هذه كتابة على الكتابة يحاور فيها الكاتب التونسي حوارات الشاعر السوري هادي دانيال كاشفا فيها عن جدل الشفهي والمكتوب، وعن آلاعيب الشعر والذاكرة.

تجربة الكتابة .. تجربة المشافهة

قراءة في كتاب حوارات للشاعر السوري هادي دانيال

سليم دولة

"الذاكرة" كما تُسَمّى في لغة العَرَب.. والسيدة "مِمْوار" mémoire كما تَتَسَمّى في لغة "العَجَم" كلمةٌ على خفّتها المرحة أحيانًا والكئيبة أحيانًا أخرى، الطائرة حينا والحبيسة حينا آخر، تمثّل شروط إمكان الحديث عن إنسانيةٍ وإنسانيّة كاتبةٍ، أقصدُ شاعرةً وناثرةً ولاعبةً بالأشكالِ والألوان، أو هي هاربة لاذَتْ بالصَّمْتِ أو الكتابة أَصْلاً، إذْ تخفي الكتابةُ وفْقَ كيمياء ماكرة كلَّ ألاعيب التحيُّل على الذاتِ مراوَغَةً للمحنةِ ومحاولةً لتدجين الممات. مناسبة هذا الكلام الحُرّ إنّما هو استحضار تجربة "الفتى المِحَنيّ" في هذه "المحاورات". أليس الحوار يعني ضمْنَ ما يعنيه الانفتاح الممكن باللسان على كلّ؟ الجهات! ألم يستبدل العَرَبُ المواقعَ بين اللسانِِ والحسام؟ هل غريبٌ على الشاعر في ميراثنا الثقافي أن يخوض أكثر من "داحس وغبراء" تحصينًا رمزيًا لذاتِه وذَوْدًا عن حياضِ الأهل والعشير؟ أن تكون هذه الحواراتُ استحضاريةً فذلك من منطقِ هذهِ المأدبة اللغوية التي تخفي تجربَة تِسْفَارٍ مكانيّ وَتِسْفارٍ جغرافيّ في مجالات الأهواء.

*   *   *

كلّ مناسبة إنّما هي استحضار تَنْـزل فيه الذاكرةُ إلى الشوارع والأزقة والحارات مرورًا بالعواصم والمطارات لتتحسَّسَ تضاريس المكان، ذلك ما نلتمسه ونحن نتصفَّحُ ولو بشكل عابر هذهِ الحوارات ولو على سبيل الفضول لا غَيْر. ألا يستلزم الاستحضار في ممارسة الحوار وَعْيًا بالحين وبما عليهِ تاريخُ الأعضاء، أعضاء الشاعر مثلاً ومَلَكَاتهِ وهي تبلغ العنفوان، أو تترجّل حينًا لضرورةِ ما اقتَضَتْها اللحظةُ في هذا القطر الحبريّ أو ذاك؟ أيًّا كان هذا الاستحضار، ألسنا أمّةً استحضارية؟ ـ "استحضار الجنّ"، "استحضار الملائكة أو الشياطين"، "الفلاسفة أو السَّحَرَة"، أو "المُغْتَالين والمصلوبين والمشرَّدين من الشعراء"، "استحضار الوطن في الغُربة"، أو "تاريخ الأمة أو الأمم زمنَ الوَطن في الغُربة"، أو "تاريخ الأمّة أو الأمم زمنَ المحن المُقيمة أو العَرَضيّة".

في كلّ الحالات نخرج ولو إلى حين من هذه المحاورات بغنيمةٍ أساسيّة من هزائمنا: وعينا بهزائمنا لا يُخْفي إرادةَ مُصَاوَلة المِحَن، أعني إدراكنا العميق، المتمثّل في تمثّلنا لسيلان الزَّمَن، ذلك الوعي الذي يفترض بِدَوْرِه وعيًا مُرَكَّبًا بما يمكن تسميته "علوم" "أدبيّات "الميقات" وكيمياء تداول الأيّام ممّا جعل من الإنسان، مطلق الإنسان، في تعاطيه مع الحياة كائنَ محاوَرةٍ ومُنَاورة. كائن مفارقات أو كما تريد اللغة أن تُسَمّي بلسان إفرنجيّ كائن «بارادوكسالي» فيدرك أنَّ الماضي، ولا كذلك الحاضر، أَمْرٌ بسيطٌ.

هو: "لأنّه تأثَّر برامبو فَهُو من حيث لا يدري ينادي بلسان حاله، لا الأساطير ولا الشخوص تشفي غليله.. رامبو كما يذكر هادي دانيال توقّف عن كتابة الشّعر في السابعة عشرة من عمره.. بينما بدأ هادي بكتابة الشعر"؟

بهذه الملاحظة بدأ الحوار مع (تشرين) مثلاً.

ما يعنينا استحضار مَسْقط الرأس والأرجل وسائر الأعضاء ومكان نهوض الاسم والقلم، والبدء بالتّسيار نحو جغرافيات الكتابة والألم، فكأنّما دواعي السَّفَر إنَّما هي على وَجْه التحديد ذلك الغامض، ما يشبه القَدَر الذي دعاه إلى أن يفسّره ولو إلى حين بضيقِ أرحام القبيلة وتجاهل السلالة الذي يقابله الفتى بفتوَّةٍ ورَفْضٍ مستميتٍ للمبيتِ على الضَّيْم وما يعرفُ سرّه الراسخونَ في الألم.

لماذا مغادرة الوطن باكرًا ؟ يجيب هادي دانيال على هذا السؤال المكرور من قبل محاوريه مُسْتعيدًا لحظات ضيق جغرافيا الوَطَن وتَاريخ الأمّة، وكذلك الجسد النحيل بِحُلْم "الفتى المِحَنيّ الحرّ"، هكذا أريد أن أسمّيه مرَّةً أخرى، أو شقيق التفاصيل المقاتلة من التاريخ الأمميّ ضدّ الاكتساح السرطاني للابتلاء والغُمَّة.

الذاكرة نشيطة لدى "الفتى المِحنيّ" في هذه "المحاورات"، واللسان يمضي إلى مداه بلا رَوَغان، وجواد الخيال لديهِ جَامِحٌ كلّما لَسَعَه مُحَاورٌ بسؤال يخاطب الموجوعَ من ذاكرته، فيجيب كأنْ بهِ مَسًّا من "داحس وغبراء" وهي تدور الآن وفي هذا المكان، أقصد أنَّ إجاباته لا تنبع من ذاكرةٍ استعراضيّة وإنّما من تجربته الحياتيّة. الكتابة لدى هادي دانيال وفقًا لما نستشفّه من هذه الحوارات إنما هي فعْلاً فعْلُ ممانعةٍ، ذلك أنها تدفع مقابل حقّها وأحقّيتها في الحضور ثمنا عزيزًا، أقصدُ: سنوات العمر. "الصدق".. "الصداقة".. وكلّ ما يحيل إليه معجم "الفتوّة" مفردات تجترحها الذات الكاتبة لدى هادي دانيال بكلّ صدقٍ صدوقٍ ودون استحضار هذه القيمة، وبكلّ رفْق، لا يمكن للذوات القارئة أن تدرك حقًّا وحقيقةً الجمالية اللغوية التي بها يتكلم في هذه الحوارات، ونفوّت على أنفسنا سرّ الترحال العشقيّ في هذه التجربة الحياتية وإن كانت مضمّخةً بالألم والنَّدَمِ وببعضِ الدم، ممهورًا بإمضاءٍ وحيدٍ هو (فتى الألم).

"ما إن فرغت من قراءة كتاب (رامبو.. قصة شاعر متشرّد)، حتى وجدتُني أكثر اندفاعًا لخوض تجربة المغامرة ليس على صعيد الكتابة الشعرية فحسب بل على صعيد البحث عن حياة أخرى في أمكنةٍ أخرى مع بَشَرٍ آخرين. ربما كنت مهموزًا برغبةٍ في الحصولِ على تجربة شاعرٍ متشرّد تفتح آفاقا بكْرًا..".

يستوقفني على عَجَلٍ في هذا الشاهد العاجل عبارةُ "مهموز برغبة" فكأنما الأمر، أمر الأنا الكاتبة ـ الحاكية هُنَا ـ محكوم بقدر DESTIN. أَوَ لَيْسَت تلك هي "التفسيرات" الجامحة والغامضة لتسمية الرغبة السريّة في الرحيل، تلك التي لا يجد لها كبار الكتّاب والشعراء والحكماء من تفسير غَيْر الاستجابة لهذا المُسَمَّى بشكل غامض "النداء"، نداء الحضور في جهةٍ ما ضدّ مَحْوٍ مَا وإن اِقتضى الأمر مقابلة هذا المحْو المشعور بهِ بين الأَهْلِ مثلاً بمَحْوٍ مضادّ. أليست الذاكرة تفترض النسيان؟ أليست هذه "المحاورات" في حدِّ ذاتها مقاومةً لما يمكن تسميته استبدال تجربة الصَّمْت؟ ليس الصَّمْت الاختياري كما لدى الزّهّاد والمقتصدين في الكلام على طريقة أصدقاء "النيرفانا" الهندية، إنّما المقصود ذلك الصَّمْت المُشَهَّر بهِ، لأنَّه يُفْرَضُ من قِبَلِ حرّاس المكبوت.

لم أخرج لا محايدًا كما أَرَدْتُ من هذه "المحاورات"، ولا سليمًا، إذْ حَرَّكتْ لديّ هذه المشافهات التوغُّلَ في العصيان الكتابيّ وبلا أَسَفٍ منّي عَلَيَّ، ذلك أنَّ الكتابة لدى هادي دانيال سلطة مضادَّة ضدَّ "المقدَّر الميتافيزيقي"، وهي سلطة مضادّة أيضا وأيضًا ضدّ "المكتوب الاجتماعي" فيكون البديل التأسيسي المحلوم به لدى هذا "الفتى المِحَنيّ": التمرّد الحبري، وهو التسمية الأخرى للرفض والانخراط الكلّي في الفعْل النضالي وبممارسةِ الكتابة. لا فصل لدى هادي دانيال بين تجربة الحبر وتجربة الحياة، كتاباته ومشافهاته الحوارية، إنّما هي عناوين لمِران وجوده، وهي ظاهرة تكاد تكون نادرةً لدى "المشعور لهم" في الراهن الحضاري العربي الإسلامي مثلا. قد تكون ثمّة نزعة استعلائية في هذه الحوارات تجعل الشاعر يَطْغى على المُحاوِر، كأنْ يعاقبه مثلاً على بلادَةِ أسئلته باستفزازه بأجوبةٍ تربكه، وأحيانًا أُخرى يفاجئه "بتواضع" يجلده حَدًّ الألم، من ذلك مثلاً تأكيده المَرح باستحضار تجربتهِ البكْر إذ يقول: "لم أكن أبحث عن الإطراء ولا عن الاعتراف بي كشاعر له حيّزه في المشهد الشعري السوري مثلاً، كان هذا بعيدًا عن ذلك الفتى الذي يهجس بإنجاز مختلف عن كلّ ما هو سائد".

*   *   *

القليل من الحبر لا يكفي
الكثير من الحبر لا يشفي

عند التوغل في محاورة هذه "المحاورات" ندرك كم أَنَّ هذا الفتى يمتحن بدوره تجارب المحنةِ الكتابية ناهيكَ عن الحياتيّة، إذْ ونحن نقرأه كم من مرّة يمكن أنْ تنطّ من ذاكرتنا حكمةٌ آتية من بعيد، تَعْدو كالتي تلسع، تمنع من النوم، توقظ أعضاء الجسد، تربك دورةَ الدم من الجهة اليسار للذي في الصدر/القلب.

"وما المرء إلاّ كالشهاب وضوئه
تحور رمادًا بَعْدُ إذ هو ساطع"

هكذا أشعر شخصيّا مع هادي دانيال ومع حكمة الشاعر "لَبيد"، وأكثر. ذلك أنَّ "الفتى المِحَنيّ" يتقصّد أن يجرحكَ ويجرحني ويجرحكِ ويجرحنا ليعيدنا إلى بعض الأُلْفة مع ذواتنا، مع أعضائنا، مع أشيائنا الصغرى في جغرافيات أمكنتنا الكبرى، إنّه يكلّم الحميميَّ لدينا حتّى وإنْ كان جحيميًّا. يقول شاعر "مدُن الغياهب"، "رامبو اللاذقاني" في لحظةٍ يمكن لي تسميتها بلحظة الانبساط الحبريّ الأنيق، يقول ضمن ما يقول من آخر محاوراته: "أَضْرَمْتُ الكثير من الهشيم بلهب أسئلتي التي تشفّ عنها كتاباتي(...)، فرضْتُ نفسيَ مختلفًا وضروريًّا أينما حَلَلْتُ، جعلت الآخرين يتقبلون اعتقادي أنَّ الكتابة نقديّةٌ أو لا تكون، وتعلَّمْتُ مراوغة الواقع بغية تغييره (...)، مراوغة اللغة بغية ترويضها واستيلادها، ولكنّ الأهم من ذلك كلّه أنّني بعد كلّ هذه العقود من الغربة الإبداعية أجد نفسي بصدد البدء بكتابةٍ جديدة هي التي من أجلها أدرْتُ ظهري لسلالة دمي بحثًا عن سلالة الروح، لكن سيكون الأمرُ مُرَوِّعًا لو اكتشفتُ أنَّ سلالة روحي كانت نائمة في السلالة الدموية ولم يوقظها غير رحيليَ الدمويّ".

قليل من التعليق على هذا البيان الاعترافي لا يكفي. الكثير من الحبر في هذا المقام لا يشفي. إنّ "الفتى المِحَنِيّ" وبتسميةٍ واحدة إنّما هو كما العنقاء بناره يحترق ومن رماده ينبعث إذْ لا أحد من العابرين من الخَلْق يمكن أن يصدّق مَوْتَه، فما بالك بشاعر يريد مواجهةَ الموت بالكتابة "عيني عينك". من هنا نتمثَّل صورة الشاعر لدى هادي دانيال، والتي تعود بلبوسٍ مختلفة في أكثر من حوار وبثابتٍ رئيس، فَمَنْ يمكن أن يكون الشاعر لدى هادي دانيال؟

"الشاعر كيميائيٌّ لغويٌّ" وفق عبارة أدونيس، كائن ليليٌّ غاضبٌ وإنْ بمحبّةٍ، رافضٌ، مُشْعِلُ فِتَنٍ لغويّة، مختلفٌ ضروريّ، مروّض الوحوش اللغويّ، القادح في سلالة الروح، انتحاريٌّ بامتياز، يزاول حياته في الوقت الضائع وباختصار فصيح شنفريّ الروح، وغيفاريّ الهوى والمدى، إذ يُعلن بلا تلبّكٍ تعبيريّ في حواره مع "الموقف العربي" ذات آذار من سنة الواقعة 1991 في صيغة بيانٍ كتابيّ ضد سلطة الاستبداد والمستبدّ المحليّ والكونيّ"..لأنَّ الكتابة عندي فعْل حرّ أو هكذا أطمح (...) منذ المحاولات الأولى كانت صرخة تحدٍّ ضدّ شتّى المؤسسات والمظاهر القمعية (...) كانت وسيلةً وهدفًا في الوقت نفسه لتحقيق ذاتٍ مهدَّدة بالانسحاق (...) وأكثر "متراسا وملاذا أيضًا ـ صدّقني لَوْ لم أكتب وبغضّ النظر عن القيمة الفنية والمعرفية لما كتبتُ ـ لَوَضَعْتُ حدًّا لحياتي قبل أن أبلغ العشرين عامًا من عمري. ولهذا تجدني أسارع إلى التجنّد مع كلّ حركةِ تحرُّر عربيّة، ولكن سرعان ما أضيق ذرعًا، وأسعى إلى تحرير نفسي من حركات التحرّر(...) لأنّني أشعر بأنَّ ارتباطي بحركةٍ ما تدعو إلى التحرّر تَسْوِيرٌ لمخيلتي وتحديدٌ لآفاقي الوجدانية والعقلية" وأكثر.

يذهب "الفتى المِحنيّ" في إخلاصهِ لمداده الجماليّ، للفتى الشاعر لديه، والذي هو إيّاه: "لا تزال الكتابة عندي فعل تحرر يقوم به إنسان مُكَبَّل، ولذا أشعر بأنَّ مدوّنتي الشعرية ما تزال، كمعظم المدوَّنة الشعرية العربية، محاولات تكاد تلامس تخوم الإبداع المُرْتجى". هذا "الفتى المِحني" عاشقٌ حبريٌّ لن يُشْفى، ميئوس من استقامته! كم نحتاج اللحظةَ أكثر من أذن، أذن واحدة لا تكفي، أذن المحلل النفساني مثلاً وهو يمارس فعْل الإصغاء النشيط لمثل هذا البلاغ بكثافةِ تعبيره وما تخلّله من هنيهات صَمْتٍ لردِّ الأنفاس من غربتها لا غير. قد تدلّنا هذه الأذن على معين الألم الذي تنبع منه هذه الكتابة لدى هادي دانيال. الكتابة عنده والكتابة الشعرية تحديدًا ترجمانُ أشواقٍ مغدورة، لذلك تراه وهو في نثره، وفي محاوراته هذه، يُعاودُ دعوةَ المكبوت بشكل استفزازي (Provocateur)!

إعلانه أعلاه بيان مُمانعةٍ واحتجاج ضدّ "المتصلّب" و"المتخشّب" و"المتحجّر" الاجتماعي وما يليه، وتحيُّل باللغة الشعرية على الحياة ومراوغة، وإن كان يدرك أنَّها هشّة، لأسباب الموات المادّي والرمزيّ، العاطفي والقيَميّ. لهذا الأمر وغيره يمكننا القَوْل، وبلا حزن، إنّ الكتابة لدى هادي دانيال، وفعْل الكتابة تحديدًا L acte d écrire قِوامُ وجود، ودفاعٌ جماليّ عن الحياة ضدّ مقابح الحياة ومسوّدات الحيوات التي نعيش. الكتابة بهذا المعنى تقترن لدى هادي دانيال بمقاومةِ "مقام الزوائل"، التسمية الأخرى لكلّ أشكال الاغتراب عن الذات لدى الأهل في الوطن والأمّةِ والمنتظم الإنْسي، ومن هنا سرُّ جاذبيّة هذه "المُحاورات" لأنها تُعبّر عن المحلوم بِه لدى هذه المسمَّاة ظلمًا "الكتل الصامتةَ"، التعبير عن الحريّة بما هي حاجة ملازمة لِشرْط الإنسانيّة، كأنّما يردّد الشاعر تلك اللازمة الروسوية (نسبة إلى جون جاك روسو): "إنَّ مَنْ يتنازل عن حريته يتنازل عن جوهر إنسانيّته"، الحريّة ضدّ جميع أشكال السلوكات الاستبدادية والمؤسسات الاستبدادية، المقنَّعة بأنبل ما أنتجت نُخَبُ الإنسانية المكافحة إنْ محليًّا أو كونيًّا، ألم أَقُلْ إنَّ الشاعر "الفتى المِحنيّ" شنفريّ النزوع، غيفاري الهوى والمدى، وأن تكون كذلك يعني أن تتوفَّر على طاقةٍ من الرهافة الحاذقة لتلمّسِ وتحسُّسِ واستشعارِ الجمال أينما كانَ، ناهيكَ عن حميمية المكان الذي شهِدَ مثلاً، مسقط الرأس مثلاً، والاسم مثلاً، والرسم مثلاً، والمقصود هنا: سوريا الكبرى.

قليل من الحبر لا يكفي
كثير من الحبر لا يشفي

الغيابُ، الفقدانُ، الغُرْبة.. الحنينُ، مفاعيل جميعها تلهبُ الوجدان، فلا طُوبى للغرباء أحيانًا. فَلْنُصْغِ إلى "الفتى المِحَنِيّ" في هذه "المحاورات" يتحدّث عن قرية "كفرية" بعد ثلاثين من الغياب، ولنتسلّح بالدعاء: "أما قريتي كفرية فلا أبالغ إن قُلْتُ لك إنها أجمل مكان على وجه الأرْض، من بيتنا فيها أنّى اتجهتَ يحيطكَ الأخضرُ بتدرّجاته والبحر يبدو خيطًا أزرق تذوب فيه الشمس رويدًا رويدًا لحظة الغروب. هل ثمة طريق أجمل من تلك التي تربط اللاذقية بقريتنا ؟ لا أظنّ. هذا الجمال لا ندركه إلاّ حين نفقده، أن تولد فيه وتعايشه يوميًّا لحظة بلحظة، لن تكتشفه، يجب أَنْ تعبره كسائح كي تستمتع بجماليته وسحره، بل أَنا الآن ومنذ بارحت سوريا أستعيد كلّ الأصوات التي سمعتها والروائح التي شممتها والعيون التي حاورتها والمسامات التي لمستها بكفي أو شفتي، وأشهق شَوْقًا، هذا لا يعني أنّني لن أستأنف غربتي التي هي غربة كلّ مبدع يتطلع دائمًا إلى الأجمل والأعمق والأعلى". لعنة العشق إذًا على من لا يُبْكي عاشقًا في حديثه عن الغياب  !

*   *   *

هذا الشاعر الحكَّاء كثير التبكاء في لَيله الكتابيّ بمكابرة، وما "قناع القسوَة القوليّة" لديه، أحيانًا سوى سلاح يذود بهِ ما استطاع عن  "روح اليرقة" التي تسكنه، تلك التي غالبًا ما يجتذبها النور فلا تحفل بالنار! من ذلك انجذابه البَرْقيّ ـ اللحظي لحركات التحرر العربية.. وقرفه الأكيد من سقوطها "الباذخ الأصيل" في مستنقع المكرور والمُعَاد، مع احتفاظ الشاعر الأكيد بـ "سوابقه الشعرية" الملازمة لذاتِهِ القلقة،  وإن كان يُعْلن في أكثر من مَوْضِعٍ وبسخرية:

"أنا لا أندم على شيء، لكنّ حماقاتي الكبرى أنّني كُنْتُ جادًّا مع عالم هزلي، وكنتُ صادقًا مع الكذابين، وكنت معرفيًّا مع الجهلة، وإنسانًا مع الوحوش.." إلى غير ذلك مما يعرف الناس. نعم هكذا يجيب الشاعر وأكثر، إذ يقول في حوار "الأيام" مستحضرًا مجاز "الطائر المهاجر" وقد مرَّ من تونس إلى قبرص وما يليها من "كوائن" الجغرافيات المحلية والمحيطية:

"العالم أضْيَق من أن يتّسع لجسدي النحيل... دائمًا أفتّش عن حرّيتي شَرْط إبداعي وغنائي (...) أنا ليبراليّ النزعة وخارجٌ، أمس والآن، وإلى الأبد، على الثوابت الغباريّة ولا ملاذ لي على سطح الأرض، وقد يكون القبر هو ملاذي الأخير."

ثمة مرافقة سريّة في هذا المكتوب ـ الملفوظ الدانياليّ لفكرة الموت الممزوجة بالقلق الوجوديّ تُحيلني على قَلقِ جدِّه السلاليّ "أبي العلاء" وإن اختلَفَ الأداء ونبرة التحدّي:

"يا موت زُرْ إنَّ الحياة ذميمة
يا نفس جِدِّي إنّ دهركِ هازلُ"

ما يقلق، ما يمسّ الروح يلسع، ما يكابده "الفتى المِحنيّ" فيضجُّ، يكتب، يبكي ويسخر، إنّما هو مُعاينتهُ ومعايشتُهُ نموَّ التدهور واستفحال العَطَب في بلاد العَرَب!

لحظات الكتابة لدى هادي دانيال، لحظات الصدق العالي والعاري، وذلك ما نستشفّه من هذه الحوارات وما تتوفّر عليهِ من وضوح جارحٍ قد تكثّفها حكمة يرددها "الفتى المِحنيّ" ـ في سرّه ـ وإن كنتُ أشكّ بأنّي سمعتها منه على سبيل الهمهمَة ذاتَ توغُّل في الغيوم: "الهموم إذا تكاثَرَتْ سقَطَت كلّها" !.

قليل من الحبر لا يشفي
ترك الجرح مفتوحًا قَدْ يشفي
الجوع !
"العشاق الكبار قد تربّوا في مدرسة الجوع"
كما وردَتْ الحكمةُ في رواية "بيوغرافيا الجوع" لإيميلي نوطومب
الجوع ؟،
ولكن أي جوع؟

إنه جوع الكاتب الحرّ والشاعر الحرّ، والكائن الحرّ، للحرية التي ينادي بها هذا "الفتى المِحنيّ"، إذ هو يحرّضنا في هذه الحوارات بحرارة على الدفاع عن الحرية ضدّ الخائفين من الجَوَلان الحرّ للأفكار الحرّة حَوْل شروط إمكان تحقيق الحريّة. الكلّ خائف من الكلّ، وكلُّنا في الهمّ هَمّ، هكذا تقول لنا هذه الحوارات مرّة أخرى وبالعديد من الصياغات وفي أكثر اللقاءات ينادي هذا المُتسَمّى "ساكن الريح" بالدفاع عن الكرامة الإنسانية ضدّ السياسات العربية الإسطبلية التي دوَّخَت الخلْقَ وَجَعَلَتْ منهم حيوانات زريبية بسلوكات قطيعية، يقول كلامه ولا يمضي، يقوله بالفم الملآن وفقًا للأداء الشعبي التونسي، بعيدًا عن تعاسة كياسة المجاملات التَّعيسة التي تشوّش على الناس، فأيّ توغُّل في الدورة الدموية في هذه الأمّة التي تعاني من "الدم الفاسد" السالك في مسالك أعضاء ميتة خوفًا من اللامتوقّع التاريخيّ في هذا المنعطف الحضاري!

مزيدًا من الجوع إلى الحرية أيها "الفتى المِحنيّ".

إِلْيَلَّ لَيْلُهَا، مزيدٌ من التوغُّل في "إيطيقا" الرفض الجماليّ فَضْحًا وكشْفًا عن جميع أشكال السماجة "السيميولوجية السائدة".

مزيدًا من النرجسية الخلاّقة والاعتداد بالذات في زمن تفتيت الذوات: "الشاعر الحقيقي يجب أن يتصرّف مع نفسه ومع نَصّه على أنّه الشاعر الأوَّل في عصره إن لم أقُلْ في كلّ العصور(...) هذا ليس فقط من حقه بل هو ضروري(...) هذا يعمّق من مسؤوليته إزاء نفسه وإزاء نصّه". هكذا يقول سليل المتنبي في المعنى والمحنة، صاحب "موسيقى لانكسارات الروح"، فَهَلْ كان "الفتى المِحنيّ" ذات يوم من الأيام طفلاً؟.

إنَّ الشِّعْرَ فاعليّةٌ للإصغاء إلى الذات الفرديّة إذا تعطّلَتْ كلُّ شروط إمكان التواصُل لحظَة لا وَقْت لدينا لنستمع إلى أنفسنا، يصرّ الشاعر على أن يستمع لنفسه المهرّبة من ضجيج السوقة زمن عبادة السوق. إنّه يدين بهذا الفعْل تبذير فائض الوقت "الكافي للتنازع مع أنفسنا".

ما يمكن التأكيد عليه بالأحرف الغليظة إنّما هو رقّة مشاعر هذا "الفتى المِحنيّ"، الشاعر المزعوج في سويداء القلب من التلوّث الإيكولوجي العاصف بعواطف الإنسانية والمتلف لأكبر القِيم جدارةً بالاحترام الكوني. العدل والحبّ والحريّة إنّما هي متعلَّقُ الشاعر هادي دانيال ومعلّقته الأبديّة في هذه الحوارات التي طافت بنا في الكثير من "المجرّات" الثقافية والسياسية والعاطفية، بنحافة جَسَدٍ مُحَصَّنٍ بصلابةِ روحٍ تصرُّ على أن تدير الكلام على كيفها، ليدور الكلام على كيفه بلا خوف.

صدقًا
ولا أقنعة
وبلا رَمْرَمة

إنه يرفض تبادل الحديث بأنصاف الكلمات، لذلك طاف بنا إلى التخوم القصوى، لأنَّ التحاوُرَ بأنصاف الكلمات يقودُ إلى سوء تفاهُم كاملٍ. هكذا تعبِّر الحكمة العفوية، أليست أحكامنا عند كلامنا الحلو أو المرّ تعبيرًا مأساويًّا عن احتجاجاتنا؟ هذه الحوارات ترفض أَن تكون في غيبوبةٍ عمّا تريد وعمّا لا تريد بعيدًا، ذلك أنها "لا تخلط بين ما هو حقيقي وما هو من فعل العادة" وفقًا لحكمة الحكيم/ الروح الكبيرة غاندي. كأنّني أسمعه يردّد اللحظةَ وبشغف من علَّمَتْه التجربةُ: "إذا كنّا نحمل قناعًا ويحمل الآخر قناعًا فليس الذي بيننا علاقة، بل نحن نعيش حفلة تنكريّة". وهكذا خرجت بهذه الحكمة بَعْد قراءة متواطئة والسير بعيدًا في مجرّات هذه الحوارات مع "الفتى المحنيّ" مستحضرًا حكمة السلالة "المعنى من كلّ شيء محنته" وإن لم يحب أكثر الخلق، وبرفقته ".. تَعَلَّمْتُ ما لن أنساه أبدًا، لأنّه في جوهر كلّ واحد منّا توجد البلادُ بأسرها" حسب تعبير غابرييل ماركيز في مذكراته!


كاتب من تونس