يقدم الناقد الفلسطيني هنا قراءة لأحدث روايات الكابت الفلسطيني يحيى يخلف (ماء السماء) كاشفا عن استعاراتها الكامنة وراء تفاصيل واقعها اليومي الخشن.

البطولة التي فينا ولا نراها

رواية جديدة ليحيي يخلف (ماء السماء)

أحمد رفيق عوض

يعود الروائي الفلسطيني يحيي يخلف إلي مناطقه الرحيبة مرة أخري، من خلال روايته الجديدة (ماء السماء) التي صدرت عن دار الشروق للطباعة والنشر مؤخراً، هذه الرواية هي امتداد متصل ومنفصل عن الرواية ذائعة الصيت (بحيرة وراء الريح). الروائي في روايته الجديدة يستكمل المشهد المتعدد وذي الطبقات، ويذهب بنا رأساً وقصداً إلي واقع اجتماعي وسياسي جديد، هو ثمرة النكبة الكارثة، يذهب بنا الروائي إلي المخيم، بكل استثنائيته وفجائعيته وفنتازيته، وبلغة سردية محيطة وشاملة، تخلو من الضجيج والطنطنة، وتبتعد عن التعالي أو التذاكي، يدخل الروائي بهذه اللغة إلي بيوت الصفيح المرتجلة، وينطق بها أناس مكلومون موجوعون، يجترحون بها البطولة العادية التي لا تري، وما بين تلك اللغة البرانية الهادئة الواثقة ـ التي تشف وترق عندما تتحول إلي جوانيّات الناس ووجداناتهم ـ وتلك البطولة التي لم تكن سوي الخيار الوحيد لهؤلاء المقتلعين والمطرودين، تدور أحداث الرواية التي جاءت في 315 صفحة من القطع المتوسط.

وهي أحداث صغيرة في ظاهرها، كبيرة في داخلها. هي أحداث حول أولئك الناس الذين طردوا من قراهم ومدنهم وأحلامهم وحكاياتهم، ثم قذف بهم إلي مخيمات باردة ومنعزلة، تحيا تحت ظل الشك والتوجس والفقر والقمع والإهمال والتغييب. ومن عتمة هذا المصير ورعبه ولا منطقيته ولا عدله، يتحول هؤلاء الناس إلي أناس آخرين، فهم يكتشفون معادنهم، ويخرج أفضل ما فيهم، ويتبلور أقوي ما عندهم، ويواجهون مصائرهم بقلوب مليئة بالإيمان والأحلام الكبيرة،.وبقدر قسوة الحياة حولهم، وظلم الأيام والظروف، إلا أنهم لم ينكسروا ولم يندثروا ولم يتواروا، ومن عاديتهم ـ التي حاول الروائي أن يصورها حتي في طريقة الكلام واللباس والأحداث ـ استلوا لا عاديتهم، ومن تفاصيل الحياة اليومية العادية صنع تاريخ عظيم توّج ليس فقط بميلاد الثورة الفلسطينية، وإنما توّج أيضاً بميلاد هوية لشعب كامل، أُريد له أن يشطب عن الخارطة..

رواية( ماء السماء) رواية أهل المخيم كافة، كل مخيم، وكل أناسه أيضاً، الذين عاشوا وتزوجوا وعشقوا وناضلوا بين الهوامش الضيقة، ورغم ذلك صنعوا فضاء واسعاً للتحليق، وجعلوا من تلك الهوامش خنادق وممرات من أجل الحياة والحرية. والمخيم الذي يكتب عنه الأستاذ يحيي يخلف يختلف عما كتب عن المخيمات في أعمال أدبية فلسطينية أخري. يقدم المخيم هنا في هذه الرواية بدون رتوش ولا أوهام ولا ادعاء، يقدم هنا كما هو تماماً، بانكساراته وهزائمه وإحباطاته وخيبات أمله. ولكنه ـ وهنا الفرق ربما ـ يقدم أيضاً باعتبار هذا المخيم ـ بما فيه من شروط مرعبة للموت والاندثار ـ هو من حمي شعلة الحياة وجذوتها، ومن بين ملايين التفاصيل الحارقة والذابحة، يتحول هذا الجرح العميق والفضيحة التامة إلي رمز من رموز البقاء والصمود والانتصار..

وكعادة الروائي يحيي يخلف، فهو يلتقط البسيط لينفض عنه التراب والحصي، ثم يحكه بحجر الفن العجيب، ليتحول إلي شيء كالذهب. وهكذا نري شخصيات الرواية المختلفة، من بدرية إلي نجيب، ومن التركملي إلي الحاج حسين ومنذر الحيفاوي. أسماء عادية صنعت تاريخاً غير عادي. والروائي، وإن كان التاريخ إحدي هواجسه في هذه الرواية، إلا أن المسألة أبعد من مجرد التوثيق، أو حتي مجرد الوصف، انه الأدب، الذي يذهب عميقاً إلي الدواخل والدوافع، ليلمس تلك القوي الخفية التي تختار الحياة والحرية والحق والخير. والأستاذ يحيي يخلف في هذه الرواية ذات الدلالة، وحيث يمنح اسم (ماء السماء) لطفلة ولدت في المخيم، يمنح اسمها لروايته، لأن ماء السماء ليست فقط اسم امرأة أنجبت ملكاً ذات يوم، وإنما لأنها الثورة أيضاً التي أنجبت بطولاتها وعجائبها ولا تزال. 


كاتب من فلسطين