترقصُ في لاوعينا العميق أحاسيس جذلى عند رؤية الطائرات والسفن والقطارات تمخر عباب الكون، نغرق في الحلم عند مشاهدة صور الديار والجبال والبحيرات والغابات والبحار البعيدة، تجتاحنا نشوة غريبة تتسلّل من أعماقنا الغائرة عندما نهيم في المطارات والمرافئ البعيدة.))

لكلمة السفر سحرٌ يغمرني! عندما بدأ كاشف الأسرار يتحدّث عن السفر، سافرتُ في الذاكرة. استعدتُ أسفارَ حياتي التي لولاها لكانت باهتةً، بلا طعم أو معنى. السفرُ للدراسة أوَّلاً. ثمّ الأسفار التي لم تتوقّف للمهام والدعوات والمؤتمرات العلميّة. والأسفار السياحية الاستكشافية مع فردوس، في كلِّ عطل الصيف والشتاء والربيع والخريف، منذ أن بدأنا دراستنا الجامعية. وأخيراً أسفار اللقاءات الحميمية بحنايا، بكلِّ برامجها وشجونها وعبقها الخاص وعواطفها الكثيفة. تشاركني فردوسُ نفسَ العشق الجنوني للسفر. نجدُ لذَّةً لا حدّ لها في العوم في كلِّ بحار الأرض، في التمرُّغِ الكسولِ في رمال شواطئ المعمورة، في الاضطجاع الطويل تحت الشمس. نعشق الشمس والبحار والرمل. نجد لذَّةً ساحرة في ممارسة العشق في كل بطاح ومدن الدنيا. يسحرُنا تنوُّعُ الأمكنةِ والطقوس واللغات والقارات، يُلهِبُ عشقنَا ويزيدُهُ حريّةً وتَفجُّراً. نبحث معاً في الأسفار عن شيءٍ مشتركٍ نجهله، لهُ علاقةٌ ما بلحظة البدءِ الأولى. تجذبنا مهدُ البشرية: أفريقيا، أطرافُ الكون في استراليا وسيبيريا، الغابات الاستوائية من ماليزيا إلى الأمازون، السفوح الجبلية العالية. نفتِّشُ معاً عن الخرافات والأساطير التأسيسية في مالي والكاميرون، نحضرُ طقوس ختان وزواج الماساي في كينيا وتنزانيا، نشاهد بإعجاب رقصات شابات الزولو لتمجيد أرواح الأجداد، نواكبُ طقوس أضحيات الغابات المقدّسة في ساحل العاج. سافرنا حتى أطراف سيبيريا وأستراليا لنرى كيف يعيش صياديو «التشوكتش»، كيف يرسم الفنانون «الابروجين» أساطير «زمن الحلم». صعدنا الجبال العالية لنرى كيف يمارس النيباليون زراعة الأعالي والتكيّف مع القمم الشاهقة. ذهبنا لنرى بأم أعيننا تاريخ وملابسات العلاقة بالمُقدَّسِ في قبائل الشامان، في أندنوسيا والهند، في الهلال الخصيب وبين النهرين.

السفر مع حنايا يختلفُ تماماً. يتركَّزُ في عواصم الدول الصناعية المتطوِّرة التي لا تميلُ لها فردوس كثيراً. نتلاقى في كبار جامعات ومختبرات أوربا وأمريكا واليابان. نطوفُ حتى الثمالة شوارع المدن الكبرى. نتعانقُ طويلاً بعشقٍ كثيف قرب أنهار وساحات وأبراج ومتاحف ومقاهي عواصم العالم الصناعي، في غاباته وأفيائه الشاسعة. نجلس أحيانا وقتاً طويلاً على الأرض، بين ناطحات سحابٍ في أمريكا وكندا (بيننا كيسٌ من البطيخ الأحمر، التمر، والرمان)، نتحدَّثُ عن جُرْحَي بَلَدي طفولتنا: اليمن وعُمان. للسفر مع فردوس مذاقُ المدى والحريّةِ والغوصِ في الماضي السحيق. مع حنايا يهيمُ السفرُ في الحاضر والمستقبل، يهرولُ في الجُرح، يختنقُ في خارطة الطريق.

قاطعتُ حنايا عندما بدأَتْ قراءةَ فقرات السفر في تقرير كاشف الأسرار. أسكرتني حينها نشوةُ السفرِ في ذاكرةِ السفر. همستُ في أذنِها:

ـ أريد أن أسافر في جسد حنايا!

ابتسمَتْ باقتضاب! لمعةٌ خفيفةٌ في العين. كبحَتْ سريعاً تورُّطَ هذه اللمعة «الآثمة». بدأت عيناها تتبلّل بالدمع! شعرتُ بأني اخترقتُ سياجاً ممنوعاً، أيقظتُ ألماً خفيّاً. اعتذرتُ، قبَّلتُها برقَّة. قلتُ لها كلمات رقيقة تحبُّ سماعها على الدوام.

ارتشفَتْ حناياي قليلاً من الشاي. واصلتْ:

((السفر يضيء العقل ويوسِّعه! لأن السفر هو الحياة في أكثر من بُعدٍ هندسيّ. أن لا تسافر يعني أن تحيى في بُعدٍ واحد، أي في خطٍّ مستقيم. أن تسافر وتعيش في عالمَين يعني أن تحيا في بُعدين اثنين، أي في سطحٍ هندسيّ. أن تحيى ثلاثة عوالم يعني أن تحيى في فضاءٍ هندسيٍّ ثلاثي الأبعاد، وهلمّ جرّا. أن تحيى في عالمٍ واحدٍ فقط يعني، كهربائيا، أنك في مجالٍ لا يتغيّر فيه «الحثّ الكهربائي»، لا يمرّ به تيّار. لا يمرّ التيّار إلا إذا كان هناك تغيّرٌ في الحثّ، قوَّتان مختلفتان في طرفي موصّل. لذلك، إذا عشتَ في عالَمين، فثمّة في كل لحظة تفاعلٌ لاواعٍ بينهما. كلُّ منظرٍ في أحدهما، كلُّ سلوك وعادات تراها أمامك، توقظ في ذهنك بلاوعي ردائفها من مناظر وسلوك وعادات العالم الآخر. الدماغ مُدانٌ بأن يُقارِنَ دون توقّف، بأن يُوازن ويُحلِّل. يمتلئ دماغك هكذا كل لحظة بانطباعات مزدوجة، بتقاطعات ومفارقات وتكاملات. الذكريات تنشَطُ على الدوام، الدماغ يشتغل، يُزاوج، يُصنِّف، يحكم، يستنتج. تعيش حواراً لاإراديّاً دائماً، تجاذباً وتضارباً مثمرين غنيّين. تتوسّع نظرتك للعالم، تكبر آفاقك، تُبدع. ألم يقل حكيم حارتك، الحاج الرديني: «الإبداع لقيطٌ ابن لقيط!»؟

لعلّ لذلك سافر كل العظماء ومن صنعوا التاريخ. لو لم يسافر داروين ويطوف العالم لما اكتشف نظريته الجوهرية التي تشرح قوانين حياتنا البيولوجية و«أصل الأنواع» في الطبيعة، والتي أضحت اليوم، بعد 150 عام من الجدل حولها، محل إجماع كلّ العلماء (حتّى الكنيسة الكاثوليكية التي كانت دوماً رمز الرجعيّة وعداء العلم منذ قرون، اعترفت مضطرَّةً بشكلٍ شبه رسميّ بهذه النظرية. ولم يبق لها ما تتمسّك به إلا المفهوم الديني للروح). سافر كارل ماركس، اينشتاين، كلُّ عباقرة الأرض ومبدعيها.))

سجَّلتُ في وريقاتي: «مقدِّمة طويلةٌ حول السفر! أسهب أبو الكشوف، سافر بعيداً، ثرثرَ كثيراً، سامحه الله!» داهمني شوقٌ مفاجئٌ لِعناق معشوقتي. (لعلّهُ «نتيجةٌ اشتقاقية» لِلهيامِ في ثنايا شجون السفر). قبَّلتُها طويلاً كأني لم أرها منذ دهر، قبل أن تواصل:

((السفر يكشف لك تنوُّعَ ووحدةَ نوعنا البشري. يمحي ما توهَّمتَ، بسبب ثقافتك، أنه ثابت ومطلق! يُعلِّمكَ السفرُ عمقَ وشموليةَ التشابهِ الجذري للنوع البشري ووحدتهُ النفسية والوجدانية العميقة: الجميع، من أقصى الأرض لأقصاها، يبتسم ليُعبِّرَ عن نفس الإحساس بالسعادة. الجميع يضحك، يبكي، يحلم. تُسيِّر الجميعَ نفسُ البنية الجينيّة، نفسُ عناصر الطبيعة الإنسانية: التعلّق، الحب، الرغبة، القلق، الغيرة، الأنانية. الجميع يُحبُّ الموسيقى منذ أبد الآبدين. لأنها، مثل النقوش الفنية والأحجار الكريمة، تثير منذ الأزل حساسية الدماغ، ترهفه وتستقطب منظوماته الإدراكية وهي ترسل نحوها «مقادير نقيّة» من الإشارات الصوتية التي تُفاجئُها وتثيرها من فرط نقائها وتناغمها. ما يختلف هنا وهناك هو نوع الموسيقى التي يميل لها هذا الإنسان أو ذاك، نمط النقوش. الجميع يحيا نفس «التراجيديا الإنسانية» ويمارس نفس الاختيارات: يحبُّ أطفاله بشكل أعمى ويغرقهم بالعطاء والهدايا حتى وإن كان هناك قريباً أو بعيداً منه أطفالٌ يموتون جوعاً. الجميع لا ينام من شدّة الرعب بسبب أصبعٍ في يده يلزمُ بترها في الغد، فيما ينام قرير العين (بعد تذمُّرٍ وأسفٍ يدومان عدّة لحظات بطبيعة الحال) إذا سمع عن كارثةٍ ستطيحُ في الغد بآلافٍ من البشر، في الطرف الآخر من الكرة الأرضية.

أضفتُ في وريقاتي: «من سيوقف أبا الكشوف؟ من سيوقفه!» وإن كنتُ أتمنى في قرارة نفسي أن يتوقَّف الزمن لِتظلّ حنايا تقرأ هذا التقرير إلى أبد الآبدين. تواصل:

((تشاهد وتلمس وأنت تسافر كم توحِّدُ البشرَ نفسُ الهموم الأولية، نفسُ التطلعات، نفسُ التوهمات، نفس الاختيارات، نفس المآزق. جميعهم تجبّلَ على الميل الفطري للتعاضد والعيش في تجمّعاتٍ وطوائف تحكُمُها أعراف وعلاقات منظَّمة، شدَّتْ أَسْرَهُ وساعدته على البقاء في عالمٍ صعبٍ شحيحِ الموارد بالغِ الخطورة. جميعهم تشرَّبَ واعتجن في ثقافة المجموعة البشرية التي ينتمي إليها. جميعهم يسقط بسرعة في فخِّ مصالحِ و«روحِ» العُصبة التي ينتمي إليها، يميل إلى تفضيلها على التجمّعات الأخرى. تعوَّد الدماغ على ذلك من ملايين السنين لدرجة أنه يمكن السقوط بسهولة فيها كمطب. يكفي مثلاً تقسيم صفٍّ مدرسي إلى مجموعات صغيرة متنافسة لِيشعر كل تلميذٍ (بعد ساعات قليلة فقط من التقسيم) أن لمجموعته «روحها» الخاصة، وليتحدَّث عن المجموعات الأخرى ككيانات مختلفة، يراقبها أحياناً بتحفّظٍ وريبة.))

لعلّ موضوع القبيلة أثار في حنايا شجوناً وأحاسيس عميقة، ذكرياتٍ وآلامَ خفيّة. هاهي تُحدِّق نحوي بأعين غائبة. لها نفس النظرات المشدودة الهاربة التي راقبتُها بدقّة في سنترال بارك وروما عندما بدأتْ حينها بإفضاء بعض تفاصيل حياتها. قالت:

ـ هل تعرف أني، من جهة أبي، «أباضية»؟ هل تعرف مدلول هذه الكلمة؟

ـ لا أعرف شيئاً عن طفولتك وحياتك عدا ما قلتيه في سنترال بارك وروما، مثلما لا أعرف مدلول هذه الكلمة إطلاقاً!

ـ الأباضية فرقة تمتد إلى «الخوارج»! ربما هم أخف الخوارج وطأة. في كلِّ الأحوال، أقل من الأزارقة والحرورية والفرق التي تُكفِّرُ الأخضر واليابس. هل تعرف من هم «الشُّراة»؟

ـ أيضاً لا أعرف!، أجبتُ.

ـ الذين اشتروا دينهم بالدنيا! هل تعرف أني من بيئةٍ شديدة القبلية والطائفيةِ بشكل لا يخطر على بال؟

تذكَّرتُها يوم رأيتها لأول مرة في حفلة المجمّع العلمي في أورسيه وهي ترفض أن تستقيم عند سماع السلام الوطني! قطعاً، قلتُ لنفسي، يصعب أن يجيد المرء الانسلاخ من مفهوم الطائفة أكثر من حنايا! أضافت:

ـ ربما كان هذا أحد أسباب فشل ثورة عمان! معسكر عمّي وأعوانه، «معسكر الشر» كما أحبّ تسميته، كان أكثر دهاءً أيضاً من الثوريين! لعب المنتصرون بذكاء خبيث على الأوتار القبلية! عُمان بلدٌ متعدِّدُ العناصر واللغات. ثمّة ستة لغات قديمة مختلفة في عُمان، مثل اللغة المَهَريَّة! أكثر من أيّ دولة عربية أخرى. التعدّدُ الإثنيُّ كبيرٌ في عُمان. بإمكان ذلك أن يكون مصدر ثراء وانفتاح وقوّة. غير أن العقلية القبليّة والطائفية الحاكمة تقف في وجه ذلك، تمنع التغيير والتقدّم!

تناولت حنايا رشفةً من الشاي. واصلت:

ـ ثمّة «العرب العاربة» في عُمان، مثل عائلة أبي الآتية من أصولٍ بدويّة قديمة. ثمَّة «أصحابُ العِرْق» الذين «أندسّ» فيهم «عِرْقٌ» غير عربي! هم مواطنون من درجةٍ ثانية عند بعض المتعصّبين من البدو، لكنهم مقبولون بشكلٍ واسع! ثمّة الهنود، كثيرون جدّا في عُمان. التبرم منهم يزداد بسبب كونهم يقبضون على زمام التجارة الصغيرة. ثمّة ذوو الأصول الأفريقية المتواجدون كثيراً في المدن الساحلية. طيبون وشجعان وأرقاء الحال كثيراً. يتعامل معهم كثيرٌ من «العرب» بتعالٍ بسبب لون جلدهم في الغالب! ثمّة البياسرة، ذوي الأصول الفارسية!

تذكَّرتُ فجأة أمّ فردوس، عمّتي شيرين، مثقّفة فارسية رائعة تُدرِّس «عادات وتقاليد ما قبل التاريخ» في قسم الاثنولوجيا بجامعة ميونيخ. مبدعةٌ عبقريةٌ أيضاً في علوم المطبخ. أشعرُ بالبهجة عندما تزورنا لمرسيليا مع زوجها، فرانتز. طبيب ألماني يساريٌّ مهووسٌ بالتاريخ هو أيضاً. معهما لا أمل النقاش والحديث الذي لا تنضبّ مواضيعه، على موائد بديعة لا تنضبّ أطباقها الشهيّة التي تحتكر تصميمها وإخراجها عمَّتي الأنيقة الرائعة.

أضافت حنايا:

ـ البيسري لفظ تحقيري بشع! البياسرة طبقة مقاربة للعرب، لكن ثمّة عداء كبير يصل إلى حدّ الكراهية المطلقة والاحتقار أحياناً! البياسرة متغلغلون في النسيج الديموغرافي كثيراً، يحاولون إنكار أصولهم البيسرية في الغالب، ويقابلهم كثيرٌ من «العرب» غالبا بالاحتقار!

ـ عقليةٌ عفى عليها الزمن، لا تختلف عن عقليّة عصر الجاهلية، تمنع التقدّم والحياة المدنيّة! علَّقتُ بلاوعي وروتينيّة، مضيفاً أن اليمن أيضاً، مثل عُمان، أسيرة التخلف والاستبداد وسلطة القبيلة التي تُكبِّل حركتها تماماً. أسيرةُ الفقرِ والتجويعِ والفسادِ وضعفِ النموِّ لِدرجةٍ لا تُقارن بعُمان التي حقَّقَتْ إنجازات كبيرة في هذه المجالات.

انتقلَ حديثنا إلى أشواقنا لليمن وعُمان! اكتظَّ فيه الشجنُ لِمدنهما وقراهما وجبالهما وصحاريهما وبحارهما الفاتنة، لبشَرهما الطيِّبِ البريءِ المخلصِ الرائع، المحروم كليَّةً من الحياة المدنيَّة والحريّة والتقدّم. ثمّ إلى مدينتين لطيفتين، أهلهما رقيقون منفتحون في الغالب، نتذكَّرهما بشوقٍ ولوعة، صلالة وعدَن. هي تحبُّ صلالة بشكلٍ خاص («أحلى مدنِ الدنيا في عينيّ!»، كما قالت)، وأنا أعشقُ عدَن بشكلٍ خاص («أطيب مدنِ الدنيا في عينيّ!»، كما قلتُ). آه، ها نحن أيضاً، بشكلٍ أو بآخر، نمارسُ بلاوعي خضوعنا لِشجون وأفضليّات وصبابات العشق القبليّ الذي لا نتوقف عن نقدِهِ وشتمهِ مع ذلك!

قلتُ:

ـ لا أعرف كلَّ هذه المعلومات عن عُمان! كلُّ ما أعرفه هو أنها بلدٌ يشيع فيه زواج الأقارب بِشكلٍ كارثيّ!

لعلِّي لمستُ بلا وعي منطقةً مؤلمة في ذكريات حناياي! يحدث أحياناً أن أمسُّ هكذا، دون أن أشعر، بعبارة بريئة مثل «زواج الأقارب»، نقاط تماس شديدة التكهرب في طفولتها!

لم أستوعب بالطبع لماذا أثار حديثي عن زواج الأقارب دموعاً حزينة مدرارة. هي لا تُفضي بذكرياتها وسيرتها إلا بالتقطير. سألتُها عن أسباب بكائها. لم تُجب. بذلتُ جهداً لإخراجها من حالتها، توسَّلْتُها أن تُفضي لي ما يدور في خاطرها. لم تضف كلمةً واحدة مع ذلك. لم أكن أعرف حينها أني سأحتاج للصدفةِ ولِزمنٍ ضائعٍ طويل كي أكتشف لماذا بكت حناياي بِحُرقة هذا اليوم. سأدركُ حينها أني، بعبارتي هذه، أيقظتُ جرحاً غائراً اسمه شهاب البوحديد، إبن أخ الشيخ سلطان البوحديد، أو «سلطان الصغير» كما أحبُّ تسميته!

تواصل حناياي بعد أن استعاد صوتُها ألقَهُ الكريستالي النقيّ:

((لعلّ لذلك نجحت الايديولوجيات والأديان التي لعبت على أوتار هذه الحساسية العتيقة. وجدَتْ غالباً في دماغ المستمعِ استقبالاً تلقائيّاً كلّما سمع بأن مجموعتَهُ البشرية هي أفضل مجموعة، «رُوحها» أطهرُ الأرواح، جنسُها أرقى الأجناس، علاقاتها أفضل العلاقات، لغتها أفضل لغة، دينها أفضل دين. استخدمتْ كل الأديان والأيديولوجيات واستغلّتْ هذا الميل التلقائي لِ«روح» المجموعة والنزوع إلى تمييزها والولاء لها. كلُّ دينٍ يشجِّعُ مثل هذه الادعاءات، يتكئُ عليها ويحثُّ على التسليم بها. يُطري دوماً على المجموعة التي تعتنقه، يُميِّزُها عن الآخرين. لا يتورّعُ عن تمجيدها، عن تبرير اختياراتها، وتقديم مصالحها، والحديث عن أفضليتها عن بقية المجموعات. كلُّ دين يدّعي أن مجموعته تمتلك وحدها «الحقيقة الحقّة». يَعِدُها بأفضل المصائر وأغدق المكافآت في العالم الآخر. كلُّ القبائل الشرقية والغربية تردِّد نفس الادّعاء، بطريقة أو بأخرى. إذا كنت في أيٍّ منها، مثل بني إسرائيل، فأنت تنتمي لِخير أمّة أخرجتْ للناس. إذا كنتَ في أخرى، مثل هنود حمر شمال أمريكا، فأنت من «البشر الذين فضّلهم الإله على بقية العالمين لأنه وهبهم الأرض الشاسعة ومصادر الطبيعة الزاخرة». (ألم تفاجئك هذه العبارة عندما قرأتها في «متحف العادات والتقاليد الشعبية» بأوتاوا بكندا؟) إذا كنتَ في ألمانيا عصر النازية فأنت من أفضل الأجناس البيولوجية، لا أكثر ولا أقل!

أكثر ما يذهلك ويرهبك عندما تسافر وتحيى هنا وهناك، هو مدى رهافة الدماغ وتفاعله الايجابي مع هذه الادعاءات. يقع في مطبّاتها ببساطة ملحوظة. يكفي أحياناً أن تدخل في نقاشات حميمية مع المنتمين إلى هذا الدين أو ذاك، إلى هذه الأيديولوجية أو تلك، لتستغرب من مدى سهولة سقوطهم في مطب «أفضلية القبيلة»، في شرَك ثقافتها وتفضيلها الذاتي المطلق لِ«روحِها» وعاداتها وتقاليدها.

تتذكَّرُ نقاشك مع ذلك الراهب المسيحي الذي حدَّثْتَهُ، في حفلة زواج أحد أصدقائك، عن معتقدات أفريقية بأن «أرواح الأجداد تُحلِّق فوق المنازل، وأن بعض الأشجار تصغي لما نقوله». أذهلك ردُّهُ عندما قال لك بحماسٍ شديد: «كيف يمكن لعقلٍ بشريٍّ أن يقبل ذلك! ألا يلزمكم، أنتم المثقفون، أن تشرحوا لهم أن ما يقولونه هراء خالص، يثير الضحك تماماً؟» تتذكّر أيضاً نقاشاً لك مع «ماساي» في خيمةٍ قريبةٍ من نجورو نجورو، كنتَ تحدِّثُه عن بعض الأديان التي ترى أن «عذاباتنا الأرضية أتت من تفّاحة ممنوعة!». لم يفهم شيئاً! حاولتَ التوضيح قائلا: «ثمة رجلٌ هو جدُّ البشرية، خرجَتْ من ضلعِهِ امرأة، هي جدّة البشرية، التهما في السماء تفاحة ممنوعة. طُرِدا بسبب ذلك إلى الأرض.» قهقه حينها بضحكة مدوِّية! قال لك بنفس طريقة الراهب المسيحي (الذي يعتبر هذه القصة أم الحقائق): «لم أسمع في حياتي قصّة سخيفة كهذه! كيف يمكن لعقلٍ بشريٍّ أن يقبل هذه الخزعبلات؟»))

سجّلتُ في وريقاتي: «برافو! لمسَ أبو الكشوف، عند ذكرِهِ لِعبارةِ متحفِ العادات والتقاليد الشعبية بأوتاوا والحوارين مع الراهب المسيحي والماساي، لحظاتٍ ومنعطفاتٍ هامّةً غربلتْ ثقافتي وغيَّرتْ تفكيري! أشكرهُ بشكلٍ خاص على إضاءته لي وهو يشرح الأسباب التاريخية والسيكولوجية لوقوع الإنسان بسهولة في فخِّ القبيلة!» تواصل حناياي:

((لعلَّ السفر يجعلك تعي بسرعة هشاشة الثقافات القبلية ونسبية ادعاءاتها. تتداعى قيمتها المطلقة في ناظريك. كلُّ منتمٍ لِدين يجزم أنه يمتلك الحقيقة. الآخر كافرٌ قاصرٌ أعمى بالضرورة في رأيه. كثيرٌ من المسلّمات لهذه المجموعة البشرية أو تلك تبدو في نظر الأخرى هراءً يثير الضحك! انتماء الإنسان لأي دين ليس اختياراً فكريّاً طوعيّاً، بل تُمليهِ قسراً بيئةُ الولادة. لا يولد المرء بوذيّاً في السعودية أو مسلماً في اليابان، كما يعرف الجميع. يصعب أن يحيى دينٌ دون بُعْدٍ تكتلّي، كما يستحيل أن يكون للحرية الحقيقية دِينٌ تكتليّ غير دِين «النوع البشري» بِرمَّته! دينِ قبيلةِ الكوكب الأزرق، الذي يقبل كلَّ إنسان كما هو عليه، كما يفكّر ويمارس حياته، دون تكفير أو تمييز، لا يعلوه شيءٌ واحد إلا القانون!

لعلّ السفر وحده والخروج من القوقعة هو ما يسمح لك التحرّر بسهولة من سلطة الثقافة السائدة وأحكامها وعاداتها المطلقة! كنتَ مثلاً قبل السفر واثقاً بشكلٍ مطلق أنه يستحيل أن يكون المرءُ مُلحِداً بشكلٍ كامل! كنتَ تظنُّ مثلاً أنه يكفي أن يكون الإنسانُ، أيّ إنسان، على تخوم الموت، أو على شفا محنةٍ عويصة، لِيَشعر بالرجفة الحاسمة والخوف من الهلاك، لِيُطلق تراتيل دعواته ويرشق صلواته وتوسُّلاته للقوى الميتافيزيقية الخفية، يسألها العون والإنقاذ. ثمّ تكونان ذات يوم إثنين في طائرة تمرّ بارتجاجات ومطبّات هوائية صاخبة، في أصقاع تشهد عواصف ورعود! خوفٌ أزرق يبتلعكما معاً، معشوقتك وأنت!))

تتوقّف حنايا عن القراءة. تقول لي:

ـ لعلي وصلتُ إلى فقرات شخصيّة حميمية. ربما لا يلزمني معرفتها! سأتركك تواصل القراءة لوحدك.

ـ لا! ليس ثمّة أيّ سر. أرجوكِ مواصلةَ القراءة.

تواصل حناياي:

((أنت ترتجف في أعماقك، تتوسّل، تدعو، تَعِدُ بالتقوى، بإطعام كلِّ فقراء العالم إذا ما نجوت من الموت الذي يبدو لك قاب قوسين أو أدنى. معشوقتك ترتجف أيضاً، يعصرها الخوف مثلك. لكنها لا تمارس الدعاء. ثقافتها العلمانية طرَدت منذ أكثر من قرنين اللاهوت والقوى الخفية، سخَرَتْ منها أيضاً. سلوكُها يختلف تماما عن سلوكك، لديها رؤيةً أخرى للحياة. هي تعصرُ يدك خوفاً، تحتضنك بعنف، تنقبضُ عند كلِّ مطب، يطحنها الهلع، تعِدُ بأن لا تركب طائرةً مرّة أخرى، تبكي بتشنّج، تستعيد أهم لحظات حياتها، حياتكما، تعانقك بعشق.))

ـ أرجوك، واصل القراءة لوحدك!، تقول حنايا.

تعطيني التقرير. تدير ظهرها بأدبٍ جم. ليس ثمّة في التقرير شيءٌ يستحقُّ هذا «الموقف العدائي». كنتُ أتذكَّرُ فقط أمام كاشف الأسرار (أو كاشف الفضائح، كما يبدو) رحلةً قمتُ بها مع فردوس للهند، تخلَّلتها مطبّات هوائية خطيرة. كنتُ أستعيد شدّة خوفي وتضرُّعي حينذاك، ملاحظاً أن فردوس، التي عصرها الهلع أيضاً، عانقتني بحرارة ورجفة، لكن لم يخطر ببالها الدعاء لأنها تجهلُ مدلوله وطقوسه، تستخفّ من ممارسته.

طويتُ جسدي عندما سمعتُ حنايا تلفظُ الجملة القاتلة: «لو سمحتَ!». عدتُ لِشُقَّتي مع التقرير. واصلتُ قراءتهُ وحدي، بعيداً عن أعبقِ كتف، عن أرقِّ صوت، عن أعذبِ رِقَّة، كئيباً مظلوماً لا تخذلني الخيبة والحسرات:

((تعبُرُهَا في تلك الثواني أفكارٌ كثيرة، ذكريات عميقة، أليمة وسعيدة. يخطر في بالها كل شيء إلا أن تتوسّل قوَّةً خفية لا تؤمن بها ولم تسمع في ثقافتها العامة غير تعليقات ساخرة قاسية عنها، أشبه بما سمعتهُ أنت في مهدك عن اللات والعزّى ومنات الثالثة الأخرى اللواتي يستحيل أن تجد نفسك اليوم تبتهل لهنّ لِطلبِ شيءٍ ما! علاقتها بالقوى الغيبية مثل علاقتك باللات والعزّى تماماً! تشعر حينها بأن قناعاتك القاطعة هشَّةٌ جدّاً! هكذا، بعد حادثة الطائرة فقط شعرتَ أنه بإمكان الإنسان أن يكون طبيعياً جدّاً، رائعاً جدّاً، مخلصاً وفيّاً، مثل معشوقتك، ويحيا دون الحاجة للإيمان بقوى خفيّة! اقتنعتَ أخيراً بأنه يمكن أن يحيا الإنسان دون سَيلٍ من الصلوات والدعوات التي يُرَتِّلها ويرشقها رشقاً وقت الخوف من الكارثة!))

سجَّلتُ في وريقاتي: «مذهلٌ جدّاً!»

((لولا حياتك الجديدة في بلدٍ لا يعترف إلا بالعلم والقانون الذي يعلو فوق الجميع؛ لولا معرفتك العميقة بأصالة معشوقتك ونقائها وسموّ قيمِها وأخلاقِها، لما تصوَّرتَ لحظةً واحدةً أنه يمكن أن يكون هناك إنسانٌ ملحدٌ بشكل خالص، ورائعٌ بشكلٍ خالص في نفس الوقت. ثمّ تتساءل أحياناً إن لم يكن الإنسان الذي يحيى على هذه الشاكلة أقلَّ نفاقاً، أكثر صدقاً، بالضرورة!

لعلَّ ما يجعلك ترى الأمور من هذه الزاوية هو حياتك في عالم آخر تنظِّمهُ قواعد مدنيّة متأصلة. مثَلٌ تعرفهُ تماماً: ميزانية وصرفيات القسم أو المختبر العلمي في الجامعة التي تعملُ بها تُنَاقَشُ في كل اجتماع لمجلس القسم أو المختبر. كشوفات الصرفيات تُقدَّمُ لكل أعضاء المجلس. يمكن فحصها وقراءتها والتساؤل حولها من قبل الجميع. لا أحد من أعضاء القسم أو المختبر حولك يتكلَّم باسم الدين، لا أحد مؤمن بدين أيضاً، لكن ممارسة الشفافية والأمانة في المال العام لا مساس بها. في هذا البلد الذي تحيا فيه، إذا بُرهن أن وزيراً ما أخذ عمولة، حتى قبل سنوات، فمصيره السجن. تنتهي حياته السياسية تماماً بعد ذلك. تتذكَّرُ بحزن بلدَ طفولتك. الجميع فيه يتحدَّثُ عن الدين والأمانة. لا يمكنك مع ذلك أن تترك «شباشبك» بعيداً عنك وأنت تصلي في المسجد! لو كان السجنُ مصيرَ من يأخذُ عمولة، فيلزم سجنٌ بحجمِ الوطن بسببِ عددِ المرتشين من القادة والمسئولين! الرافضُ منهم للعمولات كالقابض على جمرة!))

استغربتُ كثيراً من هذا المنحنى المباشر الذي اتخذهُ تقرير أبي الكشوف! هاهو يعثو بذكرياتي وانطباعاتي أمام الملأ مثل زوجةٍ غاضبةٍ ترمي ملابس زوجِها من نافذة شُقَّتهما بالدور التاسع! لم يعد يميلُ إلى الإيحاءِ واللغةِ المراوغة! لا أحبُّهُ وهو يلعلعُ بشكلٍ فضّ، يُهاجم عموديّاً كملاكمٍ انتحاريٍّ يقاتل من أجلِ إنهاء الجولة الأخيرة باللكمة القاضية!

((تذهِلُك المفارقة: بإمكان الإنسان أن لا يمارس الدين، أن لا يؤمن به، ويكون نقيّاً خالصاً في سلوكه وأمانته. وبإمكانه أن يتحدّث عنه وباسمِهِ ليل نهار، ويسرق دون توقُّف، معتقداً أنه سيمسحُ كلَّ ذنوبِهِ وكذبِه بِحِجٍّ أو بصدقاتٍ في آخر العمر! تتساءل إن لم يكن هناك خللٌ جوهريٌّ في مكانٍ ما. تتساءل بقوّة: لماذا لا يوجدُ اليوم الدِّينُ بِقوّة إلا حيث يوجدُ الفسادُ بقوّة؟ قد لا تحتاج للسفر لتعرف أن الأكذوبات باسم الدين تحكم التجمعات البشرية، منذ فجر ظهور مفهوم الأديان! قادة معظم الشعوب لا يتوقّفون غالباً عن الحديث عن السماء، أو بالنيابة عنها. السماء «تُحرِّكهم» كما يقولون كذباً وبهتانا. مَثَلٌ حديثٌ جدّاً أثارك تماماً: حرب العراق الأخيرة! تتذكَّرُ ما سمعتَهُ في لحظة اندلاعها بالضبط، وأنت تقلِّبُ محطّات الإذاعات: في نفس الدقيقة يصرّح بوش وصدام معاً خوضها باسم السماء، باسم نفس الإله. كلٌّ منهما يعلنُ في نفس اللحظة أن الآخر مُعادٍ لإرادة السماء، وأن هزيمته ماحقة! هم يستخدمون السماء كذباً مثل كلِّ من حارب قبلهم!

يُعلِّمكَ السفر أنه بإمكانك أن تعيشَ سعيداً دون هذه السماء التي يتحدَّثون عنها! هم هكذا: كلّما زاد تقديسهم للسماء كلما زاد تدنيسهم للأرض! كلّما زاد حديثهم عن «حبّ الوطن» كلّما زاد تخريبهم له. كلّما زاد تغنِّيهم بالخير كلّما خفق فيهم جناح الشر!))

سجّلتُ: «أتذكَّرُ ذلك عزيزي أبا الكشوف! لكني أفضِّلُ أن تُخفِّفَ من أزيز أعصابك، أن لا يعصفَ بك غيظُ مراهقي رُكنِ الشارع، وأن تظلَّ رصيناً مُنصِفاً حكيماً أكثرَ تجرُّداً وترفُّعاً في بُرجِك العاجيّ، على أن تكشف أسراري الشخصيّة بسوقيّةِ وفظاظةِ مُخبريّ الأمن السياسي!»

((ربما لستَ محتاجاً للسفر بالضرورة لإدراك هذه الحقيقة. لكنك تحتاجه لتهتزَّ المسلّمات المطلقة لِدماغك، لتتحرَّر من القيود، لتتَّسعَ مداركك، لتتعلَّمَ كيف تكره الحدود الجغرافية وتحتقرها. السفر يساعد في الحقيقة على الرؤية، على تجاوز مفهوم القبيلة نحو مفهوم «النوع البشري»، على سماع صوت النوع البشري بمختلف تنوّعاته وترنيماته وإيقاعاته، على قهر الحدود، على مقاومة التخثّر و«القصور الذاتي». يُعلِّمكَ السفرُ السخريةَ من الحدود! تراها جدراناً تمنعُ النظر. لا تشكُّ لحظةً أنها في يومٍ ما ستذوب حتماً. لأن دائرة التجمّعات الإنسانية لم تنفك من الاتساع: انتقل الإنسان من دائرة الأسرة، إلى القريّة والقبيلة والعشيرة، ثمّ الشعب والوطن. ذات يومٍ (في عام 2099؟ 2754؟ 6010؟.) سيكون المصيرُ الحتميُّ لهذه الدائرة: النوعَ البشري والكوكبَ الأزرق!))

سجّلتُ: «اعترفُ أنه أصاب في قراءة وتحليل ما كان يدور في خاطري أمامه! لكني أتساءل إن كان لا ينوي اختتامَ تقريره بنشيد "الأمميّة"! لعلَّي أحتاجُ الآن إلى "ما وراء (Méta) كاشفِ أسرار"، أو لِكاشفِ أسرارٍِ يكشفُ أسرارَ كاشفِ الأسرار!»

((يُعلِّمكَ السفرُ أن الحدود مفهومٌ يُكبِّلُ النظر، يمنع الانتماء للعالم، كلّ العالم. يُعلِّمكَ السفرُ عشق العالم بأجمعه. تحلمُ أن يحيى الإنسان في هذا «العالم الكُلِّيّ» منذ طفولته. تتمنّى لو يدرس كلّ أبناء الأرض منذ المهد قليلا من الإلياذة، من ألف ليلة وليلة، صفحات من التوراة والإنجيل والقرآن وتعاليم بوذا، مقتطفات من كتب كبار الفلاسفة العلمانيين والملحدين. تتمنى لو يترعرع كلّ إنسان ويشبَّ في نفس «جمهورية الكوكب الأزرق»، لا يُلزِمُهُ إلا قانونها الواحد، يُمارس معتقداته كيفما يشاء، يُغيِّرها متى ما يشاء. تشعرُ بالغيرة من أولئك الذين سيعيشون يوماً ذلك العالم. تتمنى لو كنت منهم في حياة قادمة! السفرُ يعلِّمُكَ كيف تعشق الانزياح والتفجُّرَ والحريّة. ألا تحلم أن تكتب روايةً تتنقَّلُ خلال كتابتها في ألف مدينةٍ ومدينة، أن تكتب فصلاً هنا، فقرةً هناك، أن تسافر مع صفحاتها من ديارٍ إلى ديار، من بقاع إلى بقاع؟ السفرُ يُعيدُ لك خلافاتك مع السماء من موقف قوة! لأن السفر في الجغرافيا يفتح لك بِنَهم الرغبة في السفر إلى التاريخ! أليس ذلك هو حُلمك الكبير؟ ألا تبحث في الأساس عن السفر إلى تفاصيل اللحظة الأولى التي ظهر فيها على الأرض مفهوم الدين والآلهة، وكيف تطوّرت لتصبح كما هي عليه اليوم؟. سأتركك الآن تسافر لها وحدك!))

اللعنة! أبو الكشوف يجرُّني هو نفسه إلى نفسِ الفخِّ الذي دحرجَتْ بي حنايا إليه، وهي تقترح لي البارحة موضوع «محاكاة كيف ظهر مفهومُ الدين والآلهة على الأرض، عِبْر سيناريو علمي يُبرهنُه الكمبيوتر!»! لعلّ حنايا برمجتْ أبا الكشوف بشكلٍ أو بآخر ليقول ذلك! لعلّها هي التي تحتاجُ ذلك البحث العلمي وتلك المحاكاة الكمبيوترية أكثر منّي! لا أدري من يكشفُ هنا أسرار مَنْ! ثمّة رائحةُ مؤامرةٍ ما!

((عندما تصلها، لا تنس أن تعود إليّ! سيكونُ لنا حينذاك نقاشٌ آخر. أتمنى لك، عزيزي شمسان، التوفيق والسعادة. رحلة مثمرة!))

الملحق العلمي لـِ«تقرير كاشف الأسرار»

تتمحور النتائج العلميّة التمهيدية المستحسنُ استيعابها قبل قراءة «تقرير كاشف الأسرار» في بُعدين اثنين: 1) بيولوجي مرتبط بفيزيولوجيا وطرائق عمل الدماغ البشري، 2) وسوسيولوجي مرتبط بالحياة الاجتماعية والحاجات الجوهرية التي شكَّلت وكيَّفت الطبيعة الإنسانية، كما يوضِّحها علم النفس التطوري.

1) البعد الأول: هندسة الدماغ البشري

لا شك أن أهمّ ما يميّز الإنسان الحديث على سائر الكائنات الحيّة هو دماغُه ذو الحجم الهائل والملَكات المتميّزة. ينتصُّ عموديّاً على عرشِ جسده كتاجٍ ضخمٍ مُهيب: تزدحمُ في تلافيفه مائة مليار خليّة عصبية (عصبون)، لكل منها حوالي عشرة ألف نقطة تماس (Synapse) مع عصبونات أخرى. شبكةٌ من حوالي مليون مليار نقطة تماس! لا يُقودُ دماغُ الإنسان كلَّ نشاطاتِ الجسد وحواسِه وحركتِه فقط، بل يُنتِج ويأوي أيضاً كل النشاطات الروحية: اللغة، الذاكرة، المعتقدات، الإدراك، التفكير، الخيال، الأحلام، المشاعر: العاطفة، الإرادة، الخوف. التي تتجسّدُ جميعها في خلجات التيارات الكهروكيماوية التي تعبر نقاط تماس تلك العصبونات.

لعلّ أهم أحداث العقود الأخيرة من تاريخ العلم هي «الثورة المعرفيّة» التي سمحت بإجلاء تكنولوجيا الدماغ وميكانيكا نشاطاته، بِسبْرِ كثيرٍ من أغوار خارطته البيولوجية، وفهم أدوار ومهام بعض مناطقه وطرائق عملها أثناء تلك النشاطات. يمكن تشبيه الدماغ، في ضوء العلوم المعرفية، بجهازٍ ضخم لِـ«معالجة المعلومات». في ضوء هذا النموذج «الحاسوبي» للدماغ يمكن على سبيل المثال اعتبار الذكريات والمعتقدات أشبه بمعلومات «قاعدة البيانات» في الكمبيوتر، ويمكن تشبيه نشاط التفكير، أو أي نشاطٍ روحيٍّ آخر، ببرنامج كمبيوتر يشتغل كالتالي:

1) يستلم في مدخله: معلومات آتية من الحواس، أو من تفاصيل مُعيَّنة في الواقع الخارجي، أو من حالةٍ مُعيَّنة لِوضعٍ أو مشروعٍ ما.

2) يقوم بسلسلة من عمليات حاسوبية منطقية، أشبه ببرنامج كمبيوتر، أو بالأحرى أشبهُ بشبكة من برامج كمبيوتر، تسمى «المنظومات الاستنباطية» للدماغ: برامج ذهنيّة متعدِّدة متخصصة ومتزامنة التنفيذ، تندمج وتتفاعل معا أثناء نشاطها. تتحوّل وتنتقل خلالها معلومات المدخل من وضعٍ لِوضع.

3) وينتهي عند مخرجه بنتيجةٍ ما، هي عصارة مجمل تلك التحوّلات.

هكذا تنبثق النشاطات الروحية للدماغ من تفاعلات حزمة متداخلة من «المنظومات الاستنباطية» المتخصِّصة المنسوجة في عصبونات تلافيف الدماغ، والتي تنشط أو لا تنشط حسب الموضوع الذي يصل مدخلها.

تمتلك كل منظومة عدداً من «القواعد الاستنباطية المنطقية» لمعالجة المعلومات، هي برنامجها الخاص الذي يمارس نشاطه حال استلامه معلومات تقع في مجال منظومته. يرث الإنسان هذا البرنامج الذهني عبر جيناته. مثالٌ على ذلك: «القواعد التوليدية لِنحوِ اللغات» (المرتبطة بالمنظومة الاستنباطية الخاصة باللغة) المحبوكة في عصبونات الجهاز اللغوي لدماغ الطفل عند الولادة. من المعروف هنا أن كل لغات العالم (حوالي 6000 لغة) تمتلك جميعها نفس البنية اللغوية العامة: تتركّب عبارات أي منها من نفس المكوّنات اللفظية: اسم، فعل، مفعول، صفات. ما يختلف من لغةٍ لأخرى هو طريقة ترتيب هذه الألفاظ فقط: تقديم أو تأخير الفعل على الفاعل، الصفة على الموصوف. لذلك يستطيع أي طفلٍ في العالم اكتساب أي لغة كانت، خلال السنوات الأولى من عمره، إذا عاش وتفاعل خلالها مع محيطٍ يتحدّث تلك اللغة. لأن ما يمارسُهُ الطفل خلال تلك السنوات هو تكييف «القواعد التوليدية لنحو اللغات» المبرمجة في دماغه مع خصوصية لغة محيطه وطريقة رصِّها وترتيبها لِألفاظ العبارات كما يسمعها من الآخرين.

2) البعد الثاني: الحاجات الاجتماعية الجوهرية للإنسان

مثل بقية الحيوانات يحتاج الإنسان للهواء والماء وبعض ضرورات أساسيّة أخرى. غير أن ما يُميِّزه بشكل استثنائي عليها هو 1) ظمأه الشديد للمعلومة. 2) حاجته القصوى للتعاضد مع الآخرين. عليهما، المعلومة والتعاضد، اتكأ ويتكأ منذ الأزل ليحيى، ليسود المعمورة، وليصل إلى ما وصل إليه من تطوّر وتقدّم وهيمنة على الكون. يمارسهما بشكل بديهي فطري في كل مكان ولحظة لدرجة تجعلنا ننسى أنهما أكثر ما يُميِّز الإنسان وما يضمن له البقاء والسيادة. فالإنسان يحتاج للمعلومات منذ الأزل وعلى الدوام، قبل بدءِه برحلة صيد، قبل خوضه لحرب، قبل عزمه لتنفيذ مشروع ما: سفر، زواج، تناول طعام جديد. تلزمه أيضاً معلومات كثيرة عن الآخرين، عن طبيعتهم وسلوكهم، صدقهم وغشّهم، عن نواياهم وأسلوب حياتهم. يحتاج لمعرفة خارطة المكان الذي يعيش فيه أو يتجه إليه، طبيعة الكائنات الحيّة والجامدة التي تحيطه، ظروف الطقس والكواكب المحيطة. إذا كان العرين بيت الأسد مثلاً، فَ«المعلومة بيت الإنسان» كما يُقال، أو مِشْكاته: إنتاجُها الدائم وتبادلُها مع الآخرين، منذ المراحل البدائية المبكرة لحياة الإنسان، هي أهمُّ الخصائص الجوهريَّة في نشاط الإنسان اليوميِّ التي سمحت له بالبقاء على وجه المعمورة، بالفرار من سِباعِها وضواريها، بتبادل التجارب مع الآخرين والتغلُّبِ على مصاعبِ الحياة، بسيادة الكون.

كي يعوِّض ضعفَه الجسدي ويكتسب القوّة اللازمة يلزم أن يلجأ الإنسان للآخرين وأن يتعاضد معهم. منهم يستقي معظم معلوماته. بهم يستعين لتحقيق هدفٍ مشترك لا يستطيعه الواحد أداءه منفرداً. لعلّ من شاهد فيلم «أوديسيا النوع» لا يستطيع أن ينسى ذلك المنظر الفريد لِفريقٍ من أجداد الإنسان الأول قبل عشرات آلاف السنين وهم واقفين في دائرة، يحيطون بماموثٍ هائلٍ مرعب، يحمل كل واحدٍ منهم جذعاً من الخشب يشتعل فيه النار، يطوِّقون بإحكام الماموث الذي يرتجف رُعْباً عند رؤية أعمدة النار تحيطه من كلِّ مكان، يتقدمون ببطء وبخطواتٍ متناغمة، يقتربون منه كحيوانٍ واحد متوزِّعِ الجسد، يُقلِّصون محيط الدائرة أكثر فأكثر، بنفس الحركة والإيقاع، يهجمون بمشاعلهم على الماموث العملاق معاً، بضربةٍ واحدة تسقطه صريعا. يكفي تخيُّلُ فرحِهم الجماعي بِلحمهِ الوفير، وسعادتهم ب«الإجازة» اللذيذة التي تنظرهم لبضعة أيّام سيقضون خلالها لحظاتٍ ناعمة هادئة، دون عناء اللهث بحثاً عما يسدّ رمقهم. يستغِلُّون وقتهم «الفاضي» بعمل أشياء أكثر إمتاعاً: النقش على الجدران، العشق، الشعر، الكسل اللذيذ، التفكير في الكون وعجائبه وغرائبه.

واجبات وشروط الحياة الاجتماعية أكسبت الإنسان روحاً اجتماعية متميّزة. زوَّدتهُ بمقدراتٍ خاصة على التفاعل مع الآخرين، على التكيّف معهم، على حفظ ملفّات معلومات في ذاكرته عن طبيعتهم وتاريخهم ومسالكهم؛ منحتْهُ ذكاءً اجتماعياً متميّزاً يستخدمه لِتفسير سلوك وأهداف الآخرين وافتراضها، للثرثرة معهم والبحث المتواصل بكلِّ الطرق عن المعلومات حولهم وحول غيرهم؛ خلقَتْ فيه ميولاً طبيعية لتبادل المصالح والمنتجات الشخصية مع الآخرين، للتعاون المشترك الذي يكسبه وإيّاهم قوَّةً لا يمتلكونها متفرقين (لعلّ حاصل جمع 1+1، في الحياة الاجتماعية، هو، في الغالب، أكثر من 2، كما يقال)؛ وهبَتْهُ مقدرةً حدسيّة متميّزة في تقدير الثقة بالآخر واستشراف احتمالات وتوقّعات سلوكه، انطلاقاً من مؤشرات ورموز يرشقها في محياه ومظهره؛ نمَّت فيه مقدرة خاصة على التكتّل مع الآخرين والاندماج في تجمُّعات وتحالفات متنوعة: شركاء حياة، قبائل، عشائر. تربطها علاقاتٌ وقواعدُ عديدة في الحياة، مؤسسة على التبادل الأمين للمصالح المشتركة، وفق شروط واعتبارات معقّدة جدّا أحياناً.

المنظومات الاستنباطية:

يلزم ملاحظة أن الدماغ ليس جهازاً مركزيّاً. يُمارس نشاطه عبر شبكةٍ من «منظوماتٍ استنباطية» مستقلّة متداخلة أنشأَها وبلوَرها وكيَّفَها التاريخُ التطوّري للإنسانِ الحديث (أومو سابيانس)، الوريثِ التاريخي لِسُلالةٍ من تطوّرات بيولوجية تشكَّلَتْ ملامحُها وتحدَّدتْ اتجاهاتُها في معمعان الحياة الصعبة والضرورة والحاجة الملحّة والصراع من أجل البقاء، في بيئاتٍ شحيحةِ الموارد، تملأها السباع والضواري والمفاجآت وكلّ أنواع المخاطر. يمتلك الدماغ عدداً كبيراً من هذه «المنظومات الاستنباطية» المتخصِّصة التي يمكن تحديدُ مواضعها فيه بفضل تقنيات أجهزة تصوير الدماغ الحديثة التي تسمح بدراسة جغرافيته ووظائف أقاليمه، وبفضل نتائج دراسات بعض الأمراض الذهنية المرتبطة بِتَلَفِ بعض مناطق الدماغ، والتي كشفت علاقة المناطق التالفة في الدماغ بالخلل في هذه المنظومة أو تلك، وتحديد موقع المنظومة الاستنباطية في كتلة الدماغ في ضوء ذلك. يلزم القولُ أوَّلاً أنه منذ ما قبل الميلاد شعر الفلاسفة أن الدماغ مناطق مختلفة متعدّدة الوظائف. إلا أن أوّل من أكتشف ذلك بطريقة تجريبية هم، كما هو مثيرٌ حقّاً، جلّادو السجون! شعر بعضهم أن تعذيب المسجونين ضرباً في الرأس يؤدي إلى تغيّر شخصياتهم بطريقة غريبة مرتبطة بتلف هذه المنطقة الدماغية أو تلك. غير أن اليقين من ذلك لم يتأت إلا بعد الحادثة المثيرة التي أصابت عامل المناجم فينياس جاج في القرن التاسع عشر! أثناء إحدى عمليات المناجم، أخترق سلكٌ نحيف خدّ فينياس جاج، عبَرَ دماغَهُ وخرج من أعلى جمجمته. ظلَّ فينياس جاج حيّاً بعد ذلك، يمتلك نفس مقدراته في الحس والإدراك والذاكرة واللغة والحركة. غير أن بعضاً من معالم سلوكه تغيّرت كليّة. أضحى، عكس ما كانه سابقاً، وقحاً لا يعطي حساباً للآخرين، يلفظ أشياء بذيئة باستمرار دون اكتراث، دون أن يفكّر في أثرها على زملائه وذويه الذين صاروا يردِّدون: «جاج لم يعُد جاج!». يعرف علماء الدماغ الآن، بفضل الاكتشافات العلميّة الحديثة، أن المنطقة التي أتلفها مرور السلك هي جزء مرتبطٌ بالبعد الأخلاقي في إحدى المنظومات الاستنباطية.

لكلِّ منظومة استنباطيّة «مسلّمات حدسيّة» تشكّلت في معمان تطوّر الإنسان خلال ملايين السنين. بعض هذه المسلمّات شديدة الحساسية، وبعضها قاصرة تجاوزها العلم والعصر الحديث، ويلزم التعلّم لتجاوز نواقصها. قبل شرح كلِّ ذلك سنُعدِّد الآن هنا بعض المنظومات الاستنباطية الهامّة:

1) منظومة «الفيزياء الحدسيّة» التي تهتم بادراك ومتابعة مواضع وخواص الأشياء، كيف تتحرك وتسقط وتنزلق. مسلماتها الحدسيّة هي أن كل شيء ماديٍّ له مكانٌ محدّد، يتموضع فيه بشكل منتظم، يخضع لقوانين الحركة والقوة. تختص توقعاتها واستنباطاتها بظروف الأشياء المادية وما يحدث لها: انكسار الكأس الزجاجي إذا سقط، تلف الكتاب إذا تبلَّلَ بالماء كثيراً.

2) منظومة «الأحياء الحدسيّة» التي تهتم بادراك خصائص الكائنات البيولوجية الحيّة. مسلماتها الحدسيّة هي أن كل كائن حيّ يمتلك «وقوداً» داخليا يمنحه شكله ونموّه ووظائفه العضويّة. تختص استنباطاتها بتفسير سلوك الكائنات الحيّة وخواصها وحركاتها.

3) منظومة «الهندسة الحدسيّة» التي تهتم بادراك وصنع الأدوات والوسائل والآلات التي يخترعها ويصنعها الإنسان. مسلماتها الحدسيّة هي أن لكل أداة هدف وطرق استخدام محدّدة.

4) منظومة «السيكولوجيا الحدسيّة» التي تهتم بفهم البشر المحيطين بنا، وبادراك وتفسير ما يدور في رؤوسهم وما ينوون عمله. مسلماتها الحدسيّة تكمن في أن الإنسان يختلف ويتميّز عن موضوعات الثلاثة المنظومات الاستنباطية االسابقة. تُحرِّكه قوةٌ لا مادية (اسمها «الروح») تحوي مجمل معتقاداته ونواياه وطبيعته الإنسانية. تنقسم هذه المنظومة إلى عدّة منظومات متخصّصة ذات مقدرات ذهنية حدسيّة وتخمينية شديدة الذكاء والحساسية، تهتمُّ بعضها بفهم أهداف سلوك وحركة الآخر، تخمين نواياه ومشاريعه، تقييم التفاعلات والعلاقات الاجتماعية. بفضل حساباتها المتواصلة والمعقّدة لا يتوقف الدماغ عن التنبّه والاهتمام بما يدور حوله، عن استقراء حضور الآخر وتخمين نواياه، عن تفسير منظره وحركاته، افتراض ما يفكِّر فيه.

5) منظومة «الاقتصاد الحدسيّ» التي تهتم بتبادل المصالح مع الآخرين. تتأسس على مفهوم التبادل والاستفادة المشتركة، أي تقديم عطاء يقبلهُ الآخر مقابل استلام ردّ مفيدٍ من قِبَلِه.

6) منظومة «بنك المعلومات» التي تسمحُ بتجسيد هويّة المفاهيم والأفكار والأشياء واستنتاجها. يمكن رؤيتها ك«موسوعة ذهنية» مُنظَّمَة داخل الدماغ بِشكلٍ تراتُبِيٍّ تسلسلي، مثل «قاعدة بيانات» أو منظومات ملفات جهاز كمبيوتر. لهذه المنظومة منطقها في استنباط كينونة المفاهيم والأشياء وخواصها. تهتمّ استنباطاتها بتحديد هويّة وكينونة الأشياء، متى وأين وكيف توجد وماذا تفعل.

ثمّة منظومات استنباطية كثيرة هامّة أخرى لن نتطرّق لها هنا، مثل منظومة اللغة، منظومة تقدير درجة الخطر، منظومة البعد الأخلاقي، منظومة حاسّة العدّ الرقمي، منظومة حاسّة المكان والحركة الميكانيكية فيه.

لعلّ أحد أهم الاكتشافات العلميّة الحديثة في السنين الأخيرة هي تلك التي سمحت بدراسة بُنية الدماغ، وتمييز مناطقه المختلفة وطرق نشاطها، بفضلِ حزمة من الأجهزة المتنوعِّة المتخصّصة في التصوير الديناميكي للدماغ. تتأسس فكرة هذه الأجهزة على كون النشاطات الروحية، في الجوهر، خلجاتٌ كهروكيماوية في أنسجة الدماغ. يتفاوت الدفع الدموي في تلك الأنسجة مع تفاوت نشاطها. قادت هذه الملاحظة الجوهرية إلى اختراع أجهزة مختلفة تستطيع تصوير البنية المعمارية للدماغ ونشاطات أنسجته عبر وسائل مختلفة: قياس التيّارات الكهربائية والمغناطيسية للعصبونات، التصوير بالرنين المغناطيسي الذريّ والتوموجرافيا بالإرسال الموضعي. يلعب الكمبيوتر بعد ذلك دورا هامّا في تجميع الصور وتركيبها وتشكيلها النهائي. لهذه الأجهزة دقّة زمانية وموضعية تطوّرت بشكل مذهل في السنين الأخيرة.

بفضل تكامل هذه الأجهزة يمكن معرفة ودراسة نشاطات أنسجة الدماغ عند رؤية صورةٍ ما، عند سماع جملةٍ ما، أو تصوُّرِ حدثٍ ما. تستطيع هذه الأجهزة بسهولة، على سبيل المثال، إدراك إذا كان الإنسان، في لحظةٍ ما، يفكّرُ بصورة أو بمكان جغرافي! تستطيع تمييز النشاطات المرتبطة بالحواس، بالحركة، بالتفكير. تستطيع رؤية أضرار وخلل بعض مناطق الدماغ أو تلفها. إذ تلعب هذه الأمراض هي الأخرى دورا آخراً حاسماً في إجلاء خارطة الدماغ ومعرفة وظائف مناطقه. من أبرز تلك الأمراض «الأوتيسم» (التوحُّد)، مرض أولئك الذين لا يستطيعون إدراك غاية ما يعمله الآخرون في أي حركة أو نشاط يومي. لا يفهمون على سبيل المثال لماذا يدفع المرء نقوداً لآخر، لماذا يتوجه إلى مكانٍ ما بحثاً عن شيءٍ ما، لماذا يمارس الجنس. لعلّ من شاهد فيلم «رجل المطر» لدوستين هوفمان سيمتلك فكرةً غنيّة عن ذلك المرض. يبدو لمن رأى مصاباً به وكأن «عمىً ذهنيّاً» كاسحاً يعتوره. الحق، أن ثمّة خلل في منظومة «السيكولوجيا الحدسية»، وبشكلٍ خاص في المناطق الدماغية المتخصصة بتفسير أسباب سلوك الآخرين واستيعاب غاياتها. ثمة أمراضٌ أخرى مثل «البروسوباجونيسم» المرتبطة بمنظومة «موسوعة الذهن» حيث يعاني المصابون بهذا المرض بخلل في إدراك ماهية الأشخاص، أي في إدراك العلاقة بين صورة الشخص وماهيته في موسوعة الذهن. بفضل أجهزة تصوير الدماغ ودراسة أمراضه، يعرف علماء العصبونات اليوم، بشكل عميق وواسع، جغرافية الدماغ وتشابك نشاطاته ووظائفه. ثمة على سبيل المثال خارطة دقيقة لشبكة من خمسين منطقة متوزّعة في أماكن شتّى في الدماغ تنشط عند استقبال أي صورة مرئية من العين. تتفاعل مناطق هذه الشبكة، كلّاً حسب دورها، في تفكيك مكوِّنات الصورة، في تحليلها ودمج عناصرها حتى الإدراك النهائي لماهيتها.

قبل توضيح طبيعة عمل المنظومات الاستنباطية وطرائقها في استنتاج المعلومات، يلزم التذكير بأن الدماغ البشري تشكَّلَ خلال ملايين السنين من الحياة البشرية البدائية في تكتلات إنسانية صغيرة تتصارع من أجل بقائها. أكسبته شروط هذه الحياة مهارات وقدرات مرتبطة بمتطلبات تلك الحياة وخصائصها. على سبيل المثال، مقدرته على الشعور بالخطر من وجود فاعلٍ ما قويّة جدّاً، صاغتها ملايين السنين. يكفي أن ينظر الإنسان للسحاب مثلاً ليرى في لمحة بصر أشكال حيوانات مفترسة. بشكلٍ عام، يمتلك الدماغ مقدرات ومهارات متطوّرة جدّاً في بعض المجالات التي عاشها وتمرَّس فيها طويلاً والتي ارتبطت بشكلٍ جذريٍّ بصراعه من أجل البقاء، ويمتلك مقدرات أقل تطوراً في المجالات الأكثر حداثة: بفضل تاريخه الاجتماعي الطويل، يمكنه بسهوله أن ينصهر في تجمُّعٍ ما: تكتّل إقليمي، قبيلة، عشيرة. أن تلتهب فيه «روح القبيلة»، أن يرى فيها بسهولة «خير أمةٍ أخرجت للناس»، لغتها أفضل لغة، أهلها أفضل أهل.

أما الحياة الحضرية، منذ اكتشاف الزراعة قبل عشرة ألف سنة تقريبا، فهي حديثة جداً في تاريخ الإنسان كي تمسَّ جوهرَ تركيب دماغه وتؤثر عليه. كذلك الحياة المدنيّة المبنية على القانون والمؤسسات والتقاليد المدنية: نقابات، حريّة التعبير وحريّة تغيير المعتقدات، المساواة بين الأفراد باختلاف أعراقهم وطرق تفكيرهم. هي أشدّ حداثة ليكون لها تأثير على تركيب دماغ الإنسان، لذا يلزم تعلّم ممارستها واكتسابها. لنفس تلك الأسباب يجد المرء صعوبة في تعلّم الكتابة (التي ظهرت حديثاً في تاريخ الإنسان) أكبر من صعوبته في تعلّم الكلام الذي يمارسه منذ عشرات آلاف السنين، والذي امتلك الذهن عبر تطوّره تجهيزات خاصة لاقتنائه بسهولة. لنفس تلك الأسباب أيضاً، للدماغ مقدرات محدودة في الرياضيات والفيزياء الحديثة، في التفكير النظري المجرّد، وفي كثير من النشاطات المدنية العصريّة. بعض مسلّماته الحدسية بدائيةٌ جدّاً، لاسيما في الفيزياء (قوانين الحركة.)، في فهم الطبيعة الإنسانية (الروح التي تحرك الجسم كشبحٍ داخل ماكينة، والتي تغادره عند الموت)، في تفسير الحظوظ والنكبات (لا يأخذها كظواهر تحرِّكها قوانين الاحتمالات، ولكن كمشيئة فاعل خارجي.). لكلِّ ذلك، يلزم أن يكتسب الدماغ، عبر التعليم، طرائق لتصحيح مسلَّماته الحدسيّة البدائية التي تجاوزها الإدراك العلمي والاكتشافات الحديثة، ولاكتساب الملكات التي تنقص دماغه. يلزم مثلاً أن يتعلَّم الطفل الكتابة (وليس الكلام) كما قلنا سابقاً، أن يكتسب الملكات التي تنقصه: الرياضيات والفيزياء الحديثة، التفكير النظري، البرهنة العلمية، التقاليد المدنية.

يمكن توضيح كيف يستنتج الدماغ أحكامه إيجاباً أو سلباً، أو كيف يجد نفسه أمام فرضية لا يستطيع الحكم فيها، من خلال الأمثلة البسيطة التالية:

ـ عند رؤية رجلٍ شَرِهٍ يدخل منزلا، ثمّ يهرع نحو المطبخ. لن يجد الدماغ صعوبةً باستنتاج أنه سيذهب في أغلب الظن نحو الثلاجة بحثاً عن الأكل. يصل الدماغ لذلك بفضل تعاضد منظومة انسكلوبيديا الذهن التي تعرف ماهية ومواصفات الرجل الشره، ومنظومة الهندسة الحدسية التي تعرف وظيفة الثلاجة، ومنظومة السيكولوجيا الحدسية التي تفسّر سلوك وغايات الآخرين.

ـ عند سماع عبارة مثل: «لا تسطيع البط أن تعيش دون أن تتنفس دخان السيارات»، لن يجد الدماغ صعوبة في دحضها. بسبب معرفة منظومة موسوعة الذهن لماهية البط ولكون وجودها على سطح الأرض قد سبق وجود السيارات بكثير.

ـ عند سماع عبارات مثل: «الكون والزمن بدآ بانفجارٍ هائل لِذرّة شديدة الكثافة»، «الكون والزمن بدآ ببناء السماوات والأرض في أربعة أيام من قبل خالق لا مرئي»، «الكون والزمن بدآ ببناء السماوات والأرض في عشرة أيام من قبل خالق لا مرئي»، «الضوء موجة ومادة». لا يستطيع الدماغ اتخاذ رأيٍّ يُقرِّرُ صحة أو خطأ ما يسمعه لجهل المعطيات التي تؤدّي إلى برهنة ذلك، ولمحدودية مقدراته في التفكير النظري والعلمي والفلسفي، وعدم امتلاكه منظومات استنباطية خاصة ببرهنة المقولات المجرّدة.

المشاعر:

يلزم القول هنا أن المشاعر، مثل الخوف والغضب، هي أنشطة ذهنية ترتبط بعمل المنظومات الاستنباطية. بتحديدٍ أدق، هي برامج ذهنية نمَّاها التطوّر والارتقاء لِتنْشُب في لحظات محدَّدة من عمل هذه المنظومات، وتؤثر على تصرّف الإنسان وتَكَيُّفِهِ مع أحداثٍ معيّنة في بيئته. الشعور بالخوف، على سبيل المثال، برنامجٌ ذهنيٌّ متَّصِلٌ بمنظومة «تقدير درجة الخطر». الشعور بالاشمئزاز متّصل بمنظومة «تقدير درجة إمكانية التسمّم». كثيرٌ من المشاعر الاجتماعية والأخلاقية مثل الخجل والغضب نَمَتْ في خضمِّ التطور الإنساني كتَكَيُّفٍ مع الواقع الاجتماعي الذي لعب، كما أشرنا سابقاً، دوراً جوهريّاً في التركيب الذهني للإنسان. الشعور بالذنب والخجل مثلاً يعمل على ردع الرغبة باستغلال الآخر أو عدم ردّ حقوقه. الشعور بالغضب والاحتقار يقود مثلا للابتعاد عن الغش أو معاقبته، الشعور بالامتنان والإخلاص يجذب الثقة وتبادل المصالح مع من يتحلّى بهما.

اندماج المنظومات الاستنباطية:

من المعروف بيولوجيّاً أن الإنسان المعاصر اكتسب شكلَهُ التشريحيَّ الحديث قبل حوالي 200000 سنة، غير أنه ظلَّ حينها مخلوقاً ضعيفاً غير ذي أهميّة ملحوظة على وجه الأرض. لكنه بعد توحّد منظوماته الاستنباطية (الذي آل إليه تطور وارتقاء آليةِ عمل دماغِه بين 100000 سنة و50000 سنة قبل تاريخنا الحديث) تحوَّل إلى الحيوان المهيمن على الكرة الأرضية! لعلّ اندماج هذه المنظومات الاستنباطية وعملها المشترك أثناء النشاط الذهني هو أهم ما يتميّز به الإنسان الحديث (اومو سابيانس) على سائر الكائنات، وعلى ابن عمِّه المنقرِض (اومو نانديرتال) الذي امتلك نفس تلك المنظومات الاستنباطية دون امتلاك نفس مرونة تواصلها. إذ برهنَتْ الاكتشافات الأركيولوجية أن سابيانس تمكّن بعد توحّد منظوماته الاستنباطية من امتلاك مقدرات ومواهب لا مثيلَ لها عند سائر المخلوقات الأخرى أو في حياته السابقة: الخيال والخلق. بفضلهما اخترع الآلة، أبدع النقوش والتماثيل، ألّفَ الأساطير والحكايات. تشهدُ على ذلك كلُّ ابتكاراتِه اليدويَّة حينذاك، انتاجاتِه الفنيّة والثقافية، نماذجِه ومفاهيمِه الذهنيَّة المجرّدة، ظهورِ طقوسِه وأديانِه، ونواةِ اللغاتِ الحديثة. لزِمَهُ في كلِّ ذلك انفتاحُ تلك المنظومات الاستنباطية على بعضها وتبادلها للمعلومات: ساعدته هذه المرونة الذهنيّة مثلاً على السيطرة على فريسته وتدبير أنواعٍ مختلفة من الفخاخ (ثقوبٌ أرضيّة مغطاة بمادة خادعة، طُعْمٌ قاتل، أشرَاك، رميُ صخرة من الأعالي.) للإيقاع بها، مبتكراً لذلك طُرقاً هندسية (عبر منظومة الهندسة الحدسية) مستخدماً الوسائل والمواد المتوفّرة في محيطه الطبيعي (عبر منظومة الفيزياء الحدسية)، في ضوء تمثُّلهِ الذهني لنوايا العدوّ وطبيعتِه (عبر منظومة الأحياء الحدسيّة إذا كان العدو حيواناً، أو السيكولوجيا الحدسية إذا كان إنساناً). بفضل اندماج منظوماته الاستنباطية تمكَّن من صُنع الآلة واستخدامها لأكثر من غرض: الحرب، الزينة. بفضل هذه الملَكة أيضاً أنطلق عنانُ خياله: نقش على الأحجار والكهوف رسومات الكاميرياء الذي ابتكر فيها حيوانات افتراضية خلقها من وحي خياله لا غير، دامجاً فيها أعضاء جسدية لأكثر من حيوان وطائر: مثلُ مزْجِ رأس أسدٍ بأجنحة نسرٍ وجسد تنين.

التمثُّل والخيال:

تمثُّلُ دماغِ الإنسان لما تصله من معلومات وتفاعله معها سلوكٌ ذهنيٌّ غريزيٌّ منذ الطفولة ضروريٌ لِفهم العالم، للتعلُّم، لتخطيط المشاريع والرؤى الذاتية، لحياةِ أحاسيس جديدة: الطفلُ يُقلِّدُ في سنواته الأولى حركات أعين وألسنة الكبار، يقلِّدُ أصواتهم كوسيلةٍ لاكتسابِ اللغة، لِتعلُّمِ أداء بعض الحركات. بشكلٍ عام، يتمثَّلُ الدماغُ البشريُّ ما يتلقّاه باستمرار، يجيب دوماً وبلاوعي على أسئلةٍ من طراز: ماذا سأعمل لو كنتُ في هذا الموقف؟ هل هناك حلٌّ أفضل؟.

لا يتمثَّلُ الإنسان المعلومات فقط، بل يقضّي وقتا كبيرا (في نومه ويقظته) يخلقها بشكلٍ افتراضي. منذ فجر تطوّره كان من المهم جداً أن يتصوَّر الإنسان ماذا سيحدث لو خرج للاصطياد، أن يفترض نوايا وخطط التجمّعات البشرية المجاورة، أن يحيك تساؤلات وافتراضات من نمط: ماذا لو سرقني الآخر؟ ماذا لو سافرت بذلك الاتجاه؟ يمتلك الإنسان ملكَة التخيُّلِ هذه منذ طفولته: يتظاهر الطفل مثلاً بصبِّ إبريقٍ فارغ في كأس، بالتلفون دون وجود شخص في الطرف الآخر. منذ توحُّدِ منظوماته الاستنباطية وجد الإنسان نفسه يتمثّل ويبتكر معلومات ورموز تخيُّلِيّة، عبر تماثيل أو رسومات جدارية تحاكي أو تتمثّلُ بطريقة تأليفية كائنات الواقع مثل الأصنام، الكاميرياء.

كيف يمارسُ الذهنُ عمليَّةَ الخيال؟

ما يعرفُهُ العلم حالياً حول هذا السؤال ما زال في مرحلة المهد. بعض العمليات الجوهريَّة التي يمارسها الذهنُ أثناء الخيال، مثل «الدمج المفاهيمي»، دُرِستْ بِشكلٍ واسع. غير أن كثيراً من الظواهر الانتقائية والحدسيَّة أثناء عملية الدمج المفاهيمي مازالت مجهولةً في الغالب.

من الملاحظ أن التمثُّل الذهني يؤثر على أدمغتنا ومشاعرنا لأن الأحداث المتمثَّلة تُنشِّطُ نفسَ المنظومات الاستنباطيّة في الدماغ التي تُنَشِّطُها الأحداث الواقعيّة المعاشة. فالمناطق الدماغيّة التي تشعر بالألم، على سبيل المثال، تتقاطعُ في أنسجة الدماغ مع المناطق الدماغيّة التي تتمثَّلُ الألم. لذلك نشعرُ بالألم عندما نسمعُ أو نرى أمامنا ألمَ الآخر، أو في فيلم سينمائي، أو عند تمثُّلِ ألَمِهِ أثناء قراءةِ عملٍ أدبي. كذلك حال الأحداث المتخيَّلة. تُنشِّطُ هي الأخرى نفس المنظومات الاستنباطية كما لو كانت واقعية. فمجرَّدُ تصوُّر إنسانٍ ما بأجنحة يجعلنا نحكم بأنه يستطيع أن يطير، وهلمّ جرا.

هكذا، وجد الإنسان نفسه منذ زمن سحيق، مثلنا اليوم، أمام محيطٍ لُجاج من المعلومات التي تصلُه من كلِّ مكان: من تاريخه وتراثه، من محيطه الاجتماعي، من توقُّعاته واستنتاجاته التي يفترضها أو يختلقها بواسطة ملكَتِهِ الذهنية الفريدة تلك. غير أن كثيراً من هذه المعلومات تسقط عاجلاً أم آجلاً في هاوية النسيان. يجدر ملاحظة أن هناك خصوصيَّات محدَّدة تجعلُ بعضَ المعلومات تستحوذُ ذهنَ الإنسان وتلتصق فيه أكثر من غيرها، إن لم تنتقل أيضاً من جيل لجيل. ما هي هذه الخصوصيات؟

1) المعلومات التي تُخالف توقُّعاتنا الذهنيةَ في جانبٍ واحد فقط، أي تلك التي تختلف عمّا نتوقّعه في مجالٍ محدَّد، وتفاجئ ما ننتظره ذهنيّاً. سأضرب أمثلة على ذلك: «زرقاء اليمامة» امرأة كأيَّة امرأة، لكنها قادرة على النظر أبعد من الآخرين. بإمكانها (حسب الأسطورة) رؤية الأشياء التي تبعد على مسافة 3 أيام منها! كذلك «الحيوانات التي تتكلم»، هي حيوانات مثل بقية الحيوانات، تمارس كينونتها في كلِّ المجالات كمختلف الحيوانات، لكنّها تنطق كالبشر! «التفاحة المحرَّمة» هي تفاحة لا أكثر ولا أقل لكن مجرد قضمها يسمح بالوصول إلى أقصى المعارف وكشف أكبر الأسرار! أثبتتْ التجارب الذهنية أن مثل هذه المعلومات تستحوذُ الذهنَ الإنسانيَّ بِشكلٍ خاص وتلتصق في ذاكرته أكثر من غيرها لأنها تفاجئ أو «تغتصب» توقّعاته الحدسيّة في نقطة واحدة فقط.

2) تلك التي تثير أكبر عدد من المنظومات الاستنباطية في الدماغ في نفس الوقت، مثل الكائنات الماوراء الطبيعيّة في كثيرٍ من المعتقدات الدينية التقليدية، التي تمتلك قدرات خارقة، تراقب حياتنا وتعرف خفاياها ومستقبلها، تثير هلعنا من غضبها وبطشها وشعورنا بالحاجة لنيل مددها ومراضاتها. مثل هذه الكائنات تستحوذ عددا هامّاً من المنظومات الاستنباطية لاسيما منظومة السيكولوجيا الحدسيّة التي تجرُّنا لتخمين رضاها أو غضبها ومحاولة استقراء مواقفها وقراراتها كما نخمِّنُهُ في حياتنا الاجتماعية، أو منظومة الاقتصاد الحدسي التي تحثّنا على التفكير بالتبادل التجاري معها: دعاءنا وصلاتنا وصدقاتنا مقابل حسناتها ونيل رضاها. كثيرٌ من المشاعر تنشب وترتبط بهذه الكائنات: الخوف من بطشها، التوسل لها، الإعجاب والذهول أمام مقدراتها الخارقة.

بسبب هاتين الخاصّتين تظلّ على سبيل المثال بعض القصص والنكت ملتصقة بالذهن أكثر من غيرها، بل تنتقل من جيل لجيل. لأن نهاياتها أو عِبَرها تخالف أو «تغتصب» توقعاتنا الفطرية، أو تحثُّنا على التفكير والتأمل، أي على تفاعل عددٍ كبير من المنظومات الاستنباطية مع مضمون ودروس تلك الحكايات.

لعلّ هذا التقديم المقتضب لِسَليقَةِ وسمات الدماغ البشريِّ يساعد على استيعاب كيف استطاع الخيال البشري البدائي أن يخترع بعض المفاهيم الدينية وكيف ظلّت قصصها ومعتقداتها وأساطيرها تُتَوارَث وتتوسّع من جيل لِجيل، قبل أن تتطَّور كمّاً ونوعاً، لاسيما مع تطوُّرِ اللغات والمنظومات الفكريَّة المُكثَّفَةِ فيها، مع ظهورِ الكتابة، ومع تحوّلات سلطة هذه المفاهيم ومحترفيها إلى مؤسسات رسمية شريكةٍ مع الحاكم، ومع اقتحام رموزها لأسس تربية الإنسان وطقوس حياته وعاداته وتقاليده منذ مولده. لِتَصِلَ هذه المفاهيم أخيراً إلى مرحلة خلق أديان رسمية، أكثر فأكثر تجريداً، يمارسها ويعتقد بها الكثيرون. كلّ هذه المعتقدات تعجُّ بِمعلوماتٍ تغتصبُ التوقُّعات الذهنية للمتلقِّي، تستقطبُ انتباهَ عددٍ كبير من منظوماته الاستنباطية. لأنها تتمحور حول كائنات جبّارة (آلهة) ترتبط ممارساتها بشكلٍ عضويٍّ بكلّ ما يهمّ الإنسان ويلتصق بكينونته: تَعلَمُ الأسرار وما تخفيه الصدور، تُقرِّر المصائر، لا تنسى الماضي وكلّ صغيرة وكبيرة فيه، تمتلك المقدرة على التواجد في كل مكان وزمان، تمتلك القدرة على تدمير الإنسان أو إسعاده. ناهيك أن تفاعلَ الإنسان مع تلك المعتقدات يُفرَضُ عليه دون طلب رأيه، منذ ولادته، ويرتبط بكل طقوس حياته: الولادة، الزواج، الممات.

مراجع المُلحق العلمي:

المراجع الجوهرية التي يتأسس عليها هذا الملحق العلميّ هي:

1) Boyer, Pascal, 2001), Et l’homme créa les dieux, Editions Robert Laffont

2) Pinker, Stefen, 1997), How the mind works, New York : Norton

                                                                                              

روان، باريس، افينيون، ليون، الدارالبيضاء، القاهرة، سيوة، ميونيخ، صنعاء، عدَن

1 يونيو 2006 – 31 مايو 2007

للأصدقاء الأعزاء:

محمد برادة، عبدالباري طاهر، نادية الكوكباني، ي.ض.، عبداللطيف محفوظ، الطاف عبدالرب سروري، صباح الأرياني، محمد راوح الشيباني، ناصر أمزربة، وفاء مقبل. كلَّ العرفان والشكر لِقراءتهم المتأنية لهذه الرواية، ولِكلِّ ملاحظاتهم القيّمة.



[1] ألسيون: طائر خرافي يبيض على الماء الهادئ. يسحر الريح والبحر ويؤدي إلى سكونهما. هو رمز السعد والحظ الطيب عند الأغريق