تكشف قراءة الكاتب العراقي لكتاب عراقي عن السينما كيف أن العراقي لايزال ينحت في الصخر برغم أهوال الاحتلال ليكتب بالرغم من ندرة المصادر وعدم واتاة الظروف.

كيف يصنع الفيلم السينمائي الحديث

الخطاب السينمائي من الكلمة إلى الصورة

فيصل عبدالحسن

يتناول الكاتب د. طاهر عبد مسلم في كتابه الجديد: الخطاب السينمائي من الكلمة إلى الصورة، * عبر أربعة فصول غنية بالمعلومات وتجارب السمعي بصري ليصل بنا عبر هذه الفصول إلى مفاهيم واضحة عن نظرية السينما وحرفياتها، والكاتب أمتلك خبرة واسعة في عالم السينما من خلال عمله الأكاديمي كأستاذ للسينما في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد في الفترة مابين سنتي 1994و1997 وكأستاذ في كلية الفنون والإعلام بجامعة الفاتح في ليبيا ما بين عامي 1997 و 2001 وعمل كباحث في قسم الإعلام والاتصال في الجامعة الوطنية في ماليزيا حتى العام 2004  وله العديد من الكتب في مجاله، دليل السينما التسجيلية 1996،في كتابة السيناريو 2001، محرر مشارك في موسوعة السينما العربية 2001، عبقرية الصورة والمكان 2001، كما انه كان مسؤولا عن القسم الثقافي و صفحة سينما في جريدة الزمان الدولية لنهاية سنة 2006، ومؤسس ورئيس منظمة سينمائيون عراقيون بلا حدود ومهرجان بغداد الدولي للفيلم التسجيلي والقصير للسنتين 2004 و 2005 ومن هذا الكم من الخبرة النظرية والعملية نجد أنفسنا  إزاء جهد منتج من جانب أكاديمي وآخر عملي.

ومن الملفت للنظر في أهمية هذا الكتاب أنه جمع صفتي البحث ألتنظيري للسينما وصفة الموضوع الشيق الذي يأخذ بيدي القارىء البسيط للولوج إلى عالم طالما فتنه بصوره وأخبار نجومه وممثليه وقصص نجاحهم. إن هذا الكتاب مصدر مهم للمعرفة السينمائية في وطننا العربي، ولنا أن ننظر بعين الإعجاب والإكبار لكاتب عراقي كتب مؤلفا متخصصا وعميقا كهذا الكتاب، وعن السينما بالذات في ظروف احتلال بلده العراق. ولنا أن نعاين هذه الظروف المعروفة للجميع برؤية الكتاب والمؤلفين، حيث لا كهرباء  ولا تتوفر أقل ظروف الأمان  والمعرفة المطلوبة في بلاد نهب المحتلون مكتباتها وتراثها محاولين مسح ذاكرتها وحضارتها، في بلد درجة الحرارة تصل فيه في الصيف وفي الظل أكثر من خمسين درجة مئوية، وفي الشتاء تهبط درجة البرودة فيه إلى تحت الصفر المئوي، والبلد كما هو معروف فيه فصلان مناخيان فقط هما الصيف والشتاء.  

كيفية خلق الشاعرية في الفيلم
يتناول د.طاهر عبد مسلم في الفصل الأول (شعرية السرد السينمائي) منطلقا من مقولة رولان بارت: تبدأ السينما حيث تنتهي اللغة، فيقول عن شعرية السرد: أن المبدع في الفيلم معني بتحميل المشهد الواحد واللقطة الواحدة بإحالات لا تقدم الصورة في دائرتها المعنوية المباشرة، بل بما بعد الصورة وما بعد التعبير المباشر، وربما تتسع الدائرة هذه لتفتح مديات أوسع للانتقال بالرمز والدلالة من الإطار الكتابي، إلى كم غزير من الاحتمالات الفكرية والمعنوية التي تقدمها الصورة، وبهذا تنخرط التجربة في تتابع بنائي ينشد شكلا من أشكال التعبير غير مألوف ولا مستهلك. ووقف الكاتب طويلا باحثا في كيفية خلق الشاعرية في شريط سينمائي، فهو يتناول الدلالة السمعية، من خلال توليد المعني بالتباينات الحوارية والصوتية والدلالة البصرية معتبرا الصورة هي العنصر الأكثر غزارة لإنتاج المعنى وصنع اللغة الشعرية لأن السينما هي لغة الصورة أساسا، ثم يتناول الدلالة الحركية معتبرا أن فن الصورة هو فن حركة، يقول الكاتب عبد مسلم عن توليد المعنى والأثر في النص الشعري: كنت قد طرحت رؤيتي الخاصة، وهي فرضية جمالية تعبيرية بما أسميته بالأثر عبر كتابي عبقرية الصورة والمكان، وأجد أن توليد المعنى والأثر هو المحرك الأقوى في أنساق التجربة الشعرية فلم تعد الشعرية منخرطة في فاعلية أدائية شر حية بل أنها معنية بصنع أثر ما لدى المتلقي، والاندفاع بعيدا في ما بعد هذا الأثر من أصداء وتفاعلات نفسية محركة للمخزون المعرفي والشعوري، أنها آلية إيجاد علاقات بين الأشياء والظواهر المرئية المشوشة إلى حيز الدلالة والرمز وتحريك الذاكرة المبدعة.

ويتناول الكاتب النقل الشعري للحالة عبر تحليل عالم النفس كارل يونغ للرموز التي تحملها التأويلات الإشارية والرؤى الشخصية وإن قوة الرمز ليست في الموضوع المستعار أو المرموز له حسب، بل تكمن قابليته على تركيب نفسه دون ضعف للوصول إلى المعاني المطلوبة. فالرمز عند كوليريج يستمد جزءا من وجوه الواقع فهو يمتلك دلالات متعددة وعند تودوروف فإن النص الشعري يتمظهر بمظاهر عدة عبر محمولاته الرمزية والدلالية، فهو يقسم تلك التمظهرات إلى: فعلية وتركيبية ودلالية وبلاغية وموضوعا تيه. 

ألم الشاعر يمنح السرور للآخرين
ويتناول الكاتب نماذج تطبيقية عن شعرية التكوين في السينما: فيلم الهزاز للمخرج روسن، وفيلم شان للمخرج ستيفنز، وفيلم سيدة من شنغهاي، لأور سون ويلز وفيلم ماس ورماد لأندريه فايدا وفيلم الخادم لجوزيف لوزي،وممرات المجد لستانلي كوبريك، والعام الأخير في مارنباد لألان رينيه، والمغامرة لأنطونيو ني، وتجربة الشاعر السينمائي (جان كوكتو) حيث تمتزج لغة السرد السينمائي بالشعر حيث يصرح بأن الفيلم هو كتابة شعرية بالصور، ويؤمن بأن الفيلم هو مركبة من الدرجة الأولى لحمل الأفكار، تسمح للشاعر المخرج أن يصحب المشاهد إلى عوالم لم يقده إليها أحد سوى الأحلام والنوم  واعتبر الكاتب أن ثلاثية كوكتو (دم الشاعر) و(أرفيوس) و(شهادة اورفيوس)، هي سبر حقيقي لأغوار مجاهل الخلق الشعري، حيث يدخل الشعر في فيلم دم الشاعر عبر مرآة مبحرا لعالم آخر، إلى عزلته، حيث يداوي جراح يده، وعندما يحك يده بالتمثال يختفي الجرح  وتدب الحياة في التمثال، وانتقاما لذلك يدفع  به التمثال إلى المتاهة، وإلى عالم الخلق والإبداع الفني، حيث يستجلي الشعر من ذكريات طفولته وخيالاته ومخاوفه، حتى يطلق الرصاص على نفسه ويقع على طاولة مغطاة بالثلج، وعندما يتفجر دمه يصفق له الجمهور، ويعلن كوكتو: أن ألم الشاعر يمنح السرور للآخرين.

ووجد الكاتب أن كوكتو ينشغل عادة بجمالية التكوين، ولا تخرج عنده أللقطة عن الأنثيالات الشعرية، فهو يعني بتتابع المرئيات وبأن تحتل الجسام مواقعها في سياق البنية الشعرية، ولذا لا تجد خروجا على بنية الإيقاع الشعري وكأن أللقطة هي جزء من نص الشعر نفسه وهو يترجم نفسه بالسينما.  

الأدب والصورة
في الفصل الثاني يتناول الكاتب السيناريو والسرد، طارحا العلاقات الصميمية بين الشكل الأدبي والنسق السمعبصري، بتذييل موح للفصل بعتبة لجاكوبسن يقول فيها: توجد أشياء من الممكن استعمالها في وظيفة العلامة، أنها بالضبط هذا الشيء السمعبصري المبدل إلى علامة وهذه العلامة تؤسس بذاتها المادة النوعية للسينما. ويتناول في هذا الفصل العلاقة بين الأدب والصورة بين الكلمة كخيال لصورة والصورة الحقيقية التي تؤلف الخيال أو الكلمة الشعرية، والكاتب يقول عن هذه العلاقة: لم تكن نشأة السينما وظهور إنتاجها الفعلي في العام 1895 على يد الأخوة لومير في فرنسا إلا تأكيدا لمقولة أن الأدب يتمظهر عبر الصورة هذه المرة ويقدم دلالاته، فالرواية والقصة والشعر وبموازاتهم جميعا المسرح، قد ألهموا البشرية إبداعا لا ينقطع من خلال صدق التعبير عن تحولات الحياة وإرهاصات ألذات الإنسانية. ولذا وجدت الصورة في ذلك الإرث الإنساني الهائل رافدا لا ينقطع لتحولات الأفكار من الكلمة إلى الصورة أنه تعميق لإشكالية راسخة من إشكاليات التلقي تلك التي عنيت بها المدرسة الحديثة في علوم السرد خاصة. ويصل الكاتب إلى استنتاج مهم في استقرائه البحثي مفاده:أن هنالك تواصلا عميقا في طرائق التعبير بين الكلمة والتخيل من جهة وبين التجسيد والتعبير المباشر الذي يحرك الحواس (السمع والبصر) مباشرة موظفا (الحركة) لتعميق التعبير. 

فيلم المحاكمة لكافكا مثالا
وفي الفصل الثالث يتناول الكاتب د. طاهر عبد مسلم أنساق السرد والنوع الفيلمي بمقدمة موحية من لو وينفو يقول فيها: تلتقط الشاشات النور الكليل لتبثه كلمات وأحاسيس وصورا تبحث عن معنى. ويوضح فيه انفصال الرواية، المسرح، الشعر وأشكال التعبير الأخرى عن الخطاب السمعبصري وتشكل الأخير بشكل مواز للأشكال الأخرى من التعبير بشكل مستقل ورائد في كثير من الأحيان، لأسباب يذكرها أندريه بازان [ان التصوير الفوتوغرافي والسينما بخلاف الفنون الأخرى تقدم صورا للواقع بصورة آلية)  ويوضح د. عبد مسلم رأيه حول هذا الموضوع بقوله: أن الظاهرة الفيزيائية (سمعية/ بصرية/ حركية) تحيل إلى صلة مباشرة بعالم فيزياوي مواز قد يجري تمثله في الخطاب الروائي أو التشكيلي أو المسرحي لكن لكل منهم في واقع الأمر بناه النسقية الخاصة المختلفة (الخشبة، اللوحة، الكتاب، قطعة الحجر أو الخشب) يقابلها الضوء الكهربائي والصوت المسجل على الشريط، النقل على الشريط، حركة الشريط بسرعة معينة لتحقيق عنصر الإيهام بالحركة، كل هذا جعل لهذا الخطاب إمكانيات احتواء مزيد من الشفرات، وإذا كان بازان يذهب إلى أن الصورة التي يقدمها صانع الفيلم هي في جوهرها تسجيل موضوعي لما يوجد في الواقع، لأن ذلك لا ينفي ولا يلغي تلك المساحات التخيلية الشاسعة والمتنوعة والغزيرة التي يتيحها هذا السرد السمعبصري.

ويتناول الكاتب الكثير من تجارب السينما العالمية والفرنسية بشكل خاص لتوضيح رؤى فصله النظرية فهو يأخذ فيلم المحاكمة مثالا ليعقد مقارناته بين الأنساق، فيعنون ذلك (بين كافكا واورسون ويلز: موازنات ألذات والأخر في الفيلم السينمائي). حيث تطرح حياة جوزيف كاف.. كبطل سينمائي حيث نجد ه وكأنه في منفى، في اللحظة التي يعيش فيها حياته المألوفة بين مقر عمله وبين سكنه وعلاقته بالآخرين ثم يتناول الرواية من حيث أنها عمل أدبي، الذي يقول عنه نقلا عن روجيه غار ودي: أن عظمة كافكا تكمن في كونه قد عرف كيف يخلق عالما أسطوريا لا ينفصل عن العالم الحقيقي أيما انفصال، لقد خلق كافكا عالما غر ائبيا باستخدام مواد من عالمنا هذا لكنها مركبة تبعا لقوانين أخرى.

الأحمر والأسود لستاندال
ويتناول الكاتب في الفصل الرابع من كتابه العلاقة بين النص السمعبصري والإعداد والاقتباس متناولا مقولة جان اورنش كاتب سيناريو الأحمر والأسود عن الرواية الشهيرة المعروفة بذات الاسم للكاتب الشهير ستا ندال كمدخل للفصل: لم يكن هنالك شيء زائد في رواية ستاندال، كان علينا أن لا نحذف منها لكننا حذفنا مشاهد كثيرة اعتقادا منا أنها زائدة أو عديمة الأهمية، كما كان أسلوبنا مسرحيا أكثر من اللازم ولم نجد في الفيلم تلك الرشاقة وجو المفاجأة والدهشة التي تميز أعمال ستاندال. ينتهي هنا كلام السناريست اورنش ولكننا بأمكاننا أن نضيف إلى قوله عبارة لم يقلها وهي أن العمل الأدبي حين يتم تحويله إلى نص سمعبصري يفقد الكثير من خصائصه ويكتسب خصائص جديدة، وهنا تبرز حرفية كاتب الكتاب وأهمية هذا الكتاب  أنه يعلمنا كيف يصنع الفيلم السينمائي الحديث وتقييمه بعيون خبيرة. 

حرافيش محفوظ والسناريست العربي
وفي هذا الفصل المهم من الكتاب يتناول د. طاهر عبد مسلم في دراسته التطبيقية للإعداد والاقتباس في السينما العربية نموذج رواية الحرافيش لصاحب نوبل نجيب محفوظ: فيأخذ الأفلام المأخوذة عن الرواية، فيلم الحرافيش إنتاج 1985 عن الحكاية الثالثة (الحب والقضبان) إخراج حسام الدين مصطفى، كتب السيناريو أحمد صالح، وفيلم المطارد، إنتاج 1985 عن الحكاية الربعة، إخراج سمير سيف، كتب السيناريو أحمد صالح وسمير سيف، فيلم الجوع إنتاج 1985 عن الحكاية الثالثة والخامسة والتاسعة، إخراج علي بدر خان، السيناريو: علي بدر خان ومصطفى محرم وطارق المرغني، فيلم شهد الملكة، إنتاج 1985 عن الحكاية السادسة، إخراج حسام الدين مصطفى، السيناريو مصطفى محرم، فيلم أصدقاء الشيطان إنتاج 1987 عن الحكاية السابعة أخرج أحمد ياسين، سيناريو إبراهيم ألموجي، فيلم التوت والنبوت، أنتاج 1986 عن الحكاية العاشرة، إخراج نيازي مصطفى، سيناريو: عصام الجنبلاطي.

وألحق المؤلف بكتابه ملحقا عنونه بقراءات وسيبدو الملحق في عين المدقق أن الكاتب يملك من الخبرة والمعلومات عن هذا العالم..عالم السينما المكتظ بالجمال، ما لم تسعه فصول كتابه القيم.

* الخطاب السينمائي من الكلمة إلى الصورة/ المؤلف د.طاهر عبد مسلم/ دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ 2005 عدد الصفحات 271 قطع كبير.                              


كاتب وصحافي عراقي مقيم في المغرب
faissalhassan@hotmail.com