تسعى قصة الكاتبة المصرية التي نشرت ثلاث مجموعات قصصية إلى حجب حقيقة الشيء المباع والاهتمام بأثر بيعه كي تتحول القصة إلى استعارة دالة على الهدر والبدد.

صفقة بيع بالدولار

سلوى الحمامصي

تأملته جيدا. دارت حوله تنثر نظرات الإعجاب. جميل جدا، رائع سناه. تمتلكه منذ زمن. إنه لها؟ لابد وأنه يقدر بمئات الألوف بل الملايين، حمدا لله أنه قد أهدى إليها ولم تشتره. كانت تحافظ عليه جيدا، تلمعه بين الحين والآخر، تغدق عليه بشراء المنظفات والملمعات لتضفي عليه دائما البريق المرضى لها.

لم تندهش عندما شاهده بعضهم معها، كانت تطير فرحا عندما تلتف حوله العيون لم تبح أبدا عن كونه أهدى إليها قديما، كانت تتباهى دائما باقتنائه. عندما عرض عليها البعض أن يشتريه، تأففت نفورا!! من قال أنه معروض للبيع؟ هذا بالذات ليس للبيع. تكاثرت العروض عليها، بدأت تفكر جديا ليس فى بيعه ولكن فى مبدأ البيع فى حد ذاته، فكرت أن تعرض شيئا آخر أصغر للبيع، لعلهم ينصرفون عن ثمينها. لدهشتها لاقى الشيء الأصغر قبولا، وجاءها بثمن باهظ. جمعت النقود أمامها على منضدة صغيرة بغرفتها ببيتها الصغير، أخذت تحملق فيها، تحتضنها بين ضلوعها، تتنسم عبير أوراقها فيغمرها الانتعاش.

الأمر يستحق التفكير. 

بعد بضعة أيام عرضت شيئا ثانيا للبيع. فوجئت بالأرقام الخيالية التي جاءتها، اختارت أفضلها، وباعت. طرقات الناشدين على بابها! يعلو الصوت! ويعلو! يوشك أن يصم أذنيها، مع ذلك لا تفتح، لا تريد ضيوفا ولا تجارا، لن تبيع ثمينها، يمل الطارق ويذهب..

لا أنيس ولا جليس، بدأت تشعر بالسأم، وشعورها بالوحدة يتزايد. مقاومتها تخور وتضعف. جمعت النقود أمامها على منضدة صغيرة بغرفتها ببيتها، أخذت تحملق فيها، تحتضنها بين ضلوعها، تتنسم عبير أوراقها فيغمرها الانتعاش.

تقضى الساعات تحملق فيه، يا له من جميل، وبراق، تنفق الأوقات تلمعه وتنظفه، وتزينه. كانت تتمنى لو تداريه، لكنها لا تملك إلا أن تخرج به، تتباهى به، وتمشى كملكة سبأ فى خيلاءها

بالمصادفة التقت بأحد السياح، شعرت بأنه الوحيد الذي يمكنها البيع له، لا تدرى كيف قُذفت هذه الفكرة إلى قريحتها؟ ما أثارها أنه لم يفطن إلى ما معها، لم يلحظه، هاجت وماجت كبحر أسود مخيف، كيف لم ينتبه له؟ بذلت كل الجهود حتى تلفت انتباهه إلى ما معها، أخيرا التفت له، وأعجبه، لكنه لم يعرض شراءه. في البداية أخذتها كلعبة، لن تبيع ثمينها، تريد مجرد إثارته ودفعه لعرض الشراء. فى النهاية لم تعد لعبة، باعت ثمينها بمجرد إشارة من إصبع السائح.

جمعت الدولارات الخضراء أمامها على طاولة كبيرة في جناحها الخاص بقصر السائح، أخذت تحملق فيها تحضنها بين ضلوعها، تتنسم عبير أوراقها فيغمرها الانتعاش. تذكرت كيف ارتعشت يمناها وهى تخط إمضائها على بنود عقد البيع، هذه المرة كان لابد من إبرام عقد، فالأمر يستحق.

لأول مرة تحيا بدونه. بعد البيع، بدأت ملامح الغربة تتسلل إلى نفسها. لماذا باعت؟ لم يكن في نيتها أن تبيع! لكنه الغرور، والكبرياء.

من كرتها البلورية كانت ترى كيف صار يسئ السائح معاملته، كيف أصابه السأم والملل منه، بعد أن كاد يطير سعادة وحبورا لاقتنائه، بعد أن كان يبرزه لكل معارفه، صار يتناساه، ويمعن فى إهماله.

غربتها تقتلها، غربة النفس والأهل، غربة الوطن، هل يمكن أن تستمر فى الحياة بدونه؟ جمعت كل ما أخذته من نقود، ترجت السائح أن يعيده إليها نظير أن تعيد له دولاراته، نقوده الخضراء، لم يجب، لم يفهم، كان يتحدث "بالدولارية" أغدق عليها مزيدا منها، لكنه لم يعده، لغة جيدة لم تكن تعرفها، لكنها تجيدها الآن.

قبعت في جناحها بالقصر لا تبرحه، يمامة جريحة الجناح، تئن وتنزف أنهارا حمراء، وحيدة تزوم. لا يسمعها أحد، ترفل فى دمائها، تخجل من أن تبوح بفشلها، بحمقها وغبائها. تقطنها دموع مكتومة، جراح مكلومة. أين لها بقارب نجاة من آلام الوحدة والغربة و"اللا ثمين"، و"اللا غال"؟ يغلفها الضياع. تغرق في ظلمات سحيقة، لم تدر كيف زلت قدماها إلى هوة بيعه وشراء الندم.

بحثت حولها جيدا لم تجد ما تبحث عنه، نظرت إلى الحوائط العالية لجناحها بالقصر فجأة جرت إلى إحداها وأخذت تضربها بكلتي يديها كي تحطمها. ولكن دون جدوى، جرت إلى حائط آخر وآخر وظللت تجرى بين الحوائط محاولة تحطيمها وهى تلهث، وتتصبب عرقا، فإذا بطاقة هائلة تنفتح من إحدى الحوائط ويخرج منها سيل من الدولارات الخضراء، تتطاير فى أرجاء جناحها بالقصر، فتتناثر على الأرض وتنتشرمن تحتها ومن فوقها، تدور وتتراقص فى جوف المكان وتحط فوق رأسها وهى الحمامة الجريحة الهائجة، فإذا بها تهدأ و تخبو نارها، وتتنسم عبير أوراقها، فيغمرها مزيد من الانتعاش يدغدغ أعصابها ويسكرها، فيطرحها أرضا فلا تدرى إلا والأوراق الخضراء تلتف حول عنقها، تغمرها وتغمرها، تكتم أنفاسها، وتغيب إلى الأبد. 


سنغافورة