يطرح الروائي اللبناني هنا مجموعة من الأفكار والتأملات المثيرة للجدل والنقاش حول الرواية والشعر وموقف الكاتب من العالم، ويثير عبرها أسئلة شائكة ومقلقة

في الرواية وما حواليها

ملاحظات متفرّقة

رشيد الضعيف

هذه ملاحظات متفرّقة أملتها علي اللحظة، أرجو أن تتقبّلوها برحابة صدر، وبخاصّة البعض منها. 

1ـ الحسد.
أريد أن أبدأ ملاحظاتي هذه بالقول إنّ هذا عالم موبوء! أقصد عالم الكتّاب. إنّه عالم من الحسد النشيط، والكراهية الأكولة. لكنّني لن أُتوقّف عند وصف هذه الظاهرة الآن، بل سأتكلّم على أسبابها دون أن أطيل: لا شكّ أنّ أحدَ أسبابِ هذا الحسد، هو الصراع على الأبديّة. إنّ احتلال مركز مرموق في الأبديّة هو بلا ريب حلم كلّ كاتب، أستثني من ذلك القلّة النادرة من الكتّاب الذين لندرتهم يمكننا أن نتغاضى عن وجودهم.

إنّ تكريم كاتب في حياته، هو إشارة في هذه الدنيا إلى أنّه سيدخل إلى الأبديّة. إنّ تكريم كاتب في حياته، هو بطاقةٌ تُسلّم إليه في هذه الدنيا الخاطفة، تسمح له فيما بعد بالدخول إلى عالم البقاء والديمومة والخلود. لهذه الأسباب يسعى الكاتب، روائياً كان أو شاعراً، إلى أن ينال ما استطاع من التكريم في هذه الدنيا. لأن المزيد من التكريم في هذه الدنيا الفانية، يُشعر الكاتبَ بأنّ حظوظه في الخلود تزداد.

وليس من السهل على من يحلم بأن يكون هو الكاتب الباقي، أن يرى غيره يكرّم، أي أن يرى غيره من الكتّاب يعطى دونه بطاقات الدخول إلى الخلود. لذلك فهو يشعر بالحسد، وربّما ازداد هذا الحسد إذا كان الاثنان متقاربين من حيث القيمة.

أمّا التكريم فيكون بالجوائز، طبعاً. ويكون أيضاً وبخاصّة بالظهور المتكرّر ما أمكن في وسائل الإعلام، وبشكل خاص في التلفزيونات الكبرى والبرامج الشهيرة.

(وإنّني إذ أقول هذا الكلام، لا أبرّئ نفسي من أي شائبة أو خطيئة أو سيئة. إن ما يصحّ على غيري، يصحّ علي. لكنّني من ناحيتي أحاول أن أبقى منتبهاً إلى هذا الأمر، وأحاول أن أعمل ما أمكن على تحاشيه، أو التقليل من أثره السلبي). 

2 ـ الكاتب وفكره
يقودني ذكر وسائل الإعلام إلى إيراد الملاحظة التالية: لا يشغل الكتّابَ في وسائل الإعلام نقاشُ مسألة ما فيما بينهم. ولا يزيد ظهورُ الكاتب المتكرّر على شاشات التلفزة، المواضيعَ التي يتكلّم عليها انتشاراً، ولا يزيدها عمقاً في فهم القارئ. إنّ الظهور على الشاشة، هو ظهور للكاتب بعينه. هو تغذية لأناه. نادراً جدّاً ما يتوارى الكاتب ليَظهر فكرُه، بل إنّ الكاتب يُظهر فكرَه ليكون هذا الفكر في خدمة شخصه، وفي خدمة أناه.

يجيئني أن أقول وأنا أفكّر في هذه الأمور: ولّى زمن الأفكار التي يناضل من أجلها أشخاص، وها قد آن زمن الأشخاص الذين يوظّفون الأفكار لخدمتهم.

«كرّموني! سنّدوني بالهتاف والتصفيق! أغرقوني بأنوار المنابر، اجعلوني في كلّ بيت، لتحبّني النساء، أو ليحبّني الرجال». هذا هو شعار المرحلة. أمّا الفكرة ونشرها فهذا من شيم المناضلين الذين يؤمنون بأنفسهم خدماً لأفكارهم. وهذا على ما أظنّ كان موجوداً في أوساط الكتّاب، لكنّه ولّى أو تضاءل كثيراً. أبدو في هذا الكلام كأنّني أدعو إلى أن يكون الإنسان في خدمة فكره... وأنا في الحقيقة أخشى على الذين يقتنعون كثيراً بفكرة ويدعون إليها، وعلى الذين يؤمنون كثيراً بحقيقة (حتّى الموت أحياناً) ويدعون إليها، أخشى عليهم أن يكونوا مخطئين. 

3 ـ بين الأدب الجميل والادب «الصحيح»!
أحبّ أن أميّز ما بين الأدب الجميل والأدب الآخر الذي يمكن تسميته مرحليّاً، وفي انتظار تسمية مناسبة، بالأدب «الصحيح». أُعطي مثلاً على ذلك:

يقول الشاعر الغزل نزار قبّاني في قصيدة غنّتها فيما بعدُ فيروز: 

«لا تسألوني ما اسمه حبيبي
أخشى عليكم ضوعة الطيوب
والله لو بحت بأي حرف
تكدّس الليلك في الدروب» 

فهل أجمل من هذا القول؟ 

وهذا مثل آخر على الغزل «الصحيح» الذي لا يمكن أن نصفه بالجميل:

«شربتُ الشاي، هذا الصباح، في الكوب الذي كنتِ تشربين منه ليلة أمس، بدون أن أَغسله... »

فهل أصحّ" من هذا القول؟

أعطي مثلاً آخر:

طلبت معلّمة من تلاميذها أن يكتبوا عن حبّهم للصيف، فكتب أكثرهم عن النسيم العليل والبحر الجميل وعن الجبل والشاطئ وحفيف الأشجار وثمار الصيف وما إلى ذلك، لكنّ أحد التلاميذ قال إنّه يحب الصيف لأنّه يحب البطّيخ، وإنّ والده يشتري منه يوميّاً في هذا الوقت، وهذا ما يمتّعه كثيراً. لكنّ المعلّمة لم تستحسن هذا الكلام، ونصحت التلميذ بأن يكتب كرفاقه وقرأت له ورقة جميلة لأحد منهم لتكون مثلاً يقتدي بها.

أظنّ أنّ الرواية العربيّة بعامّة خرجت من نطاق ما يسمّى بالأدب الجميل.

فرواية (الأجنحة المتكسّرة) لجبران خليل جبران، هي من نوع الأدب الجميل. وكذلك رواية (زينب) لمحمّد حسين هيكل. لكنّ أكثرية الروايات العربيّة اليوم، لا يمكن إدراجها في خانة ما يسمّى "الأدب الجميل".

فالرواية في مصر مثلاً عند كثير من الكتّاب المصريين الشباب اليوم، لا يمكن أن نطلق عليها هذه الصفة، صفة الأدب الجميل!

ثمّ إنّ هذه الصفة لم تعد بالضرورة شيئاً إيجابيّاً، أو رفعاً من قيمة الرواية.

دخلت منذ سنتين، إلى مكتبة «ميريت» في القاهرة، واشتريت كيفما اتفق عدداً من الروايات لروائيين وقصّاصين مصريين شباب، وعندما قرأتها بعد عودتي إلى لبنان فوجئتُ بأنّها قطعت بالفعل حبل السرّة مع ما يسمّى «الأدب الجميل»، الذي يعتمد على اللفظة المختارة، والعبارة المنسابة، والمعنى اللطيف، والموضوع الموصوف، وفوجئتُ في الوقت نفسه، بابتعاد هذه الروايات من حيث اللغة عن «النموذج اللغوي»، أقصد المرجعيّة التي كلّما عدنا إليها واقتربنا منها جادت عبارتُنا، وقويت لغتنا. كأنّني بكثير من هذه الروايات تفتش عن ذاتها لتكتمل من ذاتها، لا من مكان آخر.

ما لفت انتباهي كثيراً في هذه الأعمال هو أنّ بعضها يكثر من العاميّة، وأنّ الفصحى المستعملة فيها جميعاً ليست فصحى «مهابة»! كفصحى طه حسين مثلاً أو فصحى نجيب محفوظ. إنّها فصحى وحسب، فصحى غير مثقّفة في أكثر الأوقات، ولا تتضمّن معارف لغوية وثقافية وتراثيّة. ليس فيها مثلاً وصف للنساء بعبارة تراثية من نوع: «لا يُشقّ لهنّ غبار!» لا شكّ أنّ هذه الروايات لا تأخذ بالرأي السادج القائل بأنّ الرواية حادثة مرويّة بلغة فنيّة.

ولذالك ولكلّ ما ذكرت، أحبّ أن أزعم دائماً، بأنّني لا أدّعي الأدب بل أدّعي أنني ممتهن الرواية. أنا بهذا المعنى لست أديباً بل صاحب مهنة. مع أنّني أكتب بلغة يُثني عليها كثير من النقّاد من حيث سلامتها وسلاستها.

أعترف بأنني لستُ في جرأة هؤلاء الشباب.

الرواية العربيّة تخرج إذن أكثر فأكثر من نطاق "الأدب الجميل"، وتتحوّل أكثر فأكثر إلى نشاط منفصل عن الأدب بمعناه المتعارف عليه. وربّما صحّ توصيفها بالمهنة، أو بالفنّ كمهارة، وليس بالفنّ كوحيٍ جميل، يُغذّي فينا حبّ الخير والحقّ والجمال. 

4 ـ الكشف.
وإذا كانت الرواية في تيّارها الغالب توقّفت أو تكاد أن تتوقّف عن أن تكون «فنّاً جميلاً» أو «أدباً جميلا»، وإذا كانت بطلت أن تكون وسيلة تنمّي فينا «حبّ الخير والجمال»، فإنّها لا شكّ ما زالت وسيلةً لإنتاج معرفة بالذات وبالعالم. إنّها مرآة نضعها أمامنا لنتأمّل ذواتَنا المفردة، وذاتنا الجمعيّة. إنّها مرآتنا التي تسمح لنا برؤية من نحن فرداً فرداً، ومن "نحن" كجماعة. إنّها سيرة أفراد، وفي الوقت نفسه صورة عن ثقافة وحضارة ومجتمع في لحظة من لحظاته.

وهي أيضاً، وفي الوقت نفسه، مساءلة. مساءلة لكلّ شيء، للموروث الثقافي والسلوكي، وللمسلّمات الأساسيّة الأخلاقيّة التي يُبنى عليها وعيُنا لذاتنا ووعيُنا للآخر، ويبنى عليها بالتالي سلوكنا مع ذاتنا ومع الآخر.

وهي كشف أيضاً، بما هي إنتاج معرفة بالذات الفرديّة وبالذات الجماعية.

ولكنّنا إذ نعتبرها مرآة فقد تكون مرآة غشّاشة، لا ترينا أنفسنا بل توهمنا بأنّ ما نراه هو أنفسنا، وهذا خطرها. وهذا ما حدث وما يزال يحدث. 

5 ـ التاريخ والمطلق.
والرواية في الثقافة العربيّة هي، بخلاف الشعر، انحياز إلى التاريخ لا إلى المطلق.

ذلك لأنّ الرواية تُكتب بلغة الزمن الحاضر، وبمفردات الزمن الحاضر، وتَكتب مشاكل الزمن الحاضر، إنّها بهذا المعنى مرآة الزمن الحاضر، بينما الشعر، وبخاصّة منه شعر الشعراء الكبار، هو انحياز إلى المطلق، أي إلى اللغة الخالية ما أمكن من رائحة المكان والزمان. لغة الشعر لغة لاتاريخيّة. لغة الشعر موازية للتاريخ وليست جزءا منه. الشعر يعتمد لغةً تدّعي أنّها فاعلة في التاريخ دون أن يكون للتاريخ فعل فيها. لغة تؤثّر في التاريخ دون أن تتأثّر به. لذلك ترى أحياناً قصيدةً كتبت اليوم لكنك لا تشمّ منها رائحة المدينة التي كتبت  فيها، ولا رائحة الزمان، ولا حتّى رائحة الحال أحياناً.

(وأقصد باللغة هنا المفرداتِ المستعملةَ في هذا الشعر وطريقةَ بناء العبارة، والمعاني والتضمين والطرقَ البلاغيّة وما إلى ذلك). بينما الرواية مغروزة أكثر في المكان والزمان الذين كتبت فيهما، وهي مضطرة بطبيعتها أن تستخدم اللغة التاريخيّة، لا اللغة الأخرى المنفلتة من التاريخ. 

6 ـ الرواية والشعر والسلطة
هذا الكلام يقودني إلى قول ما يلي: لا أدّعي انّني قرأت كلّ الروايات العربية، بل لا أدّعي أنني قرأتُ أكثرها، ولكنّني أدّعي أنني قرأت عدداً لا بأس به منها، وأدّعي أيضاً أنّني لا أذكر أنّني قرأتُ روايةً تهيّئ الظروف لقيام سلطة قمعيّة استبداديّة ودكتاتوريّة.

أرجو ألاّ يُستفَزّ البعض منكم أيّها السادة الحضور، لكنّنا لسنا هنا في جلسة مفاوضات تتطلب قليلاً من التنازل من كلّ منّا، حتى نصل إلى حلّ يرضي الجميع بمقدار، بل نحن هنا في نقاش فكري وتبادل للآراء وحسب. أقول إذن لم أجد في الروايات التي قرأتُها ما يحضِّر لقيام أنظمة ديكتاتوريّة متسلّطة، أو لقيام سلطات قمعيّة استبداديّة. كانت الرواية بالعكس من ذلك، أقرب إلى أن تكون دعوة إلى الديمقراطيّة في الغالب، بينما الشعر (أو لنقل: بعضُ الشعر الفاعل) كان أقرب إلى أن يكون تهيئة الأجواء لقيام الاستبداد.

نعم!

قد يفاجئ هذا القول، ولكنّ القليل فقط من التأمّل يسمح لنا بأن ننتصر سريعاً على مفاجأتنا.

لنتذكّر أنّه في الخمسينيّات أطلق على عدد من الشعراء الحداثويين اسم «الشعراء التمّوزيّون» وكان ذلك لأنّ تمّوز في الميثولوجيا هو إله البعث، أي الحياة بعد الموت، وهو رمز التجدّد والانتصار على الموت.

ثم، إنّ الشعر الحديث (في البعض الفاعل منه على الأقلّ) كان شعراً ثوريّاً، والثوريّة (خاصّةً في ذلك الوقت) تعني الانتصار على الماضي بقمع كلّ معقِل من معاقل مقاومته، وتعني التغيير المفاجئ والسريع، وعن طريق القوّة عند الضرورة بلا تردّد، وتعني إقامة ديكتاتوريّة الجديد حتّى يستقرّ له الوضع. والشعر الحديث (أكرّر القول: في بعضه الفاعل) حدّد لنفسه مهمّات عديدة منها ما كان خارج الشعر، ومن أهمّ هذه المهمّات كان خلق الانسان الجديد، وبناء المجتمع الجديد، وما إلى ذلك.

أريد للشعر الحديث إذن أن يكون جزء من عملية التحديث العربية الشاملة. وأن يكون أداةً من أدوات بناء المجتمع الجديد. أريد له أن يكون أداة تغيير بالمعنى الثوري المعروف للكلمة. فإذا صحّ كلامنا هذا، وإذا صحّ وصفنا لهذا الواقع، جاز لنا التساؤل عندئذ عن الأثر الذي تركه هذا الشعر على مستوى المجتمع. إنّ الحداثة العربية كما هو ظاهر، أدّت إلى نتائج كثيرة جدّاً ومختلفة جدّاً، منها الإيجابي ومنها السلبي، ومن سلبيّاتها، أنّها أدّت، شئنا أم أبينا، إلى إقامة أنظمة استبداديّة في كثير من البلدان. إنّ الشعر الحديث دعا إلى الخلاص، ودعا إلى مخلّص، وقال في ذلك الأناشيد... وجاء كثير من القادة السياسيين، ممن اعتبروا أنفسهم مخلّصين، وكان ما كان...

وإنّ هذا الشعر استعمل كثيراً الصورة الشعرية القائلة باستحالة دماء الشهداء إلى أشجار مورقة وأزهار مضيئة طيّبة، وهذه كما نعلم صورة شعرية مأخوذة من الأديان السماوية. وقد ركّز الشعر الحديث كثيراً على أهمية الدم النازف من أجل القضيّة... بحيث أنّ المرء اليوم قد تخطر على باله فكرة مفادها أنّ هؤلاء الشعراء، قد حقّقوا أحلامهم من هذه الناحية، أي أنّ هناك كثيراً من الدم ينزف الآن من أجل القضايا.

لم يحوّل الشعرُ الحديثُ هذا، الوقوفَ الطوعي عند الإشارة الحمراء، ولم يحوّل دفعَ الضرائب الطوعي، وما إلى ذلك، إلى شعر، بل حوّل نزف الدم من أجل القضيّة إلى شعر، وكثرت القضايا وكثر الدم...

(أريد هنا أن أقول إنّ وضع الشيء في المكان المناسب ضروريّ جدّاً وبخاصّة التضحية بالذات. ولكن علينا أن نعرف متى تكون هذه التضحية بالذات في المكان المناسب!)

إنّ السؤال إذن مشروع: ألم يسهّل الشعر الحديث تحويل الصورة الشعرية التي تقول بأنّ الدماء تزهر حريّة، إلى واقع متجسّد كلّ يوم، في كلّ الميادين، ممّا أدّى أحياناً إلى تضخم في الشهادة... أقول ذلك وأنا أتذكر ما جرى في لبنان على سبيل المثال لا الحصر، حيث كان لكلّ فئة قضيّة ولكلّ فئة شهداء، بحيث إنّ عدد الشهداء قد تضخّم إلى الحدّ الذي نعرف... إلى حدّ الغضب!

قد تكون هذه الملاحظات مجانبةً للحقيقة إلى حدّ بعيد بالنسبة إلى الكثيرين، بل قد تكون على قدر كبير من التجنّي، لكنّني مؤمن بضرورة إطلاقها للنقاش. 

7 ـ دور الرواية في الوعي.
لا شكّ أنّ للرواية دوراً في تشكيل وعينا للذات ووعينا للآخر. ومنذ بداية المعاصرة والرواية تلقي الضوء على مشاكلنا كما يراها الروائيّون. (وأقول كما يراها الروائيّون، لأنّ مشاكلنا قد تكون مختلفةً عن الطريقة التي يراها بها الروائيّون. فقد لا تكون رؤية الروائيين لواقعنا مطابقة لهذا الواقع).

ومنذ البداية وهي تنسج وعيَنا لذاتنا ووعيَنا للعالم شيئاً فشيئاً، ومشكلة مشكلة، وظاهرة ظاهرة، وذلك في الميادين كافّة، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الفرد إلى الجماعة، ومن الزواج إلى الطلاق، ومن الإخلاص إلى الخيانة، ومن الحجاب إلى السفور، ومن النضال إلى النأي بالذات عن المشاكل. إنّها إذن تنسج منذ أوّل ظهورها كفنّ معتبر في الثقافة العربية وحتى اليوم، وعيَنا لذاتنا وللعالم.

وكان للواقعيّة بأشكالها كافّة حصّةُ الأسد في هذه الرواية.

والواقعيّة كما هو معلوم، موقف فلسفي يقول بأنّ للواقع وجوداً موضوعيّاً، أي أنّ وجوده مستقلّ عن وعينا له، ويتحرّك حسب قوانين ذاتيّة خاصّة به، والواقعية تسعى إلى فهم قوانين هذا الواقع، أي القوانين التي يتحدّد بها هذا الواقع. الواقعية تفترض أنّنا نعرف هذا الواقع، أو أنّنا نستطيع معرفته.

هناك عدد كبير من الروايات التي قرأتُها ينطلق من هذا التصوّر، ويريد لذلك أن يصوّر الواقع، وأن يؤدّيه، وأن يصفه.

ينتقد أحمد أمين في كتابه (حياتي) الحجاب كثيراً، ويمتدح السفور كمقدّمة لإصلاح الزواج، فبالسفور يرى كلّ من الزوجين صاحبه ويأنس به قبل عقد الزواج، والسفور يمكّن المرأةَ من معرفة أشياء كانت تجهلها، ويساهم بالتالي في التقدم على طريق إصلاح المجتمع. يقول أحمد أمين عمّا شاهده من السفور أثناء زيارة لتركيّا: «والنساء فُتنَّ بالحريّة الجديدة والسفور الجديد، والفتيات يرقصن في الشارع، ويغنّين في المقاهي، وكأنهنّ سجناء خرجنَ من سجنهن بعد طول العذاب، ورأين أهلهنّ».

أحبّ هذا المقطع كثيراً. أحبّ هذا التشبيه. رغم أنّه يُظهر أنّ للسفور أثراً سحريّاً في إصلاح الواقع.

لقد عالجت السفورَ رواياتٌ كثيرة في ذلك الوقت. وكان الحجاب في تصوّر هؤلاء الروائيين للواقع الاجتماعي، عائقاً في وجه تطوّر المرأة وبالتالي تطوّر المجتمع. فهل كان الأمر كذلك بالفعل؟ إنّني أطرح هذا التساؤل علناً. وما يدفعني إلى هذا التساؤل هو أنّ المرأة في الغرب تحرّرت ولم يحرّرها أحد. بينما كان الأمر عندنا من عمل الرجال أوّلاً.

أتساءل: لو أنّ المرأة كانت جزءا من القرار في المجتمع والمؤسسات والدولة، أما كانت مسألة الحجاب ثانويّةً؟ 

8 ـ الرواية والإيديولوجية
يقودني هذا الكلام الآنف الذكر إلى الكلام على أنّ الإيديولوجية تضعف الرواية. والإيديولوجيا هي تصوّر للواقع، قد يكون صائباً وقد لا يكون، وهو في الأغلبية الساحقة من الأحيان لا يكون صائباً، لذلك يلزم الروائي المزيد من الحذر، لئلاّ تتحوّل روايته إلى بروباغندا.

ولأنّ الكثير من الروايات يهدف إلى الإصلاح، فإنّ الكثير من الروايات يفقد متعة القراءة. 

9 ـ متعة القراءة
أقولها صراحة، لا أحبّ قراءة الرواية التي لا تمتّعني قراءتها. وبهذه الروحيّة أكتب.

أريد أن يتمتّع القارئ وهو يقرأ روايتي، ولا أريد أن أعظه ولا أن أعلّمه.

أريد أن ألفت نظره إلى موضوع ما، وأريد أن أثير حساسيته تجاه موضوع معيّن. لكنّني لا أريد أن أقنعه برأي بكلّ تأكيد، بل أريد بلا ريب أن أجعله يشكّ في قناعته مهما تكن راسخة.

أريد أن أجمع ما بين المتعة والعمق في كتابتي الروائيّة. حلمي أن تقرأني والدتي الأمّيّة، وأن تتمتّع بهذه القراءة، وأن يقرأني المفكّر المتعمّق وأن يجد ضالّته في ما يقرأ.

هذا هو حلمي.

وبهذا الهمّ كتبت «معبد ينجح في بغداد» مسترشداً بطريقة ابي الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني. مستوحياً استراتجيّته الكتابيّة وحرّيته في القول بخاصّة وكثيراً من تقنيّاته الكتابيّة. وكذلك الحال بالنسبة إلى المسعودي في كتابه مروج الذهب، وغيرهِما كثير من الناثرين العرب القدماء، الذين كانوا أدباء مهما ادّعوا كتابة التاريخ، ومهما قيل عنهم إنّهم مؤرّخون. إنّهم بالنسبة إلي أدباء ملهَمون. 

هذه هي الملاحظات التي أردت قراءتها الآن عليكم، والتي قد يعتبر البعض عدداً منها قاسياً جدّاً، وقد يعتبرها البعض الآخر جارية ضدّ التيّار. لكنّني أعتقد دائماً بأنّ النقاش الفكري ليس مفاوضات بين أطراف يفترض في كلّ منها أن يتنازل عن بعض من حقوقه. شرط الحوار القول.

وشكراً على هذه الدعوة الكريمة. 


محاضرة ألقيت بدعوة من مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث- البحرين، 29 اوكتوبر 2007