إلى محمد أنقار
رسالة: لم أكن سوى لحظة خاطفة، عشناها معا لتنضاف إلى احباطاتنا المتجددة.
لك ضفافي
في محطة الحافلات تلفت بما فيه الكفاية، حقيبتي تحملني، وقدماي تسوقاني إلى حكاية جديدة، حكاية تبعد عن وطني مسافات بين البوح والصمت، هنا جلست أرقب، أجتهد في التقاط صور عابرة علني أستطيع ولو مرة واحدة إتقان فن الوصف، قيل لي: "إن السرد يبدأ حينما ينتهي الوصف"، تختلط علي المشاهد، لا أدري هل أصف أم أسرد، سأدع الحكاية تختار لونها، وأنت أيها الباحث عن نفسك ضمن امتدادي أنصحك بالاقتراب قليلا وحاول كشف الفجوات، لأن مقهى "سيسيليا" ليس كما تتصور أو تصورته أنا في البداية حينما تخيلته، إنه مكان يعج بالعابرات، مكان فوضوي لا يصلح بتاتا للنميمة، الأقنعة متكسرة، كل عابرة تعيش حقيقتها كما اختارتها أو أجبرت على عيشها.
الحكاية تبعد مسافات، وأنت تنتظر دورك في الحكي أو الوصف، انتظر قد تكون أنت أنا، جنسيات مختلفة تمر من هنا لا أحد يعيرني أي اهتمام. سواها. تلك التي تجالسني دون سابق تعارف، أختلس نظرات ممعنة تخترق أسوارها المسيجة .. ابتسمتْ، تابعت ُ النظر دون وقار. بداخلي ذاك المشاكس الذي يقول: إنها تحتاجك الليلة، أقمع صوتي، وأنهمك في التأمل، مثلما هي منهمكة في رسم قوالب لمجسمات مختلفة، قد أكون تلك الدائرة التي تخططها .. وقد تكون هي الحكاية .. كل الاحتمالات واردة، سوى أن أستجيب لصوت المشاكس الذي يسكنني .. انتظر.
تابعت النظر، ربما ليست مثل باقي العابرات .. فاجأتني حينما طلبت مني ولاعتي لتنير سجارتها، تكلفت بالمهمة، المشاكس يتشدق بداخلي، يدي تحمل سؤالا من نار، يتسع ليقول من تكونين أيتها الوحيدة؟ سؤالي ظل في ولاعتي، وغيرت وجهتي، المشاكس لم يهدئ من روعه غير فجوة الصمت التي طالت ولم تنتهي. سأكون هنا مساء، إلى اللقاء!
رسالتها واضحة، سأكون هنا مساء لتمنحني ولاعتك .. صعدت إلى غرفتي في الفندق اليوناني الذي يطل على البحر، بجانبه مآثر برتغالية قديمة، يرتادها العشاق الوافدين على المدينة، يتلمسون عشقها ودفئها. بسرعة خاطفة انزويت في ركن هادئ من الفراش، توسدت يدي، وبدأت أتفرس في سقف الركن الهادئ، ألمح انعراجات كثيرة، تجويف في الوسط، وانتشار خفيف في الأركان الأربعة تمتد لتصل إلى الحائط، سأكون مساء، أه، لتمنحني ولاعتك .. يتسع رأسي ليملأ هذه الكينونة العابرة.
في نفس الطاولة جلست، أنتظر سؤالي، أملأ متاهتي التي تعقدت، أراها بعيدة تسير في خطوات واثقة، شعرها الأسود الفاحم يطل، لا تتلفت، وإلي تسير، تقترب، ألتقطها الآن كاملة، تلبس فستانا أبيض يكشف عن ذراعيها وبداية صدرها، ويتشقق من الأسفل ليصل إلى جزء كبير من فخذيها، حرصتْ أن تبدي وشما في كعبها الأيسر، تتزين بحذاء مصنوع من الرافيا تنتشر فيه ألوان متشابكة، تعقد سؤالي، هل هي مجرد عابرة؟ المشاكس يهزأ مني، يغريني ثم يعود لمعاتبتي .. تلقفتها بقبلة جريئة، وبنفس الجرأة بصمت قبلتها على وجنتي.
ظلت مساحة صمت بيننا تحرق أسئلة كثيرة، اخترقها صوت النادل.
قهوة مطبوخة جيدا.
نعم هي كذلك جميلة رائحتها.
كل شيء فيها يغري بالمتابعة، تحدثني عن غربتها في ذاتها، والقراءة الكئيبة، والعزلة التي طوقتها .. أفرطت في الحديث، وكل حكاية تجتازها تتنفس الصعداء في وسطها، ثم تكملها بصوت متقطع، كأنها تجاري دمعها، وخيبتها التي هي جزء من خيبتي.
قالت: لا أعرف لماذا أنا منساقة إليك، رغم أن تعارفنا جمعته ولاعة، ونظرات غير بريئة.
قلت: ما رأيك أن أدعوك إلى المطعم الفرنسي.
جلست تتأمل المكان، استأذنت لتصلح قناعها الذي تعرض لشقوق بعدما تذكرت مآسيها. عادت، الفرقة تؤدي مقطوعة جاك بريل:
Ne me quitte pas,
Il faut oublier, tout peut s' en fuit déjà,
Oublier le temps, des mal entendus,
Et le temps perdu, à savoir comment,
Oublier ces heurs, qui tuaient parfois,
A coups de pourquoi,
Le coeur du bonheur,
Ne me quitte pas..
طلبت مني أن أراقصها على مهل، وضعت يدي اليمنى على خصرها، والأخرى على ظهرها، بينما هي أسلمت رأسها فوق صدري، تنساب كشفق ، شيئا فشيئا، بدأت تنهار، وأنفاسها تكاد تختنق، فجوة الصمت تتسع، يكسرها صوت الأركسترا .. .. ne me quitte pas وقبل محمومة ..
ليلتها قضيناها أمام المآثر البرتغالية، نتدفأ مثل بقية العاشقين، نعلن صوتنا داخل هذا الممتد، ويختلط صوتنا مع صوت البحر المتقطع.
في صباح هذه الليلة نهضت متأخرا، رأسي أثقله النسيم العليل، مزاجي آسن، تمططت قليلا، ثم انسحبت من الركن الهادئ، خرجت إلى باحة الفندق، وجدت رسالة مباغتة فيها قبلة حمراء .. ووداع .. تذكرت حذاءها المتشابك الألوان، والمشاكس الذي يسكنني، وقلت في نفسي هذه هي الحكاية.
كاتب من المغرب