في الوقت الذي تحيي فيه مكتبة الإسكندرية والمعهد البريطاني في مصر الذكري الخمسين لإصدار الكتاب الأول من رباعية الإسكندرية للورانس داريل (جوستين 1957، بلتازار 1958، ماونت أوليف 1958، وكليا 1960)، قد يكون من المناسب أن نتذكر حقيقة بديهية غابت طويلا عن الأذهان: إن إسكندرية داريل ليست بأي حال من الأحوال تعبيرا مباشرا عن الإسكندرية الفعلية الواقعية، في الماضي أو الحاضر.وقبل أن يظن القارئ أن كاتبة هذا المقال لا تعرف الفرق بين الفن والواقع، يتعين القول منذ البداية إن هذه المقالة لا تركز علي إبراز الاختلاف بين إسكندرية الواقع وإسكندرية الخيال الأدبي في 'الرباعية.لكنها بدلا من ذلك تحاول أن تشرح السبب في أن المدينة الواقعية التي عاش فيها مؤلف الرباعية بضعة شهور قبل نهاية الحرب العالمية الثانية تحولت علي يده إلي «عاهرة المدن» علي حد تعبيره الشهير.
إن القول بأن داريل ما هو إلا أجنبي رأي المدينة من وجهة نظر زمرة محدودة من الأجانب والزائرين العابرين، أو بأنه لا يعرف طوبوغرافية الإسكندرية، أو لغة أهلها، وهو ما قد يكون صحيحا، ليس موضع الاهتمام الأساسي لهذه المقالة.وكان يمكن لمثل هذه الحجة أن تكون ذات دلالة لو كان داريل قد تصدي لكتابه دليل سياحي للمدينة، وهي المهمة التي حققها «إ.م.فورستر» بنجاح كبير في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، علي الرغم من أن فورستر كان أيضا أجنبيا، يتردد علي نفس الزمرة الضيقة التي التقي بها داريل بعد حوالي عشرين سنة.
عود علي بدء:
بالطبع كان داريل أجنبيا، لا يعرف، أو لم يهتم بأن يعرف، تاريخ المدينة أو لغتها، لكن هذه الحقيقة لا تستدعي بالضرورة التقليل من قيمة الرباعية، فهي عمل فني تحكمه قوانين تختلف عن تلك التي ينبغي أخذها في الاعتبار لدي كتابة دليل للسياحة أو تاريخ للمدينة.إن تصوير المكان في عمل فني، كما كتب الناقد الفرنسي 'بيير ماشري' ذات مرة عن مدينة باريس في أعمال بلزاك، هو ناتج عمل محدد لا يخضع لشروط الواقع، بل لشروط العمل نفسه.إنه ليس انعكاسا لواقع أو تجربة، بل هو حيلة فنية تتكون كليا من تأسيس نظام معقد من العلاقات.ويترتب علي هذا، أنه بدلا من أن نعزو عداء داريل وازدرائه لكل شيء مصري في الرباعية إلي نقص المعرفة، ينبغي أن نبحث عن تفسير هذه الظاهرة في نظام العلاقات المعقدة التي تشكل العمل الفني الذي نسميه رباعية الإسكندرية، الذي يحفل بالعبارات العنصرية الفجة مثل: إن الكرباج هو علاج الروح الجبانة للمصريين.
ربما كانت إحدي الطرق السهلة لتفسير مثل هذه المقولات الأيديولوجية هي أن نعزوها إلي سيادة العقلية العنصرية للرجل الأبيض في فترة صعود الاستعمار...وهي عقلية تطل علينا مرة أخري الآن مع الحرب المشتعلة علي «الإرهاب».وربما لا يكون هذا التفسير خطأ في مجمله، لكننا إذا أردنا التعامل مع الرباعية كعمل فني وجزء كبير منها، وخصوصا جوستين هو كذلك بالفعل، إذن علينا أن نفترض أن هذه الأيديولوجية الاستعمارية قد أثرت علي العمل بطريقة أكثر تعقيدا مما يظهر في المقولات الأيديولوجية الهجومية المتناثرة هنا وهناك، وخصوصا في «مونت أوليف»، الأكثر تشبعا بالأيديولوجيةالاستعمارية والأقل فنية من باقي أجزاء الرباعية.علي أية حال، فإن كتابة نقد أدبي لرباعية داريل هو خارج مجال اهتمامنا هنا، فالسبب الأساسي وراء هذا المقال هو التذكير ببعض الحقائق الغائبة عن الشروط التي أحاطت بإنتاج هذا العمل وليست مناقشة مزاياه الأدبية.
شروط إنتاج الرباعية:
قبل الدخول في المشروع الأيديولوجي وراء الرباعية، كما يوضحه داريل نفسه في خطاباته الشخصية، من المهم هنا أن نبدأ بإعطاء نبذة مختصرة عن سيرته الذاتية.فقد التحق داريل المولود في الهند في سنة 1912 في صباه بالمدارس الداخلية للطبقة الراقية في إنجلترا، حيث مكث فيها حتي بلغ 18 سنة.وفي أعقاب موت أبيه في سنة 1930، ترك داريل المدرسة، واستخدم الأموال التي ورثها عنه في السعي وراء تحقيق طموحاته الأدبية، حيث انتقل للإقامة في حي الكتاب والفنانين في لندن «بلومسبري»، ونشر علي حسابه ديوانين صغيرين من الشعر لم ينالا أي اهتمام يذكر.
وفي سنة 1935، بعد أن تزوج للمرة الأولي، قرر أن يرحل هو وزوجته إلي اليونان، وعاشا في جزيرة كورفو حتي نهاية 1938.وحينما بدأت سحب الحرب العالمية الثانية تتجمع، انتقل هو وزوجته إلي أثينا، حيث عمل أولا في السفارة البريطانية، ثم في المجلس البريطاني.وفي أبريل سنة 1941، غزا النازيون اليونان، وأرسِلت سفينة إنقاذ بريطانية من مصر إلي كريت، لتعود إلي الإسكندرية وعلي ظهرها ملك اليونان وحاشيته والكثير من الرعايا البريطانيين، بمن فيهم داريل وزوجته.
وبعد أن أمضي داريل أول شهرين له في مصر يكتب عمودا أسبوعيا فكاهيا في جريدة الإجيبشيان جازيت، التحق في أغسطس 1941 بالسفارة البريطانية في القاهرة، حيث كانت وظيفتة إمداد الصحافة الصادرة باللغة اليونانية في مصر بإخبار الحرب الدعائية. وقد ظل داريل يشغل تلك الوظيفة حتي سنة 1944 حينما عيٌن ملحقا صحفيا بالإسكندرية التي كانت تمتلئ باليونانيين في تلك الفترة. وبينما كان داريل في مصر تعثر زواجه الأول، وفي الإسكندرية التقي إيفا كوهين اليهودية المقيمة بالمدينة، التي صارت زوجته الثانية، ومصدر من مصادر الهام الرباعية.
وبعد بضعة شهور في الإسكندرية رجع داريل بصحبة "إيفا" إلي اليونان عام 1945. ومنذ ذلك التاريخ لم يعد إلي مصر أو الإسكندرية حتي منتصف السبعينيات، حينما أتي مع إذاعة ال بي بي سي التي خصصت برنامجا لتتبع خطواته في مصر. وقد كتب داريل بعد ذلك مقالة في جريدة (النيويورك تايمز) تحدث فيها بمرارة عن تجربته في العودة لمصر لبضعة أيام. ومن هنا نري أن إقامة داريل في الإسكندرية لم تكن إقامة طويلة تستحق الحديث عنه كمرجعية يعتد بها في تاريخ المدينة الكوزموبوليتانية. وفي الحقيقة، فإن الكثير من الأفكار التي اختمرت في (رباعية الإسكندرية) اكتملت فيما بين عامي 1956 و1959 قد نبتت بذورها في عقله في وقت مبكر وقبل أن تطأ قدماه المدينة بعشرين عام، حينما كان لم يزل يعيش في كورفو. وكان هناك عدد من العناوين المؤقتة لهذا العمل، تكرر ذكر عنوانين من بينهما: كتاب الموتي وكتاب النذير.
وفي ديسمبر سنة 1936 كتب داريل إلي صديقه الروائي الأمريكي هنري ميللر يقول: لقد خططت ل كتاب النذير، لكنني أفتقر إلي المراجع اللازمة في علم النفس وعلم أمراض الطفولة والتخلف العقلي والعبقرية، إلي آخره. (دعنا نقتل رجال الأدب جميعا ومرة واحدة) ونجبرهم (علي القبول الفلسفي) بالطقوس السرية. (إلي الأمام.إلي الأمام.). ويمكننا أن نقدر بالكامل أهمية الاحتياج إلي المادة المرجعية المذكورة، حينما نعلم أن داريل في هذه المرحلة المبكرة من حياته كان متأثرا إلي حد بعيد بالنظريات العلمية الزائفة التي سعت إلي التأسيس لعلاقة وثيقة بين الوضع الاجتماعي للبشر، وبين خصائصهم التشريحية والفسيولوجية (حجم جماجهم وشكلها، والطول والبشرة، واللون، إلي آخره).إن هذا الميل النفسي للإقرار بالحتمية البيولوجية، المنسوج داخل وربما المتفاقم أيضا من كراهيته للمصريين، قد أضفي صبغة واضحة علي الكثير من رؤيته للإسكندرية وأهلها.
وفي سنة 1944، وصف داريل مدينة الإسكندرية ل ميللر قائلا: لا أظن أنك ستحبها.أولا هذا التسطيح المشبع بالبخار والرطوبة لا ربوة ولا تل في أي مكان مدينة تختنق إلي حد الانفجار بالعظام وقاذورات الثقافات البائدة المندثرة.بعد ذلك هناك المدينة النابوليتانية (نسبة إلي نابولي إيطاليا) الرخيصة المهدمة والمنهارة، وأكوام منازلها الشرقية التي أكلتها الشمس وقشرت طلاءها، كل هذا مقابل بحر منبسط بني قذر، يلتقي بالميناء في سكون دون موج.
وفي رسالته الأخيرة لميللر، قبل أن يغادر الإسكندرية، كتب داريل إلي: لقد انتهيت من مسودة من حوالي عشرين صفحة لنسخة جديدة من كتاب الموتي إنها تدور حول الإسكندرية وسفاح القربي اللصيق بالمدينة كظلها، لكن الكتاب نفسه سيستغرق مني سنة أو نحو هذا لإنجازه.
جمال عبدالناصر ولورانس داريل:
في الحقيقة استغرق هذا الأمر عشر سنوات أخري، بعده كتب داريل لصديقه معلنا تقدما ملموسا في كتابة جوستين. حدث ذلك بينما كان داريل يعمل في قبرص في إنشاء محطة راديو للدعاية للقوات البريطانية في الجزيرة. آنذاك كانت حركة «إيوكا» للكفاح المسلح، والتي كانت تناضل من أجل إنهاء الحكم البريطاني للجزيرة، في أوج اشتعالها.وفي هذه الظروف كتب داريل، خريف 1955، إلي ميللر يقول: نحن هنا في وسط ثورة صغيرة بشعة للغاية، تستخدم القنابل، ويتم القتل فيها علي النمط الفلسطيني ... ولكنني وسط كل هذا الضجيج والمذابح، انتهيت من كتابة نصف رواية بعنوان (جوستين) عن اسكندرية ايفا (زوجته الثانية) قبل الحرب.
وفي صيف 1956، يكتب داريل ل ميللر: لقد انتهيت للتو من كتاب عن الإسكندرية يسمي (جوستين) ... هذا بينما أستطيع أن أسمع خارج منزلي الصخب المتقطع لانفجار القنابل أو الطلقات المتفرقة للمسدس أو استدعاء من قيادة العمليات، حيث يقال إن هناك كمينا آخر في الجبال.أوقات شاذة ومثيرة وحزينة مثقلة بالعبث والاشمئزاز، لكن من الرائع أن تكون قادرا علي أن تعيش في كتابك بينما كل شيء يتداعي بالتدريج من حولك، ليفسح مكانا لحظر التجول المفروض علي المدن الميتة.
وفي أغسطس 1956، عندما تصاعدت وتيرة الكفاح المسلح في قبرص أضطر داريل للفرار من الجزيرة إلي إنجلترا، وفي أكتوبر من نفس السنة كتب يقول: لا أعرف ما الذي يحدث في قبرص الأن ربما يكونوا قد أحرقوا منزلي في ... لقد أصبح من الواضح أننا (بريطانيا) لن نستطيع الاستمرار في كوننا قوة عظمي إذا ظل استيعابنا السياسي للأشياء ساذجا بهذا القدر.بمقدور روسيا أن تصبح قوة عظمي لأنها تطلق النار لتقتل.لكننا لا نستطيع أن نطلق النار ونعتقد أن هذا غير لائق.
ولا يحتاج الأمر هنا إلي فهم عميق لربط تاريخ هذه الرسائل بالأحداث التاريخية الكبري لصعود وانهيار الإمبراطورية البريطانية، كما أنه ينبغي ألا ننسي أن مصر جمال عبد الناصر كانت آنذاك بؤرة ثورية ساخنة ضد المصالح البريطانية في الأقطار العربية وما وراءها.فأكتوبر 1956، علي سبيل المثال، هو تاريخ العدوان الثلاثي علي مصر، الذي كان بمثابة إعلان لنهاية الاستعمار البريطاني، وأغسطس هو الشهر التالي لتأميم قناة السويس الذي أعلِن من الإسكندرية في 26 يوليو، بينما يعلم الجميع أن حركة «إيوكا» المناهضة للاستعمار البريطاني كانت ترتبط بعلاقة وثيقة مع النظام الناصري. لهذا كله، فإننا لا نجنح بعيدا عن الصواب في الزعم بأن العالم المتخيل في الرباعية هو، في نفس الآن، استجابة من كاتبه لكابوس نهاية الإمبراطورية، ووسيلة للهروب من ذلك الكابوس. فالكتابة هنا وسيلة علاجية تمكن مؤلفها من أن يعيش في ثنايا كتابه ... بينما كل شيء يتداعي تدريجيا من حوله.
فقد استطاع داريل عبر (جوستين) أن يحول التاريخ الفعلي لمدينة بعينها إلي أسطورة خيالية لبلد مستقل وأناسا لا يستحقون ذلك الاستقلال.لهذا أضطر داريل أن يجعل أحداث روايته تبدأ عام 1936 في اسكندرية «ايفا كوهين» قبل الحرب وهي فترة لم يعاصرها في مصر، لكي يستطيع في الخيال تحويل معاهدة 1936 من معاهدة تنظم الوجود البريطاني العسكري في مصر، مع اقتراب الحرب العالمية الثانية، إلي استقلال حقيقي تفضلت به بريطانيا علي مصر. وهاهو اقتباس من الجزء الثالث من الرباعية (ماونت أوليف) يتحدث عن أحد المصريين بعد استقلالهم الوهمي: صعوده السريع داخل البعثة الدبلوماسية البريطانية علمه ازدراء أسياده. وحينما أصبحت مصر حرة مستقلة، أدهش الجميع بفوزه بوزارة الداخلية بقفزة واحدة. لقد عرف جيدا كيف يثير الأصداء حول اسمه بالكرباج الذي أصبح في يده الآن.«إن الكرباج هو علاج الروح الجبانة للمصريين».
وأي دارس لتاريخ العلاقات المصرية البريطانية في منتصف الخمسينيات سيدرك فورا العلاقة الوثيقة بين الطريقة التي حولت بها رباعية الإسكندرية الإسكندرية الحقيقية إلي أسطورة تشبه الحلم، وتقديمها كبديل للمدينة الفعلية، والطريقة التي تحولت بها صورة عبد الناصر في خطاب أنتوني إيدن الشهير في أعقاب تأميم قناة السويس إلي شيطان رجيم وفاشي يهدد السلام العالمي. بالتأكيد فانه ليس بالمصادفة أن تكون المدينة التي أطلق عليها داريل لقب عاهرة المدن، هي نفس المدينة التي أعلن منها عبد الناصر تأميم قناة السويس.وهي المدينة نفسها التي ولِد فيها جمال عبد الناصر عام 1918. و بالمناسبة، كان يحدوني الأمل في أن تحتفل المدينة التي ولِد فيها زعيم ثورة يوليو بالذكري التسعين لميلاده، بنفس الحماسة التي احتفلت بها بالذكري الخمسين لصدور جوستين.
إعادة اختراع العجلة:
ملاحظة شخصية أخيرة: إن تاريخ تعرف كاتبة هذه المقالة ب (رباعية الإسكندرية) يعود إلي عام 1968، عندما التحقت بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة عين شمس، حيث كنا ندرس رواية (جوستين) ضمن منهج السنة الأولي. ولكن وبجانب هذه الرواية، كنا ندرس أيضا مقالات لأساتذتنا توضح بالتفصيل الأخطاء التي تحفل بها الرباعية، وتحذرنا من اعتبار هذه الرواية انعكاسا حقيقيا للإسكندرية. وفي هذا الصدد اذكر بالتحديد دراسة الدكتور محمود المنزلاوي: رأي سكندري في رباعية داريل، التي حفزتني بعد سنوات عديدة علي تقديم أطروحة لجامعة بريطانية تتقصي الأسباب الكامنة وراء تقديم 'داريل' للمدينة بهذا الشكل. واليوم بعد 40 سنة تقريبا من تعرفي علي إسكندرية داريل، لا أستطيع تجنب الشعور بالانزعاج من الطريقة التي لا يميز بها الكثير من المثقفين المصريين، والعرب بين الحنطة وقشورها، فيما يتعلق برباعية داريل بل أن العديد منهم يتحسرون الآن علي اختفاء إسكندرية داريل الكوزموبوليتانية التي لم توجد من الأساس.
وعلي الرغم من إدراكي أنه قد وجد علي مر التاريخ، ومازال يوجد، كتاب وفنانين عظام ذوي ميول عنصرية وفاشية واضحة، وأن هذا الأمر في حد ذاته لا يعني بالضرورة أن أعمالهم قليلة القيمة الفنية، إلا أنني اعتقدت دوما أن تقدير القيمة الفنية لمثل هذه الأعمال هو شيء، والترحيب بكتابها في البلدان التي استهدِفت بهذا التعصب العنصري المقيت هو شيء آخر مختلف تماما. ولكن لا يبدو أن هذا التصور صحيح فيما يتعلق مصر.إن كاتبة هذه السطور مازالت وعلي مدي سنوات طويلة تراقب باندهاش شديد الطريقة التي اكتسبت بها (رباعية الإسكندرية) ومؤلفها هذه المكانة الأدبية السامية التي لا تحظي بها في بلدها الأصلي بريطانيا. فقد تلقي "داريل دعوة من المصريين منذ 25 سنة للتدريس في جامعة الفرانكفونية بالإسكندرية، وكان هو من رفض هذه الدعوة. واليوم نجد أن مكتبة الإسكندرية، وهي المكتبة الوطنية التي تقع في قلب الإسكندرية المعاصرة، تتباهي بمعرض دائم يصور إسكندرية داريل، وتقوم بتنظيم جولات سياحية إلي المنزل الذي استأجره داريل لبضعة شهور، بدلا من أن تسعي إلي الاعتناء بالمنازل التي شهدت ولادة العديد من رموزنا الوطنية بمن فيهم جمال عبد الناصر.
إن معرضا كمعرض داريل داخل مكتبة الاسكندرية، بالنسبة لي علي الأقل، لهو نموذج صارخ علي الاغتراب الذي حاق بنا، حيث يتحول أي غربي، تحدث عنا بالخير أو الشر، أهم شأنا من أبناء الوطن وصانعي تاريخه. وفي محاولة لتصور عبثية فكرة متحف داريل في قلب أسكندرية اليوم، أدعو القارئ أن يتخيل كم هي فكرة هزلية لو أن المتحف البريطاني، أو أي متحف وطني آخر في لندن، أقام معرضا دائما "للندن كما صورها الطيب الصالح علي سبيل المثال في روايته الشهيرة (موسم الهجرة إلي الشمال).
ترجمة مصطفى محمود