أهو ضرب من الصلاة؟ أم ضرب جديد من الكتابة التي يمتزج فيها التأملي بالتحليلي، والذاتي بالموضوعي في هذا الكتاب الجديد (هكذا تكلم المنفيون) للكاتب المصري الذي ننشر هنا نصه الأول.

ضرب من الصلاة

محمد الشحات

"الكتابة ضرب من الصلاة"
فرانز كافكا
 

(1)

ما كان لهذا النصّ أن يندرج بالمعنى المباشر تحت ما يُعرف بـ "أدبيّات أو دراسات المنفي"  التي تُعنى بالمفاهيم والمقولات النظرية التي تدور حول قضايا المنفيّين وإشكالات اللغة والهويّة والثقافة والوطن، ولا يمكن له أن يدّعى ذلك بأي حال، ولا هو نصّ خلقته المخيّلة من عَدَم، بل هو نصّ أفرزه مقتضى الحال العربي المعاصر الذي كان ـ ولا يزال إلى الآن ـ يمارس ضغوطه اللامتناهية علينا، كما مارس ضغوطه القاسية عليّ عبر استقرائي ركاما عريضا من مرويّات المنْفي العربية (وغير العربية) التي يعود صدورها إلى حقبة الستينيّات وما قبلها، وتدويني ملاحظاتٍ وتأمّلاتٍ عدّة قمتُ بها هنا أو هناك على هوامش هذا الكتاب أو ذاك المجلَّد أو ذلك النص الأدبي أو الفلسفي أو التاريخي أو تلك القصيدة أو الرواية أو السيرة الذاتية، الأمر الذي امتلأتْ به بطاقات وكرّاسات ودفاتر ضِقْتُ بها ذَرْعا لتكاثرها المخيف كأنها كانت تتناسل في الخفاء في غفلةٍ منى، جنبا إلى جنب قراءات أخرى أوْحَتْ بها إلىّ روح غريبة اعتادت أن تأتيني كالطيف من بين ثنايا الأوراق والصحف والنصوص من وقت إلى آخر كلما عُدْتُ إلى الكتابة، واعتدتُ معها بعد طول عناء ومشاكسة ألا أقاومها فتركتُ لها العَنان رهبةً ورغبةً، روح ساقتني إلى قراءة الشعر القديم ومراجعة بعض نصوص البلاغة القديمة والتاريخ والفلسفة والتصوّف والفنّ والدين،.. إلخ. أي أنه نصّ صاغ نفسه بنفسه، ولم يكن لي من جهدٍ فيه إلا محض سعي وراء نسج الأفكار التي قد تبدو متباعدة، وحرصٍ على جودة الصياغة وحُسْن السَّبْك.

هو نصّ "متعدٍّ" إذن وليس "لازما" بالمعنى النحوي؛ أي أنه نصّ ينبني على استلهام "تيمات" وشخصيات وأساليب وصور من نصوص وقراءات وهوامش وإشارات وتنبيهات وتعليقات متناثرة ربما لم تجتمع من قبل إلا في ذاكرتي أنا (أو هكذا كنتُ أتوهَّم أثناء كتابته الأولى في مخيّلتي). ولا يجوز لنصٍ أُنشئ على هذه الصفة من صفات الإبداع، أو تشكَّل على تلك الهيئة من هيئات الخلق الجمالي، أن ينفصل ـ أو "يُعزَل" أو "يُقصَى" أو "يُنْفي" ـ عن سياقه بحالٍ، وإلا غدا كـ "المنْفِيّ"، أو الأبتر الذي لا عقِب له ولا جذور ولا خير فيه، وأمسى كـ "المُنْبَتّ الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"؛ إذ سوف تفتقر قراءتك إيَاه ـ رفق الله بك وأعانك على شجونه ـ إلى ابتعاث أرواح قديمة لنصوصٍ شتّى تسكن زوايا ذاكرتك وإحيائها في خلفية هذا النص الحواري المكتنز بعد أن بات أغلبها في طيّ النسيان أو سقط من ثقوب الذاكرة الجمعية. فيا قارئي المفترَض.. ها قد عرفتَ فالزمْ.

(2)

واعلم أنه من حقّك أنت أيضا ـ أعزّك الله ـ أن تصنع نصّك الخاص بناء على هذه الإشارات ما دمتَ قد ارتضيتَ أن تشاركني "مقتضى الحال" الذي لا يكتسب معه كلامُ المتكلّمين ولا أحاديثُ المحدّثين وصفَ "البلاغة" أو "الفصاحة" أو "البيان" إلا بعد مراعاة المقال ظرف المقام ومطابقته. ولك أن تعلم أيضا أن هذا النصّ، من جهة مقابلة، نصّ "لازم" يمكن قراءته في ذاته ولذاته بمعنى من المعاني بعيدا عن ذلك الباعث الذي نفث في صدري ذات يوم، ذات ليلة، ذات لحظة من لحظات التأمّل الميمونة (و/ أو) الملعونة أيضا؛ إذ لن تستدعى فيه "إشارةٌ" مما وضعتُه هنا أو "تنبيهٌ" أو "تعليق" مما أثبتُّه هناك إلا الشبيهَ أو النظيرَ من ذاكرتك ومخيّلتك ما دُمْتَ قد شاركتني مقتضى الحال الذي تحوّم في فضائه أرواح أمثال هذه النصوص التي كنتُ أراها ولا أزال أرواحا حائرة تنفر كل النفور من أدنى تعارض في "المقامات" أو أي نشاز ـ محض نشازـ في "الأصوات".

واعلم ـ أطال الله بقاءك ـ أنني أضع بين يديك نصّا كان يتخلّق/ يتكلّم بداخلي على الدوام، بينما راحت توسوس في صدري أصوات من المنْفى من آن إلى آخر، ثم أخذ يأتيني رنينها فترة ويغيب، ثم تهبّ أنفاسها لاهثةً تلفح وجهي وبدني مرة تلو أخرى إلى أن تتوارى،.. وهكذا، كان لسان حالها يردّد "جاثا الفرار" التي ترنّم بها زرادشت وهو يناجى "الربّ الحكيم" يلتمس منه القوة لحمايته وإنقاذه من الحكّام الأشرار، يدعو في صلواته إلى إصلاح الوجود وإنقاذ العالم الذي يترقَّب هبوط "المخلّص" المنتظَر بين عشيّة وضحاها:

"إلى أي أرض يمكنني الهروب؟ إلى أين تتجه خطواتي؟
وأنا مُبْعَد عن العائلة والقبيلة
لا أجد قبولا من القرية التي إليها أنتمي،
ولا من حكّام البلد الأشرار..
كيف إذن، أيها الربّ، سأحوذ عطفك؟"(1).

ثمة تغيّرات ـ حفظك الله منها ـ كانت تعتور النفس والبدن، وأحوال غريبة كادت تنال من العَرَض والجوهر. نصّ كان يدفعني دفعا إلى الاستجابة العمياء لغواية الكتابة غير المقيّدة أو المشروطة بقيود نوع إبداعي، أو جنس من أجناس الكتابة، أو أسلوب بعينه من الأساليب المتواضع عليها عند الرّاسخين من أرباب القلم أو أصحاب البلاغة أو روّاد البيان. واعلم أني كنتُ أقاوم هذا الحال أيّ مقاومة. و هاأنذا أتجرّأ الآن على بعض البوح وبعض من المكاشفة.

كنتُ ـ أعزّك الله وعصمك من الحيرة ـ كلما علا بي مدّ الرغبة الذي فجّرته بداخلي أرواح المنفيّين وأشباح المقموعين وشرعتُ في قراءة نصوصهم وترتيلها بيني وبين نفسي آنذاك، أجدني أدفع غواية الرغبة المتصاعدة في الشروع في الكتابة والاستسلام لإلحاحها بجَزْر الرهبة التي يأخذني بلجامها عقلٌ نقديّ ضابط يأبى السقوط أو الزَّلل في شَرَك الغواية أو الاستجابة الجمالية وحدها. نصّ لم ينشغل، ولم يكن له أن ينشغل أبدا ـ وأنّي لمثل هذه الجمرة التي لا تزال متّقدة مثل نار بروميثيوس! ـ بمدى إذعان هذا "المكتوب" الذي هو بين يديك الآن لجماليات "الدرامي" أو "الغنائي" أو "الملحمي" قدر انشغاله الذي لم تخمد جذوته مطلقا طوال سنوات من العمل على نصّ موازٍ، انشغالا محموما بالإنصات كلَّ الإنصات إلى صوت المقموعين "شرق المتوسّط" الذين كانوا يخرجون من إطار مرويّات المنفي العربية وغير العربية أو ذلك "المتن" السردي الكبير الذي صنعهم أو صنعوه هم وراحوا يأتونني ويحومون حولي حتى في فضاء الحلم/ "الهامش"، على مدار الفصول الأربعة من العام ويلحّون عليّ كلَّ إلحاح أن أستجيب لهم فأدوّن تهويماتهم وأسجّل شطحاتهم وأحلامهم/ كوابيسهم أو أصنع من هامشهم الضيّق "نصّا نقيضا" كنتُ أراه في بادئ الأمر بذرةً (أو نطفةً) حقيرةً سرعان ما أخذت تنمو شيئا فشيئا حتى كادت أن تأتي على الأخضر واليابس من مسوَّدات أوراقي الأكاديمية التي كانت شغلي الشاغل آنذاك (1999-2004)، فاستحال الهامش الضئيل المهمَل نصّا به من تضاريس حبكة الربيع (الملهاة) والصيف (الرومانس) والخريف (المأساة) والشتاء (السخرية والهجاء)(2) ما استطاع أن يقلب المتن النقدي الذي طالما أخلصتُ له وسعيتُ إلى تشييده لبنةً فلبنةً وسنةً وراء سنةٍ رأساً على عقب! هنالك تلبّسني الرعب وأحسستُ أن السماء قد انطبقت على الأرض وأن القيامة قائمة لا محالة وأن الطوفان جارف لكل أخضر ويابس. 

(3)

وهاأنذا ـ رفق الله بى وبك وعطف على قلبي وقلبك ـ أقف أمامك مندهشا ـ مثلك تماما ـ مما أنا فاعلٌ معك الآن. هاأنذا أترك المتن الأكاديمي منغلقا على ذاته هناك، حيث كانت قيود "المؤسسة"، وأصنع لك هنا (بل الحقَّ أقول فما لي أن أكذب في حضرتك: كان يصنع نفسه بنفسه منذ البداية) هذا "الهامش" غير القابل للتصنيف، المتمرّد على قيود الشكل الذي أجدني ملزما أمامك وأمام نفسي بأن أحذّرك من الخضوع التامّ لمخايلته أو الانشغال بغواية هذه اللعبة عن مقصد اللاعب أو غاية اللعِب، لأنّي أظنّه نصّا/ هامشا كان يسعى دائما إلى أن يُسِرّ إلىّ بمثل ما أسَرَّ به أبو حيّان التوحيدي إلى صديقه أو صاحبه المجهول الحاضر فحسب في ضمير المخاطَب وعبارات النّداء والدّعاء وصيغ المؤانسة والمجالسة:

"يا هذا إنك إن عرفتَ هذه اللغة، واستخرجتَ حالك من هذا الديوان، وحصَّلتَ ما لك وما عليك من هذا الحساب، أوشك أن تكون من المجذوبين إلى حظوظهم، والراسخين في علمهم، والخالدين في نعمتهم. وإن كنتَ عن هذه الكنايات عمِيّا، وعن هذه الإشارات أعجميا، طاحت بك الطوائح، وناحت عليك النوائح، ولم توجد في زمرة الغوادي والروائح. مطرتْ سماء المحبّة فلم تبتلّ بقطرة من قطراتها، وهبّت ريح الولاية فلم تعبق بنسيم من نسائمها، وغنَّت ضمائر الحِكَم فلم تطرب على لحنٍ من لحونها، وجُلِّيَت عرائس الهدى فلم تتشبث بذيل من أذيال واحدة منها".(3)

يا هذا! كان ثمّة روح عجيبة تتخلّق بداخلي آنذاك كنتُ أشعر بها عبر تغيّرات شتّى بعضها عضوي والآخر ذهني (أو مفاهيمي)، لكني لم أعرف كُنْهها. روح فجَّرت عندي مفاهيم "اللغة" و"الكلام" و"الكتابة" و"النقد" و"الأدب" فانشطرت وتناثرت مدلولاتها وتشظَّتْ معانيها الاصطلاحية المتماسكة في عقلي إلى درجةٍ لم يستقم معها أيّ معنى لديّ بعيدا عن الآخر، بل لم يستقم أيّ معنى. فتصوَّر! أدركتُ ساعتئذ أنه قد بُذِرَتْ فيّ بذرة خيال شيطاني ألقت في روعي ثِقَل حمولة ذلك المعنى الكبير (الأمانة/ الوطن) الذي يحمله إنسان المنْفي على ظهره، كما يحمل المسافر الزّاد على ظهره أو ظهر راحلته في حِلّه وترحاله، ويعيش على اجترار ما بهذه الحمولة من صور ومجازات واستعارات تهاجر معه من مكان إلى مكان ومن زمن إلى زمن بديلا عن أرضٍ ولغةٍ وثقافةٍ وهويّةٍ أمسى مآلها ـ فحسب ـ ذاكرة ذلك المنفِيّ البائس وأوراقه المهترئة. 

(4)

انظر! أيّ روح شيطانية استطاعت بما كانت تخايلني به أو ترسمه أمام عينيّ من شخصيات وصور وأمكنة أن تثير في مخيّلتي المحدودة الكثير والكثير من الأحلام والكوابيس والهموم والأشجان المعاصرة وتستحضر إلى العقل والقلب قصور بغداد وزيتون أورشليم وجنّات عدن، وهو ما لم يجعل من اعتكافي على نصوص المنْفي بضع سنوات ـ هي في ظنّي سنوات المدّ الإمبريالي الأهوج ضد الثقافة والذاكرة العربيتين ـ نفيا ذاتيا لي عن قضايانا العربية الراهنة المتواترة والمتوتّرة، ولا انقطاعا عن زخم الأحداث الجارية التي كنتُ أرى صورها الواقعية المتعيّنة التي تجرى على الأرض كل يوم بل كل ساعةٍ من نهار وعبر شاشات القنوات الإعلامية المختلفة ليست إلا تجسيدا لصور متخيَّلة تحيل مصادرها إلى حقائق و/ أو أساطير قديمة وردت في المتون الأولى بالكتب المقدّسة وكتابات المؤرّخين المتقدّمين منهم والمتأخّرين، حقائق وصفها رواة منْفيّون بدقّة متناهية على امتداد "مسرودة الشّتات العربي الكبرى" التي ترجع إلى ما قبل العام الثامن والأربعين من القرن العشرين.

حقائق أصبحت في ذِمّة "التاريخ" الآن (أيَّ تاريخ؟! تاريخـ[نا]..أم.. [هم]؟) رغم كونها قد بدأت من بذرة خيال شيطاني نمت وترعرعت في مِخيال "المستعمِر" الذي أتى من هناك إلى هنا حاملا فوق ظهره أو على حصانه الجموح أسطورته الخاصة و"خريطته" التي سوف ينشرها لا محالة بمجرد أن تطأ قدماه ـ المحميَّتان في حذاء قويّ ـ للمرة الأولى أرض "المستعمَر" ثم تراه يشير بعصاه الصغيرة مدبّبة الطرف ـ كقائد "أوركسترا" مختال ببذلته المنشّاة فخور بكثرة عازفيه ـ إلى أتباعه ومريديه، إشاراتٍ تبدأ رحلتها الجهنميّة من مواضع ملوَّنة وصغيرة جدا على أرض الخريطة الورقية ثم ترتفع يده بالعصا في الهواء لتطوى مساحات شاسعة من الأفق الممتد بادئا من (هنا والآن) حيث موضع قدمه، حتى توشك عصاه في حركتها القوسيّة السحرية أن تتحرَّر من ذراعه تماما وتمتد كالسهم المصوَّب في أجواز الفضاء لتبلغ نقطة التقاء السماء بالأرض حيث موضع "الخصوبة الكونية"(4) (هناك) عند منتهى الأفق الأزرق على مرمى البصر بينما طرفها الآخر لا يزال في يده. عندئذ، يشرع أعوانه في الداخل والخارج، وهم كثيرون كثيرون، في تحويل تصوّراته المتخيَّلة إلى حقائق جغرافية تفجّر الأرض تفجيرا لتبزغ من باطنها مبانٍ متشابهة الطرز المعمارية وجدرانٌ وحواجزُ ذات أبواب، "في بلدة ذات بناء راسخ مصنوع كله من الحجارة والحديد المسلّح. إنها بلدة تتلألأ فيها الأضواء وشوارعها مغطَّاة بالأسفلت، وعربات نقل المخلَّفات تبتلع كل الفضلات وتعبر الشوارع غير مرئيّة وغير معروفة "،(5) حقائق متعيّنة يحميها قوس ناريّ يغلّف السماء من فوقهم كان قد خطّته عصاه في كبد السماء منذ أول هبوط له على "أرض الميعاد".

حقائق و/ أو أساطير لا تلبث أن تتجلّى أمام ناظريك خطوة إثر خطوة ومرحلة تتلوها مرحلة بدأب غريب وعزم أسطوري لا يلين. هنالك، تحت رحمة (و/ أو لعنة) قوسٍ مرسومٍ بمِدادٍ من غِلًّ دفين في كبد السماء يصبح البشر، كل البشر، وتصبح الأرض، كل الأرض، وتصبح الكائنات، كل الكائنات، يصبح كل شيء وبعض شيء ولا شيء أيضا، البشر والأرض والسماء والكائنات والطيور والماء والهواء والتراب والنار،.. كل شيء، في حيازة صاحب العصا السحرية وصاحب "الخريطة" أيضا:

"لقد كان المغتصبون للسلطة مشغولين ـ وخاصة في مواجهة الأوروبيين الآخرين ـ بإعادة بناء تاريخ الملكية لممتلكاتهم الجديدة. من هنا جاء ظهور "الخرائط التاريخية"، وخاصة في أواخر القرن التاسع عشر والتي صُمِّمَت ـ في المنطق الكرتوجرافي الجديد ـ لتعيّن قِدَم وحدات مكانية معيّنة متّحدة اتّحادا كبيرا. وقد جاء إلى الوجود نوع من القصّ السياسي الذي يحكي أحيانا بعمق تاريخي كبير ـ سيرة المملكة من خلال توالى الخرائط المرتَّبة ترتيبا زمنيا. وقد تبنَّت الدولة القومية التي أصبحت وريثة الولايات الاستعمارية في القرن العشرين هذا القصّ (..).

والتجسيد الثاني هو الخريطة في شكل اللوجو. وقد كانت أصولها بريئة لحد كبير. وهذه الجذور هي تلوين الدولة الاستعمارية لمستعمراتها على الخريطة بالأصباغ الاستعمارية. ففي لندن كانت المستعمرات البريطانية مصبوغة بلون أحمر قرمزي، وكانت المستعمرات الفرنسية زرقاء، والهولندية بنيّة .. وهكذا.

وصبغ المستعمرات بهذا اللون يجعل كلا منها تظهر وكأنها "قطعة" يمكن فصلها مثل أحجيات الصور المقطوعة puzzle. وعندما أصبح مفهوم العزل هذا عاديا بات من الممكن عزل كل "قطعة" عن سياقها الجغرافي، فأصبح من الممكن إلغاء الشروح التفسيرية في شكلها النهائي كإلغاء خطوط الطول وخطوط العرض وأسماء الأماكن وعلامات الأنهار والبحار والجبال وإلغاء الجيران أحيانا. ولم تعد العلامات الصرف تلتفّ حول العالم. وبهذا الشكل دخلت الخريطة سلسلة من الإنتاج وإعادة الإنتاج القابل لأن يتحول إلى ملصقات وأختام رسمية ورؤوس خطابات وأغطية مجلات وكتب ومفارش للمنضدة وحوائط الفنادق. ولأنها كانت سهلة التعرّف بسرعة وموجودة في كل مكان، فقد توغّلت الخريطة اللوجو في الخيال الشعبي مشكِّلةً رمزا قويا للقومية الوليدة المعادية للاستعمار".(6)

انظر! كيف بدا الأمر بلعبة، محض لعبة، ثم أمسى تراجيديا كاملة تجرى على الأرض، بل تجري فوق "خشبةٍ" صُنِعَتْ من أجساد المُنْحنين المتلاصقين كأن ظهورهم مسطّحات ممتدة إلى ما لا نهاية دون أي نتوء: الرأس إلى جوار الرأس، والمؤخِّرة ترتكن إلى المؤخِّرة، والأيدي قُيِّدت إلى السيقان بأساور من حديد. إذا رأيتهم حسبتهم قطعةً من نسيج دامغ خيط على مهل. أما "السَّيِّد"، صاحب العصا والخريطة، فيمارس دوره بحرية تامة فوق "الخشبة" كواحد من أمهر اللاعبين في التاريخ، ليؤسٍّس تراجيدياه التي تنهض على دُعامات "العزل" و"التلوين" و"الإقصاء" و"الإلغاء" و"المحو"!

ثم انظر!! كأيّن من قرية أو مدينة، كأيّن من بادية أو حاضرة، كأيّن من نهر أو بحيرة أو بحر أو خليج أو محيط، كأيّن من هضبة أو سهل أو تلّ أو جبل، كأيّن من بشر وكائنات وطيور وجمادات وقعت ـ و يا للحظ! ـ تحت قوس العصا السحرية للمستعمِر في تلك اللحظة الميمونة (و/ أو: الملعونة) فأضحت من بين ممتلكاته الأثيرة التي لا ينازعه فيها منازع! وكمْ من أحداثٍ وردت بالمرويّات والمتون القديمة وكنّا نقرأها ـ أنا وأنت وهو ـ على صفحات الكتب والجرائد ونراها على شاشات مخيّلاتنا الجبَّارة ونصفها بأنها أساطير الأوّلين اكتتبوها فهي تُملَى عليهم بُكرةً وأصيلا. هاهي الأحداث/ وقائع تكرّر نفسها الآن على مسرح الواقع العريض المصوغ من لحم ودم وأنّات مجهضة من المحيط إلى الخليج في دورة تكرار عجيب وغريب ومفزع.

تأمّل معي ـ حفظك الله ـ مثل هذه المرويّات، ولن تستشعر ـ فيما أظن ـ أية غرابة في جدوى العودة "هنا والآن" إلى مرويّاتٍ عربية بعضها بالغ القِدَم من أجل محاورتها أو استنطاق مواضع الصمت بها، لا بهدف استظهار اللذّة المعرفية التي قد ينالها الغائص الباحث عن الدُّرّ في نصوص قديمة هبطت إلى عمق العمق من محيط ثقافتنا العربية متعددة الطبقات (وقد يكون ذلك أمرا مشروعا في ذاته)، بل من أجل قراءة "طباقية"(7) أو حتى "حوارية"،(8) أو سمّها ما شئتَ وكيف شئتَ. بل قل إنها قراءة أشبه بممارسة اللعب بالنصوص والضحك على النصوص أيضا الذي يصل الأفكار والأحوال والأحداث والمقامات وَصْلَ نسيج متضافر لا ينقطع فيه عالم قديم كُنَّاهُ في أزمنة ولَّت (أو هكذا توهّمنا!) عن مجتمع حديث أو معاصر نحياه الآن أو كُتِبَ علينا أن نحياه في هذا "الزمن الموحش" كما كُتِبَ على الأشقياء "المعذَّبين في الأرض" من قبلنا. لكنه لعب وضحك كالبُكا! فالتاريخ في نهاية المطاف ـ أعزّك الله ولطف بي وبك ورفق بحالي وبحالك وبمن هم في حضرتنا ـ "مقولة سردية"، وجماع من حكايات يرويها رواة متعدّدون. فتأمَّلْ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ترانيم زرادشت (من كتاب الأفستا المقدّس)، إعداد: جاك-دوشن جيلمان، ترجمة وتقديم: فيليب عطية، سلسلة الألف كتاب الثاني، عدد 133، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، ص: 77.
(2) أفاض نورثروب فراي منذ ما يقرب من نصف قرن في وصف هذه الحبكات الأربع بالتفصيل في كتابه "تشريح النقد"، في المقالة الثالثة التي تحمل اسم "النقد البدئي: نظرية الأساطير"، ترجمة وتقديم: محيي الدين صبحي، الدار العربية للكتاب، طرابلس-تونس، 1991، ص ص: 230-346.
(3) الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية لأبى حيّان التوحيدي، تحقيق وتقديم: عبد الرحمن بدوي، سلسلة الذخائر، العدد 2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، فبراير 1996، ص: 49.
(4) "لقد استخدم المحتلّون الآخرون في وصف رحلاتهم تعبيراتٍ مأخوذة من زراعة الأرض وغرسها وتسميدها وعزقها وفلحها وحرثها، وبدأ العلماء حديثا في الإشارة إلى وجود تماثل بين هذه الصور الشعرية وصور الاغتصاب؛ فصورة المستعمرة "العذراء" التي تستلقي على ظهرها انتظارا للإخصاب هي صورة تهيؤات جنسية تتكرر مرارا في حكايات الأوروبيين في سعيهم للحصول على الثروات خارج بلادهم. وحتى اسم المستعمرة الأمريكية "فيرجينيا" (وتعنى المستعمَرة العذراء) يبدو أنه أوحى بالكثير من الاستعارات الجنسية الإباحية". انظر: سوزان باسنيت: الأدب المقارن- مقدّمة نقدية، ترجمة: أميرة حسن نويرة، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1999، ص: 105.
(5) أفدتُ في رسم هذه الصورة كثيرا من وصف فرانز فانون، نقلا عن:
Edward Said; The World, The Text, The Critic, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetss, 1983, P.49
(6) بندكت أندرسن: الجماعات المتخيَّلة، ترجمة: محمد الشرقاوي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة1999، ص ص: 178-179.
(7) من منظور إدوارد سعيد.
(8) من منظور ميخائيل باختين.